أدب الرعب والعام

وقْع الحصى

بقلم : سارة برير – السودان
للتواصل : [email protected]
لا نزال هناك تحت شمس مارس التي تأبى أن تغرُب و الحصى المخضبة بدماء أخي
لا نزال هناك تحت شمس مارس التي تأبى أن تغرُب و الحصى المخضبة بدماء أخي
أقرأ حتى أستسلم لسُلطان النوم .
و عندما أغمض جفني أنام كثيراً ، سبات يستمر لأيام ، أكثر من المعتاد .
حين أستيقظ صباحاً أركض في الأرجاء حتى تنقطع أنفاسي و تكاد تتوقف عضلة قلبي .
و إذا انشغلت بعمل ما أُرهق جسدي كثيراً .
” نعم يوجد خطب ، ذلك الركود الذي يُخفى تحته رُكام سحيق لأشياء سيئة ” .
تنهدت بعصبية و أنا أغسل وجهي لأنفض غبار الماضي ، لكنه لا ينظف ؛ يبقى مصبوغاً و لا يزول – إنه غُبار عُمره سبعة عشرة عاماً – مدة طويلة بحق ، سقطت دول و ارتفعت أُخرى و نحن لا نزال هناك مُكبلين بالسلاسل .
” تجاهلتها “.
حتى أنني دفنتها و الدليل هُنا ، أعيش كل لحظة بما فيها لدرجة الهلاك .
اتصل بي عُمر في الليلة الماضية و أصر أن أترك كل شيء و آتي و عندما سألته غمغم بكآبة :
مُجاهد عصام لقد بدأت تسأل .
قُلت :
” تسأل الآن ، بعد سبعة عشر عاماً ؟ “.
كانت نبرة عمر حاسمة ” تعال الآن فغدي تحتاجك ” تعال و فنِّد شكوكها و أزل الغُبار عن عينيها .
كيف سأفعل ذلك ؟ إذا كُنت أنا نفسي غارقاً حتى النخاع و ملوثاً ! .
كيف سأفعل ذلك و أنا لا زلت هناك ؟ عند شمس عمرها عقود ، لا تزال تحرق .
قلت متشجعاً لنفسي ” لا بأس سأقوم بذلك ، حتى ولو احترقنا مجدداً ، لأنها غَدي ” .
أول شيء فعلته عرجت على الحلاق ، فسألني متعجباً ” كيف أنوي حلاقة ذلك الشعر الكثير ؟ ” فأجبته :
” أحلقه صفراً ” .
شعري الكثير هذا كان مصدر أمان لسنوات ، فإحساسي به مسدلاً على عنقي كان كالغطاء الفولاذي ، كالدرع الذي يحمي من سيوف السنين ، و لكن سأتخلص منه اليوم ، لأمنح الأمان لغَدي .
الأمان الذي فقدناه منذ الطفولة ، كانت أيام حارة نبأت بالكثير من الجحيم ، حينها قُلت لغدي:
” سنتقدم أنا و عُمر و بعد أن نشتت انتباههم ستركضين يا غَدي و لن تنظري للخلف إطلاقاً ” .
فردت واثقة :
” سأفعل ذلك “.
لم أكن أشعر بشيء سوى ضربات قلبي و الشمس التي تحرق جلدي .
تأكدت من إمساك غدي لحقيبتها المدرسية جيداً و عقدت أطرافها الأمامية حول خصرها ثم ذهبنا لملاقاة أولاد مارس ، كان يوم حافل و كل يوم في منطقتنا يكون حافلاً ، و لا توجد راحة لنا إلا بعد أن تُغلق المدارس ، فالمنزل كان أكثر أمان و حماية لنا من أولئك الأولاد .
أولئك الأولاد أطفال عاديون مثلنا جميعاً فقط هم بثياب رثة و عنيفون قليلاً ، و لكننا كنا نخشاهم بحق لأنه عندما يمسكون بأحد الأطفال سيرى الويل منهم ، و عندما قلت الويل فأنا أعنى ذلك .
عَمِل والدي في شركة زراعية كبرى كان المقر الرئيسي لها يبعد من المدينة حوالي مئتان كيلو متر ، في منطقة زراعية نائية قليلاً و نتيجة لذلك أنشأت الشركة سكن للموظفين عبارة عن منازل ضخمة بحدائق مسيجة و بناء داخلي ، كانت تلك المنطقة كالفردوس ، طُرق مرصوفة و أشجار باسقة على الجانبين .
و بعيد من هنا قليلاً كانت تقع منطقة أولاد مارس ، نعم أولئك الصبية الذين يشركون لنا في نهاية كل يوم دراسي ، منطقتهم كانت عشوائية قامت على حس مباني الشركة ، المكان الذي أصبح بين ليلة و ضحاها صناعي .
أبي المدير التنفيذي للشركة ، و الضلع المؤثر ، بعقل فريد أبقى مجموعة الشركات في الطليعة و بأرباح خيالية خلال عقد ، كان أبي عصام هادئاً و مرناً و حكيماً و لكنه عنصري في نفس الوقت ، أحب ما يملك كثيراً .
عنصرية ظهرت في علاقاته التي رسمها في حدود المصالح المتبادلة ، لدرجة نسي بأنه إنسان ، نعم أبي فقد الإنسانية و الآن يدفع الثمن .
غَدي كانت رفيقتي و توأمي ، فبينما كنت أنا كثير الحركة قليل التركيز ، كانت هي هادئة ، منذ كنا في الحضانة فهمتني دون أن أبوح ، إنه ذلك النوع من التواصل الجسدي و التخاطر الروحي .
أحبها أبي كأبنته ، كانت هناك لمعة غريبة في عينيه عندما يراها عرفت لاحقاً أنه كان يحب والدتها و لكن لم يُقدّر لهما الإجتماع .
اليوم قرعت باب أبي الزجاجي فانعكست ملامحي عليه ، وابتسمت ساخراً من هيأتي الجديدة.
وجدت عصام بانتظاري ، كان كما تركته منذ ثلاثة أعوام ، خصلات بيضاء تخللت شعره الغير مهذب ، بدا أكبر من عمره بكثير ، ربما بسبعة عشر عاماً.
” لم تبدُ كالدجاجة المنتوفة ؟ ” .
علق بينما كنت أراقب منزله الذى بدا كالوكر من الأغراض العتيقة فأجبته :
” إنه تغيير يا أبي ، فلتقل قفزة “.
قال غير مرحباً :
” قل ما تريد ” .
” غَدي ” .
راقبت وقع الاسم عليه و قد ارتبك ، و لكن لم يتكلم ، فواصلت حديثي و أنا أتفقد ساعة رملية قديمة :
” تواجه بعض المشاكل ، عُمر طلب مني المجيء “.
قال و هو يحك ذقنه :
” ما خطبها ؟ “.
” يقول أنها متوجسة بشأن أولاد مارس ، تُصر أن أحدهم قد قتل ، لدرجة ظنت بأنني من قُتلت ، السنوات مرّت سريعاً دون أن نتحدث و قد كان هذا أفضل لجميعنا ” .
قلبت الساعة للجهة المعاكسة لأن رملها قد أنتهى في هذا الجزء و واصلت حديثي :
” سأذهب لأزيل كل شكوكها و لكي أفعل ذلك عليك أن تكون حاضراً ، غدي فتاة ذكية و لكن عندما نحاصرها ثلاثتنا ستذهب مخاوفها و لن يكون أمامها خيار سوى أن تصدق ” .
اختلست النظر إليه فوجدته يهز قدمه بلا هوادة ، علمت أنه قد وصل لأقصى درجات التوتر ، كيف لا و هو المذنب الكبير ؟.
لذلك في كل مرة أراه فيها أعاتبه و لا أتركه يعيش سلاماً أبداً ، فقلت :
” لو لم تقدم المصالح ، لو لم تتأخر علينا … “
قاطعني :
” أنت ولد جاحد يا مجاهد ، لقد فعلت كل ما في وسعي من أجلكم جميعاً ، لقد نظفت الدماء بيدي هاتين و لا تزال رائحتهما نتنة حتى الآن ؛ و أنا مجبر على استنشاق هذه الرائحة في كل لحظة ، و قد دفعت الثمن غالياً ، لذلك أصمت و غادر ” .
قلت و أنا لا أنوى تركه و شأنه :
” أنت السبب  و الدفع في الغد يا عصام ، أنت مدين لغدي و لنا جميعاً ، فسدد دينك كاملاً”.
قال و قد جمع في وجهه الخمسيني كل المشاعر :
” سأسدد ألاف المرات لأجل غدي فقط ” .
أجبته منهياً الحديث :
” لا تدر أي معروف يكون سبب خلاصك ” .
غادرت ثم سمعته من خلفي يضرب الساعة بالحائط.
* * *
صبغت شعرها بلون الكرز ، فاحتضن وجهاً أبيضاً وظهر جمال الضدين ، ذات النظرة و نفس الحركات المدروسة ، قبل سبعة عشر عاماً و الآن هذه غَدِي .
الشمس في المنتصف و الحصى يُشوى تحت لهيبها كُنا ثلاثة أنا و عُمر و أخته غدي ، كانا أبناء جيراننا ، درست مع غدي في نفس الصف ، و حتى أننا في الحضانة كُنا معاً ، تشاركنا كل شيء حتى الثياب و لن تستطيع تمييزها عن الصبية سوى بالضفيرة المجدولة خلف ظهرها ، شاركتني حتى في ثيابي ، قلت جملتي هذه و أنا أبتسم كالأبله ، فقد كانت دائماً كمية من ثيابي في خزانة غدي ، و والدتي كانت تذهب بشكل دوري لأخذ ثيابي من منزلهم .
الطريق من المدرسة إلى البيت كان خالياً و من النادر أن تأتي سيارة من هناك قبل انتهاء دوام الموظفين ، و نحن كنا نخرج قبلهم بساعتين ، لذلك كان هناك صمت مطبق يجثم على المكان .
انتابتني قشعريرة باردة و أنا أرى أولاد مارس بثيابهم الرثة و شعورهم القذرة يقفون في الشارع بانتظارنا .
كان عُمر يتصبب عرقاً و كأنه سُكب عليه دلواً من المياه ، و أنا أحاول التسلح بالحجارة لم أكن شجاعاً و لكن أن يكون بيدك شيء أفضل من لا شيء ، أما غدي لم تكن أفضل حالاً منا فقد كانت أصغرنا و أكثر جبناً منا ، جبن الفتيات ، و  مصيبتها أنها صغيرة و باكية .
قُلت و أنا أُزيح خصلات من جبيني المُبلل بالعرق :
” سنتقدم أنا و عُمر و بعد أن نشتت انتباههم ، ستركضين يا غَدي و لن تنظري للخلف إطلاقاً ” .
كانت ترتجف ، شعرت بذلك و أنا أمسك يديها ، فأردفت واثقاً :
” سننجح كما نفعل دائماً و إن فشلنا فماذا سيحدث ؟ فقط سيأخذون أموالنا و الحلوى التي بحوزتنا ، لذا لا تخافي سنكون بخير ” .
الحقيقة أنني خائف ربما أكثر منها ، فأولئك الأولاد يصيرون أكثر عنفاً كل يوم ، أخبرنا أبي بالمشاكل التي تواجهنا على الطريق و لكن تسويف الأمور التي ليست من ضمن أعماله هي عادته ، و هذه إحدى الأشياء التي يندم عليها والدي كثيراً .
اقتربنا منهم أنا و عمر و كانت غدي تتأخر عنا ، و قبل أن نشتبك معهم رأينا عربة يجرها حصان ، صوت الجرس في عُنق الخيل ملأ المكان ضجيجاً ، لم يتوقف صاحب العربة لذلك قفز عُمر ثم تبعته أنا و مددنا أيدينا لغدي حتى نساعدها ، فصاحت :
” لا أستطيع الوصول ” .
قلت لها :
” هيا أعطني يدك يا غدي إنهم خلفك مباشرة ، لا تلتفتي ثانية و أعطني يدك ” .
سطح العربة كان ساخناً كقدر ، و العرق غطى ثيابنا و تساقط كقطرات المطر ، طلبت من العم أن يتوقف أو يخفف سرعته قليلاً و لكن لم يكترث بنا ، و أنا حتى الآن ألومه كثيراً مع أنني لا أعرفه ، لم يكن ليتوقف لأنه ظن بأنها مشاكسات أطفال عادية ، أنا أيضاً كنت أظن ذلك ، لأن اندفاع الأدرينالين الذي يضخ في أوردتنا كان كفيلاً بإنقاذنا في كل مرة ، إنه حماس الطفولة ، يجعلنا نضحك بهستيريا عند نجاتنا .
* * *
في عام 2004 تطلق والدا عمر و غدي بصخب ، أساساً كان زواجاً فاشلاً بُني على المصالح المُتبادلة ، لتتفتت العائلة الصغيرة و يتنصل والد غدي من المسؤوليات ، و يترك الأم وحيدة لتواجه الحياة مع صغارها ، من كان يظن أن تلك العائلة السعيدة و المثالية ستتشتت ؟ ليغادروا ممتلكات الشركة و يذهب كل من الأبوين في اتجاه ، و لفظت جنة الأرض أهلها .
بدأ أبي عصام بمساعدة أُم غدي ، ليس لأنها كانت جارته  بل لأجل الحب الذي في قلبه تجاهها ، فقد كانت سابقاً سكرتيرته التي ينوي الزواج بها ، و أقسمت الحياة ألا تجمعهما معاً ، لاحقاً علمت أم غدي أن أبي وغداً كزوجها بل هو أسوأ ، عديم الرحمة ، لذلك طردته من حياتها للأبد ، أساساً الحياة لم تمهلها كثيراً ، ليعود أبي و يعتني بالطفلين مجدداً ، ليكفّر عن ذنوبه .
و مع أن عُمر كان هشاً ولكنه اعتنى بشقيقته جيداً فكان لها الأب و الأم و الرفيق ، أما أنا فابتعدت . لأن النظر في مُقلتي غدي رحلة من الألم و الندم لا قِبل لي بها .
وجد عُمر صديقة و طبيبة مبتدئة لتساعد غدي ، اسمها مُرام شقيقة زوجته رزان ، كل ما كانت تحتاجه غدي هو شخص تشكو له ، أجلت حديثي مع غدي وأخذتها ثم ذهبنا لمرام في منزلها .
كانت مُرام متواضعة و لطيفة و حديثة السن ربما في عمرنا أو أكبر بقليل ، فقط أحسستُ بانكماش يصدر منها ، ذلك الذي تشعر به عندما يكون غير مرحباً بك ، تجاهلت ذلك الإحساس فهي مجرد تقلبات فتيات يأخذن انطباعاً أولاً ربما .
كان منزل مرام مغلقاً و مُظلماً ككهف ، ذكرني بوكر والدي كثيراً و لكن هذا أكثر حداثة في الأثاث و الأغراض و الترتيب ، ابتدأت مرام الحديث بلباقة موجهة حديثها لغدي :
– أحكي لي عن الحُلم الذي رأيته ؟.
قالت غدي :
أذكر صوت الحصى تحت أقدامنا و الطريق الممتد إلى ما لا نهاية .
نظرت لي غدي و أردفت :
أذكر … أذكر مُجاهد و هو يصيح :
– هيا أعطني يدك يا غدي .
نادى علي ، فمددت يدي و لكنني لا أصل ، تلامست أصابعنا لثواني و انزلقت لأن أيدينا كانت متعرقة .
ألتفتت للخلف لأرى و ليتني لم أفعل ، فقد رأيت وحوشاً تلاحقنا ، بأنياب حادة كالرمح .
” يا أمي “.
اقترب عمر من نهاية العربة و مد لي يده أيضاً ثم صاح :
إنهم خلفك تماماً ، سنحاول مرة أخرى هيا مدي يديك لنرفعك .
عندما نظرت لكفه كانت لشخص بالغ ، و وجهه قد أصبح كوجه عمر المتزوج و خلفه كان مجاهد لا يزال بعمر الخمس سنوات ، صار صوت الوحوش قريباً بشكل مخيف من أذني حتى أنني شعرت بأنفاس أحدهم النتنة بالقرب من وجهي ، فحاولت مجدداً و قفزت قفزاً كي تصل يدي إلى حافة العربة ، فأمسك مجاهد و عمر بي و همَّا برفعي .
” هكذا ينتهى الحلم بركوبي للعربة ، و الغريب في الأمر أن الذكرى تنتهي في نفس المكان ” .
قالت غدي جملتها الأخيرة و هي تحدق بي ، فأجابت مُرام :
حسناً ، أسردي جميع المرات التي قابلتم فيها أولاد مارس .
قالت غدي :
– أذكر الأشياء البارزة فقط ، مثل يوم عربة الحصان ، حينها كنت خائفة لم يسبق لأولاد مارس الإمساك بي ، و لكن ذات يوم رأيتهم و هم يستجوبون طفلة بعمري ، كانت تشبهني كثيراً و تبكي .
قالت مُرام :
– هذا تنمر واضح ، ألم يحاول صاحب العربة زجرهم ؟.
ابتسمت غدي ابتسامة مريرة :
” لم يفعل ، ظنه مزاح أطفال ، لم نكن نشعر بالخطر فقط مجرد خوف عادي ، بالمقابل كنا صغاراً و لا ندري أن مزاح الأطفال قد يتحول إلى شيء خطير ” .
قالت مُرام :
” قولي أشياء بارزة ، مثل معالم ؟ “.
هنا بالذات بدأت أبادل مرام ذات الإحساس بعدم الترحيب ، أتحاول هذه الغبية معرفة مشكلتها أم مساعدتها على التذكر ؟!
أجابت غدي :
– حسناً أذكر العربة و صاحبها الشاب ثم السيارة التي أقلتنا بتكييفها الممتاز و كيف كانت نعيماً مقارنة بشمس مارس الحارقة ، و أذكر …. “
قُلت لها :
” ماذا تذكرين يا غدي ؟ “.
” الظلام “.
سألتها مرام :
” كيف يكون هناك ظلام و أنتم عائدون من المدرسة في الثانية ظهراً ؟ “
تبادلنا النظرات أنا و غدي ، عينيها الرماديتين كانتا بوابة سحيقة للماضي ، و في هذه اللحظة بالذات أطبق الماضي بفكيه على عنقي و سمعت الجرس المُعلق على عُنق الخيل يرن في أُذني ، و لكنني جمدت نفسي و لم أبد أي ردة فعل فقالت غدي :
” لا أدري ” .
عقبت مرام :
” ربما يكون حلم و قد اختلط عليك الأمر بمرور السنوات “.
صاحت غدي بحماس :
” كان هناك شيء صغير أحمر يومض في السماء ، نعم ، كان هناك ظلام و كنا بثياب المدرسة و هذه … “
صمتت لبرهة ثم نظرت لي و أردفت :
” و هذه ذكرى و ليست حلم ” .
كنت أتابع بصمت دون أن أتدخل مع أن غدي انتظرت مساعدتي لها على التذكر فبالأخير نحن كنا معاً و سُحقنا معاً .
أنهت مُرام جلستها هذه ، و طلبتُ من غدي أن تنتظرني في الخارج ، عاندت قليلاً في الذهاب و لكنها رضخت ، فلهجة صارمة كانت كفيلة بجعلها تغادر كطفلة مطيعة . أغلقت الباب بعد خروجها و انفردت بمُرام :
” أتنوين جعلها تتذكر ؟ “.
قالت و هي ترفع ذقنها لأعلى بغرور واضح :
” أحاول مساعدتها “.
أصغي يا مُرام …
قُلت و أنا أكاد أفقد أعصابي :
” أساساً أنت بالكاد تخرجت و بإمكاننا أن نجد الأكثر منك مهارة و خبرة و حكمة ، ستفعلين ما نمليه عليك نحن ، ليس لأنه الحقيقة و لكننا ندفع لك ” .
هنا اغرورقت عينا مُرام فرمشت بتتابع لتسحب دموعها ، و واصلت حديثي و أنا أقترب منها و هي تتراجع حتى التصقت بالحائط :
” إنها غَدي ، و إن شعرت فقط أنك تتلاعبين بشيء من خلفنا ، ستكون العواقب وخيمة عليك و على أختك رزان ، أقل شيء قد أفعله أفصلها من عُمر و صدقيني سيطلقها دون أن يسأل عن الأسباب ، نحن إخوة يا مُرام ” .
قالت بنبرة جافة و هي تسيطر على كلماتها كأنني لم أهددها :
” سأفعل ذلك ليس لأنك هددتني بشكل صريح ، و لكن غدي صديقتي و أنا مدينة لها بحق الصداقة القرابة ” .
” من الأفضل أن تفعلي ” .
خرجت من عندها و أنا أشابه أبي كثيراً قبل سبعة عشرة عاماً ، و لكنني لن أقف عند النقطة التي توقف فيها هو ، بل سأذهب أبعد من ذلك لأجل غَدِي .
و كانت هذه الأخيرة تجلس بالقرب مني في السيارة و تسأل بلا هوادة فزادت من عصبيتي و كدت أفقد السيطرة على القيادة ، عندها أتتني ضحكة أبي الهادئة و الشامتة :
أنت لم تستطع إنقاذ نفسك طيلة سنوات ناهيك عن غدي ، مركبها قد بدأ في الغرق بالفعل و ألف ربان لن ينقذه .
* * *
دعمنا أنفسنا جيداً ثم كبلناها من كل الجهات لندفن هواجسها في العُمق ، عمر كان حاضراً و مُرام أيضاً جاءت و أبي سيلحق بنا .
حام التوتر فوق رؤوسنا فقالت غدي لتكسر الصمت و هي تطالع رأسي الأصلع الذي كان صعباً أن تتجاهله :
” ظننت أن شيئاً سيئاً قد أصابك ! “.
جعلت شبه ابتسامة تلوح شفتي المزمومتين و أجبتها :
– نحن لدينا الكثير من الأرواح يا غدي .
زفرت مُرام بطريقة مستفزة ، أنا فقط من سمعها لأنها كانت تجلس قربي ، لاحظت أنها لم تكن مرام اللطيفة و إنما إمرأة عصبية لأنني هددتها في اليوم السابق و جلست قربها لأسيطر عليها .
رفعت مرام جميع شعرها لأعلى ، فبدت أكبر سناً و أكثر حكمة ، شيء غريب كان يعلو ملامح وجهها الحادة ، مزيج ما بين الألم و الغضب و الكبت ، اخترقتها بنظراتي متفحصاً فأشاحت بوجهها بعيداً .
في هذه الغرفة الضيقة عزمنا على سجن غدي و دفن أوهامها .
لاحظتُ تشتتها و ارتباكها فاقتربت لأجلس بالقرب منها و قلت :
” تقلقين من أجل سنوات مضت لدرجة أنك كدت أن تصبحي رهينة لها ، و الآن بدأت تقتاتين على الوهم لتغذي هواجسك ” .
صمت أنا فواصل عُمر بنبرة حاسمة ليطوقها :
” لا يوجد أي شيء من الممكن أن يُخفى عنك و إن كنت لا تذكرين فذلك ببساطة لأنك فقدت الوعي في لحظة ما أثناء اشتباكنا ” .
لم تقل شيئاً غدي و لم تُعلق فاستلمت الحديث مجدداً و قلت :
” نهاية الأسبوع كانت ، ربما يوم الأربعاء أو الخميس ، والدي وعدني في الصباح أن يأخذنا بعد نهاية الدوام ، انتظرناه لقرابة الساعة عند بوابة المدرسة و لكنه تأخر ، فسرنا و الشمس كانت في المنتصف و الحصى يُسخن تحت لهيبها ، و أولئك الأولاد كانوا في انتظارنا على الطريق ، ذلك الصمت الرهيب حول المكان كان يثير في نفسي الرعب أكثر من أولئك الوحوش الصغار ” .
اختلست النظر إلى النافذة و وجدت أن الظلام قد حط بأجنحته الداكنة و أخفى المعالم ، ثم تطلعت إلى غَدِي كان شعرها الذي تتخلله خُصل كرزية يحتضن وجهها النضر و لاحظت بأنها تُصغي لي بُكل حواسها كطفل ينتظر قصة ما قبل النوم ، تلك الحكايات الأسطورية التي تأخذك إلى عالم آسر مليء بالسحر ، لا زالت عينيها تحمل نفس البريق ، بالرغم من الإجهاد الباد على ملامحها فقد كان شعاع الطفولة الأول ينبثق من مقلتيها ، و أنا أقسمت ألا يخبو هذا البريق و لو دفعت عُمري لأجله .
سأروي لغَدي حكاية جيدة هذه الليلة ، حتى و لو حوت وحوشاً ستكون النهاية سعيدة ، سينتصر فيها المظلومين ، سينتصر الخير ، و سنعيش للأبد في سعادة .
” أمامك الليل كله بإمكانك أن تقضيه في التبسم كيف تشاء “.
تمتمت غدي بصوت هامس أيقظني من أحلامي ، فأشرت لها مُعتذراً ، و بعد أقل من نصف ساعة كان والدي عصام بيننا اندهش كثيراً من وجود مُرام و كاد يحرجها لتغادر لولا تدخل عُمر و أخبره بأنها شقيقة زوجته رزان و تساعد غديِ .
تخشبت مُرام عندما رأت والدي كأنها صافحت عزرائيل ، أنا و أبي عائلة تُقدس الخصوصية و وجود شخص خارج الأسرة على علم بأشياء حساسة ربما قد يضعك في مواجهة أشياء سيئة جداً.
وقف في الزاوية برشاقة و بدا لي أسوأ من اليوم السابق ، واضح أنه لم ينم كثيراً ، كنت أعلم أنه لن يضيف الكثير لروايتي و لكن حضوره سيكون له وقع في نفس غدي و يجعلها تطمئن .
أخرج قداحة من جيبه و أشعل سيجارة ثم قال بنبرته الهادئة موجهاً كلامه لغدي :
” كُنت أعلم بأنك ستأتي ذات يوم لتسألي و لكن كنت متردداً بشأن متى ؟ “.
صَمت قليلاً ليأخذ نفس آخر من سيجارته ثم أردف:
” تعلمين أنني أكِّنُ لك الكثير من الحب كمجاهد أبني بل أكثر ، و لا يروقني أبداً أن أراك حزينة ، تلهثين خلف أحداث ذهبت مع الريح و … “
قالت مُرام :
” لم تذهب ” .
رمقها أبي بنظرات كالصاعقة فاستدركت ما رمت :
” أقصد أن غدي تعاني الآن من الأحلام المزعجة لدرجة أنها أُصيبت بالأرق ” .
ابتسمت ساخراً هذا عصام يا مُرام و هو أسوأ مني فاحذري ، قال أبي :
” وعدت مجاهد أن أحل مشكلة أولئك الأولاد عندما تكررت مضايقاتهم ، حتى أنني فكرت أن أجلب سائق و لكن لم أجد الشخص المناسب ، في ذلك اليوم وعدت مجاهد أن أقلكم و طلبت منه أن ينتظرني ، و ألا تتحركوا أبداً حتى مجيئي ” .
نظر لي معاتباً ثم أشعل سيجارة أخرى ، سعلت غدي لا إرادياً فأطفأها أبي في المنفضة وقال معتذراً :
أنا آسف ، أردت الإقلاع منذ سنوات و لكن لا أستطيع .
همس عُمر بمرارة :
” أذكر أننا انتظرناك كثيراً و لكنك تأخرت ” .
أومأ والدي و تحرك بخفة إلى النافذة المغلقة و فتحها ، و مع أنه كان مُحطماً لكنه تماسك ، تماسك جيداً لسنوات .
نعم ، تأخرت كثيراً يا أبي ، و لم أكن أستطع انتظارك أكثر ، ظننتك لن تأتي ، خلت أنك أخلفت وعدك كما فعلت في الكثير من المرات لذلك أمسكت كف غديِ بيد ، و يدها الأخرى أمسك بها عُمر كما يفعل دائماً ، و عندما رأيناهم هناك بانتظارنا عقدت حقيبة ظهر غدي حول خصرها و أعطيتها حجراً لتتمسك ، بعدها رأينا العربة التي يجرها الحصان .
صمتُ قليلاً فأكمل عُمر ما تبقى :
” و بما أنني كنت أكبرهم فقد ركبت أولهم ثم ساعدت مُجاهد على الصعود و استلقينا الاثنان على سطح العربة لنسحبك ” .
” نعم ، أذكر مساعدتكم لي ” .
قالتها غدي بثقة لا أدري من أين اكتسبتها ، و لكن العقل البشري فريد و من الممكن أن يهيئ لك أشياء لم تحدث ، فقلت موجهاً حديثي إليها لاهدها نصف حقيقة :
” غدي أنت لم تصعدي أبداً إلى تلك العربة ” .
همست مُنكرة :
” كيف ؟ لقد أمسكتما بي ، بكلتا يدي ! “.
قال عُمر و هو ينظر إليها :
” نعم أمسكنا بك ، و لكننا أفلتناك ، يا غدي أنا آسف ” .
نظرتُ إلى أبي و أنا ألومه حتى اليوم على تأخره و إن كان هناك أحد سيدفع الثمن الليلة فلن تكون غَدي.
قالت مرام بشفقة تعمدت أن تظهرها موجهة كلامها لغدي :
” أخبرتك أن نصف ما تذكرينه هو أشياء لفقها عقلك بمرور السنوات ” .
أمسك أبي بيد غدي و قال بنبرة بدت مُقنعة :
” لقد سحبوك أولئك الأولاد ، و سقطتي على الأرض بقوة ، بعدها فقدتي الوعي ربما لساعة ، كنت حينها قادماً من المدرسة ، ثم رأيتكم لم يكن صاحب العربة موجود ربما خاف و غادر.
عندما جئت كنت على الأرض دون آية حركة و عُمر و مجاهد كانا يتشاجران مع الأولاد ، لم أفعل أي شيء سوى وضعك في السيارة و أخذك للمشفى ، قال الطبيب : أنك نجوت بأعجوبة ” .
بعد أن صمت أبي بدت غدي أكثر هدوءاً و إرتياحاً ، و لم تسأل بعدها كثيراً ، بعد ذلك غادر أبي و لكن قبل ذهابه قال لي :
” هذا الموضوع أُغلق هنا للأبد “.
ثم طلبت من عُمر أن يُمهلني دقيقتين مع غدي . طالعتني و كأنني غريب ، شعرت أن رأسي الحليق لم يعجبها أردت أن أقول لها ” قبل يومين لم يكن كذلك ” لقد أبقيته مسدلاً لسنوات ، أشعرني بالأمان حينها ، و لكن الآن يا غدي لم أعد بحاجته ، فبين ليلة و ضحاها كبرت كثيراً ، و الأمان الذي افتقدته لسنوات ها هو ذا اليوم أهديته لك خديه ، فلتنامي ملئ جفونك يا غدي لأن الشمس التي ستشرق غداً ستختلف عن كل الشموس الماضية ، قلت هذا الكلام بعيني فقط في الشارع و لم أقدر إلا على أن أبوح بالقليل و أنا أتأمل خصلاتها :
” توجد الكثير من القصص سأحكيها لك في الغد ، ستختلف عن جميع ما سمعته من قبل ، إنها قصة تروى عند الشروق ” .
ابتسمت لي ممتنة ، و أنا واثق بأنها علمت تلميحاتي ، لم تقوى على صرف نظرها من رأسي الأصلع الذي لمع تحت مصباح الشارع ، فانفجرنا ضاحكين .
فتحت لها باب السيارة الأمامي ثم ودعتها مطمئناً لأنها رفقة أخيها عُمر ، و مُرام كانت تجلس في الخلف .
* * *
لا أدري كيف نسيت موضوع أولاد مارس لأتذكره في شكل حلم ، إنها ذلك النوع من الذكريات الذى يُطمر تحت أكوام من الوجع ، كابوس سيء استيقظت على إثره فزعة و خائفة و لم أجد بجواري من يشعرني بالأمان ، أب بعيد في قُطر آخر تخلى منذ عقد عن فلذة أكباده و أم تحت التراب .
قالت مرام إذا كان الماضي لا يؤذينا فلم قد نركض خلفه ؟.
أجبتها حينها :
ربما يؤذينا بشكل ما دون أن نشعر .
و بالفعل كان كذلك .
أشياء سيئة جداً أخجل حتى من أن أبوح بها لنفسي و أخجل من قول أن أبي قد تزوج أمي لأنها كانت ناجحة ، سكرتيرة المدير التنفيذي براتب يعادل عشرات أضعاف راتبه ، أمي قالت تلك الأشياء لي عندما تشتد عليها تبعات المسؤولية و كنت أستمع لها لتنفس عن غضبها ، أكره قول ذلك و لكن أبي كان وغداً مثلما قالت أمي و قد أثبتت لي الأيام ذلك ، تنصل حتى من قرار المحكمة التي أجبرته على النفقة .
علمت لاحقاً أن والد مجاهد كان يهيم بأمي حباً ، بالطبع إذا أراد المدير التنفيذي أن يكون عائلة فمن سيختار سوى سكرتيرته الهادئة و الجميلة ؟ و لكن القدر أقسم ألا يجمعهما معاً .
قبل أيام قُلت لعُمر :
” أتذكُر يوم جرحت يدك بالسُور و أخبرك مجاهد أنك ستموت ؟ ” .
أبتسم عُمر نصف ابتسامة ، ثم أخذ نفساً عميقاً من الهواء المُشبع بالرطوبة :
” أحضرتني إلى هنا لنتحدث عن الأسيجة ؟ ” .
” لنتحدث عن الجروح عن أولاد مارس ” .
ألقيت جملتي و أنا أراقب قسمات وجهه الأسمر الذي أضاءته مصابيح السيارات على الطريق بالقرب منا ، أخبرته بكل شيء بمخاوفي و أوهامي ، فقال :
” تفكرين بهذه الأشياء بعد كل تلك السنوات ؟ “.
نعم أفكر ، أمسكت بيده و أبقيت المسافة بيننا كما هي ثم قلت :
لأنه لم يعد لدي ما أفكر به ، الفراغ يقتلني ، و ما أقصده هو ليس فراغ الوقت و إنما فراغ النفس و الذات ، فراغ يداهمك ليلاً و يسلُب النوم من جفونك ، ذلك الركود الذي يُخفي تحته رُكام سحيق لأشياء سيئة .
توتر عُمر و لف ياقة معطفه الأسود حول عنقه ، و لكنه حافظ على أقصى درجات هدوئه ، شقيقي و أنا أعرفه أنا أيضاً لا أنوي فتح الماضي و لكنني مضطرة يا عمر ، توجد فجوة علي ملئها ، انتظرته مسافة لكنه لم ينطق فقط ظل يراقب الشارع المُظلم عدا من أضواء السيارات و كأنه قد أبحر إلى ما لا نهاية ، أبحر وهو لا يعتزم العودة . لكنه عاد جالباً معه مُجاهد و عصام .
أن نترك منزل الشركة كانت ضربة موجعة في وجه السعادة ، و انفصال والدي كان أكثر إيلاماً ، و لكن عصام اعتنى بنا و لم يُقصر لسنوات ، بعدها اختفى هو و ابنه مجاهد و لم تخبرنا أمي بالسبب .
رأيت في عينيه الكثير من الوعود التي لم يُصرح بها و لكن أحسست بكل كلمة فيها كأنني لمستها ، صادق في كُل شيء ، قرأني دون أن يُقلب صفحاتي ، و ضمني كما تفعل الأم مع وليدها ، عمره الآن اثنان و عشرون عاماً و أنا مثله ، لطالما منحتني نظراته أمانا و طمأنينة تجدها فقط فيمن أحبك لأنك أنت ، أمان يجعلك تنام دون غطاء لأنك واثق أن هناك من يدفئك بروحه ، أثق به لدرجة تجعلني أسير رفقته و أنا مغمضة العينين . و إن قال شيئاً فأنا أصدقه دون أشك ولو للحظة ، حتى لو أظهر الواقع عكس ذلك فأنا أصدقه و لا أكذبه أبداً ، فقط لأنه مجاهد في صغره و هو ناضج  ، نفس النظرات الواثقة ، ذات الكلمات الموزونة ، و نفس المسؤوليات تحملها بالأمس و سيتحملها اليوم و غداً ، مجاهد بعمر الخمس سنوات و مجاهد الآن لم يتغير شيء .
قال الحقيقة و قد صدقه قلبي ، بدد كل أوهامي فنمت تلك الليلة قريرة العين كما وعدني بالضبط ، و وعدني أيضاً أن يأتي في الصباح ليحكي لي قصص أسطورية ، قصص تروى عند الشروق ، فخمنت أن تلك الحكايات أبطالها ملك و ملكة.
و بالفعل الشمس التي أشرقت لم تكن كسابقاتها أبداً ..
و الأشعة التي بُعثت منها كانت لهباً أحرق الآن و المستقبل .
رأيت شيئاً تحت الباب ورقة مطوية بعناية ، لففت منامتي حول خصري و فتحت الباب لأرى إن كان هناك أحد و لكن لم يكن فالوقت باكراً جداً ، بالكاد أشرقت الشمس ، قلّبت الورقة لأجدها مليئة بالكتابة ابتدأت ب :
” كانت أرض الأحلام قريبة منا ، الطريق إليها مليء بالحصى ، تُضاء ليلاً لتتوهج ككوكب حرام أن تطأه أقدامنا . بينما نحن نرزح في الظلام .
الطريق بيننا يا غدي لم يكن طويلاً توصيل القليل من الأسلاك الكهربائية كان سيفي بالغرض و لكنهم فضلوا أن نكون في الظُلمة .. “.
تركتُ الباب مفتوحاً على مصراعيه ليدخل الماضي بأسوأ صوره ، و سحبني إلى الأرض فجثوت و واصلت قراءتي :
” …كانت حجتهم واهية يا غدي بحكم أنها أراضٍ عشوائية ، و لكن الحقيقة هي أن الشركة كانت تنوي التوسع ، بإمكانها أن تتوسع في الجهات الثلاث و لكنها اختارت الجهة الرابعة لتتخلص منا.
لم يكن لنا الحق في الدراسة كما لم يكن لنا الحق في العيش بعد ذلك ، كانت السيارات تأتي مُحملة بالخُضر من المزارع و تدخل أولاً لمنازل الموظفين و بعد أن يأخذوا ما يحتاجونه و يفيض يتركوا لنا الفتات و نشتريه بأغلى الأثمان يا غدي ، بالمال الذي كنا نصادره أو نسرقه منكم ” .
كُنت أعلم المتحدث لدرجة أنني أسمع صوته ، صوت نقلته الأجراس المعلقة على أعناق الخيل ، عُمره قرابة عقدين .
” كانت سيارات الشركة المحملة بالحليب أيضاً تُمر بالقرب منا فكنا نخرج لنشتري بمالنا ، أقصد مالكم الذي سرقناه منكم و لكنهم لا يعطوننا إلا بعد أن تكتفوا أنتم ، أحيانا نحصل على القليل من الحليب و أحيانا لا ، عندما نجلب ذلك الحليب كانت أمي تزيده ماءً فكان طعمه ماءً أكثر منه حليباً ، و قد كان مذاقه حلواً يا غدي .
عُمر شقيقك يحبك أكثر من زوجته و نفسه و لا يسمح أن تجرحك شوكة ناهيك عن ما سأقوله ، أما مجاهد قصة أخرى ، أقسم أن يكون بطلها هو ؛ و لكنني أيضاً أقسمت أن تظهر الحقيقة لا شيء غيرها ، ليس لضغينة بيني و بينك و لكن أنا أحببت عائلتي الفقيرة و السارقة تلك كما تحبين أنت عائلتك المترفة الآن و في ذلك الوقت ، كما تحبين والدك مع أنه ظلمك ” .
” الشمس في قلب السماء و الحصى يتلظى تحت لهيبها ، كنا بانتظاركم يا غدي … ” .
ذبحتني هذه الأسطر ، و لأول مرة أعلم أن الورق يجرح و جرحه غائر لا يشفى أبداً .
” كنا نخيفكم فقط لنشتري الحليب يا غدي ، الحليب الذي نضيف الماء إليه ليملأ أكوابنا ، لأن أموال أهلنا الذين يعملون في مزارع الشركة بأجر زهيد لا تكفي لشراء قطعة الخبز و قطرة الحليب معاً .
كنتم تروننا وحوشاً و لم نكن سوى أطفال بائسين ، و أنا لا ألومك ، كما لا ألوم مُجاهد و عُمر في ذلك الوقت ، فجميعنا كنا صغاراً ، بأحلام لخصها القدر في ما يسُد الرمق و حضن آمن ، و لكننا فقدنا الحضن الآمن يا غَدي ، كِلانا فقدْ ” .
هُنا الخط تغير قليلاً و أصبح أكثر قساوة في هذا الجزء من الرسالة ، و تابعت قراءتي غير آبهة بنزيف الحروف :
” حاول مجاهد و عُمر جذبك للعربة كما فعلا بالأمس من أجل إنقاذك ، و لكنه أصر أن يشرب الحليب مساءً فسحبك و طرحك أرضاً و ليته لم يفعل ، كان بيدك حجر مُسنن ذلك الذي وضعه مجاهد في كفك الصغير ، لتوجهي له ضربة في عنقه الغض و الهش ، نزف الكثير من الدماء فوراً و سُكبت على وجهك الملائكي ، و في هذه اللحظة فقدتي الوعي ، حدث كل شيء بسرعة و لكن أنا أذكر كل قطرة حليب و دم يا غدي ” .
انتهت الصفحة الأولى لتنهى معها حياتي للأبد و أفقد نفسي التي حاولت معرفتها لسنوات ، لم أنكر ما جاء في الرسالة لكن خفت ، خفت من نفسي كثيراً ، وصدقت كاتب الرسالة ، فبطريقة ما كُنت أعلم أنها الحقيقة ، إنها هناك مدفونة في عقلي و عند الحصى حتى ولو قال مجاهد العكس .
لدرجة أنني كِدت أرى العربة أمامي و مجاهد و عمر فوقها و لكن عندما ألتفت للخلف لم أرى وحوشاً بل أطفالاً يشبهوننا في كل شيء ، و أجراس تُقرع لتُنذر الكِبار .
قلبت الصفحة لتبدأ ب
” كُنتِ و أخي ممددان على الأرض قرب بعضكما كالملائكة ، لم ندر ما نفعل ، حتى جاء عصام والد مجاهد بسيارته ، و لكنه أقسم إلا أن يُظهر حقيقة الإنسان في أبشع صورها ، فيُسعفك و يتخلى عن أخي و يتركه في التراب ليُدفن ” .
صرخت و لكن صرختي لا تتعدى هذه الجدران الجامدة .
” ألم يكن ملاكاً مثلك ؟.
ألم يكن قُرة عين لوالدين ؟.
ألم يكن أخاً رحيماً لأحدهم كعُمَر ؟.
لقد كان يا غدي ، لقد كان ” .
أبتلت الورقة ، و تشوهت الكلمات بدمعي . و واصلت القراءة بالرغم من ذلك ..
” و عصام أبى إلا أن يستمر فيما يفعل ، فوضع اللثام على عين الحقيقة ؛ و أجبر والدي على الخضوع ، بل أزال المنطقة بأكملها ، ولم يكن أمام والدي خيار آخر بعد أن انقطع الحليب ، فرضخ و ذُلَّ .
و ليكفر عصام عن سيئاته أغدق علينا بالمال و تجاهل دماء أخينا ثم اشتراها بأبخس الأثمان.
مُجاهد يراك كالبلور و يخشى انكسارك ، و عُمر وضع عليك أجنحته الرحيمة و احتضنك لسنوات ثم وهبك روحه لتحيي ، أما نحن يا غَدِي فَقدنا و فُقِدنا ، و لا نزال هناك تحت شمس مارس التي تأبى أن تغرُب و الحصى المخضبة بدماء أخي “
مُرام.
النهاية ……

تاريخ النشر : 2020-07-13

guest
30 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى