ألغاز تاريخية

شفرة بوسان : رجل الأسرار يسجل اللغز مرموزا!

بقلم : منال عبد الحميد
للتواصل : https://www.facebook.com/HEKAYAHTGAREEBA

لوحة رعاة أركاديا : قد تكون مفتاح لغز عمره قرون !
لوحة رعاة أركاديا : قد تكون مفتاح لغز عمره قرون !

في عام 1638/1639م ظهر إلي النور عمل فني جديد بتوقيع الرسام الفرنسي “نيكولا بوسان” Nicolas Poussin ،العمل يحمل اسم ( رعاة أركاديا )  The Arcadian Shepherds وهو عبارة عن رسم بالزيت على قماش ( الكانفاه ) ،بارتفاع 121سم ، وبطول 185سم ، ويصور العمل ثلاثة من الرجال  يلتفون حول قبر حجري ، وامرأة تقف في جانب الصورة تنظر إليهم ، كلهم يرتدون ثيابا وصنادل عتيقة الطراز ، وتشير مناظرهم وألبستهم إلي مرجعيتهم كمنتمين إلي ( أركاديا ) القديمة ، أركاديا اليونانية التي كانت حلما بكرا ، أرض معزولة محاطة بالجبال ، حيث الطبيعة لا تزال عذراء ، والبشر لا يزالون بسطاء على فطرتهم الأولي هذا الحلم النقي الذي تغني به ( فيرجيل )  Vergilius ، والحلم القديم بالجنة ( الأركادية ) تمثل في منظر الرعاة ، الذي يجسد حلم شاعر روما الكبير ، في قصائده الرعوية المعروفة باسم  إكلوغاي أو Eclogues ، التي تغني فيها بأحلام الطبيعة وسحر البراءة في أركاديا القديمة المعزولة المشتهاة ، عامة يعتبر الناقدون المحدثون أن لوحة ( رعاة أركاديا ) متأثرة بأشعار ” فيرجيل ” الرعوية وتمثل تجسيدا لها .

blank
رعويات فيرجيل ألهمت الكثير من الفنانين .. منهم ” بوسان ” ورائعته رعاة أركاديا

اللوحة التي تم العمل عليها بتكليف من “كاميلو ماسيمو” Camillo Massimo  الأكبر ، وتم إنجاز نسختها الأولي عام  1627 ، بينما ظهرت النسخة الثانية ،الأكثر شهرة وغموضا ،بعدها بنحو أحد عشر عاما، وقد وصلت اللوحة إلي يدي ملك فرنسا “لويس الرابع عشر” ، وأحتفظ بها في قصر اللوفر، في قاعة الذخائر الملكية منذ العام 1685 ، ولم تغادر بيتها الدافئ بعدها ،ولم يكن بإمكان أحد مشاهدتها إلا بإذن من الملك نفسه !

تتلخص فكرة اللوحة في الرعاة ،الذين يدرسون باهتمام قبرا مبهما منقوش عليه عبارة أكثر إبهاما وغموضا هي : Et in Arcadia Ego

والتي تترجم ( وفي أركاديا أيضا ) ، أو ( وفي أركاديا أيضا أنا موجود ) ، والتي يقول التفسير الأولي البسيط أنها ترمز للموت ، بقوته وسطوته التي تصل حتى الجنة المنعزلة في أركاديا، التي كانت اسما يطلق على منطقة وسط شبه جزيرة ( بلوبونيز) Peloponnese

 ،لكن تفسيرات أخري تجعل الأمر أكثر تعقيدا وغموضا ، فليس الأمر مجرد رعاة بدائيين يتفقدون قبرا غريب الشكل ، ولم يكن “بوسان” نفسه مجرد رسام يفعل ما يؤمر به ، كما أن القبر الموجود باللوحة ليس في أركاديا القديمة ، ولا هو من نسج خيال ، إنما هو موجود فعلا ،وأقرب إلي يد “بوسان” من أركاديا ورعاتها وقصصها الريفية، إن القبر في فرنسا حيث وُلدت ( رعاة أركاديا ) وفنانها الغامض ،ذو التاريخ المحمل بالأسرار ،والتعمق في علاقات مجهولة مع جمعيات وطوائف سرية !

بوسان: الفنان الغامض ذو الألف وجه !

blank
نيكولا بوسان يصور نفسه بالزيت

ولد “نيكولا بوسان” (1594-1665م) Nicolas Poussin في يوم 15 يونيو من عام 1594 ، ببلدة تابعة لمقاطعة نورماندي بمملكة فرنسا ، في ملكية “هنري الرابع” ، الذي حكم فرنسا من فبراير 1594 وحتى وفاته في الرابع عشر من مايو من عام 1610م ،”بوسان” تلقي تعليما جيدا في صباه ، وتعلم قليلا من اللاتينية ، ويبدو أن موهبته قد تفتحت في سن مبكرة ، وقد تتلمذ على يد رسام يدعي “كوينتين فارين” ، وفي سن الثامنة عشرة نزح “بوسان” إلي باريس ، ربما بحثا عن الشهرة ، وأكمل تلمذته الفنية على يدي “فرديناند إيلي” و”جورج لالماند”، وكان من حسن حظ الفنان الشاب أن وصل إلي باريس في تلك الفترة ، التي كان فيها الفن يلقي رعاية ودعم رسميين سخيين من قبل الملكة “ماري دي مديتشي” Marie de Médicis

ولأنه أغرم بالفن والنقوش الإيطالية عزم الفنان الشاب على النزوح مرة أخري ، ولكن إلي روما تلك المرة ، بيد أنه لم يتمكن من الوصول إليها ، بل عاد من البندقية ( فلورنسا) ،ربما كان اعتلال صحته وراء هذا الأمر .

 التحول الكبير في حياة “بوسان” وولوجه عالم الطبقات العليا بدأ في عام 1622 ، وهو في الثامنة والعشرين من عمره ، بلقائه بشاعر القصر الخاص بالملكة “ماري دي مديتشي” ، المسمي “جيامباتيستا مارينو” ، والذي كلف الفنان الشاب بوضع رسوم لطبعة جديدة من ( تحولات أوفيد ) ، وهو من الأعمال القليلة الموثقة ل”بوسان” ،قبل مرحلته المهمة في روما ، هذه العلاقة مع رجل مقرب من البلاط أفادت “بوسان” كثيرا فيما بعد ، بل إن “مارينو” هو من قدم الدعوة المنتظرة للفرنسي المتفجر موهبة للانتقال إلي عاصمة الفن القديمة .. روما !

تحولات بوسان الكلاسيكية

blank
ميداس يغتسل في نهر باكتولوس “بوسان” ..تم تنفيذها في نفس التاريخ مع النسخة الأولي من رعاة أركاديا

في روما تفتحت عبقرية “بوسان” ، وحاز على رعاية كبار الشخصيات ، وتميز أسلوبه بالدمج بين التأثير العصري في الرسم ، والتأثيرات الحية للفنون القديمة ، وبنظرة سريعة ندرك ولع الفنان بالموضوعات الدينية والأسطورية ، والقصص المستقاة من الكتاب المقدس ، في لوحاته التي تضم أسماء جديرة بلفت الأنظار نذكر منها :

الطاعون في أشدود ( 1630م ) ، حكم سليمان ( 1649م ) ، رجال أريحا المكفوفين ( 1650م) ، تدمير القدس ( 1637م) ،العبرانيون يجمعون المن ( 1639م ) ، ومجموعة ( الأسرار السبعة ) التي رسمها بين عامي 1637و1640م ، وقبل ذلك كله تأتي رائعته ،وسره الكبير المخبوء ،وسط رسالة غامضة مشفرة في لوحة ( رعاة أركاديا ) !
 
رعاة أركاديا : وفي أركاديا أيضا كان جيوفاني باربيري !

blank
رعاة أركاديا نسخة غويرتشينو

قبل أن يخلق “بوسان” جنته الأركادية ، التي يلتف فيها الرعاة حول قبر غامض بستة عشر عاما (1622م)، قدم فنان إيطالي يدعي “جيوفاني فرانشيسكو باربيري” ، ويشتهر باسم “غويرتشينو” Guercino  عملا بنفس الاسم مستخدما ذات الثيمات تقريبا ، الرعاة والقبر والعبارة الشهيرة ( وفي أركاديا أيضا ) ، لكن مع اختلافات تتضح للعيان من النظرة الأولي ، حيث حوي المنظر المجسد بريشة “باربيري ” تفاصيلا أقل من تلك التي قدمها ” بوسان ” في نسخته من الرعاة ، الشيء المميز في النسخة الأولي من رعاة أركاديا هو الجمجمة التي تعلو قمة القبر الذي يلتف حوله راعيين ،أما عبارة (وفي أركاديا أيضا ) فقد أشار ” إلياس ريفرز ” إلي احتمال وجيه ، وهو أن تكون تلك الجملة مشتقة من أحد أبيات ” فيرجيل ” الرعوية التي تصف جنازة ” دافنيز ” ،ودفنه في قبر وسط الغابة ، وربما كانت العبارة الشهيرة تشير إلي الراعي الميت ،بدلا من القبر نفسه .

والآن ما الذي يدفع فنانا خصب المخيلة مثل ” بوسان ” لاستعارة فكرة سبق لغيره العمل عليها ،وما أهمية القبر الذي يلتف حوله الرعاة ، وما هو فحوي عبارة  Et in Arcadia Ego الغامضة ، والأهم ما هي الرسالة الملغزة التي أراد “بوسان” أن يتركها في نسختين مختلفتين من ( رعاة أركاديا )  ،وما سر التباين والاختلاف بين رعاة أركاديا الأولي ،والثانية لنفس الشخص ؟!

رعاة أركاديا مرتين : ما سر العمل المزدوج ؟!

من الجلي أن قصة ( رعاة أركاديا ) وقبرهم الغامض كانت تشغل بال الفنان الفرنسي الشهير ، لأنه رواها ، بريشته ، مرتين ، الأولي في عام 1627م ،والتي تمتلك منظرا مغايرا بشكل واضح عن الشكل النهائي للنسخة الأحدث والأخيرة ، وهي النسخة الأشهر والأكثر رواجا للوحة 
 

blank
رعاة أركاديا نسخة 1627محفوظة بمجلس أمناء دوق ديفونشاير وتشاتسوورث

blank
والرعاة مرة أخري بعد أحد عشر عاما

ورغم التشابه الذي يبدو من الوهلة الأولي ،لكن ثمة فروق ظاهرية كبيرة بين النسختين نوجزها فيما يلي :

أولا :وضعية الرعاة حول القبر مختلفة ،وتعطيه مركزية في الصورة الثانية ، وتغير واضح في شكل القبر نفسه .

ثانيا :المقبرة في النسخة الثانية تبدو أكثر عزلة وتنائيا

ثالثا :ظهور جبال وعرة لم تكن موجودة في النسخة الأولي من اللوحة

رابعا: وضعية الراعية ، والمرأة الوحيدة في اللوحة ، اتخذت بعدا أكثر مركزية ،وأهمية في النسخة الثانية من العمل  

خامسا : انجراف وتغير شكل القبر الملحوظ في النسخة الأحدث ،لكي يشبه تماما قبرا حقيقيا موجودا ، لا في أركاديا القديمة ، بل في مقاطعة رين لو شاتو Rennes-le-Château الفرنسية ،أي في نفس البلاد التي ولد ونشأ فيها “نيكولا بوسان” نفسه !  

كيف بدأ اللغز  : ليلة أن هرب الكاملين ومعهم الأسرار العظمي !

blank
ذكري نهاية طائفة الكاثار cathars لا تزال تؤرق العالم ،وتجلله بهالة من الأساطير والخرافات والسحر والغموض ،فمن هنا بدأت أساطير الكأس المقدسة وقبر أركاديا الغامض !

ولكن لنروي القصة من بدايتها ،والبداية الحقيقية تكون من ليلة الأول من أذار من عام   1244م  حيث تم اقتحام قلعة مونسيجور  Château de Montségur ،حصن الكاثار الأكبر وعاصمتهم في أوسيتاني Occitanie  جنوبي فرنسا ،من قبل قوات يقودها مندوبي البابا ونبلاء فرنسا ، المتعصبين للكاثوليكية ، مدججين بالأسلحة والكراهية المقدسة نحو ( الهراطقة ) ، وبعد سقوط المدينة أوقع بها المنتصرون مذبحة تقشعر لها الأبدان ، غير مهتمين بما إذا كان ضحاياهم من الرجال المحاربين ،أم من النساء والأطفال والشيوخ الضعفاء العُزل ، محاولين جهد طاقتهم محو تلك الطائفة المسماة بالكاثار  Cathars ،والتي أدانتها الكنيسة الكاثوليكية بتهمة الهرطقة ، واعتبرت جميع المنتمين إليها ، أو حتى المتعاطفين معها ،خطاة آثمين ،يستحقون القتل واللعنة الأبدية ، بيد أنه في الليلة السابقة حدث شيء صغير ، فقد تسلل من القلعة المُحاصرة بضعة رجال قليلي العدد ، أربعة على أصح تقدير ، هربوا بواسطة حبال مدلاة من فوق الجدران ،وهم يحملون في جعبتهم أوراقا ورقوقا ووثائق هامة ، وثائق خطرة وبالغة السرية ، تتضمن سر الطائفة الأكبر ومدار إيمانها ،الذي يساوي عند أفرادها ما هو أغلي وأعز عليهم بكثير من أرواحهم ،وممتلكاتهم وأسرهم وأطفالهم .

والكاثارية Catharism باختصار هي حركة مسيحية منشقة ، تبنت لها وجهة نظر خاصة حول شخصية “يسوع المسيح” والإيمان المسيحي ، واختلطت فيها العناصر المسيحية الخالصة بالأفكار المأخوذة من المذاهب الغنوصية القديمة ،ومتأثرة بالعرفانية والتفسيرات الباطنية للنصوص المقدسة ، ظهرت الحركة في القرن الحادي عشر في إقليم لانجدوك Languedoc جنوب فرنسا، وقد تأثرت بالمذاهب الدينية الكبرى ،التي انتشرت في بلاد فارس والإمبراطورية البيزنطية ، وتبنت عقائد تقوم على الإيمان بالثنوية Dualism ، وهو مذهب يعظم من شأن الشيطان حتى ليجعله مناظرا ، أو قريبا ، للإله في قوته ، بل يصل الأمر أحيانا إلي اعتبار الشيطان هو صانع العالم المادي ، بما يحتويه من عذابات وشر وموت وآلام ، وأن ثمة انفصال بين العالم الروحي الذي يحكمه الإله الحكيم العادل ، وبين العالم المادي البشع بكل نواقصه وعيوبه ، كانت الكاثارية ، قبل ظهور حركة مارتن لوثر الإصلاحية ، أكبر تحدي قابل العالم الكاثوليكي ، حتى لقبت الكنيسة الكاثوليكية الكاثارية ب( البدعة الكبرى) ، ونقلا عن موقع رسمي يمثل الطائفة الكاثارية فإن العقيدة ، التي سارت طائفتهم على نهجها ، دفعت الكاثوليك ليس فقط لنعتهم بالهراطقة ، بل للتساؤل حول ما إذا كانت الكاثارية فرع من المسيحية أصلا !

blank
أوقع بها المنتصرون مذبحة تقشعر لها الأبدان

ومعني ذلك أن الكاثارية غدت ،في نظر مناوئيهم ، دين مستقل له قواعده وطقوسه الخاصة ، وخلافا للمسيحية الرسمية فإن طقس التعميد ، أو الدخول إلي المذهب (التنصير) ، المسمى Consolamentum  ، لم يكن يتم للمريد قبل بلوغه سنا معينة ، الأربعين غالبا ، وتلقيه تعليما يسمح له بالوصول إلي درجة من فهم العقائد والإيمان بها ،ومراعاتها عن قناعة تامة ، وكان للكاثار جماعة مختارة من الرجال والنساء يسمون الكاملين أو المثاليين Parfaits ، وهم هؤلاء الذين كانت بيدهم مفاتيح أسرار الطائفة ،ويسيطرون على منابع الفكر ، وقد كانوا يعيشون في زهد تام ويراعون حزمة معينة من قواعد وأسس السلوك اللائق ، وأيضا بعكس الكاثوليكية كان ” يسوع المسيح ” شخصية ملتبسة في عقيدة الكاثار ، لم يقبل الكاثار العقيدة التقليدية عن ابن الله المولود من امرأة والذي جاء ، كاملا في اللاهوت وكاملا في الناسوت ، ليحرر الناس من الخطيئة ويدفع دماءه ثمنا للفداء والخلاص ، بل كان في نظرهم وسيطا بين الله والناس ، بعضهم كان يراه في رتبة ملائكية ، وبعضهم تمادي إلي حد الاقتناع بأن صلب المسيح كان بشكله الجسدي فقط ، وأنه لم يشعر حقيقة بآلام الصلب والتعذيب ودق المسامير ، وبالإضافة إلي ذلك كانت بذور أساطير الكأس المقدس آتية من تربة بلاد الكاثار  ، كذلك كان لنظامهم الاقتصادي المتحرر من قواعد الإقطاع دور كبيرا في تأليب النبلاء وإقطاعي أوربا وملاكها الكبار ضد هذه الطائفة ، التي تهدد بمبادئها ونظمها الغريبة النظام التقليدي ،القائم على الإقطاعات الواسعة والسلطة المطلقة للنبلاء واستخدام أقنان الأرض ، وهو النظام المنتشر في أوربا حينذاك ،كل هذا جعل الكنيسة والنبلاء كليهما يتحالفان ضد الألبيجنسيين في جنوب فرنسا ، أو الكاثار ، وأعلنت كنيسة روما عن نيتها للقضاء على الهرطقة الكاثارية ، داعية النبلاء والتقاة والمخلصين إلي البدء في تدشين حملة صليبية للقضاء على تلك الطائفة المنشقة المهرطقة ، الجدير بالذكر أن دوافع النبلاء الاقتصادية كانت مفضوحة لسكان لانجدوك كلهم ، مما حدا حتى بالكاثوليك من سكان الإقليم إلي التعاون مع الكاثار في مقاومة الحملة الكنسية ، التي تولي قيادتها “أرنو أموري” Arnaud-Amaury أو “أرنو أمالريك “،رئيس الرهبان السيستريين ،ومندوب البابا “إنوسنت الثالث” ،كانت هذه المذبحة والليلة الدامية تتويجا لحرب شرسة ضد طائفة (الكاثار )استمرت لحوالي خمسة وثلاثين عاما (من 1209 وحتى 1244م ) ،وانتهت بالقضاء المبرم على وجود الطائفة المنشقة ،كحكام وأغلبية سكانية في لانجدوك ،لكنها لم تُنهي وجودهم الفكري ،أو توجهاتهم الدينية الفريدة !

هروب (الكاملين )،الذين تم اختيارهم ليمرروا وثائق ومقتنيات ،قيل أنها ثمينة وخطيرة في نفس الوقت ،كان إرهاصا ببدء سلسلة من الأساطير والخرافات والشائعات ،التي تمحورت كلها حول ذلك السؤال المنطقي :ما الذي كان أكثر أهمية من حياة الشعب الكاثاري ،ووجوده نفسه ،ليغامروا بإخراجه بشكل سري برفقة هؤلاء المختارين ،قبل أن يتقبلوا الموت ذبحا وحرقا ،على أيدي القوات المحِاصرة ،وبنفس راضية ؟!

القصة تبدأ من نهايتها :فرسان الهيكل محاربي الكنيسة الشجعان يتحفظون على سر الهراطقة !

blank
 

تأسست جماعة فرسان الهيكل Knights Templar عام1199م  ،كجماعة كاثوليكية مخلصة ومتعصبة للكنيسة ،وللبابا ولسلطاته التي لا حد لها ،بدأ الفرسان بعدد محدود ،وحددوا خطة عمل تتلخص في وضع أنفسهم في خدمة الكاثوليكية ،والبابوية ،وتكريس تجمعهم لخدمة المسيحية عبر قتالهم ضد المسلمين في الأرض المقدسة (فلسطين) ،وتأمين طرق الحج ،لكنهم ،وخلال عقود قليلة ،تحولوا إلي منظمة سياسية ومالية بالغة القوة ،وأنشأوا بذور النظام المصرفي الحديث ،كانوا أول من أستن فكرة البنوك والسندات المالية والشيكات بشكلها البدائي ،حتى أن قوتهم أزعجت بعض الملوك الأوربيين أنفسهم ،نهاية فرسان الرب المخلصين هؤلاء كانت غريبة ومثيرة للريبة ،إذ حاصرتهم تهم التجديف والهرطقة وعبادة الأوثان والشيطان ،وقيل أنه وجدت في معاقلهم وقلاعهم أدلة على انغماسهم في عبادات غريبة ،ثنوية وشيطانية ووثنية ،وانتهت أسطورتهم بحرق أستاذهم الأعظم “جاك دي مولاي” في مارس عام 1314م في باريس ،بعد مطاردة واسعة للفرسان ،وتنكيل شامل بهم ،ظاهريا يبدو أنه لا علاقة مطلقا تربط فرسان الهيكل بأسرار الكاثار ،ولغز لوحة “رعاة أركاديا” ،لكن عند الدراسة الدقيقة يتبين أن عقائد الكاثار تتشابه بشكل ملحوظ مع المعتقدات ،التي اُتهم فرسان الهيكل في مرحلتهم الأخيرة ،بتبنيها وأودت بهم إلي التشريد والتنكيل والحرق الجماعي ،ثانيا فنهاية فرسان الهيكل تضمنت لغزا كبيرا ،هو الثراء المفاجئ الذي حل على جماعة الفرسان الزاهدين هؤلاء ،القصة أصلا ارتبطت باستيلاء الصليبين على القدس العربية 1099م ،بعد مذبحة مرعبة وشاملة ،وبعيد وقوع المدينة المقدسة في أيديهم نُسب إلي الصليبين ،الذين اختاروا “جودفري دي بويون “Godfrey de Bouillon ملكا عليهم ،القيام بحفريات حول الحرم المقدس ،قيل أنهم كانوا يبحثون عن بقايا هيكل “سليمان” ،المذكور في العهد القديم من الكتاب المقدس ،غير أنهم وجدوا ما هو أهم وأخطر من ركام الهيكل ،تابوت العهد الذي يضم ،كما يقال ،ألواح الشريعة ،وجرة فخارية بها بقايا المن السماوي ،الذي أنزله الرب طعاما لبني إسرائيل التائهين في البرية ،وفوق هذا وذاك ،وجدوا الكأس المقدسة ،التي استعملها “يسوع المسيح” في الشرب ليلة العشاء الأخير ،وأيضا وثائق خطيرة ،أسرار مخيفة ،قد تزعزع بنيان الإيمان المسيحي من أساسه ،ووفقا لهذه القصص المتداخلة فإن الفرسان ،الذين امتنعوا عن التدخل أثناء حصار الحملة البابوية للكاثار ومعاقلهم في لانجدوك ،كانوا قد عهدوا بتلك المقتنيات الثمينة ،الكأس والمخطوطات ،إلي الكاثار أنفسهم .. لكن لماذا هم تحديدا ؟!

إن الأمر يسهل شرحه فعقيدة “الكاثار” ،المخالفة من عدة وجوه لعقيدة الكنيسة الكاثوليكية الرسولية ،تضمن للفرسان ألا يسلم الكاثار تلك الكنوز إلي البابوية ،أو يعمدوا ،بصفتهم مسيحين مخلصين ،إلي إذاعة الأسرار المروعة التي تتضمنها ،هذه فائدة مزدوجة ،لكن على فرض أن تلك الكشوف كانت حقيقية ،فلما لم يحتفظ الفرسان بهذه الكنوز ويتولوا حراستها وتأمينها بأنفسهم ،أو يحاولوا مناصرة الكاثار ،حماة كنوزهم المقدسة ،أثناء العقود الطويلة التي حاصرتهم فيها أفواج مقاتلي البابا ،وشردتهم ،وأمعنت القتل والتعذيب والتخريب في شعبهم وممتلكاتهم وحصونهم ؟!

ربما كان لدقة وضع (فرسان الهيكل ) يد في امتناعهم عن تقديم العون المباشر الصريح للكاثار إبان محنتهم ،لكن يبقي مع ذلك طريق يمكنهم معاونتهم به ،دون أن يُعرضوا أنفسهم لغضب البابا الصريح ،وهو حماية الكاملين الفارين من مونسيجور ليلة سقوطها ،وتخبئة الكنوز أو المخطوطات التي هربوا بها ،ومساعدة بقايا الكاثار ،الناجين من مذبحة لانجدوك ،على الاختفاء عن أعين الكاثوليك المتعصبين ،وهو ما حصل بالفعل !

إذن ففرسان الهيكل لهم نصيب مهم من لغز لانجدوك والكاثار ورعاة أركاديا ،لكن القصة لا تزال مستمرة ،والمزيد من الألغاز والغوامض ستظهر تباعا !

نصف اللغز الآخر :لعنة ميداس المحببة وكل شيء يصبح ذهبا !

blank
 

إن تكليف “كاميلو ماسيمو ” الأكبر  ل”بوسان” لم يكن بصدد لوحة “رعاة أركاديا “فقط ،بل شمل الاتفاق رسم لوحة أخري ،توأم غير متطابق للرعاة ،وهي اللوحة المعروفة ب”ميداس يغتسل في نهر باكتولوس ” Midas Washing his Face in the River Pactolus ،واللوحة الثانية هذه تروي قصة ملك أسطوري مشهور في الميثولوجيا الإغريقية “ميداس” ،وهو شخصية عجيبة منحه أحد الأرباب قدرة استثنائية ،بناء على طلبه مكافأة له على معروف ما ،وهي قدرته على تحويل أي شيء إلي ذهب ،فرح الملك بتلك المقدرة الفريدة في البداية ،ثم ما لبث أكتشف أنها وبال عليه ،إذ تحول طعامه وشرابه وقصره وخدمه ،وحتى ابنته العزيزة ،إلي تماثيل ذهبية ،ما أن يمس أي منها بيده ،ولتخليصه من اللعنة ينصحه الإله ديونيسوس بأن يغتسل في نهر يسمي باكتولوس ،ففعل “ميداس” وزالت لعنته ،بينما صار النهر عامرا بحبيبات الذهب من حينها ،هذه الأسطورة كانت سببا في ظهور ما يسمي “لمسة ميداس “” midas touch ،والتي تشير إلي لمسة سحرية قادرة على تحويل أي شيء إلي ذهب ،والآن ما الصلة بين “ميداس” ومقدرته الفريدة ،وبين الرعاة في أركاديا ،وهل يمكن أن يكون في لوحة “ميداس” سر أو شفرة ستكشف عنها ،بشكل ما ،خادمة بيت عجوز ،وهي تحتضر على فراش موتها ،بعد أكثر من قرنين من الزمان ؟!

الرابط الخفي :راعي أركاديا الحقيقي الذي مات من التعذيب !

blank
لوحة تسجل قصة الراعي البائس “إجناس باريس “

 
لكن قبل أن تظهر أهمية عمل “بوسان” الذائع الصيت ،وقبل بزوغ الكاهن “سونيير”  ،ولغز ثرائه الطارئ المفاجئ ،في أفق بلدة “رين لو شاتو” الهادئ بأكثر من  مائتي  عام ،حدث أن ذهب راعي فقير ، يدعي ” إيجناس باريس ” Ignace Paris  ، في ربيع عام 1645م ،خلف شاة له ضلت طريقها ، وتتبعها نزولا إلي تجويف صخري ، وهناك عثر على غنمته الضالة ، وأيضا كنز كبير من العملات الذهبية القديمة !

وتمضي القصة القديمة فتصف كيف أن مالك الأرض ،التي وجدت في رحابها هذه الكنوز المطمورة ، أراد استيضاح مكان العثور عليها بالضبط ، ويبدو أن الراعي ماطل في الكشف بدقة عن مكان التجويف الصخري المقصود ، مما دفع سيد الأرض ،وكان يدعي بلايز هاوتبول  Blaise de Hautpoulإلي تعريض الراعي لتعذيب شديد ، يبدو أن الأخير لم يكن مهيئا لتحمله، ففقد الراعي تعيس الحظ حياته تحت أيدي الجلادين !

الذي يسترعي النظر حقا هو تواتر عدة نسخ من القصة ،وانتشارها شفهيا بين سكان إقليم ( لانجدوك) ، ومنها نسخة تصف رؤى شيطانية خارقة دفعت الراعي إلي الفرار ،فور جمعه لبعض العملات والقطع الذهبية ،ليهرب من الشيطان الذي ظهر له محاولا القفز على ظهره، النقطة المهمة الأولي في تلك القصة أنها وقعت ، بحسب رواتها ، في إقليم ( لانجدوك ) الذي تقع فيه بلدة (رين لو شاتو) ، وأيضا هو نفسه المعقل القديم لطائفة الكاثار الهرطوقية وأسرارها الغامضة حول الكأس المقدسة ،وكنوز فرسان الهيكل المخفية بعناية ،لكن ما علاقة هذه الراعي وقصته المأساوية ب”بوسان” ولوحته المثيرة للأقاويل والجدل ؟!

الحقيقة أن حادثة الكنز الذهبي لم تمر بسلام ، فقد احتدم ، فور مصرع الراعي ،دون أن يقدم معلومات شافية ، صراع ملتهب للعثور على بقية الكنز ، أو على أصله ، أطرافه هم ” نيكولا بافيبو ” ، أحد قساوسة مذهب الجانسينية ،الموصوم بالهرطقة من قبل الكنيسة الكاثوليكية ، والسيد ” هاوتبول ” مالك الأرض التي عُثر على الكنز فيها، والأخوين ” نيكولا وفرانسوا فوكو “، قس بارز ،وثري صاحب أملاك وضياع ،وأخوين أحدهما هو أسقف ناربون ،والأخر ليس إلا وزير مالية الملك لويس الرابع عشر !

تري هل كانت قيمة الكنز المادية ، مهما بولغ في تقديرها ، كافية لدفع هؤلاء السادة العظماء للدخول في صراع حامي الوطيس ،من أجل أسبقية الوصول إليه ،والسيطرة على مصدره ؟!

الأمر الأكثر إثارة هو إقدام الأخ ” فرانسوا ” ،شقيق حضرة وزير المالية ،على القيام بزيارة إلي مدينة روما ، للالتقاء ب” بوسان ” صاحب اللوحة الشهيرة ،والاجتماع معه بشكل سري ، ثم إرساله رسالة إلي شقيقه يصف فيها نتائج لقائه بالفنان الشهير ،قائلا بلهجة تشي بأن في الأمر لغزا ،وكنزا أكبر من مجرد بضع صناديق مملوءة بالذهب ،أو بقطع من كنوز فرسان الهيكل ،أو فدية الملك القديس الأسير لدي المسلمين ، قال الأخ في الخطاب المثير للتأمل (… أمور من شأنها أن تمنحك ، من خلال السيد بوسان ، امتيازات سيتعين حتى على الملوك أن يجتازوا آلاما عظيمة كي يستخلصوها منه )  

ويمضي الأسقف المبجل ،واصفا الأمور المتعلقة بكل تلك القصة الغامضة ،بأن خلفها أمورا ( .. شديدة التعقيد ، إلي حد نكتشف معه أنه لا شيء على هذه الأرض ، قد يمثل ثروة أكبر منها أو حتى يساويها في القيمة )*

فما الذي يمكن أن تكونه هذه الثروة ،التي حتى الملوك سيتحملون آلاما عظيمة لكي يستخلصوها منه ،ومن هو المشار إليه بالضمير ( منه ) ،هل هو “بوسان” نفسه ؟!

وقبل كل شيء ما سبب تعلق السر ب”بوسان” تحديدا ، ولماذا اطلق عليه لقب ( حارس الأسرار ) .. وأية أسرار هي بالضبط ؟!

وفي النهاية دارت الدائرة لتنتهي بحصول الملك لويس الرابع عشر على (لوحة رعاة أركاديا ) ، بعد محاولات عديدة ، وعزلها في قاعة خاصة في اللوفر ، كان وقتها قصرا ملكيا ، ومنع أي أحد من الاطلاع عليها إلا بإذن شخصي منه !

أي سر يمكن أن يكمن في لوحة بسيطة ،تعبر عن مجموعة رعاة يحملقون في قبر منعزل غامض ،بلا شاهد أو علامات مميزة ، ما عدا تلك الجملة الغامضة .. وفي أركاديا أيضا أنا موجود !

الشفرة : الصلة بين بوسان وسونيير :  ما سر القبر الغامض ؟!

blank
موت بوسان لوحة رسمها ” فرانسوا ماريوس جراني ” 1870م

 
مات “نيكولا بوسان” في عام 1665 ،تاركا وراءه إرثا فنيا عريضا وجديرا بالإعجاب والتقدير ، تأتي على رأسه لوحته الرائعة والغامضة معا ( رعاة أركاديا ) ، لكن القبر المحوري ، في النسخة الثانية للوحة ، كان يحمل سرا ، رهبة من نوع خاص ،ولزيادة الغموض المحيط بسيرة هذا الفنان (حامل الأسرار ) كما لقبه أهل زمانه ،نجد أن موته نفسه شغل بال عدد من الفنانين الآخرين ،فرسم “فرانسوا ماريوس جراني ” François-Marius Graneمشهد وفاة “بوسان” بالزيت على القماش ،عام 1834م ،لكن هذا لم يكن كافيا إذ جاء فنان آخر بعده ،فيلكس براكمو Félix Bracquemond ،ليعيد إنتاج مشهد موت “بوسان” ،بالحفر الحمضي ،لكن الغريب أن “براكمو ” لم يلتزم الأمانة في نقله للمشهد المرسوم بيد سلفه ،إذ أنه غير تفصيلة مهمة جدا ،وصغيرة ،في المنظر الكلي ،إنه صبي المذبح الذي يقف أقصي يسار الصورة ،فبينما يلتزم الحياد في الصورة الأولي ،ويقف ميمما بصره ناحية سرير المحتضر ،بيدين فارغتين ،فإنه ،في لوحة “براكمو” يدير وجهه صوب المتطلعين ،وقد حمل شيئا غريبا في يده  

blank
هل تلاحظون التفصيلة الجديدة الغريبة ؟! نعم إنها كأس ؟!

هل من المصادفة أن صاحب العمل الأول “جراني ” كان ينتمي إلي طائفة فرسان القديس “ميشيل” ،التي تعتبر أحد الورثة الشرعيين لفرسان الهيكل المنكوبين ،وإلام يشير “براكمو ” بالتعديل الصغير الغريب ،الذي أجراه على الأصل الذي نقل منه العمل ؟! ما رمزية الكأس في لوحة تصور مشهد فنان عظيم يحتضر ،ولما شغل بال موت “بوسان ” تحديدا رسامين وفنانين آخرين إلي حد تسجيله ،وإعادة إنتاجه بتفاصيل غريبة وغير مفهومة ،دًمرت لوحة “موت بوسان” الأصلية عام 1945م ،لكن نسختها المعدلة لا تزال موجودة وتستحق الدراسة .  

 وحينما تفتحت الأعين بما يكفي ،وجد أن هذا الجدث القديم ليس إلا تجسيدا لقبر غامض في مقاطعة فرنسية ، قبر توارثته عدة أسر ،وشُغل فترة من الزمن ،حتى بقي فارغا مهجورا في النهاية ،وبقي الوضع ملتبسا حتى قُدر لكاهن محلي مغمور أن يكتشف أية خبايا ،تختفي حول تلك القطعة من الحجارة المصمتة المنعزلة ، لقد صار هذا الكاهن اسما عالميا ،وعلامة من علامات الأسرار والمخبوءات القديمة الملتفة بالغموض والسحر ورهبة المعرفة المكتومة : إنه ” بيرنجييه سونيير ” Bérenger Saunière !

المزيد من القبور والألغاز :قبر دو نيجر والكاهن القديم يعرف شيئا هو الآخر !

blank
قبل سونيير عرف الأب “بيجو ” أيضا أسرارا مروعة

 
قبل وقوع قصة كاهن “رين لو شاتو” الأشهر “سونيير” ،كانت هناك قصة أقل شهرة ،لكنها تحوي لغزا ذا صلة بنفس الموضوع ،ونفس المنطقة ،بطلاه هما سيدة نبيلة ،وريثة إقطاعيات كاملة ،ماتت دون نسل من الذكور ،وكاهن محلي ،لسبب ما كان هناك دائما كاهن في القصة ،ونتساءل لماذا ؟!

هل لأن الكهنة في هذا الزمان كانوا الأكثر تعليما وتثقيفا ،غالبا ما يجيدون اللاتينية ،وأحيانا لغات أخري ،وأيضا كونهم مقربين من الناس ،فهم من يحصلون على اعترافات المحتضرين ،وتُعري أمامهم كل الأسرار والسوءات ،لا أحد يعرف ما الذي أفضت به السيدة النبيلة “ماري دو نيجر ” Marie de Nègre إلي كاهن اعترافها قبيل أن تُسلم الروح ،السيدة “دو نيجر” سيدة قلعة عائلة “بلانشفور ” العريقة ،التي كانت (رين لو شاتو ) تقع ضمن ضياعها ،توفيت في 17يناير 1781م ،وأثناء احتضارها طلبت حضور الكاهن “أنطوان بيجو” Antoine Bigou ،وهو مقرب من الأسرة وله ارتباطات وثيقة مع الزوج الراحل للسيدة “ماري” ،وعلى انفراد أفضت  إليه المرأة بسر ،سر خطير ،حد أن الكاهن ،الذي جاء للقيام بواجباته الدينية تجاه المحتضرة ،غادر الغرفة على عجل وهو مضطرب غاية الاضطراب ،وبعد وفاتها ،تولي “بيجو” صنع شاهدة قبر خاصة بالسيدة ،شاهدة قبر تعد وحدها جزء لا يتجزأ من لغز (رين لو شاتو ) العريق .

blank
 

شاهدة القبر : رموز غريبة ورسائل سرية وحروف يونانية ترجمتها ؟!!
Et in Arcadia Ego

نفس العبارة الملغزة كانت مكتوبة بالشفرة على القبر ،لم ينتهي اللغز عند ذاك الحد ،إذ أن القس “بيجو” بدأ يتصرف تصرفات غير طبيعية ،بعد إطلاع “ماري دو نيجر” له على أسرارها ،فغادر فرنسا كلها ،ربما كان للقلاقل الممهدة للثورة الفرنسية دخل في ذلك ،لكنه ،كما يقال ،خبأ بعض الوثائق السرية في كنيسة (ماري المجدلية ) ،مقر خدمة “سونيير” بعد ذلك ،ثم رحل إلي اسبانيا ،وطبقا للقصة المتداولة فإن القس الفار خبأ وثائق خاصة بذلك السر ،ودفنها في بعض الأعمدة داخل الكنيسة ،الغريب أن الرجل الآخر في هذا اللغز ،”بيرنجيه سونيير ” ،حينما بدأ يطلع على أجزاء السر ،عمد إلي شاهد قبر السيدة “دو نيجر”  فشوهه ،حاول محو ما عليه من كتابات ،ثم نقله كله إلي مكان آخر ،أشد الأجزاء غموضا هو ما يؤكده بعض الدارسين للقضية أن شاهدة قبر “دو نيجر” هذه جيء بها ،بواسطة القس “بيجو” من أحد قبور (رين لو شاتو ) الأخرى ،بالتحديد قبر “لي بونتي” الغامض ،الذي تعرض للنبش والتخريب ،ثم الهدم فيما بعد ،ونتساءل لماذا يبدأ كل شيء وينتهي عند هذا القبر المريب ؟!

وفي رين لو شاتو أيضا : عندما تحول الكاهن إلي مليونير !

blank
 القبر الحقيقي في أركوس / رين  لو شاتو تم اكتشافه صدفة عام 1970م .. ما الذي أوصله إلي أركاديا ؟!

” فرانسوا بيرنجيه سونيير ” كاهن بسيط ،  ولد في شهر إبريل من عام 1852م ، وقد رُزق الأبوان بستة أطفال بعده ، ليصبح عدد أبناء الأسرة سبعة ، تنوعت مصائرهم ونهاياتهم ، ولكن برغم أن الأب ” جوزيف سونيير ” كان رئيسا لبلدية ( مونتسالز ) Montazels ، ومالكا لمطحنة دقيق محلية ، لكن شهرة عائلة “سونيير” سوف تتأتي من الغموض ،الذي أحاط ببكر أبنائها ،وقصته العجيبة في رعيته النائية .

” فرانسوا ” تلقي تعليما إكليريكيا ، ثم نال رسامة القساوسة في يونيو 1879 ، وتم إرساله ليقوم بمهمته الرعوية ،في رين دي لو شاتو ،لتبدأ أسطورته الغامضة !

سونيير وبرج ماجدلا : من أين جاء الكاهن الفقير بكل تلك الأموال ؟!

blank
 برنجيه سونيير ولد بعد موت بوسان ب187 عام .. فأي علاقة يمكن أن تربط بينهما ؟! 

بعد رسامته بدأ الكاهن الشاب “سونيير” عمله كراعي كاثوليكي في بلدية ” ألي لو بان ” Alet-les-Bains بمقاطعة ( أوسيتاني ) بجنوب فرنسا ، ومنها أنتقل إلي قرية ( لي كلا ) Le Clat ، ولكن يبدو أن سلوكيات “سونيير” لم تكن مشجعة على تثبيته في مكان واحد ، إذ سرعان ما اُلقي به في رعوية بائسة فقيرة في بلدة ( رين لو شاتو ) في 1885م ، وهي تمثل محطته الرابعة في سلكه الرعوي الشاق، لكن مواقف الكاهن الخامل الذكر السياسية لم تكن مستساغة لدي الجمهوريين في فرنسا في تلك الآونة ،لذلك قام وزير شئون العقيدة بإيقافه عن العمل ككاهن لفترة استمرت حوالي سبعة أشهر ، عاد خلالها للتدريس في ناربون ، بيد أن أهالي ( رين لو شاتو ) ضغطوا لاسترجاع كاهنهم مرة أخري ،فرضخ محافظ المقاطعة ، وعاد “سونيير” إلي رعويته النائية ، وفي مرحلته الثانية بدأت الألغاز التي أحاطت به في التشكل ، وكان أولها هو علاقته غير الواضحة بخادمته ” ماري دينانور ” !

blank
 السيدة دينارنو : ما الذي كانت تعرفه هذه العجوز ؟! 

ويبدو أن هناك أقاويل تناثرت حول العلاقة التي تربط بين القس وخادمته ، التي انتقلت بعائلتها لتقيم برفقته ،وبالأحرى كانت الشائعات قوية جدا ورائجة ،حتى أنها تعهدت بعدم دخول غرفته ،ما دام هو متواجدا فيها ، إلا في حالات المرض والضرورة القصوى ، لكن هل كان الأمر مجرد الشك في ( علاقة غير مستحبة ) بين كاهن وخادمة ،أم أن تلك المرأة كانت تعرف أشياء ،لا يعرفها أحد عن كنيسة ( ماري المجدلية ) التي يخدم فيها سيدها ؟!

اللغط حول الأمر كله بدأ حينما أقدم “سونيير” على إجراء تجديدات واسعة في كنيسة ” مريم المجدلية ” ، التي يتولى الخدمة فيها ، فقد بدأ بتجديد أرضياتها ،وإنشاء مذبح جديد ،وكذلك تركيب زجاج ملون للنوافذ ،وعلاوة على ذلك أتفق “سونيير” مع نحات شهير ،هو ” جيسكارد ” من تولوز Giscard of Toulouse ، على مجموعة من التماثيل للقديسين وليوحنا المعمدان ،وقد تكلفت مراحل التجديد هذه مبلغا وقدره ألفان وخمسمائة فرنك فرنسي ( 2500 فرنك ) ،تم دفعها على أقساط سنوية بواسطة سونيير ،بداية من أواخر شهر ديسمبر من عام 1897م ، وتم تدشين الكنيسة ،بعد التجديد ،في مناسبة عيد العنصرة من نفس العام بواسطة الأسقف ” بيلارد ” ، فمن أين لكاهن محلي محدود الدخل بالمال اللازم ،ليدفع مقابل كل تلك الأعمال والتجديدات ؟!

شركة سونيير الكبرى : مزيد من المنشآت والخادمة تدفع الثمن !

blank
برج ماجدلا ( المجدلية ) أحد منشآت سونيير الباهظة التكاليف .. فمن أين ولماذا ؟!

لغز الأموال التي دفعها “سونيير” لتجديد كنيسته الصغيرة أستفحل مع قيامه ،لاحقا ،بسلسلة واسعة من عمليات الإنشاء حول قرية ” رين لو شاتو ” ،ففي خلال سبع سنوات بين عامي 1898 و1905 قام الكاهن الفقير ،كما يُفترض، ببناء فيلا تسمي فيلا بيثانيا، وشراء أراضي ،وإنشاء برج حمل اسم ( برج المجدلية ) أو ( ماجدلا ) ،وحديقة تحوي قفصا للقرود وحماما للسباحة ، الملغز حقا في الأمر ،أكثر حتى من مصدر تلك الأموال ،غير المعروف من أين جاءت ،هو أن كل تلك العقارات كانت مسجلة باسم الخادمة ” دينارنو ” ،بل وجعلها وريثته الوحيدة في وصيته!!!

لكن يبدو أن “سونيير” قد تجاوز الحد المسموح له به ،أو أن ذكائه لم يكن كافيا لإيقافه عند الحدود الآمنة ، لأن نشاطه ما لبث أن أستدعي تدخل رؤسائه في السلك الكنسي ،وكان لأسقف كاركاسون Carcassonne الجديد “بيوفان ” رأي فيما يخص نشاط مرؤوسه الغامض ، فقرر أولا إبعاد “سونيير” عن رعيته في رين لو شاتو ، وعينه كاهنا لقرية كوستوج ، ثم استدعاه للمحاكمة والتحقيق في مايو من 1910 ، بعد أن رفض “سونيير” تنفيذ الأمر الصادر إليه ،واستقال مفضلا تقديم خدماته الكنسية مجانا ، وكان للأخير لائحة اتهام عامرة شملت العصيان ،والنفقات المبالغ فيها ،واستغلال الجماهير ،كان ثمة رأي مبدئي يتهم سونيير بأنه تحصل على كل تلك الأموال ،التي أنفقها على مشاريعه داخل وخارج الكنيسة ،من خلال تبرعات رعايا كنيسته ،وبيع الخدمات الكنسية مقابل أجر ،وهو ما يعد منافيا ومتعارضا لتعاليم الكنيسة ومبادئها !  

الكاهن لا يخشي أحدا : سونيير المتمرد لا يحضر محاكمته !

blank
 سونيير تتبع صوره المتبقية يكشف تبدل نظرته الوديعة إلي نظرة محملة بالغموض والثقة والتحدي .. فمن أين للرجل بكل تلك الجراءة ؟! 

وهكذا لم يهتم “سونيير” بحضور جلستي التحقيق معه خلال يومي 16 و23 تموز ، وبناء على ذلك تم تأجيل التحقيق الكنسي معه لمدة شهر ،مع إلزامه برد الأموال التي جناها من بيع الخدمات الكنسية للجمهور ،كان الظن لا زال غالبا أن رعية سونيير هم مصدر أمواله الغامضة، ،لكن الرجل تنازل عن عناده ،وحضر مجلس التحقيق الثالث في الخامس من نوفمبر ،وأنتهي التحقيق معه بإلزامه بالقيام بعزلة روحية للتكفير والندم ، لمدة عشرة أيام ،قضاها الكاهن المجلل بالشبهات في دير يسمي ( دير برولي ) Notre-Dame-de-Prouille Monastery ، ثم ، ولزيادة الشبهات حوله ،وتجرؤه على اللجوء إلي روما طالبا إعادته إلي كنيسته في رين لو شاتو ، ألزمه أسقف كاركاسون بتقديم محررات وحسابات موثقة ،تكشف مصدر الأموال التي استخدمها في مشاريعه الإصلاحية والإنشائية الواسعة !

ولكن ،وبرغم استعانة القس بإثباتات تخص تقديم مساعدات إلي كنيسته من مانحين  ومتبرعين  ،إلا أن تقاريره المحاسبية لم تستطع أن تغطي سوي 36 ألف فرنك ( 36000 ) وحسب ،من إجمالي مبلغ 193 ألف فرنك ،تكلفتها إنشاءاته في الواقع ، كان الفارق بين الرقمين جسيما إلي الدرجة التي أجبرت رؤسائه على عقد مزيد من جلسات التحقيق معه !

ويبدو أن “سونيير” كان قد وصل المرحلة التي لم يعد عمله فيها يمثل أهمية كبري له ، لأنه أمتنع عن حضور جلسة التحقيق اللاحقة معه ، والتي جري عقدها في شهر نوفمبر من عام 1911م ، مما ترتب عليه أن تم توقيع عقوبة ( الإيقاف عن العمل ) ،وتجميد نشاطه الكهنوتي لمدة ثلاثة شهور ،بدء من يوم 5 ديسمبر من نفس العام ، ولكن تلك العقوبة كانت تشتمل على تفصيلة تجعل عودة الكاهن المحلي المتمرد إلي عمله مرهونة بقرار من المجلس الكنسي ، الذي بدوره لم يكن ينوي السماح ل”سونيير” بالعودة إلي مزاولة مهامه في الكنيسة ،ما لم يقوم برد الأموال التي اجتباها من أموال رعايا الكنيسة أولا، المدهش أن الكنيسة كانت لا تزال تصدق أن كل تلك الأموال ، التي اُستخدمت لبناء وتجديد هذا الكم من العقارات والأملاك ، يعود إلي جيوب رعايا كنيسة رين لو شاتو الفقراء !

نهاية غامضة لرجل أكثر غموضا : أين اختفت ثروة سونيير ؟!

blank
نهاية القس المثير للجدل كانت مأساوية وغامضة وغير مفهومة ! 

فبعد أن طُبق عليه قرار الإيقاف الكنسي ، الذي يبدو أنه أستمر لأكثر من المدة المقررة ،بسبب عجز “سونيير” عن تقديم إفادة منطقية عن مصدر ثروته الكبيرة ، فجأة أفتقر صاحب ( برج ماجدلا ) ،وأصبح يتكسب من بيع المسابح والتذكارات الدينية لبعض الجنود المتمركزين في ( كامباني لو بان ) ، والمثير للدهشة أنه كان يفكر في بناء منزل صيفي ، وهو في تلك الحالة من الفقر ، لكن أعوزه المال اللازم ، وأضطر إلي تكريس كل ما يملك لدفع أجر “آبي جان هوغيه” محاميه لدي روما ، وظلت ( قضية سونيير ) معلقة حتى وضع لها القدر الحل الناجع بوفاة صاحبها نفسها ” فرانسوا بيرنجيه سونيير ” في الثاني والعشرين من يناير من عام 1917 ، وهو بعمر الرابعة والستين ، وقد رُفع عنه الإيقاف الكنسي بمجرد وفاته ، ودُفن بعد موته بيومين ، بينما تولت خادمته السابقة ” ماري دينارنو ” دفع تكاليف التابوت ،الذي حمل جسد سيدها السابق إلي مثواه الأخير ، بعد ذلك التاريخ بنحو ستة أشهر !

وماذا بعد : موت “سونيير” لم يُحل أي شيء !

وفاة “سونيير” الهادئة لم تقدم حلولا لأي شيء ، فبالإضافة إلي أن مصدر ثروته ظل غامضا ، وتمسك هو برفضه الإفصاح عن مصدر المائة وثلاثة وتسعين (193) ألف فرنك ،التي أنفقها على جملة تجديداته وإنشاءاته ، فإن الفقر المفاجئ الذي حل به ، ثم الفترة الطويلة التي استغرقتها مساعدته وقيمة بيته ،للحصول على مقدار من المال ،يكفي لدفع ثمن تابوته ،كلها تشي بأن هناك أمورا غامضة جرت بعد وفاة المهيمن الأكبر على اللغز ، وهو “سونيير” نفسه !

وفوق كل ذلك فإنه بعد موت الرجل بحوالي مائة عام ، وفي شهر سبتمبر من عام 2004 ، أقدم رئيس بلدية ( رين لو شاتو ) على استخراج جثة “سونيير” من جدثها ، ومن ثم وضعها في تابوت خرساني وأعاد دفنها ، وأمر بإغلاق مقبرة البلدة أمام الجمهور، والسبب ؟!

أن قبر “سونيير” تعرض لمحاولات عديدة لنبشه وسرقة الجثة ، فماذا كان يبغي اللصوص من جثة رجل مات منذ قرابة قرن ، وهل كانوا يريدون الجثة نفسها ، أم أنهم كانوا ببساطة يأملون في العثور على شيء آخر ،دُفن برفقة الجسد الفاني الصامت ؟!

كل تلك الأسئلة تبدو كشظايا ناجمة عن انفجار واحد لا يزال قيد البحث : من أين جاء “سونيير” بكل تلك الثروة وأين ولماذا نفدت فجأة ؟!

دير صهيون : اللغز الذي سيحل كل الألغاز !

blank
دير صهيون لغز كبير في حد ذاته زاد اللغز الأول تعقيدا وغموضا  

دير صهيون هو اسم لدير حقيقي تأسس في إنجلترا على يد الملك ” هنري الخامس ” ، وكان أخوية رهبانية شرعية ومعلنة ،وتحظي بالاعتراف من الكنيسة والدولة ، ومع مضي الوقت صار أكثر أديرة إنجلترا ثراء ، كما تميز بما حواه من كتب نادرة وقيمة ، ضمتها مكتبة عامرة ،طيرت شهرة الدير في كل مكان  ،تأسس الدير في عام 1415 ،وبقي قائما حتى القرن السادس عشر حينما جري هدمه ، وكان موضعه على الضفة اليسرى لنهر ( التايمز ) .

وبعض آثار الدير القديم لا تزال ماثلة ،فيما تبقي مما يسمي ( القصر الجورجي ) ، غير أننا لا نتكلم عن مؤسسة دينية شرعية لها تواجد ملموس فعلا ، بل إن ( دير صهيون ) المقصود هنا ليس إلا كيانا غامضا هيوليا ليس له مكان محدد، وإنما هو متجذر ومنتشر ومتمدد كالسرطان ، ويضم نخبا ورتبا سرية ، وأعضاء لا يعرف معظمهم بعضهم الآخر ،ويقوم على صيانة سر من أخطر الأسرار وأكثرها قدما وأهمية ،وهذا السر العتيق يتلخص في الحفاظ على الوجود السري للدم المقدس ،الذي أنحدر من يسوع المسيح عبر نسل مشترك بينه وبين المجدلية ، التي يشوب علاقته بها كثير من الغموض والالتباس ، وضرورة نقل هذا الميراث السري العظيم الأهمية عبر الأجيال ،وصولا إلي الجيل الأخير من هذا النسل المبارك ،الذي لوجوده أهمية عظمي لدي أعضاء هذه الأخوية السرية ،لاحظ التشابه مع المنظمات والمحافل الماسونية الخطيرة بدورها، وكانت حلقة الوصل في هذا اللغز هي الملك الميروفينجي المعروف ب” داجوبيرت الثاني ” Dagobert II الذي قُتل في حادث صيد ، يقال أنه مدبر ،في ديسمبر من عام 679م ، وقد أوعز البعض مؤامرة قتله إلي تحالفات وصراعات سياسية ، وقيل أن للبابوية دورا في عملية اغتياله ، وهو الملك الذي مات ميتة غامضة ، ثم دشن قديسا باسم St. Dagobert !

blank
جمجمة داجوبيرت الثاني : قيل إن وجوده يهدد البابوية لأن معرفته بسر نسبه المقدس تجعله أحق بعرش القديس بطرس من أي شخص آخر !

الملفت في عملية القتل هو حرص القتلة على ترك علامة غريبة ،في رأس الملك المقتول ، يفسر البعض تلك العلامة بأنها ناجمة عن الضربة التي تلقاها على رأسه ، بينما هناك تفسيرات أخري ،أشد إثارة وغموضا ،تستند إلي نظريات مريبة بدورها تقدم تفسيرا أكثر غرابة، حيث يكون للعلامة في رأس ” داجوبيرت ” أهمية طقسية ودينية ،باعتباره رجلا من النسل المقدس للمسيح ومريم المجدلية ! 

هذه السلسلة الغامضة المركبة من الألغاز ، بالإضافة إلي رقوق قديمة ،قيل إنها مزورة ، ومصدرها كنيسة ” مريم المجدلية ” ، التي كانت مقرا لرعوية “سونيير” ، كانت الأصل الذي استمدت منه مادة الكتاب المثير للجدل الساخن ( الدم المقدس والكأس المقدسة ) للثلاثي ” ميشيل بيجنت “و” هنري لنكولن ” و” ريتشارد لي ” والذي صدر في  طبعته الأولي عام 1982 ، ليحقق بعض النجاح ، الذي تحول إلي إعصار من النقد والاحتجاج والتأييد ،مع صدور مادته العلمية على شكل عمل أدبي ،يعد من أروع وأغرب ما صدر في الألفية الثالثة وهي بالطبع رواية ( شفرة دافنشي ) للمؤلف “دان براون” ، التي ظهرت للمرة الأولي عام 2003م.
      

blank
الدم المقدس والكأس المقدسة ، وشفرة دافنشي .. الكتابين اللذين أعادا الحياة للغز رين لو شاتو !

هذين الكتابين ، وسلسلة هائلة من الأعمال المكتوبة والسينمائية التي تستلهمهما وبنيت على أساسهما ، استندت كلها على جدار صلد من أسطورة ( دير صهيون ) Priory of Sion أو أخوية صهيون Prieuré de Sion العتيقة ،التي يشير البعض إلي أنها تأسست يوم دخول الصليبين إلي بيت المقدس ، وتتويجهم ” جودفري دي بوايون ” Godfrey of Bouillon ،كأول ملك صليبي للقدس ، بعد سقوطها في أيديهم عام 1099 في إطار ما سمي  بالحملة الصليبية الأول  ، وتبعا لمصادر الأسطورة فإن أمراء الحملة ، الذين اقتحموا المدينة المقدسة ،وارتكبوا فيها واحدة من أبشع مجازر التاريخ وأكثرها دموية ،ضد سكان المدينة  ،من المسلمين واليهود والمسيحيين المشرقيين ،قد عثروا ، بعد سيطرتهم على منطقة الحرم القدسي ، الذي يعتقد البعض أنه قائم فوق بقايا هيكل سليمان  ،على وثائق خطيرة ،تروي قصصا وحكايات ، متصلة بما يسمي الكأس المقدس ، وقد انتقلت هذه الوثائق إلي يد ” جودفري” ،ومنها إلي يد فرسان الهيكل فيما بعد ،وتجيب تلك الأسطورة على السؤال البديهي :

لماذا ” جودفري دي بوايون ” بالذات ،لماذا اختير هو تحديدا ليتوج ملكا على القدس ، دونا عن قواد الحملة الآخرين ، الأكثر بروزا وأهمية منه ؟!

حسنا ، تبعا للأسطورة فإن ” جودفري ” هو ملك بالدم ، وليس بالاختيار البشري ، لأنه من نسل الميروفنجيين ، وعروقه تجري بها دماء مقدسة ،ممتزجة بدماء مؤسس المسيحية الأول و” مريم المجدلية ” !

لكن ما الدليل على وجود تلك الأخوية ، وما السبيل للتيقن من الحقيقة التاريخية لما يسمي ” دير صهيون ” ؟!

الخبر اليقين عند صاحب الاسم الشهير ” بيير بلانتارد ” Pierre Plantard

blank
 بيير بلانتارد ، هل هو مكتشف لغز دير صهيون .. أم هو ببساطة من لفقه ؟! 

الكتاب الأكثر إثارة للجدل ، كما قدمه ناشروه ، ( الدم المقدس والكأس المقدسة ) ، أعتمد بشكل كبير في صياغة مادته العلمية على مجموعة من الرقوق ، أو الوثائق القديمة ، التي قدمها شخص يدعي ” بيير بلانتارد ” Pierre Plantard ، وهو فرنسي من مواليد 18 مارس 1920 ، وكان ابنا لرئيسة خدم تعمل في منازل الأثرياء ،وعامل استقبال ، لم يكمل دراسته وترك المدرسة عندما ناهز السابعة عشرة من عمره ، وعمل كفرد حماية وتأمين في كنيسة ” سان لويس دي أنتين ” ، وقد شارك في تكوين تنظيمات صوفية ،وذات توجه يعلو على فكرة القومية ، وقد كان موعد ظهوره الواضح بعد حل المحفل الماسوني الأكبر بفيشي / فرنسا عام 1940 ،حيث بدأ ” بلانتارد ” محاولته للاستيلاء على مجموعة مباني غير مأهولة ، تقع في شارع ماليشيربيس ، لصالح مجموعة ( التجديد الوطني الفرنسي ) التي أسسها ، ثم ما لبث بعد عامين أن حاول تأسيس جماعة أخري ،باسم ( ألفا جالاتز ) ،بيد أنه فشل في الحصول على إذن بتأسيس جماعته تلك ،من قبل سلطات الاحتلال الألماني ،التي كانت تسيطر على أنحاء فرنسا في تلك السنوات من عنفوان الحرب العالمية الثانية . ،ولكن يبدو أن ” بلانتارد ” كان عنيدا مثابرا ،فقام بالفعل بتأسيس مجموعته المناهضة لكل من السامية والماسونية على السواء ، بل وقامت الجمعية بإصدار دورية فكرية معبرة عنها ، بيد أن السلطات الألمانية عاقبت المؤسس بالسجن أربعة أشهر ، وخلال وقت قصير أخذ أعضاء الجمعية ،البالغ عددهم خمسين فردا ،يستقيلون تباعا ،بعد أن تيقنوا من عدم جدية الجمعية  ،أو ربما خوفا من أن ينالوا نفس مصير ” بلانتارد ” .

وخلال عشرين عاما تزوج ” بيير ” مرتين ، ووجد لنفسه عملا كرسام لدي احدي الشركات ، ويبدو أنه كان محبا للمشاكل ، لأنه تعرض للسجن مرة أخري لستة أشهر جديدة في عام 1953 ، وبعدها بثلاثة أعوام بدأ الرجل في التحضير لواحد من أغرب الإعلانات ،وأشد الدعاوي غموضا في تاريخ المنظمات السرية في العالم : ألا وهي ( دير صهيون ) !

ففي الخامس والعشرين من يونيه عام 1956 قام كل من السادة ” بيير بلانتارد ” ، و” أندري بونوم ” ،بتسجيل وإشهار جمعية جديد في مدينة (سان جوليان )، التي تقع بالقرب من الحدود الفرنسية مع سويسرا ، وكان الاسم الرسمي للجمعية المشهرة هو ( دير صهيون ) ، Prieuré de Sion ، وبعكس الشائع فإن الجمعية كانت حديثة النشأة قصيرة العمر ، ويبدو أن الشريكين ” بلانتارد ” و” بونوم ” حاولا إنشاء حركة احتشاد حول الجمعية وأهدافها ،لكنهما فشلا في ذلك ، وعلى وجه السرعة تم حل الجمعية في ديسمبر من نفس العام ، أي إنها لم تعمر نظريا إلا أقل من ستة أشهر !

blank
 شعار دير صهيون لمشابه لشعار الملكية الفرنسية ،المعروف ب( زهرة الزنبق ) أو fleur-de-lis 

دورة حياة المنظمة كانت سريعة جدا ، وكذبابة مايو كان ميلادها إيذانا بموتها ، ولم تستوفي عاما من الزمان قبل أن يتم شطبها من الوجود ،إذن علام كل هذه الضجة ؟!

منظمة مجهولة ولدت وماتت حتف أنفها ،في أقل من عام ، فما الذي جعل شهرتها تطير عبر الآفاق ، واسمها يرتبط بحفنة من الأسرار ،التي تدفع المرء للارتعاد لفرط سحرها وغموضها ،والرعب الذي يكمن خلفها ؟!

الحقيقة أن الأحلام كانت قد طوحت برأس ” بلانتارد ” ،الذي كان يحاول إثبات كونه من النسل الميروفنجي المقدس المزعوم ، ومحاولا ربط شخصه بإحدى نبوءات ” نوستراداموس” الموحية، والتي تتعلق بما يسمي ( الملك الكاثوليكي العظيم ) ، والتي ذهب الناس في تفسيرها شتي المذاهب والطرق ، وتشير النبوءة إلي ملكية كاثوليكية عظيمة تظهر بعد عصر ردة شامل ، وتنتهي بظهورها الأنظمة الديمقراطية والجمهوريات ، ويتحول العالم كله إلي الإيمان الكاثوليكي ، هذه النبوءة فُسرت من قبل أعضاء منظمة ( دير صهيون ) أنها إيذان بظهور ملك عظيم ، يحامي عن الكاثوليكية ويجعلها ديانة عالمية ، ويجلس على عرش لا ينازعه فيه أحد ، ومن أحق من النسل المقدس المنحدر من الكأس المقدسة ، مريم المجدلية ، بتحقيق تلك النبوءة الرومانسية الحالمة ، ونيل هذا الشرف الرفيع ؟!

وفي سبيل حلمهم لم يتورع “بلانتارد ” وشركاؤه عن تزييف رقوق ووثائق ،أعطيت المظهر العتيق عنوة ، هذه الوثائق التي أخذت شهرتها المدوية من خلال استخدامها في هذا العمل المتسربل بالأكاديمية  ،لكنه ينضح بالفكر التاريخي الرومانسي ، المحمل بنظريات المؤامرة والإخفاء العمدي للأدلة الخطرة ، والانتقائية في عرض التاريخ وتدوينه ، كتاب ( الدم المقدس والكأس المقدسة ) ، المشار إليه سالفا ، الكتاب الذي أثار حين ظهوره ، ولا يزال يثير ، موجات من الجدال الساخن ،تبني النظرية الخاصة بدير صهيون تماما ، وأخذ يفند ، مستندا إلي نقاط جدلية واسعة ،كل القصص الرسمية التي تبنتها الكنيسة عن شخص ” يسوع المسيح” ، وشخوص تلاميذه ، وفهمها الخاص للعلاقة بين ( المعلم ) وتلاميذه ، خاصة تلميذته الغامضة ” مريم المجدلية ” ،وبإضافة بعض القصص المنتزعة من بعض الكتب غير القانونية ،التي لا تعترف بها الدوائر المسيحية الرسمية ،أو مجموعة الرسائل والأناجيل غير القانونية المعروفة ب(الأبوكريفا ) ، خاصة الكتابين المسمين بإنجيلي ” يهوذا الإسخريوطي ” و” فيليب ” ، والأخير إنجيل غنوصي عرفاني ،وقد خلط مؤلفو الكتاب القصص الواردة في الكتب القانونية والمنحولة ،وأضافوا إليها مجموعة من التحليلات الجدلية ، التي تقاربت أو تباعدت مع قواعد المنطق وعلم التفسير اللاهوتي ،ومغايرة للنظريات المعتمدة لعلم الآثار التكويني ، الكتاب الذي قرأته عدة مرات شخصيا ،يبدو طابعه العلمي الحيادي واضحا منذ الوهلة والنظرة العجلي الأولي، لكننا دوما نقول أن العمل الذي يُكتب خصيصا لأجل إثبات نظرية مسبقة معينة ، ويهتم بحشد الأدلة المؤيدة لنظريته ، ويتجاهل ما عداها من أدلة مضادة ، أو يُخضعها لتفسيراته واجتهاداته الخاصة، يحتاج إلي نظرة شاملة وقراءة دقيقة أكثر عمقا وفطنة !

ما الذي ثبته كل تلك النظريات ،التي تدور حول الكأس المقدس والسلالة السرية المحجوبة ،والكنوز الأثرية المطمورة ، كلها تتلاقي عند نقطة مركزية واحدة : قلعة مونسيجور وألغاز هراطقة الكاثار !

لكن ما علاقة “سونيير” أو خادمته ،أو حتى ” بوسان ” نفسه بتلك الطائفة المندثرة القديمة ، التي جندت لها الكنيسة حملة صليبية خاصة بها للقضاء عليها وتشتيت شملها ، الحقيقة أن الموضوع كله كان دائرا حول تلك الطائفة السرية منذ البداية ، والحقيقة الأكثر إثارة أن قس ( رين لو شاتو ) ، إن كان قد عثر على كنز مطمور فعلا في كنيسته القديمة ، فهو لم يكن أول من حدث معه ذلك  ،فثمة قصة أقدم عن كنز عُثر عليه في تلك الأنحاء بواسطة راعي غنم بسيط ،كما أسلفنا ، والغريب أن كل من ظهرت أسمائهم في تلك الحدوتة القديمة قد ارتبطت أسمائهم بشكل أو بآخر باسم صانع رعاة أركاديا وموجدها ” نيكولا بوسان ” !

سر رين لو شاتو : الكنز المخبئ في الضيعة الصغيرة !

رين لو شاتو :هل يكمن في أرضها سر خطير مطمور ،ام مجرد حفنة من الذهب التي استنفدها “سونيير “في مشاريعه الإنشائية ؟!

ظهرت عدة تفسيرات لثروة الكاهن المحلي المفاجأة تراوحت كلها بين مجموعة نظريات تقليدية وشائعة :

(1)أول تلك النظريات أرجعت الثروة المفاجئة لمخطوط أثري وجده “سونيير” في مذبح قديم بكنيسة ” مريم المجدلية ” ، ويحوي وصفا لكنز يخص الملكة ” بلانش من قشتالة ” ،وهي زوجة الملك ” لويس الثامن ” Louis VIII  ملك فرنسا ،الذي حكم بين عامي 1223 و1226 م ،والتي يقال أنها أودعت كنزا ملكيا سريا في تلك البلدة الخاملة ،بعيدا عن أيدي المنقبين والمتنمرين في باريس ، يبلغ قدره 28500000 قطعة ذهبية ،وهو الكنز الذي جمعته الملكة لدفع فدية ابنها “لويس التاسع” ،بينما كان في سجن المماليك في مصر، وهو نفسه الكنز الذي وجده وأستخدمه “سونيير” فيما بعد ،تلك النظرية ، مع ملاحظة خلوها من أي أدلة منطقية أو تاريخية ، فهي لم تزل عاجزة عن تفسير السر في الفقر المفاجئ الذي أصاب “سونيير” ،ومبرر عجزه عن العثور على المزيد من الأموال ، أو حتى كيفية تصرفه في ذلك الكنز الأثري ، الذي لابد أنه يحوي قطعا وتحفا قديمة ، وعملات عتيقة ، لا يُسهل تصريفها والتعامل فيها دون لفت الأنظار، لكن تلك النظرية تنهار تماما حينما نعلم أنها لم تظهر إلا في عام 1950م ، على يد شخص يدعي ” نويل كوربو” ، وهو لم يكن إلا صاحب مطعم في المنطقة محل اللغز، وأستخدم تلك الأسطورة الملفقة في الترويج لمطعمه .

blank
السيد ” نويل كوربو ” مصدر قصة الكنز الأسطوري .. هل كان محققا صادقا أم مجرد باحث عن الشهرة ؟

(2)النظرية الأكثر إثارة تربط بين ثروة “سونيير” ولغز أكثر قدما وخطورة ، ويتعلق بتلك القصة الشعبية الرائجة ، عن دير صهيون الحقيقي العتيق ، الذي كان يحمي سرا خطيرا وهو المعروف بسر ( الكأس المقدسة والدم المقدس ) ، الذي يشير إلي كون ” مريم المجدلية ” ليست مجرد أحد تلاميذ المسيح وحسب ، بل إنها كانت زوجته في الحقيقة ،وأنهما أنجبا نسلا آتت من خلاله سلالة ملوك فرنسا ،المعروفين بالملوك ( الميروفنجيين ) Merovingian ، وهي السلالة التي حكمت فرنسا لنحو ثلاثة قرون ،بداية من منتصف القرن الخامس الميلادي ، ووفقا لتلك النظرية كان هناك كنز يخص السلالة ذات الدم الملكي المقدس ، بالإضافة إلي وثائق خطيرة تكشف هذا السر ،الذي يمكن أن تتصدع بسببه المسيحية والكنيسة بأسرها ، وأن “سونيير” السعيد الحظ قد عثر على كل ذلك ، تلك النظرية تعتمد جزئيا على تلك الحادثة المثيرة التي رواها الإنجيل عن ( معجزة تحويل الماء إلي خمر ) ،والمعروفة بقصة ( عرس قانا الجليل ) ، والتي تُظهر أن السيد المسيح وأمه كانا يقومان بدور المضيف للحضور في العرس ، وتمضي النظرية فتتساءل عما إذا كان المسيح حاضرا للعرس باعتباره ضيفا ، أم أنه كان في الحقيقة عرسه هو على ” مريم المجدلية ” ؟!

النظرية المرفوضة كنسيا ، والتي تستخدم تفسيرات متعسفة حقا ، وبعض أجزاءها مبني أصلا على رقوق ووثائق مزيفة ، تربط بين عدة خيوط : المسيح ونسله المفترض ، كنز رين لو شاتو ، والمجدلية التي كان لها وضع خاص بين التلاميذ ، وأخيرا تلك المنظمة الغامضة ، التي يقال أنها ورثت السر وأمانته عن فرسان الهيكل المنكوبين على يد ” فيليب الرابع ” ، ويقال أيضا أنها تحتفظ بأسرار دينية وتاريخية مروعة ، وإرث سحري وطقسي غامض موروث عن ( الكاثار ) الملعونين الذين حرمتهم الكنيسة ، وأوقعت بهم ، وأبادتهم عن بكرة أبيهم ، المنظمة التي لا يوجد دليل واحدة على حقيقة وجودها وهي : دير صهيون  ،طبعا بعد تجاهل خدعة “بلانتارد ” الصفيقة والمفضوحة !

لنكن واقعيين : هل كان سونيير مجرد محتال ؟!

على فرض أن كل تلك النظريات السحرية ، التي تلهب خيال محبي القصص الشعبية ، والألغاز التاريخية التي تجمد الدماء في العروق ، ليست إلا هلوسة أناس مولعين بنظريات الأسرار والمؤامرات الغامضة ،فهل يمكن العثور على تفسير أبسط وأقرب من كل ذلك ؟!

هل يمكن أن يكون مصدر ثروة القس الخامل هو استغلال التبرعات والعطايا المقدمة من المؤمنين لكنيسته في رين لو شاتو ،وربما بعض المؤمنين الأثرياء ، ومن ثم استخدامها في عمليات التجديد والإصلاح فيها ، واستغلال الباقي لمنشآته الخاصة ،التي سجلها باسم خادمته ،هروبا من الاعتراف بتلك الحقيقة والمساءلة حولها ، لكن تظل هنا نقطة غامضة ، فمن أين لرعايا منطقة فقيرة خاملة ،كبلدية رين لو شاتو ،بكل ذلك القدر من الأموال ، وبالمثل لماذا رفض “سونيير” تأدية وظيفته الكنسية في أي مكان آخر، هل كان يعز عليه استغلال رعايا آخرين غير أهالي رين لو شاتو !

ولماذا ببساطة لم يخترع أي حجة يبرر بها ثروته ، ويقدمها لمجلس التحقيق الكنسي ، ويسكتهم بها معللا الأموال التي حصل عليها بأنها من تبرعات رعايا كنيسته الأبرار المتقين، هل كان يخشي اتهامه بالخديعة ومخالفة واجبات وظيفته ،واستخدام الأموال في مصالحه الشخصية ؟!

بسهولة كان بوسعه دفع تلك التهمة بإثبات أن كثير من العقارات ،التي أقدم على إنشائها ،كانت لخدمة سكان البلدة ، وبالفعل كان بعضها مكرسا لهذا الهدف ، ويكفيه إصلاحاته وتجديداته الواسعة في مقر رعيته تأكيدا لحسن نيته ،لماذا أعتصم “سونيير” بالصمت حتى آخر لحظة من حياته ؟!

وإذا كانت القصة كلها قصة ( كاهن محتال ) لعوب ،تمكن من سلب الفقراء والمتبرعين أموالهم ،أفلم يكن أهالي البلدة هم أول من يُفترض أن يعرفوا تلك الحقيقة ويؤمنوا بها ، إذن لماذا عكفوا على محاولة نبش قبر الرجل بعد موته ، ولماذا قام غيرهم بمحاولة تدنيس ذلك القبر الغامض ، الغفل من البيانات والمعلومات ، الذي يشبه تماما ، بل يتطابق مع القبر ،الذي رسمه منذ قرون فنان غامض يحمل اسم نيكولا بوسان ؟!

قبر أركاديا جرفه الغضب !

blank
قبر بونتي بعد تسويته بالأرض

قصة “سونيير” ونهايته الغامضة ، وإبهام مصدر ثروته وسبب نضوبها المفاجئ ، وكذلك تراث “بوسان” الفني ،ولغز رعاة أركاديا ،وحكايات الكنوز المطمورة ،وكل ذلك الخليط من أساطير فرسان الهيكل ، والميروفينجيين والكأس المقدسة ،وأكاذيب جمعية صهيون ،والرقوق والوثائق المزورة ، والقبر المجهول ووجوده في نقطة المركز من هذا كله ، دفع شباب ومراهقي ( رين لو شاتو ) إلي إقلاق راحة مُلاك قطعة الأرض ،التي يوجد بها القبر المشابه من كل الوجوه لذلك الذي يقف في مركز انتباه وتأمل رعاة أركاديا ،حافظي الأسرار القدماء ، هذا الإقلاق المتعمد تمثل في محاولات لا تنتهي لنبش القبر ،واستجلاء ما يوجد بداخله ، أو حوله ، من تفاصيل أو لقيات أو معلومات ،قد تؤدي للكشف عن اللغز الذي قطع أنفاس أهالي المنطقة ، وربما فرنسا بأكملها ، إثارة ،آخر من آلت إليهم تلك القطعة من الأرض السيد ” روسيت ” ،يبدو أنه لم يكن يملك ما يكفي من الصبر والتحمل ، ليقوم بدور القيم والحافظ على درة أثرية وعجائبية كتلك ، فقد نال ما يكفيه من إزعاجات الشباب والمراهقين ،وتعديهم على حمي أرضه وأملاكه الخاصة ،مما دفعه إلي التفكير في طريقة للتخلص من هذا الإزعاج بشكل دائم ونهائي ، وهكذا جمع الرجل أمره ،  وعقب تفتت أجزاء من القبر وسقوط بعض الأحجار منه ، بسبب أعمال الحفر والنبش ،التي تجري حوله سرا وخفية عن مالكه ، أخذ الرجل موافقة المجلس البلدي ،ثم وفي يوم 9 إبريل من عام 1988 تمت عملية هدم القبر وتسويته بالأرض !

ولم ترد أي أخبار تفيد بالعثور على أشياء ذات قيمة في أطلال القبر ، أو تأكيدات عما إذا كان قد تم الكشف عن وجود رفات أو بقايا بشرية ، أو غيرها ، داخل القبر نفسه .

 وهكذا تحطم اللغز الذي ألتف حوله رعاية أركاديا ، والذي بذل ” بوسان ” شطرا من عمره في إخراج تصور فني له إلي النور ،ولم يُعلن قط كيف تم الحصول على قرار بهدم قبر ،يمكن أن يعد في عداد الآثار والمنشآت القديمة ؟!

لكن الغرابة تزول إذا ما عرفنا أن هذه المنطقة من أرض ( لانجدوك ) تحفل بأعداد كبيرة من القبور المشابهة للقبر ،الذي وقع ، لسوء الحظ ، في ملكية المسيو ” روسيت ” ، ذو الخيال الفقير والمزاج القلق ، والذي أنهي مشكلته الصغيرة بهدم تلك الكومة من الأحجار ، لكن الدراسة التناظرية للوحة ” بوسان ” الأشهر، بنسختها الثانية ، تقطع بأن هذا القبر تحديدا هو المصور والمحفوظ في مركز الصدارة ،من ذلك العمل الفني المثير للجدل والحيرة والتساؤل !

blank
لوحة رعاة أركاديا :مجرد عمل فني فذ أم كتيب شفرات كامل ورسائل مدسوسة لمن يملك مفتاح حلها ؟!

 

هل هو الماجنوم أوبوس ؟!

العمل الأعظم للخيمياء السحرية :هل تحقق وبقت الوصفة مطمورة في رين لو شاتو ؟!

بينما كانت السيدة “دينارنو ” تحتضر على فراش موتها ،حنثت بعهد كانت قد قطعته لمالك بيتها الجديد ،الرجل الذي اشتري منها البيت ،الذي خلفه “سونيير “الغامض خلفه مسجلا باسمها ،وباعته لاحقا لتسدد بعض الديون ،وربما ردا لجميل ما فعله معها المالك الجديد  السيد “نويل كوربو” Noël Corbu, ، وعدته في ثرثرة ودودة قبل مرضها الأخير أن توقفه على سر يحول حياته جذريا ،مثلما أعلنت له أن سكان “رين لو شاتو ” يمشون على الذهب حرفيا دون أن يعلموا ،ولكن ،ولسوء الحظ ،فإن خادمة بيت القس السابقة أصيبت بجلطة دماغية في 4 يناير 1953م ،وفقدت القدرة على الكلام ،فقضت آخر أيامها في صمت قسري ،حابسة معها سرا ربما كانت الوحيدة آنئذ التي تعرف مكنونه ،وتستطيع البوح به أخيرا  ،وإذاعته للعالم القلق المترقب ،غير أن “دينارنو “ماتت ،بعد خمسة أيام ،عن خمس وثمانين عاما ،دون أن تتمكن من الإفصاح عن شيء للأسف ،لكن وبعملية ربط بسيطة  ومنطقية ،وحين نأخذ في الاعتبار كل المعطيات السابقة ،ما يُشاع عن ثروة مهولة ،أو سر فوق كل تصور ،قام على حراسته “الكاثار “و”فرسان الهيكل “،رغم الخلاف العقائدي الشاسع بينهما ،ثم ظهور “لوحة رعاة أركاديا “وشفراتها المتداخلة ،وحرص ملك فرنسا بذاته على حظرها وإبعادها عن الأعين ،وكون اللوحة ،مع لوحة ميداس ،تمتا بتكليف من رجل ،”كاميلو ماسيمو ” ،يحيط به ما يكفي من علامات استفهام ،والعبارات التي وصف بها شقيق “كولبير” لقاءه ب”بوسان” في روما ،والسر الذي عرفه عن طريقه ،ووصفه له بأنه يفوق كل شيء ،ثم قصة الراعي سيء الحظ “باريس “،والصراع بين رجال البلاط الفرنسي على تملك أرض “رين لو شاتو ” ،التي لا توجد بها أي مغريات اقتصادية ،ثم أخيرا لغز “سونيير” وثراءه الطارئ وافتقاره المباغت ،وما حمله من سر لخادمته ،كل هذا يجعلنا نتيقن أن الأمر لا يمكن أن يقف عند مجرد كنز عادي ،مهما بلغت قيمته ،فحتي لو كان الأمر متعلقا بكنز الهيكل ،إن كان ثمة هيكل فعلا ،فلا أيسر من كشف مكانه ،باستعمال كل المقومات المتوفرة لمن يجدون في البحث عنه ،ومنهم من يملكون أعلي السلطات في الدولة ،ويحتفظون بقدر وافر من المال والعلم والثقافة ،وإيجاده وتقسيمه ،كيف يصل راعي كنيسة فقير ومغمور الشأن ك”سونيير” إلي الكنز ويستغله ،ويعجز كبار عصر “بوسان” ،بسلطانهم ونفوذهم وواسع اطلاعهم ،عن وضع أيديهم عليه ؟!

إذن فيصعب جدا تصور أنه مجرد كنز من الذهب ،أو الجواهر أو العملات الثمينة وغيرها ،والحل الأكثر قربا ،مع أنه الأكثر غرابة وصعوبة في التصديق ،أن يكون كنز “رين لو شاتو ” هو كنز خيميائي أو معلوماتي ؟!

الماجنوم أوبوس  Magnum opus  ،أو العمل العظيم ،الحلم الأكبر للخيمياء القديمة ،حجر الفلاسفة القادر على منح الحياة والشباب الأبدي ،وتحويل النحاس والحديد والرصاص ،وسائر المعادن زهيدة القيمة ،إلي ذهب ،هل تحتوي المقاطعة الفقيرة المنسية على وثائق نادرة ،تحوي طريقة تحضير الأوبوس ،وتحويل المعادن إلي ذهب بكيفية ما ،وأن هذا هو السر الذي أؤتمن عليه “بوسان” ،وما جد رجال عصره النابهين في إيجاده ،وتصارعوا للاستحواذ عليه ،وفشلوا لضياع الوثائق والرقوق بشكل ما ،ثم عثر عليه “سونيير ” بمحض الصدفة واستغله ،هل تعرض “سونيير” لعملية ابتزاز وخداع من طرف من أرتبط بعلاقات مريبة معهم ،بعد أن ظهرت عليه معالم الثراء المباغت ،فانتزعوا منه تلك الوثائق الخطيرة ،التي لعلها مكتوبة بشفرة صعبة ومعقدة ،جعلت بعض من يضعون أيديهم عليها يعجزون عن حلها ،والانتفاع بمعلوماتها الخطيرة ،وأن ذلك هو سبب افتقار “سونيير” المفاجئ ،ضياع الوصفة ،فقدانها بشكل ما ،أو سرقتها منه ،أو انكشاف سره لجهة ما ،وأن الوصفة كانت أصعب وأعقد من أن يحفظها عن ظهر قلب ،ويتمكن من تطبيقها ،دون مرجع مكتوب ،بعد ذلك ،أو أنه كان يحتاج لوسائل ومقومات حيل بينه وبين الوصول إليها ،عبر مراقبين متيقظين ،ربما كان منهم أشخاص مقربين منه ،يعكفون على التجسس عليه ليل نهار ؟!

قد تبدو تلك فكرة سخيفة ومتطرفة في جموح خيالها ،لكن ،مع قليل من الانفتاح العقلي ،نقول ولما لا ؟!

لما لا تكون لوحة “ميداس يغتسل في نهر باكتولوس “هي الجزء الثاني من كتاب شفرة “بوسان ” ،والنصف المتمم للأحجية ،وفي رين لو شاتو ميداس أيضا وهبته الساحرة المدمرة ،إن الفكرة قد تبدو غريبة ،وقد تكون خاطئة بالكلية ،لكن ربما الأوبوس الخاص برين لو شاتو كان عبارة عن لعبة خيميائية بارعة ،خدعة تخلط العلم بالسحر ،فتجعل للمعادن الرخيصة صفات وشكل الذهب ،دون أن تحوله فعليا إلي ذهب ،وربما يكون مفعولها يتلاشى بعد فترة ،فيعود كل شيء إلي أصله ،غير أن كل ذلك في النهاية قد يكون ،بدوره ،غير حقيقي بالمرة ،ويكون الكنز المطمور في الرعوية البائسة هو معلومات مهمة وخطيرة ،تدفع جهات منتفعة ما ،البابوية مثلا ،أو الملكية الفرنسية ،أو تجمعات سرية معينة ،مالا وفيرا من أجل كتمانها ،والحفاظ على سريتها ،وقد يكون “سونيير” قد ابتز جهة منها بمعلومات توفرت لديه بطريق الصدفة ،وانتهي زمنه حينما سُرقت منه هذه الوثائق ،أو أصبحت بلا فائدة ،أو تخلص المنتفعون من كل الأدلة التي تؤيد صحة ما ورد بها من نصوص ومعلومات !

قد يكون هذا وقد يكون ذاك ،لكن منطقيا فالقصة أصلها أعمق من مجرد لوحة تحوي شفرات أو رسائل سرية مدسوسة ،ووفقا للربط البسيط المباشر فقد يكون هناك في لانجدوك إما :

كنز كبير مدفون ،هذا الكنز ليس ماديا فقط ،بل يتضمن أسرارا روحية ،لعلها مرتبطة بعصر تأسيس المسيحية ،أو بما هو أقدم كعصور مملكة “داود “و”سليمان ” ،وهذه المخبئات الثمينة تحوي قواسم مشتركة من مصلحة عدة جهات التحفظ عليها وكتمان خبرها ،فرسان الهيكل والكاثار في العصور الوسطي ،ثم “نيكولا بوسان ورعاة “رين لو شاتو “و”سونيير ” ،وآخرين في العصر الحديث ،ومن ثم ،وبطريقة ما ،وعبر علاقاته المتشعبة ،علم “بوسان ” بطرف من تلك القصة الملغزة ،وحاول ،أو أؤمر بواسطة جهة لها مصلحة في ذلك ،بحفظ ذلك السر مشفرا في لوحة ،تحوي رسائل عديدة مخفية ،لمن يملكون أدوات قراءتها وفهمها ،وذلك ما دفع شخصية بحجم ملك فرنسا للتصدي لحماية اللوحة ،وحفظها بعيدا عن الأعين ،في مكان لا يستطيع أحد غيره التطفل عليه.

 أسرار تتضمن أمورا تفوق كل تصوراتنا ،كأسرار خيميائية أو سحرية ،كلها مرتبطة بالكأس المقدسة ،التي ربما ترمز إلي وصفات خيميائية تتيح تحويل المعادن الرخيصة إلي ذهب .

في كل الحالات يبقي اللغز على حاله ،دون ظهور معلومات جديدة موثقة ،أو حلول أكثر منطقية وواقعية ،لكن استقراء دقيق للقصة بأكملها يجعلنا نقطع أن “بوسان ” ورعية “رين لو شاتو ” و”سونيير ” وراءهم سر كبير ومهم للغاية .. أما السيد “بيير بلانتارد ” فهو مجرد محتال نصاب وقح وغبي ،ومكشوف الوجه لا أكثر !

مصادر المقال :

– كتاب (فنانون وهراطقة /شفرات سرية في أعمال رواد الفن ) د/ياسر منجي .
Catharism – Wikipedia
Cathars and Cathar Beliefs in the Languedoc
– Marie Dénarnaud – Madone ou complice du curé ?
Rennes-le-Château Research and Resource

 

تاريخ النشر : 2021-01-25

guest
30 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى