أدب الرعب والعام

على شاطئ بحيرة سوداء

بقلم : ايهاب أحمد عابدين – مصر
للتواصل : [email protected]

ثم نظر إلى السماء مرة أخرى فتيقنت بأنه الآن يطوف في حرم جمالها
ثم نظر إلى السماء مرة أخرى فتيقنت بأنه الآن يطوف في حرم جمالها

أجلس معه وحينما أكون برفقته أتأمله وهو يتكلم ، أراقب علامات وجهه في صمت وبدا لي أن هذه العلامات لا تعبر إلا عن رجل لم يعد ينتمي إلى جاذبية الحياة مطلقاً، فلقد افتقد شهية أن يتذكر الجزء الأفضل في حياة بنى البشر، ذلك الزمن الفردوسي الذي يعشقه الأحياء زمن الحب بلا سبب واضح فيك تستحق به عشق من تحب، الأب رجل ينشد على الحزن لحناً لا يمل من عزفه، حدثني قبل ذلك قال لي أن البشر كانوا قديماً ينتهجون طقوساً مدهشة لجلب الحظ فحينما تلد الأنثى يأخذون الحبل الموصول بينها وبين مولودها بعد قطعه ويلقونه على ضفاف نهر قديم كان يسمى بالنيل، معتقدين أن هذا النيل يجلب الحظ السعيد إلى مولودهم، لم اعلم لماذا قال لي تلك المعلومة الغريبة ربما قد ظن أنها مفيدة بالنسبة لي ولو سلمنا بفاعلية تلك العادة الغريبة فانا أظن أن أهل ذلك الأب وضعوا له الحبل الموصول بينه وبين أمه في فم غراب أعور، فملامح الحزن الصامتة قد منحت لأبي كهدية له تقديراً لمجهوداته في البحث عن أكبر قدر كاف من الغم وهو في رحم أمه كذلك أظن .

أعشق الحديث معه ولكن قلب الأب مدفون بداخله ، ذكريات صنعت حاجز بينه وبين السعادة يطلقون على تلك الذكريات اسم الحنين وهذا الحنين لم يتعلم آداب الإستئذان فهو يقتحم في أي وقت ومع إقتحامه يدخل الأب في نوبة حرب مع روحه يناجي فيها فيض الذكريات التي عاشها قبل زمن بعيد، وكنت أرى آثار تلك الحرب واضحة على وجهه فلا يجدر بي إلا أن أؤكد لنفسي أنه على وشك أن يفقد عنان قلبه وسيسرى به الأن إلى سماوات الحنين حتى يبلغ منتهاها وما هي إلا لحظات حتى أراه قد إقترب من ذروة الإنتقال إلى اللحظة السحرية التي يتجلى فيها بريق صورة أمي في قلبه ودائما الإشارة المواتية لصورة الأم هي نظرة طويلة إلى السماء كأنه ينظر إلى روحها المعلقة التي اقتربت منه وفرضت سيطرتها على حواسه وقيدته في لحظة الحنين وزمن السعادة في حياته .

الأب دائماً يخبرني بأن لون ماء تلك البحيرة التي نجلس أمامها كل يوم كان أزرق فيما سبق وكانت تسمى بحراً و كان يتميز بمساحة شاسعة ، وفي جلستنا في تلك الليلة أعاد الحديث عن الأزرق مرة أخرى، فنظرت إليه وأنا أعلم الجملة القادمة التي دائما يختم بها حديثه عن البحيرة السوداء التي كانت من قبل بحرا أزرق وبلهجة تحمل معها لوعة محب مسه العشق يقول :

– كان هذا البحر لونه أزرق لكن أمك كانت تمتلك عيوناً أكثر زرقة من كل البحار ، عيون يمكن لها أن تنصع لنا وطن آمن.

ثم نظر إلى السماء مرة أخرى فتيقنت بأنه الآن يطوف في حرم جمالها وأن الخيال في الطواف أصبح حقيقة، أردت منه أن يصف لي اللون الأزرق فرفع رأسه إلى السماء وقال :

– الآن تذكرت الأم فالأزرق كان يعني لها الكثير وكانت تجتمع معي على شاطئ هذا البحر ومعها أوراق لا أعلم من أين جاءت بها فعصر صناعة الورق كان قد إنتهى فالبشر يستخدمون الألواح الذكية في الكتابة لا الورق، كانت أمك تحرك الأوراق برفق خشية أن تتمزق وتقرأ لي من الأوراق عن أسطورة الأزرق بصوت عذب يخلو من شوائب لحن الأعجام فتقول : 
“في عهد الحياة الأولى على هذا الكوكب لم يكن به أي ألوان، فتوسلت الأحياء إلى الخالق أن يمنحها لون فاستجاب لهم على شرط أن يضعوا محاريبهم التي تقطع الأشجار وتفسد الطبيعة وأن لا يستعملوها أبدا ، فاستجابت الأحياء للخالق فكان أول لون ظهر في الأفق هو الأزرق فسعدت السماء بذلك اللون وكان البحر في الأسفل ينظر إلى السماء ويرى اللون الأزرق قد غطى سطحها فغضب واستشاط غضبه وشعر بالغيرة من السماء وكاد أن يغرق الكوكب ومن عليه فتوسلت الأحياء للخالق مرة أخرى أن يمنح الأزرق للبحر أيضاً كما منحه إلى السماء فاستجاب لهم على شرط أن ينزعوا من البحر كل الشباك التي ألقيت بقاعه ففعلوا فمنح الخالق اللون الأزرق للبحر أيضا” .

أنا كنت أعلم أن أمك تعلم بأسطورية حكاية الأزرق والبحر والسماء، ولكن صدقها وهي تتحدث كان يصيبني بعدوى الصدق.

قبل أن نختارك لتزرعي في الرحم بأيام غربت الشمس مبكراً عن موعد غروبها وبالنسبة لي لم يكن مثيراً للدهشة فلقد أعتدت على عشوائية ذلك الكوكب فغروب الشمس قبل موعدها اليومي لا يؤذيني بل يؤذي الكائنات الرقيقة التي عاشت قبلنا وكنت على يقين إن أمك تندرج من نسل تلك الكائنات بل إن كان للرقة وجه فهو وجهها، أصاب الأم شعور مخيف بغروب الشمس قبل ميعادها اليومي وتنبأت بوقوع كارثة ونصحتنا أن نمتثل للإشارات الكونية وقالت أن ليس للكون لغة يتحدث بها معنا إلا تلك الظواهر الغريبة التي تظهر بين الحين والأخر لتنبهنا بان هناك كارثة على وشك أن تفتك بنا وأن لم ننصت إليه حتماً سيغضب،

الكثير منا لم يصدقها لأننا ببساطة نمنح ثقة تصل إلى اليقين المطلق بعلمائنا ولقد أخبرونا عن الغروب المبكر أنه حادث لا خوف منه وصدقناهم كالعادة، فنحن الآن لا نشعر بالراحة وعدم الأمان إلا ونحن في قطيع يحكمه راعي كان أو عالم أو سميه كما شئت، أنا لا أعلم لماذا صدقناهم ولكن الكثير منا لا يمتلك أصلا تلك المهارة التي تفرق بين الكذب والصدق والمبالغة فلقد تعطلت تلك المهارة في أحياء الكوكب ، ومر الحدث ولم يتكرر مرة أخرى وفي معمل إختيار الجنين أصرت الأم على أن تكوني أنثى هذه المرة وقد وأفقتها فلقد أجهضت ثلاثة ذكور خلال عشر أعوام وقد اختارتهم بناء على رغبتي فالإناث يموتون عند المائة ولم تفلح أي محاولات في إطالة عمرهن عن المائة أما الذكور فقد يتجاوزن المائتي عام بلا مرض ولا شيخوخة ، وعلى الرغم من قصر عمر الإناث ولكنهن الأكثر حظاً دائما فصفاتهن الفطرية من الحياة تظل فيهن فهم لم يصابوا بطاغية التكنلوجيا ولم تفلح معهن الشرائح الألية التي نجحت مع الذكور ، ترحل الأنثى بسلام ومع أخر لحظة في حياتها تموت وقلبها ينبض بالروح والمشاعر أما نحن الذكور فنتحول من كائنات حية إلى كائنات أكثر حيوية ولكن بلا حياة فينتهي بنا الأمر إلى مصير محتوم إما الموت منتحرين أو الموت منفجرين حينما يتعطل الألي الذى يعيد إحياء الخلايا بداخلنا ويطيل في أعمارنا إلى ما لا نهاية،

ومع الأيام الأولى لنشأتك في رحمها أودعت أمك في العزل المنفرد فالأشعة الكونية المنتشرة في أرجاء السماء كانت سبباً في إجهاضها لمدة عشرة أعوام وكان لابد لها أن تتكبد عناء العزل ومشقة الحبس بمفردها حتى تلدك ، ومرت الشهور ولم يكن يتبقى إلا أيام قليلة لكي تخرجي للحياة، أمك لم تكن تلتزم بغرفة العزل أصلا رغم مراقبتي الدائمة لها إلا أنها كانت تخرج خلسة من غرفة عزلها كل ليلة لكي تلقى بظهرها على شاطئ هذا البحر الذي نجلس أمامه وتضع يدها على بطنها تداعبك بصوت يحول الحزن من حولنا إلى لحنا يغني، تنظر إلى السماء المكسية بالدخان الأسود القاتم وتراقبها بشغف باحثة عن نجم من النجوم التي تظهر كل فترة في الأفق وحين تبتسم لها السماء ويصفى جزء من سطحها يظهر لها نجما لامعاً مازال محافظا على بريقه ولونه الجذاب ، وما أن يتجلى في الأفق يكون تجليه له وقع السحر عليها فتقوم من مكانها تنطلق بسرعة وراء النجم قبل أن يختفى في الغيوم مرة أخرى، وكان قلبي يسبق النجم في اختفائه لأرى لمعان نوره وأثره في زرقة عينيها فأعلم أن لوعة الجمال أشد وطأة من وهن الحمل عليها .

قاطعت أبي فقلت :
– حدثتني كثيراً عن النجوم ومنذ أن منحتني الوعي بجمالها وأنا أتأمل في تلك السماء السوداء كل ليلة لعلي أرى ما تحكي عنه واطمئن على صدق حديثك عن جمال النجوم في عيون الأم، لماذا لم أرى نجماً واحدا منذ أن ولدت؟ أم أن النجوم أيضا أسطورة كأسطورة اللون الأزرق والبحر والسماء ؟.

ساد الصمت بيني وبين الأب قليلاً ثم تكلم بنبرة قاسية ولكنها لا تخلو من حنين مختلط باندفاع فقال :
– هذه ذكريات لا تروق لي أن أسترجعها مرة أخرى ولكني سأخبرك، كانت حادثة الغروب المبكر للشمس قد مر عليها وقتاً طويل وفي يوم ولادتك شعرت الأم بحاجتها إلى أن تخرج لتلقي ظهرها على شاطئ البحر فطلبت منها أن أرافقها ثم وصلنا إلى نفس المكان الذي نجلس فيه الأن فرفعت أمك رأسها إلى السماء في هدوء واطمئنان ثم قالت لي: 
– هل ترى أننا حمقى لما فعلناه بهذه السماء نعم نحن أكثر حماقة ممن يسالم عدوه ظناً منه أنه قد أمن مكره، أرسلنا بعثات اكتشاف إلى مجرات ولم تعد إلى الأن وانقطع الاتصال بيننا وبينهم ولم نعد نعلم عنهم شيئا إلى الأن ، هم الآن يجوبون في واقع موحش كالصمت في فضاء لا يعلمون له نهاية، صار كوكبنا أعجوبة يطوف عليها الشعاع النووي كل ساعة يمسح ما فيها من خلايا ميتة ويجددها بخلايا أخرى أكثر حيوية ونضوج ولكن حدث خطأ تقنياً في التجربة الأولى للشعاع النووي منذ سنين ومن جراء ذلك الخطأ ماتت الطيور جميعها فاختفى التغريد الحر التي كانت تتصدق به الطيور علينا كل صباح بجمال لحن فطرى مرتجل، فصنعنا الآت كهربائية ذات أوتار وسلوك نحاسية غليظة الشكل والصوت لم أتذوقها يوماً وغيري الكثير من الراسخون في نشوة موسيقى الطبيعة المعزوفة بالإرتجال الفطري ، استرقنا السعادة الافتراضية فصنعنا عالم حاسوبي يتحكم بنا فنشكو إليهم عن سبب اكتئابنا وعن طريق أكواد رقمية ولوغاريتم الكتروني تدلنا الأجهزة عن حالتنا النفسية وترشدنا إلى محفزات السعادة في أدمغتنا وكيفية التخلص من الحزن، اخترقنا الجينوم البشرى ووصلنا إلى نقطة الانطلاق والتحول من عصر الإستنساخ إلى عصر الإستمساخ فصنعت التقنية لنا مسوخاً كمسوخ الأساطير السوداء كوم من الحديد والشرائح والسلوك اطلقوا عليه اسم روبرت، كومة لا تشعر ببشيرتنا فالشرطي أصبح روبرت والطبيب أصبح روبرت وصانع الطعام أصبح روبرت وانتقلت تلك المهن من البشر إلى الآليين ورحل أصحاب تلك المهن مع أطلال الزمان، مارسنا الحياة بشكل غير عادل فالرجل أحب رجل وتزوجه وترك الأنثى بمفردها تلقى مصيرها من الحرمان وتبحث عن روبرت صمم خصيصاً لسد تلك الفجوة من الذكور حتى لا يمر عليها العمر قبل أن تفتح نافذة في حياتها ترى منها المتعة الجسدية، زواج الذكور بالذكور هي ليست حرية إنما هي أنانية من زاوية أخرى لم نعرف تبعيتها إلا بعد زمن، صنعنا لوحة ذات إطار بديع ومتقن ولكن الرسم باللوحة كان رسم مشوه الوانه تتشابه مع ألوان التقيح .

أنهت أمك كلامها ومن دون سابق إنذار انطلقت منها صرخة مدوية ووضعت يدها على بطنها و أمسكت بذراعي وهى تشير إلى بطنها أن وقت الولادة قد حان، هممت أن أحملها إلى داخل غرفة العزل ولكنها رفضت وطلبت مني أن تلدك على شاطئ البحر وأن هذه هي آخر أمنية لها على هذا الكوكب، لم أرفض طلبها ودخلت مسرعاً إلى العزل لكى أطلب مساعدة أحد الروبوتات في الولادة ولكنني وجدتهم محطمين وقد نزعت الأم منهم خلايا ذكائهم وتركتهم متراكمين في ركن من أركان الغرفة ،عدت مسرعاً إلى الشاطئ اسألها لماذا فعلت هذا وما لي أن أفعل الساعة ونحن نعيش أنا وهي فقط في تلك البقعة ولا أحد يسكن معنا، وقبل أن اسألها قالت لي :
– أنا لا أطيق أن يلمس جسدها من لا يعلم قدسية الجسد وجمال الروح.

وماهي إلا ثوان قليلة إلا وقد سمعتك تصرخين من تحتها فمدت يدها مسرعة ثم قطعت الحبل المتصل بينك وبينها وأعطتني إياه ثم أشارت إلي أن ألقيه على ضفاف الشاطئ فابتسمت وأنا أعلم أنها تحمل في ذكرياتها طقوس جلب السعاة والحظ وأردات لك تمام الحظ والسعادة في حياتك، أخذت منها الحبل وذهبت إلى شاطئ البحر وما أن وضعت الحبل بالماء دوى صوت إنفجار في السماء ورأيت حمم وصخور تتناثر في أرجاء الكون قادمة نحونا فانطلقت مسرعا إليكن فوجدت الأم قد فارقت الحياة وأنت بجانبها تصرخين فتوقف الزمان وتجمدت أطرافي وانتظرت أي صخرة تلقى علي فأتحطم والحق بأمك ، وبعد ثوان وقعت علي صخرة أفقدتني الوعي وأصابت عينيك اليسرى بالعمى، رفض القمر أن يكمل حياته برفقة هذا الكوكب فاستشاط غضباً علينا فانفجر يوم ولادتك وخلف إنفجاره إختفاء لمعان النجوم وأختفى بريق اللون الأزرق وانحسرت ماء البحر في هذه البقعة وتحولت لبحيرة سوداء ميتة، لقد كنت من قبل لا أهتم بالكوارث ولا أنتبه إليها ولكنني انتبهت من وقتها إلى كارثة أكبر من إنفجار القمر، قلبي الذى تحرك وتألم وأشتاق فالقلب ينتبه حين يعشق وأنا كنت أعشق.

أنهى الأب حديثه معي وكنت قد سمعته كثيراً من قبل ولكنني اعتدت ألا أخبره بمعرفتي بما حدث يوم ولادتي ودائماً أكرر عليه سؤالي عن النجوم لكي يحكي لي عما يحبه فيتذكر لحظات سعادته التي كان بها حي، الشرائح المدمجة في نسيج خلايا الأب تعطلت منذ فترة طويلة فكان لها تأثيراً سلبي على ذاكرته ولم يلحظ هو ذلك الخلل، أنا أتمنى له أن يرحل بسلام وفيه بقايا إنسان لذلك لم أحاول أن أعالجه،

ما زلت على عادتي على شاطئ البحيرة السوداء القي بظهري عليها وأبحث عن النجوم كما كانت تفعل الأم، لم أمل من تلك العادة مطلقاً ربما تمن علي السماء يوماً وتفصح لي عما بداخلها فأجعل من لحظة رؤياي للنجوم عمراً طويلاً أنشد فيه قصة يتحاكى بها من لم يشهد النجوم وبريقها، أصنع قصة يعجز الزمن بعاتية نسيانه أن يمحيها، أرمم تلك الناحية التي كسرتها طاغية المادية في نفوس بني البشر فأجعل الكوكب أفضل بمقدار قصتي عن بريق النجوم، وهكذا أحكي …

تاريخ النشر : 2021-02-08

guest
21 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى