النسر و الثعلب
بسط النسر جناحيه فوقف الثعلب مرعوب |
حكاية طويلة المدى ، بدايتها في الأرض و نهايتها في السماء.
هناك مثل شعبي يقول: اذا علم الله بجوع نسر مات مائة حمار .
و توجد مقولة :
أن النسر ينظر بجناحيه فيرى الجيف على الأرض.
اعتاد جندب و حمدون و رضى على الاستماع لقصص تروى لهم بعد تناول طعام العشاء
من قبل جدهم عطاء .
أتى حمدون إلى جده و هو ممتد على فراشه ، فقال: يا جدي حلمت حلم أحب أن تفسره لي.
رأيت في منامي أن لي جناحين أطير بهما و كنت أحلق عالياً في السماء ، و فجأة شعرت بجوع و ظماء ، فهبطت قرب جدول ماء ، فتجمع حولي الأعداء و منعوني من شرب الماء ، و كانوا حفاة عراة بأشكال بشعة و متنوعة ، ثم أمسكوا بي و قصوا جناحي و نبذوني في العراء ، فلم أعد قادر على الطيران و الارتفاع في الهواء ، بعدها استيقظت مرعوب ، فهل لك أن توضح لي ما جرى ؟.
قال جندب : قبل تفسير رؤياه ، أولاً : يا جدي
الغالي أريدك تحكي لي حكاية قبل أن أخلد إلى منامي ؟.
– ما نوع الرواية التي تحب أن تسمعها ؟.
– رواية لم يسبق وأن حكيتها لأحد ، حكاية تكون طويلة المدى ، بدايتها في الأرض و نهايتها في السماء.
– فهمتك يا جندب ، تريد أن أحكي لك قصة النسر و الثعلب ، لكن قبل أن أبدأ عليك أن تنادي أختك رضى كي تنظم إلينا إذا فرغت من تناول طعام العشاء ، كي تستمعوا حسب المعتاد ، أخشى أن تأتي بعد أن نختم الحكاية فتيقظني من الرُقاد.
– ها نحن لبينا الطلب و حضرنا بعد أن دعانا جندب.
– أنا بجانبك نستند على ركبتيك ، لولا عمى عينيك لرأيت ما يسرك.
– إذاً أسمعوا يا أحبابي و لا تكثروا من عتابي ، أتوني بالماء فقد داهمني الظماء.
و بعد أن شرب جرعة من الماء ، قال :
– ها أنا قد ارتويت و على النبي صليت ، و بسم الله ابتدأت.
كان هناك نسر لديه عزة و أنفة و كبرياء ، لا يعتدي على الأحياء ، مأكله الجيف و مخ العظام الصماء ، و مشربه زلال بيض النعام والسلحفاة ، ذات يوم أشتد به الجوع فطار و حام في الهواء باحث عن عظام أو جيف الأنعام ، لكنه لم يجد مقصده و مرامه ، جف لعابه و وهنت عزيمته ، حط على صخرة عالية واقفاً على قدميه ، فلمح ثعلب خارج من أحد البيوت يحمل ديك بين فكيه ، فقبع تحت شجرة كثيفة و بدأ بنتف ريشه بعد أن فصل رأسه عن جسده.
حاور النسر نفسه فقال :
علي أن أنزل إلى جوار الثعلب ، أتلطف إليه و أتخذه صديقي ، عله يجود علي من الديك بما يسد رمقي.
طار و هبط غير بعيد من الثعلب ، فقال: يا بن عُرس من أين لك هذا ؟.
– ألقى الثعلب ما في فمه و وضع الديك تحت قدمه.
فأجاب : مشيت الحفاء و دست الظلماء ، تسللت فدخلت البيت في الخفاء ، راني الديك فصاح و لاح ، فنبح الكلب أشد النباح ، فقطعت رأسه و كتمت أنفاسه ، نجوت بأعجوبة من الهلاك بعد أن حملته و قفزت من الشباك ، و الأن قد علمت بما عانيت حتى جلبت ما رأيت.
– ألا تخبرني لماذا أتيت ؟.
– لقد سئمت من الهواء و الطيران في السماء ، عانيت من الوحدة بعد فراق الأصدقاء ، فوصل إلى مسامعي كرمك و حسن طباعك ، فرغبت بالعيش معاك و الفوز برضائك ، و كلما أطلب أن أصير أحد أصدقائك ، تعطيني ما تيسير من الديك ، أقرضني في عُسرى ، سأقضيك في يُسري.
نظر الثعلب اليه فأطال ثم قال : أيُعقل هذا ؟
من يمشي على الأرض يقرض من يطير في السماء !.
ألم تحلق عالياً في الهواء فترى ما لم أرى ؟ تعيش من الأخطار في مأمن و مناء ، بينما يحفني الويل و البلاء صباحاً و مساء ، ما تقوله ليس عدلاً ، هل لديك حديث غير هذا ؟.
– إذاً اعتبرني ضيف حل عليك ، هيا أطعمني فقد صار لي حق لديك ، إذ لم تطعمني قاتلتك و فضحتك .
رأى الثعلب أن النسر مجد في طلبه ، و كلما ماطله ربما يزيد من غضبه ، فقاسمه الديك مغلوب على أمره.
حمد الله النسر و شكره بعد أن أعطاه الثعلب نصف الديك فأكله ، بقي النسر على هذا الحال عدة أيام و ليال ، يموت الثعلب و يحيى عندما يرى النسر يأكل ما جنى ، بحث الثعلب عن مكيدة تُبعد النسر عن طريقه ، فقال :
أرى أن لك في الطيران باع يفوق ما عداك من الطيور ، فإذا ما بسطت جناحيك وقع كلما على الأرض تحت عينيك غير مستور.
– نعم ولكن أنت تتفوق في عدة أمور ، تستطيع المرور في الأنفاق والأدغال و تحت جذوع أشجار التوت ، والدخول و الخروج من نوافذ البيوت.
تبسم الثعلب فقال : سبق و أن طلبت صداقتي وها أنا قد أبديت موافقتي ، بشرط أن نتبادل المهارات ؟.
قال النسر : و كيف ذلك ؟.
– أعلمك الخنسات تحت الأشجار والممرات والغوص في الماء ، مقابل أن تعلمني الطيران و التحليق في السماء.
– أتفقنا.
قال الثعلب: أركب على ظهري تتعلم الخنسات الأن.
رد : بل أركب أنت أولاً لتتعلم الطيران.
– نحتكم إلى أول قادم.
أطلت الأفعى برأسها من جحرها ، فشاهدت ثعلب و نسر يقفان أمامها.
فقالا : قد اختصمنا و إليك احتكمنا.
نظرة اليهما فقالت : كلاكما أعداء و الفرار عنكما أولا ، ثم انسحبت إلى الوراء.
قدم الأرنب فلما أقترب منهما ارتعب و أرتجف و على رجليه وقف .
قالا : قد احتكمنا اليك فأحكم بيننا و لا تخف.
شاهد اللعاب يسيل من فم الثعلب و وجد النسر شاهر للمنقار والمخلب ، فقال : انتظرا حتى أعود سأذهب و أحضر الكتاب ثم انظر حكمكما في أي باب من الأبواب.
فر مسرعاً و حمد الله و شكره الذي هداه لهذه الحيلة و أرشده .
قدم الذئب و خلفه الأسد .
قال الثعلب : آتى الذئب الذي لا يخاف أحد سواه ،
و إذا حكم فلا يجرؤ مخلوق مخالفة قضاه.
وصل الذئب فجلس القرفصاء ، نظر اليهما فسمع و أصغى.
فقال : ليتقدم أحدكما و يشرح الشكوى.
برز الثعلب فقال : اتفقنا بإرادتنا على أن أعلمه الخنسات و الغوص في الماء مقابل أن يعلمني الطيران في السماء.
– اذاً هذا هو الاتفاق ، فأين الاختلاف ؟.
– هو ليس خلاف و إنما تباينات حول من يبدأ و نوع الضمانات.
نظر إلى النسر فقال: هناك اختلاف في الجوهر والمظهر ، و مضمون الحكم في حالتكما غير ظاهر ، فأحدكم من عالم الطيور الجارحة
، بينما الأخر من الوحوش المفترسة ، و لكل علم قوانينه و أحكامه فلا استطيع الفصل بينكما إلا في حالة واحدة ، هي أن ينتمي أحدكم للعالم الأخر ، عندها تحدث المساواة في الشكل والمظهر و يكون الحكم إلى العدالة أظهر.
قالا : و كيف ذلك ؟.
– بأن يصبح النسر ثعلب أو أن يصير الثعلب طير.
قالا : و لكن كيف يجري هذا و يكون ؟.
– أنا سأجتهد برأيي ولا ألو أو أزيد زيادة ، اعلما أن الأحكام تُبنى على القصد و الإرادة.
فننظر أي منكما أراد أن ينتمي إلى الأخر فيكن هو من قصد الأذية و الشر.
و بما أن النسر هبط من عالم الحرية في السماء
إلى عالم العبودية و الاستجداء على الأرض الجرداء فقد افصح عن إرادته و رغبته بالانتماء إلى الثعالب و تقاسم الغذاء والماء ، فحكمي أن تكون البداية بتعليمة أولى.
اذعن النسر و صعد على ظهر الثعلب ، فبدأ بحشره بين الأشواك والممرات والسراديب الضيقة.
فقال الأسد : أرى أن حكمك لم يجانبه الصواب بل خاب.
بُهت الذئب فلم يكن يعلم أن الأسد يقف خلفه يسمع كلامه.
فقال: اعذرني سيد الغابة فلم أكن أعلم بوجودك البته ، مع ذلك أرني ما الذي شاب حكمي و أخابه ؟.
قال : كلما في الأمر أنك غير قادر على تنفيذه بإتقان ، غداً نلتقي في هذا المكان و نرى ما جرى و كان ، إن تخلفت سترى ما لم يكن في الحُسبان.
أتى الذئب إلى المكان قبل طلوع النهار فرأى النسر ذليل مهان ، منتوف الريش لا يُرى سوى مخالبه و المنقار ، أرتعب الذئب رعب شديد ، أين سيذهب من تهديد الأسد والوعيد ؟.
وصل الأسد و نظر إلى الذئب فقال :
ما لي أراك ملهوف غير قادر على الوقوف ؟.
رد : أنظر كيف صار نسر السماء ، خلع ثياب الطيران في الهواء و ارتدى زي الغوص في الماء.
نفذ الثعلب ماحُكم عليه به فعلمه و أحسن تدريبه و تهذيبه .
شاهد كيف غشيه الوقار ، و غدى ذا جلد ناعم خالي من الريش والشعار.
هز الأسد رأسه و قال : لم يعد هذا و قار ، بل هو ذل و عار ، لا تكثر القيل والقال ، عليك تنفيذ الشق الأخر من الحكم في الحال ؟.
– يا ملك الغابة ها أنت ترى أن التنفيذ صار خارج عن الإرادة و بات من المحال أن يطير النسر حاملاً للثعلب على ظهره.
رد الأسد: إن كنت تريد الإبقاء على حياتك لا بد لك من تنفيذ حكمك.
قال الذئب بعد أن لاحظ غضب الأسد يزداد : سيدي الأسد من الواضح أن الثعلب قد تجاوز حده ، لذلك يقع على كاهله إطعام النسر حتى يعود إلى سابق عهده.
ظل الثعلب طيلة شهرين يتقاسم مع النسر ما يفترسه نصفين ، فنحل جسمه و خف وزنه
و بدأ يتحسر من سوء أعماله ، فلما نبت ريش النسر وعاد إلى حاله ذهب إلى الذئب و قام بإحضاره.
فقال : أنظر إلى النسر بإتقان فقد أضحى قادر على الطيران ، الأن أنتهى عملي ، أبعده عني.
ذهب الذئب إلى الأسد فأخبره بما جد و أستجد ، نهض الأسد من الموضع الذي كان فيه ممتد ، فقال : بغضب أذهب و اجلبهما ، فمن سمع ليس كمن رأى.
بلمح البصر أسرع الذئب و أحضرهما إلى العرين ، نظر الأسد فأطال النظر ، و من عينيه تطاير الشرر.
فقال : أراك بحكمك قد حابيت ، ربما تكون قد ارتشيت ، أجبني ، هل انتهيت من تنفيذ ما قضيت ؟.
رفع الثعلب أنفه عالياً نحو الذئب ثم أبتسم ،
مغرياً الذئب كي ينطق بكلمة نعم.
فقال : يا ملك الغابة أطال المولى بقاك ، قد نسى الذئب ما قضاء به بمجرد أن رأك.
التفت الأسد نحو الذئب و قد كشرة أنيابه و برزت مخالبه.
فصرخ الذئب : تذكرت ، تذكرت ، لا تغضب ، ليس الأمر كما ذكر الثعلب.
الأن عليك أيها الثعلب أن تمتطي ظهر النسر و تركب.
هز الأسد رأسه و طلب من الأرنب الإسراع في إبلاغ الجميع بالحضور للمشاهدة والاستماع.
أطلت الأفعى والسنجاب والسنور والغراب و تجمهرت الظباء والغزال والأيل والعُقاب.
و كان من ضمن الحضور كل أصناف الطيور ، حان وقت التنفيذ فقد تأهب الجميع.
بسط النسر جناحيه فوقف الثعلب مرعوب ، تقدم الذئب و ساعده على الركوب ، و قال: أصعد لعل الله يكفر عنك الذنوب.
تأكد النسر من ركوب الثعلب على ظهره فبسط جناحيه و استقام على رجليه و مد عنقه فأسرع و نعق ، فحمله وطار عالياً في السماء .
فحفت الأفعى و نفطت الظباء و زجلت الطيور و انقلبت على ظهرها الخُنفساء كي ترى ما يجري في الهواء.
و على مسمع و مراء ، قال النسر للثعلب و هو على ظهره في كبد السماء : سأكون بك رحيم ، أنت مخير بين أمرين لا ثالث لهما ، أن ألقيك على أرض مروية بالماء ، أو إلى أرض يابسة جرداء ؟.
فقال: كِلاهما هلاك في الحالتين ، فليكن الوحل والماء أهون الشرين .
فالقاه فهوى ، فغار في الطين و غاص حتى غاب خبره و لم يتبقى ظاهراً سوى جزء من ذيله .
فهلل الجمهور وكبر ، هذا جزاء من مكر و غدر.
– والأن ما رأيكم فيما جرى ؟.
حمدون : تجاوز النسر حدود الانتقام ، كان بإمكانه قطع ذيله و بتر أذنيه بدلاً من الإعدام.
جندب : صحيح أن ما قام به الثعلب لا يُطاق ، لكن تصرف النسر كان خارج عن النطاق.
رضى : من وجهة نظري أن إرادة الثعلب تجهه نحو قتل النسر وهلاكه ، فبعد نتف ريشه و تقييد حريته أضحى عاجز عن كسب قوته و كان سيئول به المأل إلى موته.
لولا تخدل الأسد و إجبار الثعلب على تغذيته و إطعامه ، و بالتالي توافر لدى الثعلب القصد و الإرادة للقتل ، و باشر تنفيذ الجريمة ، إلا أنها لم تحدث النتيجة و هي القتل ، لسبب خارج عن إرادته ، وهو الظهور المفاجئ للأسد ، لذلك ما قام به النسر من عقاب يتناسب مع الجرم الذي اقترفه ثعلب الغاب.
– حان وقت الذهاب للمنام.
و في الختام أنصحكم أن حلت بكم الأهوال لا تستنجدوا بضعيف ، فسلاح الضعفاء في أغلب الأحوال هو المكر والاحتيال.
فمن بلغ القمة لا يستعين بمن هو في الحظيظ.
حمدون: قبل ذهابي أريد أسمع تفسير حلمي؟.
– يبدو انك ستنال مكانة مرموقة عالية و يكن لك قوة تساندك يمينك و شمالك ، و لكن يظهر من الحلم أنك ستفقد تلك المكانة و تهبط إلى الحظيظ ، فينال منك الأعداء و يفرضوا عليك حصار بعد أن يقضوا على من بجانبك من مناصريك .
هنا قُطعت الأحداث ، و الله أعلى و أعلم.
فإن تحقق ما رأيت حينها قد تطلب العون والمساعدة فلا تطلب ذلك من ضعيف بل أستنجد بقوي.
انتهى و من يحب النبي صلى.
رعى الله من قرأ و أثاب من علق ، و أحسن إلى من نشر و دقق ، و سلم من سلم الناس لسانه ويده ، و غفر لمن سمى و أستسمى و على النبي صلى.
تاريخ النشر : 2021-02-15