أدب الرعب والعام

توناروز

بقلم : محمد بن صالح – المغرب
للتواصل : [email protected]

تجلس وحيدة كأنها تُحدث الشمس عند نزولها ، أو تُفصّح لها بأسرار ما
تجلس وحيدة كأنها تُحدث الشمس عند نزولها ، أو تُفصّح لها بأسرار ما


الجمال في الأعلى :
 
تُدعى “توناروز”، بريحة المحيا التي استّحوذت على جمال قبيلتها ، فما كان كافياً لها ، حتى نالت جمال قبائل الأجوار ، و تركت ما دونها من النساء ناقصات الأنوثة في حضورها ، فصارت خليفة القمر في الأرض.

ككُل مساء عند و داع النهار ، تلتّقطها الأبصار هناك على قمة الجبل ، تجلس وحيدة كأنها تُحدث الشمس عند نزولها ، أو تُفصّح لها بأسرار ما ، ففُتِّن الرجال بها ، العُزاب منهم و حتى من لهم زوجات ، و غدّت أنظارهم تتّربص بالجبل حيث مستقر “توناروز”، فشاءت الأقدر أن يصير الجبل فاتناً مُغرياً للأنظار حين تعلوه “توناروز”.

كحمامة بيضاء تنظر إليهم من الأعلى ، كأنّ بها تقول ، إني بعيدة عن الذي له المبتغى بأن يحظى بي ، مبتغاه يقبع على رأس الجبل كما ترَون.
 
سليلة عزّة القوم و أشراف القبيلة ، و وحيدة والديها و بريق أبصارهما ، أبوها قاضي القبيلة و ضامن عدلها ، و عمها هو الحاكم حامي حماها ، و له ابن واحد و خليفة السّدة ، يُدعى “أناروز”، و لعلم أهل القبيلة ، فالأعراف تقضي أن لا ينتّسب عامة الناس مع الأشراف و كبار القوم.
 
***
 
المصروع عشقاً :
 
“أيور”، أبن حطاب بائس يشتكِ منه الشّجَر، لا جاه له و لا جلال ، إلا قدر من الجمال ، و طموح يُتّلتل الجبال ، صرعه عشق “توناروز”، فأرادها في حضنه دون سواه ، مُخالفاً المألوف مُتحدياً العُرف القديم ، ناسياً مُتناسياً وجود “أناروز”، أبن حاكم القبيلة و وريث عرشها ، فالقاصي والداني على علم أن “توناروز” مخطوبة لأبن عمها الحاكم “أناروز”.. فماذا بابن الحطاب فاعل ؟.
 
بشعره الطويل الذي يرحل به عصف الهواء ، و بلحيّته الخفيفة التي تُزين وجهه ، يمشي “أيور” بتّؤدة ، كثعلب يتجهز لفريسته ، و هو يقصد مجلس صديقه ” لباز”، هناك يشرب نخب آماله المتّجدد في قطف ثمار صدر “توناروز”، و يكشف له البعض من مكنوناته ، ليُقابَل بسخرية صديقه:
– حلم ، حلم.. يا “أيور”.
 
يستدير نحوه “أيور”، بنظراته اللامعة :
– يا هذا المستهزئ ، لقد جعلت من “توناروز” كل دنياي ، و حتى بعد موتي لو استّطعت.
 
يرتشف صديقه ” لباز” الخمر، و ينفرج فاهه بيُسر، كأنه يكتّم ضحكة أخرى ، ثم قال:
– هي لك لا ريب.. إنما أقول حكراً على الفراش !.
 
يرد أيور للتّو:
– أي فراش تقصد يا أبن الجوع ؟.
 
يضع “لباز” الكأس جانباً :
– فراش النعاس يا ابن الحطاب ، حين ترحل بك شياطين الأحلام.
يردف ” إثري”:

– أيها الرفيق ، عليك تقبّل الواقع كيفما كان ، أنت ابن حطاب ، لن ترضى بك من غير بنت العشاب ، لو ودّدت مني نظيراً ، و عليك نسيان أمر “توناروز”، وإلا ستركض خلف حلم لا يعيش حتى في العدم.
 
صمت “أيور” طويلاً بينما يُحدّق إلى النافذة ، حيث ضياء القمر يبث فيها ، ثم التّفت إلى صديقه قائلاً بصوت مبحوح و أنفاس مخمورة:
 
– أتعرف يا صديقي “لباز”، و نحن في غمرة سُكرنا هاته ، إن برغم تفوقي وذكائي ؛ إنما يا كل عمري يعتّرض فيه سبيلي ما يُفسّد أمنياتي ، لم أنتقِ عيشي هذا ، و إنما فتحت عليه أبصاري ، أبي وآبائه السبب يا رفيق أمسياتي ؛ ففي زمنٍ كان فيه الناس يتصارعون على استملاك الأراضي  وإحداث جاه مستقبل أبنائهم ، و تقسيم نسب الأشراف وعالية القوم فيما بينهم ؛ كان أجدادي في الأدغال يفتكون بالأشجار، حتى أصابت حفيدهم هذا أمامك ، لعنة الأشجار.
 
***
 
لقد أبّت السماء.
 
هي السماء لا أنا يا “أيور”، إنها مشيئتها أن لا نكون لبعضنا ، لا مشيئتي ، إن عشقنا يُطارده المحال منذ بَداءته ، و لم يدعه يجد له مُستّقراً ، حتى نمّقه المستحيل إلى الأبد.
 تفقّه في عُرف قبيلتنا الذي يمنع عليّ الزواج من عامة الناس ؛ فَلِم أراك تبتغِ ما لن يكون ؟.
 
 
***
 
ولو.. سنكون.
 
سنكون لبعضنا يا “توناروز” و لو سخروا الجبال للوقوف دون حصول ذلك ، لا ينال منكِ اليأس ، فما أنا بيائس، و لن تردّعني الأعراف والمواريث ، خسئت كل الأعراف التي لم تنزل من السماء ولم تنطق بها الجبال ، يبقى الإنسان هو الإنسان يا آسرة القبائل ، من ذا الذي يعلو على الآخر، إن ظلّ في أحشاء أمه مقداراً يتجاوز دون سواه ، إن الموت الكفيل الوحيد بأن يخلصني من قيد عشقك ، أن أكون ميتًا أنا لا أنتِ.
 
***
 
احتضار شمعة :
 
في ذات ليلة تخلّف فيها القمر عن الحضور؛ سمر فيها “أيور” رفقة قبس نور آتٍ من شمعة تحتضر في موقدها ، معلنة عن أن هذا السمر قد هرِم ، بينما يُجهد فيه “أيور” تفكيره ، و هو يبحث له عن سبيل يقوده إلى حظوة “توناروز”، قبل أن تتلاشى نور شمعته ، تذوب الشمعة و تذوب الأفكار ، في سباقٍ محموم نحو شيء ما ، قبل هبوط الفجر.

 لقد نوى الزواج ، فلا يلقى من عشيقته “توناروز” سوى ، لا ، غير جارح مغلفٌ في ثوب لطيف حذر أذِّية مشاعر “أيور”.. إلا أنه ظلّ على إلحاح رغم اعتراضها الراجع لعُرف القبيلة ، ممزوج مع خطوبتها السالفة لأبن عمها الحاكم المدعو “أناروز”.. إنما “أيور” يأبى نسيان علاقتهما ، في زمن كان.
 
كل السبل تقود إلى التّيه ، و بدا له أن النصر حليف شمعته في هذا السمر الذي بدا كأنه الأبد ، حتى قاده خلده إلى صديقه القديم “أسافو”، حيث أنهما معاً أبناء قبيلة “بانون”، و غادراها منذ خمسة عشرة سنة ، و كل واحد استقرى في قبيلة مختلفة.

“أسافو” زُبد الذكاء الذي لم يُعرف له مثيلاً في سائر القبائل ، رأى فيه “أيور” أن صديقه القديم ، هو القادر على سَلس سبيل الذي سيصل به إلى الزواج من “توناروز”، ثم إنّ له عند “أسافو” مكارم عتيقة ، في زمنٍ كان يُقدم له المساعدة لكي يصل إلى سدّة قبيلة “بانون”، و ها قد دقّ وقت يستّرد فيه “أسافو” بعض من فضائل صديقه.
 
استّلقى على الأرض مُتأملاً سقف غرفته وهو يستلذ نصر ما وصل إليه : “أسافو” الوحيد دون سواه هو الرجاء الأخير في صدع عُرفٍ قديم ، ثم التّفت ناحية الشمعة التي تواصل الذوبان في موقدها هناك ، فجمع أنفاسه و نفخ فيها ، ثم شرعت الغرفة قاتمة ، و على شكله نام.
 
***
 
أسافو :
 
امتطى “أيوه” فرسه ، و انطلق إلى قبيلة بعيدة، تُدعى “بناس”، حيث صديقه “أسافو” له منصب طبيب القبيلة ، بل و كل قبائل الجوار تزوره ، فهو ذائع ، يشفِ العلّل المستعصيّة ، و يفتك بالأوبئة. وصل “أيور” إلى القبيلة، ثم إلى قصر العلوم ، و هو يطلب لقاء “أسافو”، دون التّرجل من على صهوة فرسه ، خرج “أسافو” للقاء من يطلبه ، و قد بدا أن الزمن غير من محياه ؛ فشعره لم يعد طويلاً كما كان، و لحيّته نامت و قد أضافت زينة على وجهه ، إنه أبن الأرملة سليل قبيلة “بانون”.

حرك “أسافو” يده كما لو كان يطرد الذبان ، لكنه يقصد الحارس بالانصراف ، فقد ظهر له صديقه القديم و حامل أسراره القاتمة ، قال “أسافو” باسماً :

– ترجّل يا هذا الصديق القديم ، أنسيت أني أمقت النظر من الأسفل ؟.
 
–  و هذا الذي يجعلني أتي إليك ، لأنك لا تقبل ما عدا الأعلى.
 
تعانق الصديقين و انصرفا معاً إلى منزل “أسافو”، هناك أسرفا في الحديث واستحضار وقائع قبيلة “بانون”، فقد مرت سبع سنوات منذ لقاءهما الأخير ، قبل أن يكشف “أيور” سبب حضوره:
 
– ما أحوجني إليك اليوم يا صديقي ، لعلّك تجد لي مخرجاً مما أنا فيه ، لم أعد أرى في كل ما يعج به الأرض سوى “توناروز” ، نعم هي فقط دون غيرها ، لكن كما قلت لك ، هي منى بعيد ، بسبب الأعراف ، اللعنة على الأعراف و من وجدها ، نعم إنه العُرف القديم الخسيء ، الذي يمنع زواج بنات الأشراف من عامة القوم ، فكرت في كل السبل ، و لم أجد غيرك القادر على إعانتي.
 
لاذا “أسافو” في الصمت و انصرف يستمع بإجلاء إلى ما يقصصه صديقه ، فيما بدا أنه عاشق أنهكه الحب و دكّه.
 
قال أسافو :

– حسنٌ يا “أيور”، تريّث  و اجعلني أستّوعب أكثر كل ما تود قوله ، أسألك عن مدى تيّقنك من مشاعرها تجاهك ، أأنت تظن أن “توناروز” تلك  تحبك ؟.
 
– نعم أيها الطبيب ، أنا على يقين بمشاعرها تّجاهي ، و أكثر من ذلك ؛ لقد اعتّرفت لي بما تحمله من عشق لي أيام كنا نلتقي ، وما زلنا نبعث بالرسائل إلى بعضنا ، و اليوم يقف أمام زواجنا عُرف القبيلة وخطبتها المرغمة من ابن عمها و وريث سدّة حُكم القبيلة ، إني لا أتّحمل رؤيتها في أحضان غيري ، الموت أرحم لي من ذلك.
 
– طالما تعشقان بعضكما ؛ فلتعتّبرا نفسيكما منذ الآن أزواجاً ، شاءوا أولئك الأشراف أو عفرت أنوفهم في التراب.
 
***
 
الفرج يُلّوح :
 
عاد “أيور” إلى القبيلة، بحماسة ممزوجة بالحذر من مكر صديقه العتيق ، لقد قصى عليه “أسافو” ما سيأتيان به ، حتى ينال حظوة “توناروز” و يثّب على العُرف القديم ، “أيور” لم يكن مُطمئنًا ، إنها مخاطرة صعب التّكهن بما يليها ، إنما قلبه ملك قراره ، وأعماه على مقدار هول ما يتّشمر “أسافو” للقيام به.
 
تائه أهوج يجول في القبيلة كالمخبول ، لقد أنهكه التفكير فيما هو آت ، فلم يجد غير مجلس صديقه “لباز”، هناك يقضيان اللّيل في ارتشاف الخمر حتى أمارة السكر ، لقد رجّ “أيور” فضول صديقه ، للاطلاع على ما يتهيأ للقيام به ، إنما لا يجد منه سوى أقوال تتوه.. فيقول مُستنكراً :

– يا هذا العاشق التّعيس من الفرسان ، لقد جئت إليّ ، وعليك أن تُحدّد لي على ما تنوي القيام به ؛ وإلا فالباب هناك على يُسراك إن كنت لا تعلم.
 
– ما بك تتّسرع المعرفة هكذا على غير عاداتك، أتراك قد سكرت؟ في النهاية لن يخفى عنك ولا عن القبيلة ما سيحدث.
 
***
 
حيرة وانتظار ، غمرا “أيور” قبل عودته إلى قبيلة “بناس” لأجل لقاء “أسافو”، الذي سيّشرع في حبك أفكاره والوصول به إلى حضن توناروز، رغم كل العوائق التي ما ظهر منها سوى باب المستحيل ، ثم أتى اليوم الذي عاد فيه أيور” عند “أسافو”.
 
لقد دقّت ساعات التنفيذ ، يقول “أسافو” في تلك اللّيلة الساكنة لصديقه القديم “أيور”، وهو يُحاول تهدئة توجسه:

– “أيور”، ما بك قد بدا التضايق في محياك ، أنا “أسافو”، لربما حدث و نسيت؟.
 
– إنه ليس بالأمر الهيِّن يا صديقي ، أخشى أني قد تراجعت ، وما عُدت أرغب بسلك هذا السبيل ، دعنا نجد غيره ، أرجوك.. أرجوك.
 
– لا تُعاود ما تفوّهت به يا “أيور”.
 
– ماذا لو لم نفلح في مساعينا ؟.
 
– هل حضرت يوماً لفشل “أسافو”؟.
 
– الحق لا.. لم أرَك يوماً تلعق خيبتك.
 
صمت “أيور”، وهو يبلع ريقه ويصرف أنظاره عن صديقه.. ثم قال مُتلعثماً :
– متى نبدأ ؟.
 
قال “أسافو” بينما يسكب ما تبقى من الخمر في كأسه:
– غداً.
 
***
 
حتى قبل بزوغ الشمس على قبيلة “بناس”، قرر “أيور” مغادرة فراش نومه ، بعد ليلة ملؤها التوجس واختلال نعاسه ، لقد لبسه التّلجلج والاحتراز من صديقه الغاص في نوم سحيق ، و هو ممتد الآن إلى جانبه ، و ينظر إليه وهو يُغلق عيناه نائماً و شعر رأسه ينسدل و يغطي جبينه.. ليُعاود في نفسه ذات السؤال ، “هل حقاً سيُعينني هذا النائم في الظفر بـ “توناوز؟” ، سؤال مُلِّح يحرق شفاهه منذ أن قطع له “أسافو” وعدًا ، فما قيمة وعد “أسافو” ، يتساءل “أيور”؟ ، فقد حضر لعهود نكث بها ابن الأرملة ، ألم يقطع رأس حبيبته “شامة” أمام أنظار كل قبيلتها ، ثم رقص في نفس اللّيلة على جثة غريمه “إثري” وهو سابح في دماءه ؟

ثم يستّدير برأسه ناحية “أسافو” المنبسّط النائم على يساره ، و كأنه يسمع صوتًا مُطمئناً يُسِّر له.. “سيساعدك ، كن على ثقة يا “أيور”، إن “أسافو” يُعزِّك ، و قد رشحك بدلاً منه لتصير حاكم قبيلة “بانون”، فلا تنسى ذلك ، هو صديقك و رفيقك ، ولم ينس أيامكما الخوالي ، و كيف تمدّ له يد العون حينما كان يطمع لسّدة قبيلة “بانون” ، لقد أتى الزمن الذي سيرد لك تضحياتك التي كانت تخدمه في سبيل نيل كل مسعاه” ، صوت آخر شاذ يحذره ، “إنه “أسافو”، ابن الأرملة الذي أجهز على قبيلة الحكماء ، قبيلة “بانون”، و أرداها تبكي على أطلالها ، حتى ظله لا يثق فيه يا “أيور”، كيف تفعل أنت ؟ “.

 
***
 
– حسنٌ يا “أيور”، ها هي الجرّة ، فيها السائل الذي جهزته ، كن حذراً في استعماله ، وإياك و أن تتعثر.
 
– ماذا لو حدث و مات الناس في القبيلة يا “أسافو” ؟.
 
– أنا قد خبرت الأوبئة منذ دهر، وعلى اطلاع على القاتلة منها ، و من تُجهد البدن فقط.
 
– أتساءل كيف تقدر على صناعة الأوبئة ؟.
 
– منذ أن اختّلس الوباء أمي لو تتذكر ؛ عزمت على الفتك بكل أوبئة الوجود ، و فلحت ، ثم صرت قادراً على إيجادها.
 
– هكذا أستّوعب أنك سبق و أن بعثت الأوبئة في القبائل ؟.
 
– بلى.
 
– الأهم الآن يا “أسافو”، هي “توناروز”.
 
– ستكون لك يا رفيقي ، فالأعراف تتبّدل لو فُرض عليها ذلك.
 
– أخشى أن لا تتغير.
 
– أنسيت أني كنت سأكون حاكماً لقبيلة “بانون”، وإن كنت لا أنتسّب يومذاك للأشراف ولا كبار القوم ، أجّل ، ابن الأرملة كما ينعتوني ، كاد يُتّوج بالإكليل الحكمة و ينال السّدة ، لولا أني تراجعت على إرادتي.
 
– لكنك “أسافو”.
 
– و “أسافو” هذا وراءك ، رغم أنف الأعراف و كل المواثيق التي وُجدت ، السماء ذاتها لن تستطيع الوقوف في وجه مبتغاي ، اذهب ، اذهب و أفعل ما أمرتك به ، و لك بعد ما تريد.
 
***
 
حضر الموت :
 
استّوطن وباء مجهول قبيلة “أنزار”، وأتى على أرواح الحيوانات ثم على الناس ، وآخرون طرحهم إلى الوساد بانتظار أن يُقدمهم للموت ، و أضحى أهالي قبائل الجوار يتجنبون زيارة القبيلة ، و المرور حتى إلى جانبها، خشيّة الإصابة مما أتي عليها من وباء يخنق أنفاس أهاليها ، ماذا فعل “أسافو”؟ .. لا ، لم نتّفق على الموت في لقاءاتنا ! يردف “أيور” في نفسه ويكرره ، في الوقت الذي يخطو فيه نحو قصر الحاكم ، للانتقال للجزء الموالي من فكرة “أسافو” ، عند الحاكم اقترح “أيور”، الإرسال في طلب حضور “أسافو”، من يقدر على إنجاء القبيلة من القادم المُريب لو دام تفشي الوباء ، كذلك فعلوا و أرسلوا في طلب “أسافو”.
 
مضت الأيام و اجتزّ الوباء المزيد من الأرواح ، فما أتى “أسافو”، كما كان ينتظر “أيور”، ويتساءل، ماذا دهاك يا ذاك الرجل ، فيما تُفكر بحق كل المقدسات ؟ حتى طرق الوباء بيت الحطاب وأرداه صريع الفراش ، و هكذا كان “أيور” سبباً في سقم أبيه ، و ربما يعد أنفاسه الأخيرة و سيغادر بعد حين حتى تستريح منه الأشجار ، ألا لعنة السماء نازلة عليك يا “أسافو” ، يصرخ “أيور” في نفسه ، بينما يخنق الوباء الحياة في رقبة أبيه الحطاب ، ثم تحقّق ما لم يلمح يوماً في بال “أيور”، لقد مات أباه بسبب ما سلمه “أسافو” وأتى به بيده ، و قد عانق والده مُنتّحباً طالباً الصفح من جثة ساكنة أنهكها الوباء ، أنا يا أبي ، أنا الفاعل بك و بأهل القبيلة ، يردّد ، وأثناء العناق وثب الوباء إلى جسد “أيور”، و طرح به إلى فراش والده الراحل ، و وظبّه لملاقاة الموت.
 
***
 
مسرحية أيور و أسافو :
 
حضر “أسافو”، في الوقت الذي رثّ فيه الوباء قبيلة “أنزار”، و بات بها الحال موبوءة يتنّكبها كل الأقوام ، وانتشر الوجّل في كل ركن من القبيلة.. وعرّج “أسافو” على منزل الحطاب ، حيث “أيور” يتناحر مع الوباء.
 
أيور : ماذا أتى بك الآن .. هل جئت لتحضر موتي ، أو لتّعزيتي في موت أبي؟.
 
أسافو : الاثنان معاً يا “أيور”.
 
أيور : خسئت يا أبن الأرملة .. اللّعنة على النطفة التي خرجت من أباك ، والثدي الذي رضعك.
 
أسافو : أحجم يا ابن الحطاب ، و لا تُحرض غضبي ، فما أنا بقاتل أباك ، و لا بمسبّب اعتلالك.
 
أيور : أجل ، إنه الحق ما تنطق به ، فأنا الفاعل يا هذا ، لأني وثقت بثعلب لا يثق هو في نفسه.
 
أسافو : بل عشقك الأهوج الفاعل ، و هو من يستّحق اللّوم.
 
أيور : ما كان حديثك هكذا في الأمس القريب ، ماذا تُسّر في نفسك؟.
 
أسافو : و هل تظن أن الحاكم كان ليرضخ لمطالبي لمجرد إصابة واحد في القبيلة بالوباء؟.
 
أيور : أجل، بل سيأتي بمطالبك عند موتي ، و بعد موت أبي و موت الناس ، و عند احتضار كل القبيلة .. أهكذا اتّفقنا يا ابن الأرملة ؟.
 
أسافو : اتّفاقنا كان أن أُقايض الحاكم بالعلاج ، على تغيّير العرف القديم في زواج عامة الناس مع أبناء الأشراف وكبار القوم ، و أشتّرط عليه زواجك من عشيقتك “توناروز”  أليس هكذا كان اتّفاقنا ؟.
 
أيور : بل فكرتك التي احتّلت بها عليّ.
 
أسافو : وما يُزّكِ لك تحايلي عليك؟.
 
أيور : إن سجيّتك الغدر، وأنا الأكثر العارفين بك ، وإن أعمى العشق بصيرتي وحولت أن أُصدقك رغم ارتّيابي الشديد ، حتى حدث هول فقدان أبي ، وما عاد الوصول لحظوة “توناروز” أي مُستّطاب.. فكيف لي بنسيان أبي؟.
 
أسافو : لا تقلق يا “أيور”، لن تفتّقد أباك طويلاً.
 
أيور : أجل ، لأني سألتّحق به لا ريب.
 
أسافو : أصبت ، ها أنت بدأت تقول شيئاً معقولاً.
 
أيور : لا ، الذنب ذنبك ، بل أنا الملام من كل هذا.
 
صمتا الرجلين، رغم تناظرهما الطويل ، ثم قال “أيور”:
– إلى ما تصبو الوصول إليه؟.. ولماذا ضلّلتني، وأنا الذي كان يُعينك في زمن ولّى.. أهذا جزائي؟.
 
أسافو : لقد قلتها بلسانك الآن ، زمن ولّى.. ثم لا تنسَ أنك نلت مني جزاءك وأكثر مما تستّحق. أتراك نسيت أني رشحتك بدلاً مني لتكون حاكماً لقبيلة “بانون”، والتّزكية من الحاكم المفترض، تُماثل القانون في عُرف القبيلة ، لكنك لم تحسن تدبير تقريظي، و فضّلت الرحيل إلى هذه القبيلة عند أخوالك.
 
أيور : أجبني يا ابن الأرملة ، إلى ما تسعى إليه؟.
 
أسافو : لقد دقّت الساعة لتّعرف الجواب عن سؤالك القديم ، لما تنازلت عن سدة قبيلة “بانون”؟. فعلت ذلك يا ابن الحطاب لأني قررت بناء قبيلة خاصة بي ، أكون أنا حاكمها ومالكها في آن ، و لأجل نيل هذا المبتغى يلزمني الزاد الكثير من المال ، و منذئذ عزمت أن أجمع وأجمع وأُكدّس ، حتى قدمت إليّ هدية ثمينة ، و فتحت لي أبواب أغنى القبائل في المغرب الأقصى ، حيث نحن الآن.
 
أيور : لم تجبني بعد ؟.
 
أسافو : حسنٌ، يا ابن الحطاب ، سأُنجد القبيلة من الوباء ، مقابل أن يتّعهد لي الحاكم في وثيقة مختومة بيده ، على الحصول على ربع ما تحتويه مخازن القبيلة سنوياً.
 
أيور : و لن يقبل.
 
أسافو : جائز.. وبعد ، مصيره هو مصريك ، والقبيلة ستقتفي أثركما.
 
أيور : أي أرعن أنت يا ابن الأرملة ؟ تطمح إلى أن تبنِ قبيلتك على جثث قبائل أخرى! أي عرش مكروه ستتبوأه ؟.
 
أسافو : أجل، تماماً كما كنت توّد الزواج من “توناروز” بعد أن تقضي الأرواح ، و علّك تجهل أنّ أعظم القبائل قامت على الجثث ومجاري الدماء ، منهم هاته القبيلة التي تُنعت بأشرافها.
 
أيور : أنا كنت أتوّهم أن وباءك لا يقتل المصاب به ، وهذا وعدك يا من لا عهد له ، ولم أكن يوماً قاتلاً ، كما كنت أنت ، والظاهر ستبقى كذلك حتى تشرب من نفس الكأس الذي أسقيتّه لكل هالك على يداك.
 
أسافو : يا لك من أبلد يحسب نفسه فطناً ! إنّ الوباء خليل الموت ، حتى الأبقار تدري هذا لو سألتها ، فلا تنكر أن عشق أمرأة جعلك تسلك أي سبيل يصل إليها.
 
أيور : لن أعلّل لك أو أُرافع عن نفسي ، ما ستسمع مني ، أنّ السماء لن تبارك أعمالك مهما بلغ دهاءك ، ولعنات هاته الجبال ستّدركك أينما ولّيت وجهك ، و يوم تموت لن يعرفوا لك قبراً.
 
أسافو : السماء لا تُبارك سوى الأقوياء ، و لا تنصر عدا الجيوش القوية في ميادين القتال، والباقي رنّم تعزية لمسامع الجبناء والضعفاء.
 
أيور : أي مفازة لك في موتي ، يا “أسافو”؟.
 
أسافو : أولاً ، لقد تحقّقت أُمنيّتك في أن لا ترى “توناروز” في حضن غيرك ، ثانياً ، كان عليّ أن أغيِّبك عن الوجود منذ زمان ، أو أكون رحيماً بك ، فأجتّز لسانك يا ابن الحطاب ، حتى أطمئن لصمتك الأبدي ، فأنت آخر الشهود على ماض “أسافو” ، حتى حملتك إليّ أقدامك لتّقديم عنقك.
 
أيور : انصرف يا “أسافو”، فما عدت قادراً على رؤيتك أمامي ، انصرف و اتركني أستطعم الموت التي صنعتها بيدي ، فلتمطر السماء طوفاناً بعد موتك ، حتى يُغسل أثرك أينما وطأ.
 
أسافو : أنت تموت على جهلك ، ألم أقل لك إنّ السماء لا تنصر عدا الأقوياء.
 
أيور : لا أطلب إلا انصرافك يا ابن الأرملة .. ألن تحقق أمنية ميت ؟.
 
أسافو : أتحسبني غافلاً يا ابن الحطاب ؟ قد يحصل و تعيش.
 
أيور : لا يا ابن الأرملة ، لن أعيش ، حتى لو فك الوباء قيودي ، أو شاذ كرمك و نولتّني ترياقاً يُهجر عني الوباء ، لقد اصطفيت الرحيل ، فلا يطيب لي العيش معك تحت سماء واحدة ، ثم لن أغفر لنفسي.
 
أسافو : حسنٌ يا أيور، سأرحل عنك ، و قبل مغادرتي أقول لك ، لقد قرّرت أن أتخلص منك و قد سمعته مني سلفاً ؛ إنما لو متّ الآن فلست قاتلك ، أنت من حملت الوباء بيدك و زرعته في القبيلة ، ثم نال منك ، قبل أن تلومني فلتّلُم قلبك.
 
أيور : “أسافو”، بعزّة أمك لدّنك ، أسألك أن لا تؤدِ “توناروز”.
 
– لا ، لن أفعل ، و سأعود عند هبوط اللّيل لرؤيتك.
 
 
***
 
لأجلكِ يا عُميُ بصيرتي :
 
هي رسالتي الأخيرة ، أرجو من السماء أن تهبني القدرة على إتمامها ، أنا أُعارك الوباء ، و بدا أنه الغالب لا ريب ، و قبل أن يُجهر بانتصاره ودّدت أن تقرأ مني آخر الكلمات ، إن ما أصاب قبيلتنا من وباء فتك بأهالينا ؛ أنا من دلّلته على سبيل القبيلة يا حبيبتي ، فلِأجلكِ يا عُميُ بصيرتي ، مدّدت يدي نحو عاصٍ ماكر و أصطحبته إلى محراب عشقي. أعرف أنّ السماء ستغفر لي ، فهل لي نيل الغفران منك ؟ وقبل أن أختم رسالتي الأخير إليكِ ، و رغم كل ما يُصيب جسدي من معاول تقتلع روحي ؛ إلا أني ما زلت أشعر بحبك ، في مكان ما موجود ، كأنه هالة تطوف حولي ، إلى الأبد.
 

النهاية ……

ملاحظة:

من أجل فهم شخصيات هذه القصة أكثر، يُفضل قراءة قصة “أسافو” – لمن لم يقرأها بعد – فهي بمثابة امتّداد للقصة التالية.

اقتباس :
 
“خسئت كل الأعراف لم تنزل من السماء، ولم تنطق بها الجبال”.
 
هذه القصة كُتبت في عام 2019، وتم تنقيحها في عام 2021.
 

تاريخ النشر : 2021-02-22

guest
14 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى