أدب الرعب والعام

سر لعنة النسيان

بقلم : أمارا محمد واحي – المغرب
للتواصل : [email protected]

يا إلهي إنه عائد، الوحش يستيقظ مجددا
يا إلهي إنه عائد، الوحش يستيقظ مجددا

الفصل الأول: لعنة النسيان:
استيقظت ناسيا كل شيء! لا أتذكر من أنا! ولا أين أنا! مجرد جسد ملقى بطريقة اعتباطية على السرير. أجاهد نفسي للوصول إلى شيء في ذاكرتي العميقة. ألتفت في جميع اتجاهات الغرفة علني أجد جوابا يعيد إلي ذاكرتي، إلا أني لم أستطع الوصول إلى أي شيء. هنا جسم أنثوي شهي يرقد بجانبي. قمت ببطء لكي لا أقلق راحة الجميلة التي لا أعلم كيف ومنذ متى تشاركني فراشي. درت في الغرفة أحاول تذكر نفسي من خلال تفاصيلها الصغيرة، هنا صور لي وحدي في إطارات منمقة، وهناك صورتان تجمعاني بتلك المرأة الشهية، وفي الطرف الأقصى محفظة. هرولت إليها لأفتحها بلهفة، فربما ساعدتني على استرجاع ذاكرتي التي لا أعلم كيف فقدتها هذا الصباح.
أنا سامي وعمري ثمانية وعشرون سنة، وبقية المعلومات عن عنواني وعملي. معلومات غير مهمة لمن فقد هويته ويريد تذكرها. من الأجدر أن يصنعوا بطاقات هوية تتضمن شخصياتنا الحقيقية وأفكارنا وعاداتنا الصباحية المملة، فلربما احتاج أحدهم إلى تذكر من هو من حين لآخر.
لم يعد لي من حل سوى إيقاظ تلك الممشوقة القوام وسؤالها عمن أنا. لذا تقدمت منها ببطء شديد، وكأنني صياد يود الإنقضاض على فريسته، أو كأنها قنبلة ربما انفجرت في وجهي لو أقلقت راحتها، ثم وضعت يدي على كتفها العاري الشهي، وناديتها بهمس:
– بست..! أنت..! بست..! استيقظي..!

وبعد عدة هزات خفيفة، ونداءات مهموسة، فتحت عينيها ضدا عن العمش الذي يحاول إغلاقهما اتقاء ضوء الصباح المتسرب من النافذة. كلمتني بصوت ناعس:
– سامي هل استيقظت؟
– نعم، وبخجل باد في صوتي المبحوح أخبرتها: – لا أدري من أنا! هلا ذكرتني بنفسي!
– أجل أعلم أنك تنسى هويتك وذكرياتك كل صباح، تذكر فقط “الحادثة”.
الحادثة! ما إن سمعت هذه الكلمة حتى أحسست بشعاع تذكر يخترق جمجمتي ودماغي، ثم بدأت ذاكرتي تعود، كأنها سد فارغ بدأ يملأ بنهر جارف.

حسنا لنبدأ من جديد، سأقدم نفسي بشكل لائق هذه المرة بعدما استعدت هويتي. أنا سامي أبلغ من العمر 28 سنة محاسب بسيط في شركة كبيرة، كما سبق وأخبرتكم أعاني من فقدان للذاكرة كل صباح، لا أتذكر أي شيء من حياتي السابقة إلا إذا سمعت كلمة “الحادثة” أو قرأتها في مفكرة أحملها معي دائما! تزوجت حسناء منذ أشهر، رغم كرهي مشاركة حياتي مع أي شخص. حياتي كلها رتيبة في النهار عمل وفي الليل أكل ونوم، لذلك تشتكي زوجتي دائما من هذا الوضع وتلعنه في علانيتها قبل سرها، تريد أن تعيش حياة زوجية مليئة بالحب، أن نتعرف على أصدقاء جدد، وأن نزور عائلتها. لكني دائما أجد الأمر غريبا! أن ألتقي بالناس، وأتعرف عليهم، وأستمع لتفاهات حياتهم الشخصية، أمر مبتذل. لهذا دائما ما أعتذر من زوجتي لأني لست منافقا لأخرج.
أما في العمل فكل زملائي يبغضونني ويعتبرونني متكبرا، لأني لا أضحك على نكتهم البليدة، ولا أتملق المدراء. لذلك بقيت مجرد محاسب رغم شهاداتي المرموقة وخبرتي الواسعة.

اليوم مختلف جدا، فبعد إلحاح من زوجتي، وليلة حمراء لا تنسى لكي لا أرفض لها طلبا، قررت أن نخرج لنتغذى معا في كورنيش البحر. إلا أني أخدت منها وعدا ألا ترغمني على زيارة أهلها. كعادتها أرادت أن تجادل لكني غادرت الغرفة لكي لا أترك لها أي فرصة للحديث. إن وحدانيتي التي عشتها منذ أن فقدت أبواي في تلك الحادثة اللعينة، لن يقتحمها أي كان بسهولة. لهذا لا أصدقاء لي ولا أقارب، هكذا عشت منذ كان عمري أحد عشرة سنة، ولن يتغير أي شيء الآن.

ربما تتساءلون لماذا تزوجت إن كنت أحب الوحدانية؟ هذا ما لم أفهمه أنا أيضا! ربما هي حاجة ملحة لوجود الأنثى في حياتي، أو توق لحنان الأم الذي فقدته في صغري ووجدته في حسناء. لا أدري؟

صباح آخر، لماذا نسيت كل شيء مرة أخرى؟ من أنا؟
– سامي حبيبي هيا استيقظ لقد تأخرت اليوم!
أنا سامي، لكن من هذه المرأة؟ ما تفعل هنا؟ أين أنا الآن؟
كنت شاردا
في جمال الحسناء التي تسير أمامي سألتها بارتياب، منتظرا تفسيرا شافيا لما يحدث أمامي: – من أنت؟
– أف، نسيت مرة أخرى، متى ستنتهي هذه اللعنة؟! تذكر “الحادثة”!

هذه هي الصدمة المأساوية التي قلبت حياتي رأسا على عقب، ولازالت ستقلبها يوميا! تخيلوا معي لو أنكم تستيقظون بدون ذاكرة، ناسون لكل شيء، حتى هويتكم وحياتكم السابقة لا تتذكرونها أبدا. هكذا دائما كل صباح يتكرر نفس النسيان، ثم وبكلمة واحدة تجدون أنفسكم في دوامة لا منتهية من استعادة الذات لحظة تذكر حادثة مؤلمة.
بعد كل ذكر لكلمة الحادثة، تتدفق الذكريات إلى عقلي كأنه قرص صلب كان فارغا والآن بدأ يمتلئ. هو عذاب نفسي أعيشه كل صباح لسبعة عشر عاما وسأعيشه لبقية حياتي ما لم أضع لها حدا ذات يوم!

فلاش باك: “الحياة ليست سوى دوامة من الألم”
كان الأب يقود السيارة بسرعة مهولة ويصرخ متهما امه بتدليعه إلى الحد الذي أفسدت فيه تربيته، وجعلته رقيقا كالنساء!
– سأعيد تربيتك أيها الفاشل! سأعلمك كيف تقلق راحتي ونومي لأنك اشتقت لأمك الفاشلة التي أنجبت فاشلا مثلها!

يرتجف بقوة في مكانه، محاولا كبح دموعه المنهمرة كشلالات أوزود. كان يعلم أنه سبيت معلقا هذه الليلة، حتى من أمه لم تستطع الدفاع عنه. وكيف ستقف ضد وحش يحرق الأخضر واليابس حين يغضب. دائما يلعن خنوعها وسكوتها على ظلم والده، ويلعن حتى والده لما يقوم به بأفعال مشينة في حق عائلته. في لحظة غفلة من والده ينبعث حيوان من العدم أمام السيارة المنطلقة كرصاصة، ليضغط بكل قوة على الفرامل ويدير المقود إلى الجانب الآخر!

الوقت الحاضر:
– سامي استيقظ! لقد تأخرت اليوم عن العمل.
انتشلني صوت حسناء من دوامة التذكر، لأقوم متثاقلا إلى المغسلة. وحين مررت بجانبها استوقفتني لتطبع قبلة امتنان على خدي، وتشكرني على اللحظات الجميلة التي قضيناها معا البارحة. في الكثير من الأحيان أشعر بحبها لي، وفي أحيان أخرى أشعر بشفقتها نحوي. أحسست بغضب ومقت يغليان في عروقي، وأنا أشاهد صورتي الشاحبة في المرآة، ليخبرني أنا الآخر: – إنها تشفق عليك!
– توقف! إنها تحبني!
– ومن سيحب شخصا مثلك؟ من سيحب وحشا؟ أجاب أنا الآخر،
– أرجوك لا ترغمني على أذيتها!
– لكنك تعلم أنني جعت واشتقت إلى اللحم الشهي، وجسمها شهي جدا.
– لا لن أطعمك! اذهب في حال سبيلك! لماذا دائما تؤذيني، وتؤذي أقرب الناس إلي؟

كنت واقعا على الأرض حين دخلت زوجتي فزعة تتساءل لم أصرخ وحدي؟ كفكفت دمعي وأخبرتها:
-لا شيء عزيزتي، لا تقلقي، إنه مجرد كابوس مزعج لازال يطاردني حتى في يقظتي!
-سامي أخبرني ما بك؟ لم كنت تصرخ وتبكي؟
-أخبرتك لا شيء! كانت صرختي في حسناء كفيلة بإنهاء أي جدال من طرفها. حملقت بي مستغربة ثم غادرت المكان وهي تبكي. إنها أول مرة أرفع صوتي عليها.

حين خرجت من دورة المياه حاولت إصلاح غلطتي بعبارات اعتذار وبعض القبل، لكن الساعة رنت معلنة وقت مغادرتي، لذلك خرجت إلى العمل قبل أن ترضى عني حبيبتي. لكني أعلم كيف أعيد لها بسمتها، فسأقتني بعض روايات الرعب التي تعشقها لنقرأها ليلا. رغم ذلك فلن تصالحني بتلك السهولة. إن تحرير فلسطين أو غزو الصين لأهون من إرضاء امرأة غاضبة.

فلاش باك: “أحيانا يتعرض الطيبون للضربة الأقوى”
راحت السيارة تنقلب بقوة إلى أن اصطدمت بشجرة، لفظ الأب أنفاسه في الحين بينما ظلت الأم تتنفس لكي تتأكد من سلامة ابنها، رغم العود المنغرس قرب قلبها. كانت آخر كلمة لفظتها قبل أن تغادر هذا العالم البئيس “أحبك”. توقفت أخيرا عن الحركة، مخلفة وراءها ابنا لم يعرف من الحياة أي شيء، تركت وراءها فلدة كبدها وهو يصرخ صامتا: “أيها الموت، أكان عليك أن تختارني أنا لتسلب مني أعز إنسانة وأقربها إلى قلبي؟ لماذا أخذت أمي بالذات؟ لماذا أخذت حتى أبي؟ أم أنك تختار ذوي القلوب الصافية الذين يجعلون الحياة محتملة حينما نكون بجانبهم؟ لم لمْ تأخذني حتى أنا لأرتاح قرب أبواي حيث هما الآن؟ أم أن دوري لم يحن بعد؟ سأجعلك تدفع الثمن غاليا أيها الموت أعدك!

الوقت الحاضر:
أثارت هذه الذكريات حزني، لتسقط دمعتان من عينيي لم أستطع إخفاءهما عن حسناء التي أصرت على معرفة السبب لولا صدي لها بحنان زائد هذا اليوم. وحين عجزت عن إنطاقي الحقيقة، قالت: – “هيا أسرع يجب أن نذهب إلى الطبيبة لقد تأخرنا”. نسيت أن أخبركم أن زوجتي حامل في شهرها الخامس، ولازلت لم أحدد مشاعري تجاه هذا الخبر الذي لم أكن أتوقعه في هذه الفترة.

دلفت إلى الحمام وآخر لحظات موت أمي لازالت عالقة في ذاكرتي الحاضرة تزاحم تدفق الذكريات في كل صباح. أن تفقد ذاكرتك كل صباح، ولا تتذكر أي شيء من حياتك السابقة إلا حين ترى موت أقرب الناس إليك كشريط فيديو يتكرر دائما، لهو العذاب الأليم.

-أعلم أنك تحاول صدي بكل قوة، لكنك لن تنجح!
همس الشخص الآخر في أذني، بعد أن تجاهلتهم كثيرا في الفترة الأخيرة. أعلم أنه سيختفي حين أهمله كليا، هكذا كان يتعامل معي قبل أن أسيطر عليه. فبعد كل وجبة بشرية أطعمها له، يختفي ليتركني أتجرع عذاب الضمير وحيدا.
-ما بالك لا ترد علي؟ هل نسيت كل فضائلي عليك؟ هل نسيت كل مساعدة قدمتها لك؟ ما رأيك لو أطعمتني بعضا من لحم زوجتك؟ إنها شهية!
كلمته بهدوء الواثق من نفسه هذه المرة:
-أسمع يا صديقي! أنا في غنى عنك الآن، لم أعد محتاجا لمساعدتك، بل أنت من يحتاجني، ولن أمنحك ما تريد! أن تهجرني وتتركني أعيش حياتي هو خير ما ستقوم به حاليا!
ضحك بسخرية وأجابني:
-أتعتقد أن الأمر بسيط لهذه الدرجة؟ فما دمت حيا سأظل معك، ولن تنتهي علاقتنا إلا بفنائك يا صديقي!
أجبته بكل برود:
-أنت ميت في نظري، وغادرت الحمام قبل أن يضيف أي كلمة أخرى.

مرت كشوفات حمل زوجتي بخير، وكان المولود المرتقب طفلة تنعم بصحة جيدة، مثلما كنت أتمنى. أما فرحة زوجتي فلن أستطيع وصفها مهما حاولت. ظلت طوال طريق العودة تصف لون غرفتها، وشكل سريرها وكثرة ألبستها! حتى أنها اختارت لها اسما جميلا “ليليان”. كنت سعيدا لسعادتها، ومغتبطا لفرحتها، حتى تجرأت وقبلتها قبلة طويلة وسط الشارع، لتخفي وجهها في صدري خجلا.
– أحبك! -ياه، أتعلم أنك أول مرة تقولها لي؟
– أحبك! -توقف! أنت تبعثرني.
– أحبك! -أتذكر هذا المكان؟

سرحت بذكرياتي أسترجع أول لقاء لنا، حين اشتهاها أنا الآخر الشرير. أحسست أنها لا تستحق تلك النهاية البشعة التي تنتظر كل من اشتهاها، هنا صممت على إنقاذها منه وجعلها شريكة حياتي. بسبب حسناء استطعت أن أكبح جماحه.

فلاش باك: “الجحيم فارغ وكل الشياطين هنا”
استيقظت هدى لتجد نفسها في غرفة مجهولة، محاطة بسواد وصمت رهيبين. حاولت فرك عينيها لتتمكن من الرؤية قليلا، لكنها وجدت يديها مقيدتين. فقدت الإحساس بكل شيء، حتى ذاكرتها تأبى مساعدتها على تذكر من هي أو ماذا تفعل مقيدة في هذا المكان! ومما زاد من رعبها أنها لا تتذكر اسمها، هنا بدأ الخوف يتسرب إلى قلبها، والهلع يمزق حيرتها. ربما هي ميتة! لكنها لم تكن تشكو من أي مرض حسبما تتذكر!! أصغت السمع جيدا لتلتقط أخيرا وقع خطوات يقترب منها.

– مرحبا هدى، أعتقد أنك لا تذكرين أي شيء؟
هدى! هذا الإسم ليس غريبا، وكذلك صوت الشخص الذي شاركها الغرفة المظلة. على الأقل تيقنت أنها ليست ميتة. هدأ روعها، وانتظمت أنفاسها، كي تستعد لمواجهة هذا المختطف.

– هل يمكنك أن تنير الغرفة؟ على الأقل كن شجاعا وواجهني بوجه مكشوف!
أنار المصباح فوق رأسها مباشرة مما أعاق الرؤية الواضحة لدى هدى، لكن رغم ذلك استطاعت أن تعرف الشخص الواقف بجانبها. وبهلع أكبر صرخت:
– أيمن؟!
– أرى أن ذاكرتك بدأت تعود تدريجيا!

لم تستوعب هدى أي شيء، ما علاقة أيمن بها؟ ولماذا خطفها؟ ويحتجزها في هذا المكان المجهول؟ بدأ أيمن يشرح لها سبب وجودها في هذا المكان، ورغم التشويش الذي تعاني منه في عقلها حاولت استيعاب أغلب كلامه لكي تستطيع الخروج بأقل الأضرار. فهمت أنه حقنها بمخدر يكبح عمل الذاكرة لبضع ساعات، وقد بدأ مفعوله منذ ساعة، كما أنها كانت على علاقة بأيمن، انتهت بانفصالهما لأنها لا تحب التقيد بعلاقة طويلة الأمد. بدأت هدى تستوعب الأمر، اختطفها أيمن لينتقم منها لأنها تركته. أحست بألم يتسلل إلى صدرها، ربما اغتصبها وهي غائبة عن الوعي! إلا أن التفاتة منها إلى مكان الألم جعلها تصرخ رعبا! لا وجود لثدييها، ومكانهما مكوي بالنار ليمنع الدم من السيلان.

– أيمن ماذا فعلت بي؟ سألته والدموع تغرق عينيها
– أتعلمين، ثدياك أشهى ما في جسمك، لطالما أردت تذوقهما، لكنك تقدسين صدرك كثيرا، مما جعلك تحرمينني حتى من النوم عليه حين أحتاج السكون إليك! لذلك أردت أن أجعلهما طعامي، انظري!

جر أيمن طاولة كانت محجوبة في بقعة سوداء من الغرفة، وفي طبق أبيض ظهر ثديا هدى مطهوين بدون عناية. جلس أيمن وأخذ يأكل بتلذذ وهدى تراقبه بتقزز جلي، ولولا الألم الذي بدأ يعتصر جسمها لتقيأت معدتها.

– إن ثديي أمي هما المقدسان، فهي من منحتني الحياة مرتين، لذا لا تجعلي ثدييك مقدسين كأنهما في مرتبة المرأة التي جعلت مني ما أنا عليه الآن! حتى أن لحمها من منحني حياة أخرى بعدما ماتت في تلك الحادثة الملعونة! لا تستغربي لقد أكلت أمي لأعيش، لذلك لم يذهب موتها سدى!

قاطعت هدى كلامه مترجية إياه:
– أيمن توقف، أنا لم أخنك أبدا، لقد فهمت بعض الأحداث بشكل خاطئ!
– أما زلت تنكرين الأمر؟ لقد رأيتك بين ذراعيه، ناهيك عن صوركما الرومانسية التي تملأ هاتفيكما.
رمى أمامها هاتفها وهاتف الشخص الآخر، فتساءلت هدى كيف حصل على هاتفه؟

– لقد قتلته بكل بساطة! أجابها أيمن والغل يملأ عينيه، قتلته بكل برودة دم.
بدأت الذكريات تتسرب شيئا فشيئا إلى عقل هدى، وبعد أن هدأت قالت بكل برود:
– لقد قمت بخيانتك، إن ما تعرفه فقط جزء بسيط مما فعلته وأنا مستمتعة، أنت كنت نزوة في حياتي فلن أحب فاشلا مثلك، لذا افعل ما كنت عازما عليه، اقتلني وخلص نفسك من هذا العار!

كان أيمن هادئا أمامها، ينهي آخر لقيمات من ثديها الشهي، وبعد برهة أجابها:
– لا لن أقتلك، لكني سأجعلك تعيشين هكذا بدون صدر تقدسينه، ولن يحبك أي شخص آخر، ستعيشين وحيدة طيلة حياتك! الموت ليس هو أبشع نهاية، بل العيش منبوذا بدون حب!

قام أيمن بسكب سائل أخضر مكان الحروق في صدر هدى، لتحس بألم يمزق كل أوصال جسمها، كأنها طعنت بألف رمح مرة واحدة. قبل أن تفقد هدى وعيها من قوة الألم أخبرها أيمن أن تلك المادة تقتل النهايات العصبية في الجسم، لذلك لن تتمكن من زرع أي ثدي مرة أخرى!

الوقت الحاضر:
كانت حسناء تقوم بأعباء المنزل اليومية المملة، من كنس للغبار وكي للملابس، وتحضير لطعام الغذاء. وبين هذا العمل وذاك تشغل بعض موسيقى الروك أو الشعبي* أو حتى بعض مقاطع بيتهوفين أو الفصول الأربعة*، حسب رغبتها ونفسيتها، لأنها لا تحب أن تتقيد بلون موسيقي واحد وأوحد. رتبت حسناء الحمام ثم انتقلت إلى بيت النوم، وبعدها جاء دور الصالة، وأثناء ترتيبها لهذه الأخيرة وجدت ورقتين بين الأسرة، لتلتقطهما وتبدأ بقراءة ما كتب فيهما.

اليومية الخامسة، 15 ماي 2016:
لماذا قمتما بإنجابي في هذه الحياة البئيسة؟ لماذا متما وتركتماني وحيدا أقاسي شظف العيش؟ أنتنا الآن في الجنة تنعمان بنعيمها، وأنا هنا أموت ألف مرة في جحيم هذه الأرض ولعنة النسيان كل صباح! لو لم أتصل بأمي ذلك المساء، لو لم أخبرها أنهم يتنمرون علي، لما متما في تلك الحادثة اللعينة. لو لم أتصل لما كنت الآن مضطرا أن أعيش وهذا الوحش بداخلي. حتى أني لا أفرق بيننا، في بعض الأحيان أحس أنه يستهلكني، أتحول إليه ويبسط سيطرته على حياتي ووجودي. حتى أنني لا أتذكر ما الذي قمت به طوال اليم في الكثير من الأحيان، وغالبا أنسى من أنا لا أتذكر أي شيء من حياتي السابقة، لأظل اليوم كاملا هائما بين متاهات ذاكرتي، أحاول استعادة ذاتي دون جدوى.

كم لعنت نفسي، ولعنت معها أبي المتجبر الذي لم يترك لي أي فرصة لكي أخبره أنني كنت على وشك التعرض لعملية اغتصاب. فكل ما كان يهمه أني أيقظته ليلا وأقلقت راحته. هذا ما يفكر فيه أغلب الذكور، الأكل والجنس ثم النوم. كأن محور العيش في هذه الدنيا مبني على هذا الثلاثي فقط! الآن فقط يا أبي سأقول لك وجودك كعدمه، لم تقدم لي أي عون سوى أن لحمك ضمن لي الحياة وأنقذني من مصير الموت جوعا. أمي هي من يجب أن أشكر لأني أعلم أنها لم تخبرك عن سبب اتصالي، لأنها تعلم أنك متزمت وستصب جام غضبك علي، دون أن تأخذك أي شفقة ولا رحمة بمشاعري المنهارة. كنت ستعتبرني شاذا وتشبعني ضربا، لكي لا أكرر فعلتي. وربما بت ليلتها معلقا. لهذا لم تخبرك أمي العزيزة بما قاسيته في تلك الليلة ولن تخبرك أبدا. أبي لست آسفا على موتك أو على أكلي للحمك النيء الكريه الرائحة، أنت من يجب عليه أن يشعر بالأسف لأنك جعلتني وحشا دون أن تشعر! أبي أتمنى أن تكون في أحلك أماكن الجحيم المخصصة لأولئك الذين لا ينصتون لمشاكل أبنائهن، أولئك الذين لا يهتمون بأطفالهم، ولا يرغبون بمعرفة ما يعانون منه. أتمنى أن تتعفن قرب إبليس، فأنتما عندي سواء.

كانت حسناء مصدومة مما قرأته في تلك الورقة، فهي تعرف خط سامي جيدا، لكن لم تصدق ما كتبه! لا يمكن أن يتحدث عن الحادثة التي تذكره كل صباح بنفسه ويتركها مهملة هكذا! كانت حسناء ترتعش خوفا، إلا أنها تمالكت نفسها وأكملت قراءة الورقة الثانية التي صدمتها أكثر، وجعلتها تتصبب عرقا من الفزع الشديد.

اليومية العشرون: 23 فبراير 2019.
يجب أن أكتب بسرعة، ربما عاد الآخر الشرير واكتشف ما أقوم به سرا. لقد بدأ ينفلت مني، ويشتهي أكل أشخاص لم يقوموا بأذيتنا أبدا. إلا أنني مصمم على إيقافه حتى لو وضعت حدا لحياتي. فهذا البؤس، والنسيان والصراع الذي أعيشه في عقلي بين شخصين، ما عدت أحتمله. اليوم في الكورنيش شاهدنا فتاة جميلة وتائهة. بهرني جمالها الطبيعي وغمازاتها التي منحتها براءة طفولية منقطعة النظير. تقدمت منها عارضا مساعدتي، ثم بدأت سلسلة التعارف المملة. لكن الآخر بدأ يوسوس في أذني لكي نستدرجها إلى وكرنا ثم نأكلها معا. فهي بريئة ، جميلة، ومثيرة، أي أن لحمها سيكون شهيا جدا، خصوصا لحم أردافها الممتلئة المتناسقة.
من عادتي أني لا أستطيع مقاومة إغراءات الشرير ، لكن هذه المرة صممت على إنقاذ حسناء من الهلاك، والموت المروع الذي ينتظر كل ضحية يريدها ذلك الوحش الساكن بداخلي. كانت فاتنة تأسر بحركاتها الرزينة وصوتها الملائكي وأنوثتها الطاغية، أما حديثها فكان رزينا. كنت مخطئا في حكمي على الجنس اللطيف، لكن اليوم تغيرت نظرتي، وتوقفت أعيد ترتيب أفكاري حول الأنثى وأمحو ما كان خاطئا منها.
حسناء، أريد مصارحتك بحقيقتي، لكني لست شجاعا بما يكفي لكي أبوح لك بكل ما حدث في طفولتي البائسة، لست شجاعا إلى ذلك الحد الذي يجعلني أنظر في عينيك وأخبرك أنني وحش، وأنني أكلت أمي وأبي لكي أعيش، وأكلت لحم كل من أساء إلي ذات يوم. حتى أني فكرت في أكل لحمك، أو بتعبير آخر راودني الآخر الشرير عنك. عوضا عن مواجهتك ها أنا أكتب مذكرة، وكلي أمل أنك ستجدينها ذات يوم صدفة، لتكتشفي حقيقة زوجك، وتقرري بعدها إن كنت أستحق المساعدة، أو ستتركينني أصارع الشر الساكن بداخلي الذي يأبى الخضوع. إن ما يجول في خاطرك الآن صحيح، أنا لست إنسانا ولن أكون إنسانا، لكن الحب الذي عشته معك جعلني أتوق إلى استعادة إنسانيتي، فهلا ساعدتني!.
يا إلهي إنه عائد، الوحش يستيقظ مجددا. يجب أن أختم هذه المذكرة بسرعة قبل أن يكتشف الأمر. حبيبتي إن وجدت هذه المذكرة ذات يوم أتمنى أن تتعاملي معي كأنك لا تعلمين حقيقتي، فربما بسط سيطرته علي مرة أخرى ليؤذيك!

هنا توقفت الكتابة تاركة ألف سؤال يجول بذهن حسناء، أعادت قراءة المذكرتين عدة مرات، لعلها تجد شيئا جديدا، لكنها لم تكتشف أكثر مما وجدته في الورقتين. لذلك بدأت بتحليل الأحداث؛ لتخرج من ورطتها مع قاتل صامت، بأقل الأضرار!

لا شيء يجعل قلبي يسقط فزعا أكثر من صراخ زوجتي الحامل. لملمت شتاتي وهرعت مسرعا إليها، لأجدها ممسكة بورقتين في يدها، وما إن رأيتهما حتى تيقنت أنها اكتشفت سري. أخفت الورقتين بسرعة وقالت:
– سامي أحسست بها تتحرك، أشارت إلى بطنها المنتفخ كبالون عيد الميلاد.
– حبيبتي هل.. هل.. حان الوقت؟
نسيت كل ما يدور حولي لحظتها، لأجري دون وعي أبحث عن هاتفي لأتصل بالإسعاف، وقبل أن أركب الرقم سمعت ضحكة حنونة من ورائي، لألتفت مستفسرا عما جعل زوجتي الحبيبة تضحك.
– أنت رائع أيها الزوج المثالي، وبابتسامتها المعهودة أكملت، لا تخف إنها مجرد حركة كانت قوية أكثر من سابقاتها، وبفرح طفولي أضافت: سامي ابنتنا تخبرنا أنها هنا.

أجلست حسناء بجانبي أتفقد بطنها، أداعبها وأمطر سرتها البارزة بقبل حنونة، وأنا أحادث ليليان، وأمدح جمال أمها ورقتها، أخبرها أنها ستكون في مثل حنان ورقة أمها. كانت علامات الدهشة على وجه زوجتي كأنها تراني لأول مرة في حياتها، هنا تذكرت الورقتين اللتين وجدتهما، لكني لم أشأ أن أستفسر عن الأمر. بل تركت لها المجال مفتوحا لكي تبادرني بالحديث عما قرأت، إلا أنها لم تفعل!

تاريخ النشر : 2021-03-10

guest
10 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى