أدب الرعب والعام

جوائح عام 2020

بقلم : منى شكري العبود – سوريا

وصلت إلى جنان الغرب كما أسموها من لفظهم الجحيم أمثالي
وصلت إلى جنان الغرب كما أسموها من لفظهم الجحيم أمثالي

 

لم تحمل لنا سنة 2020 م في جعبتها سوى المزيد من الألم والموت ، حرب جائرة سلطت علينا الموت ليحصدنا في كل مكان ، جائحة كورونا تلوكنا بأضراسها بشراسة لتبتلع واحداً تلو الآخر ، تطبيق قانون قيصر ليشل أمعاء الفقراء أكثر ، و يبرحهم من علو أحلامهم الشاهقة بسلام يرجونه أرضاً يتضورون موتاً ، لتصبح لقمة العيش حلماً ، و الخاتمة حريق يلتهم خيام المشردين منا ، تتبعهم ألسنة الموت  تتغذى بالتهام كل ما حطت عليه لتشب في قلوبهم حسرة الأمان ، ليفترشوا الأرض و يلتحفوا السماء ، لم تنتهي الجوائح فهناك الكثير ممن زرعت سنة 2020 م بصمتها في جوف قلوبهم لتنبت ألماً و حزناً ما بقوا أحياء.

لم يتبقى من عائلتي المزدحمة سواي و أمي و أبي ، نحتا بأظافرهم الصخر لأهرب نحو درب السلام ، فكانت الهجرة إلى الدول الأوربية هي الحل ! رفضت الأمر بحِدة ، فأنني شخص لا يحتمل فكرة الفراق ، صرخت معللاً :

– ناضلت لعشر سنوات ، و لا زلت على قيد الحياة رغم أنف الحرب.

صرخت أمي بحنق شديد باكية :

– أرجوك يا ولدي لم يتبقى من العمر صبراً على مصاب جديد ، فلترحل حيث السلام.

– لا سلام في دنياي أن لم يكن وجهك الصبوح يشرق في حياتي ، أتدفعيني نحو العيش في الظلمة ، أتدفعيني نحو تخوم العمى على ألا ترى عيناي وجهك.

– لا سبيل للحياة في هذا الوطن ، حالنا تزداد سوءاً يا ولدي .

اجتهد في التنقيب عن المبررات لأجد في خروم الحقيقة ما يقنعها فلا أجد ، جبت خطوات الهجرة مراراً ، لم يغريني نعيم تحدث عنه أحدهم و لا طبيعة غناء زف في أنحائها الكثير من الصور ليزين بها بروفايل مواقع تواصله الاجتماعي ، لم تغريني الشقراوات و لا جنة على الأرض وصفها لي صديقي أحمد ، جنتي و نعيمي تحت قدمي والداي.

 في تلك الليلة الأخيرة أسرفت أمي في دموعها ترجوني أن أهرول نحو سبيل النجاة ، ترجوا لي حياة أفضل ، لم يكن أبي بصحة جيدة ، خشيت فقدناه حد الموت ، رفضت السفر في ذلك اليوم  و هممت بتمزيق حجز الطائرة التي ستنقلني إلى تخوم الموت ، معللاً علها تقلع عن إصرارها:

– ربما سأنجو ، و ربما سيكن الموت حليفي ، ألا تخشين علي من الأذى ؟.

كلماتي كانت بمثابة خناجر أصابتها في مصابها ، بكت فقدان أخوتي الأربعة بقذيفة نهشت أجسادهم ليتطايروا أشلاء عدة ، أجهشت ترجوني أن أهرب من دائرة الموت ، بكيت فكرة فراقها ، رجوتها :

– أرجوكِ يا أمي ، لا أستطيع العيش دون وجودكِ بجانبي ، سألتكِ بالله أن تتنحي عن إصرارك.

– سألتك برب السماء والأرض أن ترحل ، كن بخير لأجلي يا بني.

رحلت مودعاً أمي وأبي ، بكيت فراقهما حد المرض ، كانت رحلة طويلة و شاقة ، كان الموت يرافقنا ، زمجر غاضباً يتلقفنا من ثغر البحر ، كانت دعوات أمي كفيلة بأن أنجو ، بحثت عن من يملك هاتف لأطمئن عن حال والدي ، دفعت ثمن تلك المكالمة ما تبقى معي من مال يقلني نحو النجاة ، لتجهش أمي ببكاء حار:

– لقد أهدته سنة 2020 م للموت ، ليكن قربان منها ، أرجو الله أن يكون الأخير من عائلتنا.

ثقب الخبر ذاكرتي بفجوة لا تُردم ، فقد كان زاخماً بالألم ، صرخت مستفسراً :

– كيف حدث ذلك ؟.

– جائحة كورونا كانت حليف الموت الذي انقض عليه ببراثنه نازعاً روحه بغصة قتلت الهواء في صدره.

– سألت رب السماء أن أراكِ بصحة جيدة.

– لنا الله يا ولدي.

أقفلت الهاتف مودعاً إياي بدموع حارة أحرقت السعادة في جوفي ، أكملنا طريقنا في غابات موحشة ، ترصدنا القدر السيء ، كاد أن يوقع بنا في مصيدة الموت ، كانت حالتي تزداد سوءاً ، رموني وحيداً أنازع عرقلة دربي ، لا نقود و لا ماء لدي و لا طعام ، ارتجفت ألماً من وحدة رعناء ، كنت أسير نحو درب النجاة ذراعاً بينما يبعد عني باعاً ، تمكن مني التعب ، استسلمت متمنياً موتاً رحيماً ، تبرأت مني أطرافي ، شكيت وهني إلى الله ، رجوته أن يكون رحيماً بفؤاد والدتي ، رجوته أن أنجو لأجلها ، استنزف الإرهاق ما تبقى من طاقتي ، استسلمت لليأس !

ارتميت متمنياً أن تتلقفني الأرض في رحمها ، لكن سرعان ما لفظتني رحمة السماء بشاب يدعى رائد ، كان بمثابة منقذ لي ، استقطبتُ ما تمزق من همتي ، شكرت الله مراراً لاستجابته دعائي ، وصلت إلى جنان الغرب كما أسموها من لفظهم الجحيم أمثالي ، في ذات اللحظة التي انصرمت سنة الجوائح (2020) بثوبها الدجوجي ، زففت خبر النجاة لأمي بينما مفرقعات استقبال سنة (2021) الصاخبة تضج أنحاء الأرض و تزين سمائها بألوان الفرح ، ضحكت و منذ عقد لم أسمع ضحكة أمي.

توالت الأيام القاحلة ، تزوجت و أنجبت طفلاً ، و ها هو نائم في أحضاني ، بينما زوجتي منهكة بالتحضير لاستقبال أمي بسعادة لم نعهدها.

النهاية …..

تاريخ النشر : 2021-03-19

guest
18 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى