أدب الرعب والعام

كُنت أليس

بقلم : سارة برير – السودان
للتواصل : [email protected]
إن لم تلتهمها الزهرة ستسقط فتاتي الصغيرة في الشق
إن لم تلتهمها الزهرة ستسقط فتاتي الصغيرة في الشق
1
مازن
تناولت قلم أحمر و ورقة بيضاء ثم بدأت بالكتابة :
” رُميساء ، أكتب لك الآن بعد رحيل دام طويلاً و أعلم بأنك لن تقرأي حرفاً مما أخط ، الأن أعترف بأنني مثلك في المنتصف بل أسوأ ، حيث تركتني لا زلت في شارع الأمنيات .
و كلي أمل أن تسامحيني في يوم ما ، أن تغفري لمن أطال الغياب و رحل بعيداً ، حاولت كثيراً أن أكون منصفاً و أخبرك بالحقيقة ،  حقيقة واقعي في هذا البلد ، عندما تركتك و الوطن كان من أجلنا أولاً و من أجل أمي و أبي و أخوتي ، غادرت و أنا مشبع بالأمل ، أن الحياة تنتظرني خلف المحيط و سنعيشها بترف لاحقاً ، أنا و أنت كما خططنا في وداعنا الأخير ، كأن الذهب سيتساقط من السماء – كُنت أحلم .
لن أبرئ نفسي أبداً نعم كان لي دور فيما حدث لنا جميعاً بطريقة ما ، نسيت لأجل ماذا قطعت للجهة الأخرى و لأجل ماذا تغربت ، تجاهلت و تنصلت من المسؤوليات  حتى تراكمت فوق رأسي ، كان كل شيء يضغط علي ، مصاريف أخوتي للجامعة ، إيجار المنزل هنا في هذه الغربة و مثله هناك في الوطن ، صرت أدفع ضريبتين كِلاهما أغلى من الأخرى ، الوضع هنا أسوأ من الوطن ، ظننتها الجنة فكانت جحيمي ، خلتني سأقدر على كل شيء و فشلت ، بينما طيفك الجميل بقي هناك كإحتمال مُحال أن يتحقق ، كالبدر كُنتِ بعيدة .
أوقفت الكتابة عندما عبرت فتاة صغيرة بصورة خاطفة على دراجتها الوردية و هي تُسرع بطريقة خطيرة بينما شعرها يتطاير خلفها ، ثم سمعت عجلات دراجتها و هي تُصلصل أثناء عبورها لساحة لويس بارك بقربي تماماً حيث أجلس على أحد المقاعد ، لدرجة أحسست بالهواء يلفح وجهي و يُحرك أوراقي ، اضطربت دراجتها قليلاً و سيطرت عليها سريعاً باحتراف ، تبعتها بنظري حتى انعطفت انعطافة حادة يميناً و اختفت .
و عُدت أُكمل كتابتي لرُميساء :
” ليلاً و بينما أتسكع في هذه الشوارع الخالية قلبي يُعذبني و ضميري يرهقني ، دون مأوى و بلا وطن و دونك يا أليس ، البرد هنا غير عادي ، يخترق روحي أولاً ثم أوصالي ، المكان بارد هنا يا أليس ، حتى في أشد أيام السنة حرارة ، لا أنوي أن أحدثك عن البرد أبداً ، و كأن لي ما أتحدث بشأنه ، تعلمين بأنني لست بارع في الأحاديث ، فقط أردت أن أُعبر لك بمدى وحدتي ، فجوة الوطن و أنت ، آسف لأنني لم أكن سلفادور الخاص بك ” .
ختمت رسالتي بهذه الكلمات ثم وضعتها ضمن أخريات ، جُل هذه الرسائل تحمل نفس المعاني و ربما الكلمات ، إن تدخل القدر بطريقة عجيبة قد تصل هذه الرسائل لرُميساء ، رغم المحيط الذي يفصلنا ، رغم الألم و النسيان ، و من ناحية أخرى و من أعماق قلبي أردت لهذه الرسائل أن تبقى للأبد هنا معي ، كحروف مُذهَّبة و مجهولة داخل حقيبة مُهترئة .
2
رُميساء
عندما أسمع صافرة قطار الأنفاق السريع و عندما تهتز الأرض من تحتي بأزيز خافت ، أعلم أن الوقت حان ، عندها أتأمل جداري الإسمنتي الرطب ، كان به شقوق في كل مكان ، هو على هذه الحالة منذ سنوات ، و لم أُرممه ، و لا أعتزم ترميمه ، بات يعجبني هكذا ، تنفست بعمق و عبيت صدري من الهواء الفاسد و النتن ، تناولت أحد حجارتي الجيرية و كان أصفر اللون ، سيكون واضح جداً في هذه العُتمة ، مددت يدي و جعلتها تلثم أعلى الجدار ، رسمت خط رأسي ضخم على طول الحائط من أعلى لأسفل ، ثم تبعته بخط موازي أخر ، كان هذا ساق ضخم لزهرة تخيلتها بجميع تفاصيلها التي لم تُرسم بعد ، كما أتخيل عادة الكثير من الأشياء قبل أن تحدث !.
بعدها رسمت البتلات الخمسة على شكل قلب و وزعت الأوراق على جوانب الساق ، كانت عملية بسيطة – سلسة و سهلة ، أعجبني ما صنعت ،  صرت ماهرة .
و في الختام و بحجم متناهي الصغر أضفت فتاة صغيرة تلعب في ظِل الزهرة حيث يكون أحد شقوق الجدار بالضبط .
ستسقط .. ستسقط الفتاة في الشق .
شخبطت عدة تموجات و أخفيت بها الشق بل و طمست معالمه .
” لن تسقط “.
تراجعت متأملة ساق الوردة و كانت ضخمة – بل عملاقة ، مائلة بشكل مريب و كأنها على وشك التهام الفتاة : ” كافية لتذكرني ببؤس حبك ، حكايتنا معاً “.
إن لم تلتهمها الزهرة ستسقط فتاتي الصغيرة في الشق ، كِلا النهايتين مروعة !.
رميت بالحجر دون اكتراث فتدحرج على الأرض ، ثم مسحت يدي في ثيابي .
تأملت الغرفة و كانت خانقة  و مُظلمة ، منذ أن دخل الصيف و كل يوم أتذكر لقائنا الأخير يا مازن ! إنه العام الرابع ، إنه عيد ميلاد فراقنا ، في كل سنة أحتفل بذكرى الحنين و الألم ، الشوق و الخذلان ، الآن أحتفل بصمت .
في ذلك اليوم قبل سنوات مد الليل بساطه على مرمى البصر ، بينما لمعت الأضواء على جوانب الشارع المُسفلت كعقدان من لؤلؤ لامع اصطفا معاً ، هُناك هِمت بك ، تُهت في حدقاتك و غرقت في أنهارك ، ظننتك مدْ لطيف سرعان ما يصير جزر في الصباح – كُنت موج ، كُنت عاصفة .
نفسي تمزقني و قلبي يعذبني هناك حيث وقفنا على الرصيف ، كُنت كالحلم ساحر في كُل شيء .
كنت واقعي الوحيد ، كنت حقيقة ، و لا أنكر أنني تخيلت حينها الكثير من السحر ، تخيلتنا معاً نمسك أيدي بعضنا و نكمل الطريق ، كان دفء يدك على كفي و رائحة عطرك تطوِّق ما تبعثر من روحي و تجمع شتاتي هناك في ذلك الشارع الغير عادي ، أمسكت بي و أنا تشبثتُ بك ، واثقة أنك لن تُفلتني ، وقتها لن يكون لنا أي هموم ، حينها سنملك العالم ،
و عندما تأملتُ عينيك تُهت و أخذت ببريقهما ثم ضللت طريقي في ذلك البريق – لم اخف حينها ، كُنت أعلم أنك بوصلتي .
خاتم ماسي طوَّق يدي و رأيت طفلنا الأول و هو يفتح عينيه و وجدت نفسي أقول له :
” أنا ماما “.
و تخيلتنا معاً في بيتنا الصغير عند طرف المدينة ، يحيط به سور خشبي بلون القرنفل ، تداعى جزء منه و كاد يسقط بينما أنا أُذكرك كل يوم أن تصلحه  و لا تصلحه ، و يبقى على هذه الحال عدة أعوام حتى يكبر طفلنا و يقرر استكشاف العالم ، دُنيا أنا صنعتها ، حينها أقرر إصلاح السور بنفسي  كما أصلحت الكثير من المشاكل بيننا ، و لن أكون غاضبة منك  بل سأكون سعيدة فهذا مأوانا – عُشنا الصغير و نحن الطيور التي تُحلق فوقه .
نسيت وقتها كل شيء و نفسي ، هناك أُخذت بسحر لقائنا ، أسرني كل ما في ذلك الشارع ، كنت غامض  كطلاسم لوحتك عجزت عن حلك ! كنا جميعاً في ذلك الطريق نُشكل لوحة حيَّة ، كُنت سلفادور دالي – لوحتك نابضة بالحياة – فانتازية بشكل جنوني  و مترابطة ببعضها لدرجة أن أصغر تفصيل فيها يُمثل قصة كاملة تتصل بقصتنا ، هناك كملنا بعضنا ، و اكتملنا  ثم نقصنا قبل أن نزيد .
العشب داخل تلك اللوحة غير عادي يا سلفادور قلبي ، يتحرك دون رياح ، أما أزهارها الكبيرة و الفريدة كانت تتهادى و تهمس على جنباتنا كجنيات تحقيق الأمنيات و أنا كنت أتمناك ، تمنيت الكثير من الأحلام هناك ، عند منتصف الليل  مأُخوذة بالجمال – آمنت بالمعجزات ، آمنت بكل جنون نُقش في هذه اللوحة ، صدقت اللامعقول ، و صدقت أيضاً أننا لبعضنا – أنا و أنت ملكنا قلب واحد .
تمنيت – أملت ، ثم تبعتك ، كما تبعت آليس الأرنب الأبيض ، بينما عقارب ساعته تتسارع هناك على معصمه تُتكتك بخفوت ، و قادها إلى أرض الأحلام ، ظننتني مُثلها و خُلتك أرض العجائب .
نسيت الشقَّ ..
هوينا حتى وصلنا النفق ، و لوهلة كنت أقبض على كفك و دفئها يطمئنني للأبد ، حالما انزلقت في ذلك الظلام  فقدت الدفء قبل أن أُضيِّع يدك ، سقطت و تكسرت  قبل أن ألمس الأرض – هناك مِت من بعدك .
لم يكن هناك جنيات أو أزهار ..
لم يكن هناك أي لون ..
لا يوجد لديك قلب .
لم يكن هناك طفل .
لم يكن هناك شيء .
كان علي أن أخاف من الضوء و البريق ، كان هناك ألم ، و الكثير منه في كل مكان في داخلي ، قلبي يعذبني و ذاكرتي تُقطع روحي ، كانت هناك دموع اندفعت ،  و أنهار جفَّت ، كنتُ وحيدة ، أنا و الأحلام فقط ، هناك في النفق أحدنا يلوم الآخر – نُمزق بعضنا للأبد في لوحة مُظلمة ، رسمها فنان منحوس و نكرة .
ليس فيها أمنيات أو معجزات ، أين كُنا توقفنا و لم نتحرك ، كان وداع قبل أن يكون لقاء .
في تلك اللوحة المجهولة لا يتحقق شيء ، بل ماتت بداخلها الأشياء ، كُنا جميعاً بشمسنا و أرضنا – حتى أنهارنا العذبة ، مجرد شخابيط – كُنا خيال . حُلم وهم – سِحر . لم أكن آليس يوماً – لست سلفادور دالي ، أنا و أنت كُنا سديم .
النهاية …..
 
ملحوظة :
– القصة مستوحاة من إحدى لوحات سلفادور دالي ، لوحات شهيرة تصور آليس في بلاد العجائب . في عام 1869 طُلب من الفنان سلفادور دالي أن يرسم مجموعة لنسخ محدودة من رواية آليس في بلاد العجائب ، و مؤلف قصة الأطفال تحت الاسم المستعار هو عالم الرياضيات لويس كارول .

تاريخ النشر : 2021-03-03

guest
47 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى