أدب الرعب والعام

42 عامًا إلّا 11 – الجزء الثالث

بقلم : إبراهيم الاقصم – المملكة العربية السعودية
للتواصل : [email protected]

42 عامًا إلّا 11 - الجزء الثالث
تقلّبت أوراق الكتاب من تلقاء نفسها ، و هي من ظنّت أن تلك الضربة المُحكمة كفيلة بإخراسه !

بدا الأمر عاصفاً لأفكار جيهان ، للأسف لم تُسعفها ذاكرتها في استعادة خطايا الماضي ، ولكن سارعَت مشاعرها في التضارب للإيقان . . أو شعور ذنب مُبهَم

أحسّت جيهان بعد تلك القراءة أن الأمر لم يعُد من التدبير البشري ، هُناك تدبير إلهي للتكفير عن الذنوب
“أن تُزهَق الروح لـهو أمرٌ مُهوّل ، فما بال روح بريئة أرادت الحياة ورُدَّت جِراء فاحشة ؟
الندم لن يكفي . . الإعتذار سيدمي الجسَد أكثر . . الهروب سيميتك لا مُحالة !
التضحية؛ التضحية هي من ستمسح دموع تلك العين البريئة . . جزءاً من عمركِ سيفي بالغرض
إعطِ ما لديك، المُهلة لن تكون إحدى خياراتنا . . ستضطرين للتضحية بـ11 عامًا من عمرك”
تلك العبارات التي قرأتها، حتّى لو اختفت من على وجه ذلك الكتاب ، بأي وسيلة ستُمحى من ذاكرتها ؟ و بأي موقف سعيد ستُستبدل تلك الذكرى؟

في لحظة ضُعف منها، شعرت أن اكتفاءها وصل رأس العُنق من القراءة ، أو لربما خشيَت أن تُواجه ما هو اسوأ . . و هنا كانت الخشية الأولى في حياة هاته الواثقة ، أطبقت الكتاب بقوة كما لو أنها تريد صفعه ، و كأنها ترجو ألّا يُفتح من جديد
و لكن معالمها كانت تُظهر أنها من تلقّت الصفعة ، جسدها يرتعش ولم تقوى على الحِراك ، وحين استنشقَت ما يكفي من الأوكسجين ليرسيها على الأريكة ، تقلّبت أوراق الكتاب من تلقاء نفسها ، و هي من ظنّت أن تلك الضربة المُحكمة كفيلة بإخراسه !

أدارت رأسها بـخوف و بطئ ناحية الكتاب
“كل شيء على مدار الأربعة و عشرين ساعة التالية سيُخوّل لمقتلك ..
موتكِ يعني حياة غيرك . . لا اضطهاد لحقوقك و لكن تأمين حقوق من اضطهدتِ
تأهبي لمرحلة ما بعد الحياة ، تُفنى روحك و لكن تُعاد
ستُقايضك تلك الروح المُزهقة على نصيبك ، بل هي أشدّ حقًّا بها
تعيش جزءاً تختلف فيه الحسابات عن أيامك ، لا الأوقات أوقاتنا هاته و لا المكوث نفسه
أنفساً بشرية تقتلين؟ و بأي حقّ تفعلين؟ على أي مسيرة تنتهجين؟
إخفاء ذنبك سيخفيك . . ستُنسين طيلة تواجد تلك الروح هنا
ستحلّ مكانك لكن لا على شاكلتك، لها الهدوء والسكينة و اليقين”
بوجه مُبعثَر الملامح واصلَت جيهان القراءة ..
“في أي وقت من هذا المساء ستُنسى جيهان ، لن يتذكركِ أحد
الروح التي قتلتِ ستأتي لبدء حياتها . . خُوّل لك الموت وحقّت بها الحياة
أيّما طريقة اخترتِ للموت ، النتيجة ستظلّ نفسها
و على قاعدة الوداع . . لنلتقي على ميعاد آخر”

حطّت جيهان أرضًا ، تفشّى الخوف في جسدها كما سرطان خبيث ، بالطبع .. فحينها كان الكتاب قد استعرضَ ما لديه من كلمات تدبّ الرعب في النفس ، ظلّت ساكنة كجثّة هامدة، و كأنما تتقمّص الدور قبل آوانه
جاء الحقّ باليقين، هنا لا ريب في الكلام .. هي لا تُحدّث شخص حتّى تستعين بخبرتها في مجاراته ، أو قلب الكلام عليه ، هي تحدّث شيء لا وجود له . . يشبهها تماماً
بعد ساعات ..لا أفكار تنخرط لعقلها حتّى تُمسك بزِمام الأمور و تُعيدها تحت السيطرة ، أُنذرت بالموت و أحسّت بدنوّه ،

أجلها لم يعُد بعيدًا .. بدأت تُصدّق شيئاً فشيئاً بمشاعرها شعور الذنب ثمّ شعور التكفير عنه ، وكـردّة فعل طبيعية ، فكّرت في أن تخلد للنوم مُتجاهلة كل شيء ، لكن هل ستقضي ما تبقّى من جزء حياتها هذا في المَنام ؟!
قطعًا ! جيهان لن تسمح بذلك أبداً ، حاولت استعادة توازنها و انتعلت حذائها و انطلقت خارج المنزل راكضةً كـأم فقدَت عقلها بعد فقدانها ابنها .

لم تعرف أين هي ذاهبة ، كل تفكيرها ركيزة “كل شيء على مدار الأربعة و عشرون ساعة التالية سيُخوّل لمقتلك”
ظلّت تلك العبارة ترنيمة حبل أفكارها ، بل و بدا لها أن كل مركبة تسير من حولها تقترب للإصطدام بها ، تسمع صوت وقع أقدام سريعة تلحق بها . . قاتل مُتسلسل يرغب في سلب حياتها ، ظنّت أن الأكسجين نفد ، حالت على التفكير في كيف تُسعف رئتيها ، هوجست كثيراً و هي تركض في الشارع ، الموتُ قريب للغاية!

دقّ جرس شقّة شادن ..
شادن تنظر من منفذ الباب : ما بال وضعها هذا؟
فتحَت الباب لـجيهان ، و قبل أن تُلقي بالسلام حتّى أمسكت بها جيهان بقوّة
جيهان : أخبريني ، ما الذي يحويه ذاك الكتاب ؟!
شادن : خُلت أن الموضوع انتهى ، لا أعلم ما رأيتِه في الكتاب لكن لا علم لي بأي شيء
جيهان : سأموت ! أخبركِ أنني سأموت !
شادن بوجه مُتعجّب : ستموتين ؟ انظري يا فتاة ، هدّئي من روعكِ و أخبريني بما يجري
جيهان بأعلى صوتها : كتابكِ ذاك يُمليني رسائل مُنذرةً بموتي ، أنني أزهقت روحاً و ستعود هي للحياة و أنا سأموت
لا أعلم . . الأمر يبدو مستحيلًا ، و لكن تستمر الرسائل بالظهور بشكل غريب
شادن: لا أعلم بمَ تُهذين ، و لكن تقولين أنكِ أزهقتِ روحاً ؟ تعود للحياة و تموتين؟
هل تقرأين تجارب علمية عن إعادة الموتى ؟ هل أعطيتكِ قصص مخلوقات عائدة من القبر ؟
جيهان بـلكنة مُرتعشة : لا تسخري ممّا أقول ، لقد شهدت ذلك بأم عيني ، يضيق صدري كثيراً ، لا أدلة قاطعة و لكن كل شيء يوحي بصحّة ما يقوله ذلك الكتاب
شادن : كنت لأصدّق الأمر لو قلتِ أنه بفعل تعويذة منّي ، لكنكِ تأخذين الأمر لمدى آخر
من سيُصدّق كلامكِ هذا؟

جيهان تُوثق الإمساك بأيدي شادن : هل تصدقين أنني قتلت روحاً ؟ هل يُعقل أن ذلك الكتاب يوحي بشيء ؟
شادن : و لو أنني لستُ واثقة بكِ كونكِ مُعتدية ، و لكن لا تفقدي السيطرة على نفسك بهذا الشكل ، فلتبقي هنا الليلة ، أظن أن منزلكِ الجديد مسكون بالأرواح
اختلفتِ كثيرًا منذُ انتقلتِ هناك
جيهان و هي تبتلع دموعها : لم أختلف بإرادتي يا شادن ، أشعر بنذير شؤم قريب … أنا خائفة للغاية
شادن : لا بأس ، اخلدي للنوم الآن و إن كنتِ غير قادرة للذهاب للعمل في الغدّ سأتكفّل بشأن غيابك
بعدها ظلّت جيهان مُمسكة بيدي شادن لفترة ، وأخذت شادن جيهان للسرير كي تعود و تكمل أعمال التحرير

من بين المقالات التي كانت تُحرّرها ” امرأة توفّت إثر نوبة قلبية دون مُسعف لها “
بدأت شادن بتحرير المقال و تنقيحه
“في مساء الأمس توفّت امرأة متزوجة إثر نوبة قلبية بعد أن آوت لفراشها للنوم ، التقطت أنفاسها الأخيرة حتّى لاقت أجلها بعد أن غابَ من يُسعفها . . .آلخ”
شادن : يا للآسف، أحياناً الوحدة تؤدّي للموت الفعلي ، آمل ألّا أعيش وحيدة و ينتهي المطاف بي مثلها

“في تلك الأثناء نفساً أخرى كانت تلتقط آخر أنفاسها ، تُحاول الصراخ لمُسعف في الجِوار ، لكن غابت الأصوات . . لم يعُد هنالك مجال سوى لبضعة أنفاس”

هاتف شادن يرنّ ..
شادن : مرحباً
نارد : هل أتت جيهان لمنزلك ؟
شادن : أجل ، هي تغطّ في سباتٍ عميق الآن ، لا تقلق بشأنها . . ستبقى هنا الليلة
نارد : تُغادر دون إخباري حتّى !! حسنًا … إلى اللقاء

نهضت شادن من على الكرسي بعد أن سمعت ضوضاء في الخارج
إحدى نساء الحي ّ: عفوك يا ربّ ، ما ذنب طفل أن يُرمى وسط هذا البرد ؟
تهامسن النساء عن ذلك الطفل المولود حديثًا ، مازالت آثار الولادة ظاهرة عليه
شادن تدخل بين الحشد : خير إن شاء الله ، ماذا هُناك ؟
إحدى نساء الحيّ : كـعادة شبابنا الطائشين ، يقضون ليالٍ ظنّوها مُمتعة و حتّى تحلّ المصيبة تخلّصوا من عاقبتها
شادن : سترك يا رب ّ، الطفل في حالة مُزرية ، خذوه للرعاية الصحّية
بدأت إحدى المُسنّات في تربِيْته و قلبه و القيام بالعادات القديمة في رعاية المواليد ، بينما شادن تتأمّل سوء المنظر . . طفل متروك في إحدى ممرّات الحيّ ، يجهلون من هم والديه ، جلّ ما يعرفونه أنه سيظلّ فقيد للأبد

عادت شادن بعد تلك الكارثة للمنزل مُنهكة للغاية ، لم يعُد لديها القدرة على التركيز في تنقيح المقال ، قامت بإغلاق الحاسوب و استسقت بعض الماء لتستعيد طاقة قد فقدتها بعد أحداث اليوم المُتعبة ، اتّجهت لغرفة النوم و تنفّست الصعداء قائلة : ” أخيراً لم يعُد هناك ما أهمُّ بشأنه ، وحيدةً في شقّتي . . دون ثرثرة بشرية”

يتبع …

تاريخ النشر : 2016-09-14

guest
9 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى