أدب الرعب والعام

حارس بوابات إبليس

بقلم : ميار الخليل – مصر
للتواصل : [email protected]

وجدت طريقة لكسر اللعنة و هي أيراث الكتاب لأحدهم و جعله يوقع علي العهد بكامل إرادته
وجدت طريقة لكسر اللعنة و هي أيراث الكتاب لأحدهم و جعله يوقع علي العهد بكامل إرادته

أن كل حقيقة مجهولة مخيفة كقصر به مائة غرفة ، لك تسعة وتسعون و لهم غرفة ، و لكنك لا تذق طعم الراحة حتى تعلم ما يوجد هناك ، تهزمك فطرتك الفضولية و تذهب لتدق الباب و أنت بداخلك ترجو أن لا يكون هناك أحد بالداخل و تكن مثل تفاحة أدم محرمة و لكنها ليست مسمومة ، ترى مقبض الباب يتحرك فيثب قلبك بين أضلعك وتتسع حدقتا عينيك فزعاً و تدرك مدى غباء ما قمت به مثلما فعلت أنا.

محمد موسى ، هو أسمي ، طالب بكلية طب جامعة الإسكندرية ، أبي توفى و تركنا أنا و أمي ، دائماً ما كنت شغوف بقصص الجان و كتب السحر حتى أنه لا يوجد كتاب لم أقرأه بعد شمس المعارف ، اللؤلؤ و المرجان في تسخير ملوك الجان ، درست شخصيات السحرة من اليستر كراولي إلى السيد الحسيني ، كنت أسافر لأكثر من محافظة في مصر متبعاً شغفي للمعرفة ، أسمع حكايات ترويها العجائز لأحفادها عن جنية تخرج من الماء ليلاً تدق الأبواب و من يفتح لها يرى الهول بعينيه ، عن بيوت تُركت فسكنتها الشياطين ، و فتيات ممسوسة بجان عاشق.

كنت أكتب دائماً ما اسمعه و أصور ما أراه ، و لكن لم تكن لدي الشجاعة الكافية لدق الباب.
اليوم اتفقت مع روحاني ، لن ألقبه بشيخ لأنه لا يعالج بالقرآن ، و هذا كان شرطي أن أحضر جلسة تملؤها الطلاسم ، فالمعالجين بالقرآن تملئ فيديوهاتهم المواقع ، كنت أقنع نفسي حينها أنه لن يقع علي ذنب فأنا مجرد مشاهد ، سأحضر معه جلسه علاج لفتى في الرابعة عشر يظن أنه مستحوذ عليه من قبل شيطان يهودي ، كان المكان قريب جداً من شارع النبي دانيال ، و هو أشهر مكان لبيع الكتب في الإسكندرية ، فقررت أن أتجول به حتى يحين موعد لقائي مع هذا الروحاني.

مرت علي أكثر من نصف ساعة وأنا أتجول لعلي أرى كتاباً لم أقراءه بعد ، مللت من كتب السحر التي لا تمت للسحر بصلة و كتب تاريخ زورها أصحاب السلطة و روايات تملؤها الإباحية والإلحاد مع غياب غير مبرر للكتب السياسية.

– تعالى يا بني ، أنا لدي ما تريده.

نظرت لمصدر الصوت ، كان صاحب الكشك رجلاً كبيراً في السن و كأنه تخطى التسعين من عمره ، ظهره محني ، لم يحلق شعره و ذقنه منذ سنين ، له عين بيضاء تماماً ، و رائحته كريهة و كأن الماء لم يمس جسده منذ سنوات.
– و كيف لك أن تعرف ماذا أريد ؟.
قلتها باستغراب ، فظهر شبح ابتسامه على وجهه و هو يجيب :
– عمك لبيب يعرف كل شيء ، ما تريده موجود في الداخل.

قالها وهو يشير بيده على رف أعلى مكتبه تتبعثر الكتب بها بغير نظام ، أخذني الفضول لمجاراة هذيان ذلك العجوز الخرف و دخلت لأجده  كتاب قديم مكتوب عليه بخط اليد ” حارس بوابات أبليس” كان للكتاب ملمس غريب كأنه  جلد بشرى ، أنا طالب في كليه الطب و أعلم جيداً الفرق بين الجلد البشري و جلد الحيوانات ، بدا الخوف يدب في نفسي ، و لكنني تمالكت أعصابي ، ها هي مغامرتي التي كنت انتظرها تأتي إلي على طبق من ذهب.

أدرت نفسي لأشكره و أساله عن الثمن و لكن لم يكن هناك أحد ، أسرعت خارجاً من المحل أنظر يميناً ويساراً باحثاً عنه ، و لكنه اختفى و كأنه لم يُوجد أصلاً.
و هنا أتى رجل من خلفي و قال :

– هل تبحث عن شيء معين ؟.
سألته وعيناي مشتتة في كل أتجاه تبحث عن الرجل.
– أبحث عن رجل عجوز يُسمى لبيب ، كان يقف هنا منذ بضعه دقائق.
أجاب وهو ينظر إلي باستغراب ممزوج بشك.
– رجل عجوز؟ لا أحد يقف غيري هنا ، لقد ذهبت لأشتري لنفسي كوب من الشاي ، ومن أين أتيت بذلك الكتاب ؟.

– العجوز هو من أعطاني إياه.
– عجوز مره أخرى ، لقد قلت لك لا أحد يقف هنا غيري ، هل تهذي أم أنك لص ؟.
صوته العالي أجتذب البائعين و المارة من حولنا ، و بدأت الناس تتدخل لتهدئة الموقف.
– يا بني ذلك الدكان يخص عم حمدي من سنوات و قد رأيناك فعلاً تتحدث و لكن مع نفسك ، لم يكن هناك رجل عجوز.
و رد رجل آخر :

– يا أستاذ ، أنت تأتي لهذا الشارع كثيراً وتسأل عن كتب سحر وتحضير ، لذا اعتقدنا أنك مخاوي أو شيء مثل ذلك ، و الحقيقة لم يرد أحد الاحتكاك بك.
يبدو أن حديثهم عن كوني مخاوي و ممسوس جعل البائع يريد أن يتخلص مني بسرعة حتى لا أجلب الحظ السيء لمكان لقمة عيشه ، فزفر بنفاذ صبر

– ذلك الكتاب لم يكن أبداً عندي لذلك يمكنك أن تأخذه و ترحل.
نظرت له و مشاعر الخوف تخالجني لأول مرة في حياتي ، هنا وقف بجانبي رجل في أواخر عقده الخامس تبدو على ملامحه الطيبة و وضع يده على كتفي و قال :
– هل قلت رجلاً عجوز يُسمى لبيب ؟ تعالي معي.

مشيت بجانبه كالتائه عشرات الأفكار تدق أبواب عقلي و تقودوني للجنون ، منطقياً لا يمكن أن يختفي رجلاً بذلك العمر و تلك القدرة الجسدية التي لا تؤهله أن يصل إلى منتصف الشارع وحده في أقل من دقيقتين ، إلا اذا كان ليس بشرياً.

كانت الشمس قد غابت على استحياء تاركة خيوط الظلام تتسلل من ورائه ا، الضوضاء في محطة مصر لا تصمت ليلاً ولا نهاراً ، صوت ألترام وهو يحاول خلق مساحته بين السيارات يحجب أصوات البائعين مجتذبين النساء لشراء سلعهم الرخيصة، و في الناحية المقابلة ستجد المقاهي تتراص بجانب بعضها يخرج منها دخان كثيف يغلب عليه رائحة المعسل ممزوجة بالنيكوتين و صوت الزهر يعلن أن هناك سيء حظ سيتكفل بالمشاريب جميعها.

– لقد كنت أتجول حول الغرفة المئة ولكنني لم أطرق أبداً الباب ، لقد كانت مجرد لعبة فضول ، ماذا فعلت بنفسي؟.

تحدث عقلي بتلك الكلمة و دون قصد نطق لساني بها ، كنا قد وصلنا إلى أحد المقاهي الشعبية المتناثرة في ميدان محطة مصر ، صفق الرجل بيديه و لم ينتظر أن يأتي ” القهوجي” فنادي بصوت مرتفع :

– أثنان من شاي النعناع هنا يا حماده.
هنا سمعني وأنا أتمتم بتلك الكلمات ، فنظر لي بشفقة و قال :
– أهدأ يا بني لعله خير ، و أحكي لي ما حدث معك؟.
– ما حدث معي لا يتخيله عقل يا عم …
– عمك رأفت الذي يدير موقف العربات ذلك بأكمله.
– تشرفنا يا عم رأفت… اقسم إنني رأيت رجل عجوز وتحدث معي.
ثم قصصت عليه الموقف بأكمله ، تبدلت ابتسامته  وكست ملامحه القلق و رد بنفور :
– أعوذ بالله ، سترك يا رب.

حضر القهوجي و وضع أكواب الشاي التي تفوح منها رائحه النعناع أمامنا و غادر سريعاً ، أكمل العم رأفت حديثه وهو يفرك رأسه بيديه متوتراً.
– أحرق ذلك الكتاب يا بني أو حتى تخلص منه بأي طريقه ، ذلك الكتاب هو لعنه ، أما عن هذا العجوز الذي رأيته فهو شيطان قادم من جهنم ، اسمه لبيب ، و قد تناقلت الأجيال حكايته و كان الكبار يخافون منها قبل الصغار.
رشف بضع رشفات من كوبه وهو يحاول أن يتذكر تفاصيل تلك القصة التي حكيت له وهو صغير وأكمل :

– لبيب أو الشيخ لبيب كما كانوا يلقبونه ، كان يعيش في الإسكندرية منذ حوالي مائة عام ، كان موظفاً متزوج ولديه ثلاثة فتيات يشهد لهم الجميع بالأخلاق وحسن السيرة ، ولكن ما فائدة إنجابك لعشر فتيات حتى فلا واحده منهن ستحمل أسمك ؟ و ذلك ما كان يشغل بال لبيب ليلاً ونهاراً ، انجاب الولد الذي سيحمل أسم العائلة حتى لا تنتهي ، حتى وسوس الناس في إذن زوجته عن أصحاب البركات  وشيوخ السحر ، و لم تترد هي في إلقاء نفسها في براثن الدجل مخافة أن يتزوج عليها من تنجب له الولد ،

حتى أتت الطامة الكبرى ، ففي يوم وضعها أحد السحرة في قبر و أغلق عليها لبضع ثواني ، و لكنها شعرت وكأنها سنوات و منذ ذلك الوقت أقسمت أن تبتعد عن ذلك الطريق حتى لو كانت العواقب أن يتزوج عليها ، ولكن لبيب لم تفارقه رغبته أبداً حتى أوقعه حظه الأسود في ساحر كان الناس يخافون من ذكر أسمه ، و ذهب الساحر إلى بيت لبيب لينظر إن كان هناك عملاً مخفياً ، و بعد وقت قليل من البحث اندهش لبيب و الساحر يصارحه بأنه لن ينجب أبداً الولد ، و لكنه سيكون من الأثرياء ، فالخدام يقولون أن هناك كنزاً تحت الأرض.

– و ماذا عن الطفل الذي أراده ؟.
 
– لقد كان لبيب طماعاً ينظر دائماً إلى نصف كوبه الفارغ و يريد أن يملئه بأي شيء يستطيع أن يقتنصه من الحياة ، مالاً أم ولد لا يهم ، المهم أن يكتمل كوبه ، دعني أكمل لك قصته .
 
 
كانت السماء سوداء رغم اكتمال القمر ،  و الليل يبعث بظلاله المخيفة ، و صفير الريح ينذر بلحظات طويلة مرعبة ، حضر الساحر و رجاله و بدأوا في الحفر ، و لبيب يقف في زاويه من زوايا الغرفة تتنازع بداخله الرغبات.

كانوا قد وصلوا بالفعل إلى باب ممتلئ بنقوش في منتصفها مرسوم رأس جدي له قرنان مرسومة في منتصف نجمه خماسية ، فقال أحد العاملين و هو يمسح العرق عن وجهه بكم قميصه :

– يا سيدنا ، أنها ليست مقبرة فرعونيه ، فتلك أول مرة أرى بها مقبرة عليها تلك النقوش و قريبة من السطح لتلك الدرجة ، و كأن صاحبها يتمنى أن نجدها.
و رد آخر وهو يبتلع ريقه خوفاً :

– أنا أشعر أن الرصد على تلك المقبرة سيكون شديداً ، فلما لا نأتي بشيخ أخر يساعدك حتى لا تنقلب الأمور.

لم ينصت الساحر لتحذيراتهم و شاور لهم أن يبتعدوا ،  فتراجعوا جميعاً إلى الوراء و تقدم هو واقفاً أعلى الحفرة و بدأ في عقد سبع فتل من الحرير على قرن ماعز أخرجه من جيب عباءته و رماه على باب السرداب ، و بدأ يتمتم بتلك الكلمات:

– بسم الله القديم و من أسمه عظيم ، كل شيء دون قوته ضعيف ، أركياش أركياش منقاد لعظمتك ذليل ، قدروش قدروش أنت أرسلت الملائكه على الشياطين ، أنت أهلكت المتمردين بعظيم قدرتك ، كوشاء كوشاء اله عظيم حي قيوم.

أنفتح باب السرداب ببطء و بدأ الساحر يحضر نفسه للنزول دون أن يظهر عليه أدنى خوف و كأنه معتاد على ذلك ، و قبل أن تطأ قدماه الباب خرج من الحفرة دخان أسود كثيف ليفقد كل من يقف في الحجرة وعيه في لحظات.

استيقظوا ليجدوا أن كل شيء رجع كما كان ، و قد رُدمت الحفرة دون أن تترك ورائها شقاً صغيراً ، أما الحائط فقد كُتب عليه بدماء تبدو متجلطة.
” لكم ما طلبتم و لنا ما نريد ، الضحية الأولى الليلة”.

حاول لبيب أن يستفسر عن سبب ما حدث ، هل من الطبيعي أن تُغلق تلك الحفرة و أن يُغمي عليهم جميعا ، هل هي طقوس فتح كل مقبرة أن تُكتب كلمات مرعبة كتلك على الحائط ؟  و وسط أسئلته المتكررة كانت عينان الساحر معلقة بكتاب ملقى بعيداً علي الأرض ، تقدم نحوه وسط همهمات الرجال المذعورة ،  و أزاح التراب من عليه ببطء و كأن تلك الثقة التي كانت لديه ذهبت أدراج الرياح ،

 بمجرد قراءته لعنوان ذلك الكتاب تراجع بفزع ليسقط على ظهره و يسرع مهرولاً للخارج و رجاله ورائه وهو يصرخ بأنهم ملعونون لفتحهم تلك المقبرة و أن تلك الصفحات بداخل الكتاب تحتوي على مذكرات أبليس كتبها هو بنفسه ليحكي ما حدث لبني البشر ، و لكن لكل معرفة ثمن ، و على ما يبدو أن ذلك الثمن مخيف إلي حد جعل ساحراً لا يشق له غبار يأخذ ذيله بين أسنانه و يجري مفزوعاً.

قاطع حديث عم رأفت شاباً في منتصف العشرينيات ، سحب كرسياً وجلس معنا على نفس الطاولة و هو يبتسم و يناول العم رأفت عشر ورقات من فئة الخمس جنيهات قائلاً أنه إيراد اليوم ، فيرد عليه” طريقك أخضر” و يقبلها ثم يضعها في جيبه ، هؤلاء الرجال أمثال العم رأفت هم لغز لنا ، فلا أحد يعلم ما هو عمله بالتحديد ، أنه يجلس على كرسيه الخشبي طوال النهار لتتساقط عليه أموال السائقين ، هل هو نوع من ” الأتاوه” و أن كان ، فلما يسمح السائقين لأحد بابتزازهم ؟ لذا استجمعت شجاعتي و سألته :

– ما هو عملك بالتحديد يا عم رأفت ؟.
ضيق عينيه ناظراً لي وكأنني أشكك في أن مصدر دخله حلال ، و قال :
– صلي على من سيشفع لنا ، و قل لي من ليس له كبير ؟.
أجبت بصوره تلقائية :
– يشتري له كبير.

– زادك الله نوراً ، ولكن لماذا يجب أن يكون هناك كبيراً لكل مجموعة ! لما لا يكون كل واحداً كبير نفسه؟.
– ستعم الفوضى بالتأكيد ، تخيل معي بلداً دون رئيس أو قوانين ؟.
عدل ياقة قميصه و خبط بيده على صدره قائلاً بفخر :

– لذلك أنا الكبير هنا ، لو لم أكن موجوداً لأكل السائقين بعضهم ، أنا هنا أرتب الأدوار و أحكم بين المتخاصمين ، أفترض يا بني أن هناك سائقاً لديه مشكلة مع الحكومة ، من الذي سيُلام ؟.
– أعتقد أنه أنت لأنك الكبير بالطبع.

– لا ، سيُلام السائق ، وما شأن والدتي أنا ، هل أنجبتهم و نسيتهم ؟.
أفلتت مني ضحكة رغماً عني متناسياً الكتاب الموجود في حقيبة ظهري و ذلك العجوز المخيف ، خبط رأفت بيده على كتفي و كأننا أصدقاء قدام و لكن لفرق السن نبدو كأب وأبنه ، و قال مازحاً :

– أبتسم يا بني ، فساعة الحظ لا تُعوض.

كان صوت أم كلثوم يخرج من أحد أشرطه الكاسيت التي ما زالوا يستخدمونها في المقاهي الشعبية و هي تشدو ” غلبني الشوق وغلبني ، و ليل البعد دوبني ، ومهما البعد حيرني ، و مهما السهد سهرني ، لا طول بعدك يغيرني ولا الأيام بتبعدني بعيد عنك “، عندما تغيرت ملامح العم رافت إلى الجدية ثانيةً و بدأ يكمل لي مصير لبيب الأسود على يد طمعه.
 
رغم أغلاقه لكل باب و نافذة في بيته ما زال يشعر بالبرد وكأنه يأتي من داخل جسده ، وقف لبيب ينظر إلى زوجته الغارقة في النوم والتي أخفى عنها ما حدث حتى لا يقلقها ، حاول أن يقنع نفسه أن كل شيء أنتهى بهروب الساحر ، فقد أختفى الكتاب في لمح البصر و اختفت معه الكلمات من الحائط ، و كأن الشر قد لحق بقومه ،  ولكنه بقي مستيقظاً يجافيه النوم منتظراً أن يحدث الأسوأ، و قد تعدى السوء ظنونه.

كانت البداية هي صرخات فزعة متتالية قادمة من حمام شقته ، استيقظ عليها كل من في البيت ليسرعوا إلى مصدرها و كان هو أولهم ، حاول أن يفتح الباب عدة مرات لم ينفتح ، دفعه بجسده ولكنه أبي ، و كأنه صُنع من الفولاذ ، ثم في لحظة أظلمت كل لمبات الجاز في الشقة دفعة واحدة لتنقطع معها صرخات أبنته بالداخل ، و قبل حتى أن يدركوا ما حدث كان الفتيل بداخل اللمبات قد أشتعل من تلقاء نفسه و فُتح باب الحمام ، و على الضوء الخافت القادم من الصالة رأوا جسد الفتاة ذات السبعة أعوام ينتفض بشدة وهي مرمية على الأرض و الدماء تغرق المكان ، و كلما حاولت التحدث كان يخرج صوتها بحشرجة مخيفة من عنقها المذبوح حتى أسلمت الروح.
 
كانت الأحداث تتسارع أمام لبيب وهو مشلول الفكر, زوجته المغمي عليها وفتياته يجلسن منهارات بجانيها لا يعلمن كيف حدث هذا ، كيف تسلل أحد إلى شقتهم في منتصف الليل ليقتل و يخرج دون أن يشعر أحد به ؟ والاهم من هو ، من ذا الذي يحمل ضغينة ضدهم ؟ فيقتل فتاة في السابعة ، وردة لم تُعطى الوقت لتتفتح قط ، أتى الصباح حاملاً تلك الأجواء الجنائزية المعتادة من صراخ النساء و عويلهن كطريقه يجاملن بها بعضهن البعض ، و لحظات الفراق التي تشعر بها بأن قلبك قد انخلع من مكانه و تشبث بمن تركك لعله يشعر بفاجعة روحك عليه فيصحوا.

كانت الشرطة قد أتت بعد الحادثة مباشرةً و أثبتت في محاضرها الرسمية أنه انتحار ، دون الرجوع إلى الطب الشرعي حتى ، و أعطتهم تصريحاً بالدفن و رحلت ، كان لبيب يعلم بداخله من فعل هذا و أنه المتسبب في قتل أبنته ، لقد كانت هي الضحية الأولى التي وعدت الشياطين أن تأخذها ، حكى لزوجته يومها عن كل شيء ، فأقسمت أن لا تجلس في هذا البيت لدقيقة واحدة و لا حتى لأخذ عزاء أبنتها ، أخذوا ما يحتاجون و فروا هاربين من ذلك المنزل و لعنته قبل أن تصيب أحد أخر.
 
منتصف تلك الليلة كان لبيب يجلس في غرفة يتشاركها مع زوجته و أبنتيه في منزل عمته التي رحبت به بـ ” أن مشلتكش الارض أشيلك في عينيا “، بقي مستيقظاً يراقبهم خائفاً أن يتكرر ما حدث ، و لكن بعد يوم شاق خانه عقله وأعطى الأمر بالنوم ، فغفا قليلاً ، أستيقظ على صوت يهمس في أذنه : لكم ما طلبتم و لنا ما نريد ، الضحية الثانية الليلة ، انتفض من مكانه مرعوباً ينظر إلى أسرته ، كانت زوجته تحتضن أبنته الكبيرة ، و لكن أين الوسطى ؟ كان يفتح مقبض الباب و هو يخرج مسرعاً عندما باغتته صرخات أبنته مستغيثة به لتتردد صداها في المكان ،

و قبل أن يحاول التقدم خطوة أخرى ، كانت الأضواء قد خفتت مثل المرة الماضية حتى عم الظلام و سكن معه صوت أبنته ، مرت زوجته من جانبه و هي تصرخ مناديه على أبنتها ، و هو يقف لا يستطع تحريك أي جزء منه كالمشلول ، راقبها وهي تفتح باب الحمام و قد بدأ عويل كل من في المنزل ، كان يتراجع إلى الوراء غير مصدق و تركهم و غادر مسرعاً ، جرى في الشوارع بملابس نومه حافي القدمين قاصداً ذلك الساحر، وعندما وصل إلي بيته كان عبارة عن كومة من التراب ، كان البيت متفحماً بالكامل ، أوقف لبيب واحداً من أهل المنطقة و سأله عن ما حدث ؟

فأجاب : بأن النار اشتعلت في البيت منذ يومين و لساعات متواصلة و لم يستطع أحد إخمادها أو إنقاذ من بالداخل ، حتى أن جثامينهم المتفحمة لم يتعرف عليها أحد ، كان لبيب يجول الشوارع وهو يحدث نفسه و كأنه على وشك الجنون ، حتى وصل إلى بيت عمته ليجده محترقاً بالكامل ، و كلما حاول الناس إطفائه عن طريق رمي الماء عليه كانت النيران تزداد ، و في تلك اللحظة التقطت عيناه زوجته وهي تجلس على بعد أمتار من البيت تصرخ وتلطم وجهها ، و عندما تقابلت عينهما عرف أن أبنته الأخيرة قد التهمتها النيران.

– ثم ماذا ؟ هل انتهت القصة؟.

– نحن لم نسمع عن زوجته مرة أخرى و لم يعلم لها أحد سبيلاً ، أما عن لبيب فعاش في بيته ولم يخرج منه إلا للضرورة ، استطال شعره و ابيضت احدى عيناه بشكل مخيف و أصبح وجهه عليه غضب الله ، و خاف الناس من التعامل معه ، و لكن لم تنتهي الأحداث عند ذلك فكل أقارب و جيران لبيب كانوا يجدوهم مذبوحين واحداً تلو الأخر ، و أصوات الصرخات المرعبة التي كانت تخرج من بيته ليلاً ، لم يكذب الناس خبراً و قد اقتحموا بيته مجتمعين ولكنهم لم يجدوا لبيب أو أي شيء يدلهم أنه كان متواجداً هنا من الأساس ، فقرروا إحراق المنزل و بنوا مكانه مسجد كبير و لم يسمع أحد عنه ثانية.

تركت العم رأفت مع وعد مني بأن أكرر زيارته ، و بعد الف نصيحة منه لترك هذا الطريق و رمى الكتاب الذي وصفه بكتاب الملاعين في أي صندوق قمامة يقابلني ، شكرته وتوجهت إلي البيت ، و لكنني لم أكلف نفسي عناء رمي الكتاب كما نصحني عم رأفت ، كقارئ رعب يحترم نفسه أعلم يقيناً أن الكتاب هو من اختارني ، فحتى اذا ألقيت به سأفتح باب غرفتي لأراه ينتظرني على السرير ، و لن أخاطر بحرقه حتى لا أغضب قوى الله وحده يعلم قدرتها.

الساعة تشير إلى السادسة مساءً ، و ها أنا اجلس على سريري و هذا الكتاب ذا النقوش الغريبة على غلافه بين يدي ، و كل ما أفكر فيه لماذا أنا ؟ أنا لم أدق الباب ، أنا فقط كنت أقف استرق السمع إلى ما يحدث بالداخل ، غلبني النوم وأنا أفكر و صحوت على صوت نفس أمامي مباشره و كان أحدهم يتنفس بوجهي ، فتحت عيناي ولكن لم أقوى على تحريك جسدي و كأنني مشلول ، و بدأت أرى طيفاً أسود يتحول إلى شكل عم لبيب يقف على طرف سريري مبتسماً بشيطانية.

وهنا أدركت أنني بداخل الغرفة المئة ، سمعت صوته داخل رأسي يقول :
– كيف حالك يا وريثي ؟ يا حارس بوابات أبليس.

الأحلام مخيفة حتى و أن كانت جميلة ، لأنها تترك لك دائماً شعوراً بعجزك في الواقع عن تحقيق ما تتمناه ، فتلجأ مقاومتك في التحايل على رغباتك اللاشعورية والوصول معها إلى حل وسط يُسمى الحلم ، و كأن عقلك يهدهدك فيعطيك مذاق شكولاتة أنت لا تملك ثمنها في الحقيقة ، أما المخيفة منها فهي أسوأ ، لأنك تشعر و كأن أحدهم قد وضع نظارة واقع افتراضي على عينيك و تركك في ” جومانجي” الخاصة بك لتصارع كل الوحوش التي كنت تخاف منها، “أبو رجل مسلوخة” سيظهر لك مبتسماً و ” أمنا الغولة” ستعاتبك على عدم زيارتها منذ طفولتك ، و لكن أشدهم سوء تلك التي تحمل رائحتك ، رائحة واقعك الكريه ، و عندما تستسلم ستجد أنك تقف في أعلى قمة في العالم فيركلك عقلك لتسقط مستيقظاً لاعناً الأحلام.
 
استيقظت مفزوعاً و أنا أتصبب عرقاً و ألهث و كأن الشيطان يتبعني.

– أعوذ بالله من ..أعوذ ..أعوذ .. أنا لا أستطيع أن استعيذ حتى.

اجتذب صراخي أمي التي أتت مسرعة والقلق مرتسم على ملامحها ، و جلست بجواري على السرير ثم وضعت رأسي علي صدرها و بدأت في قراءه آية الكرسي وهي تمرر يدها علي شعري ، و مع كل حرف نطقته كنت أشعر بخفقان في قلبي و رعشة قد اجتاحت جسدي الذي بدأ يصبح ساخناً وكأن أحدهم يحرقني من الداخل ، دفعتها بعيداً عني بدون قصد فنظرت لي بعينين مصدومتين ، تحاشيت نظرتها و قلت بتوتر :

– أنا متعب قليلاً ، اتركيني أرجوك.
تركتني و خرجت و هي تنظر لي بدهشه ، فلم أكن يوماً جافاً معها ، نظرت إلى الكتاب الموضوع على طاوله المكتب ، كانت تخرج رائحه نتنه من ورقه الأصفر المهترئ ، و لكنني بدأت بقراءة أول صفحاته :
– سيتان.. سيات كسبيلروي.
– سياتنين كاترليري ، هو النطق الصحيح لتلك الكلمة ، و معناها مذكرات أبليس.
 
سمعت تلك الكلمات بصوت أشبه بالفحيح في أذني ، فنظرت إلى مصدرها لأجد أن هناك من يقف على شمالي ، رفعت رأسي سريعاً لأجده أو لأجدني أنا ، كنت أنا من يقف بجانبي ، كان ذلك الكائن نسخه مني ، لولا أن عيناه سوداء تماماً و أصابعه كانت طويلة بشكل ليس بشرياً ، لظننت أن لي تؤام ، شعرت بالذعر لحظتها و كأن أسداً على وشك التهامي ، حاولت الابتعاد عنه فتعثرت في كرسي وسقطت أرضاً على ظهري ، زحفت إلى الوراء بيدي و عظامي تأن من الألم ، فرأيته يبتسم لأول مرة و قد جعلته ابتسامته أكثر بشاعة وأقل إنسانية ، كان يمتلك أسنان سوداء بين نابين طويلين ، و يظهر بالداخل لسانه المشقوق كالأفاعي ، ليقول بسخرية :
 
– ما بالك يا فتى ؟ ألم تقضي حياتك باحثاً عنا ؟ وها نحن وجدناك أولاً.
كانت هيبة الموقف قد بدأت تخف تدريجياً و قد بدأ الفضول يتسلل إلى صوتي و أنا أرد :
– انـ..أنت قريني أليس كـ..كذلك ؟.
– بل أنت قريني ، لست أنا التابع بل أنت  أسمي شيصبان ، و وجودي هنا بأمر من حامل الضياء.

– ابليس يعرفني أنا !.
– لك الشرف ، أبا المتمردين أختارك من ضمن البشر لترث معرفة أقدم من وجود بني جنسك على الأرض.
شاور على الكتاب بيده فوقفت لأشعر بألم جسدي يجتاحني من جديد ، و اقتربت بحذر أنظر لموضع إصبعه على الكتاب ، فأكمل
– أقرأ بأسم الشيطان.

ابتلعت ريقي بصعوبة وأنا اقلب الورق ببطء و قد لاحظت أن هناك كتابة بعده لغات تشبه الملاحظات ، تعرفت على بعضها والأخر لم استطع التركيز ، و لكنني لمحت بعض كلمات مثل احذر .. اهرب …موت .. لا توقع ، و وصلت إلى الصفحة الأولى من الشمال و قد كُتب فيها ما يلي :

أنا الشيطان لم أزلِ… انا المخلوق من عجلِ.. انا اطغى بوسواسي.. دماء السحر مرتعنا…طلاسيم تقربنا…أنا من أشعل الاهواء قاطبةً باهواء المساكين مفارقة…أنا الشيطان أغويكم ، أمنيكم وأسحركم ، خلقت من نار و خلقتم من طين…فكيف يتساوى اللهب المقدس بسواد التربة.
 
تركت تلك الكلمات في نفسي خوفاً رهيباً ، أكتبها ابليس حقاً الكائن الذي لم تتركه ديانة واحدة إلا و ذكرت أنه العدو الأكبر للإنسان ، عزازيل في اليهودية ، و الشيطان في الإنجيل ، و أبليس الملعون في الإسلام ، حتى الأساطير لم تخلو من ذكر ذلك الكائن الجهنمي ، و أن تشكل مظهره مختلفاً في كل مرة و حيكت قصته لتناسب ثقافات الشعوب وقتها.

كلما تحدث ذلك الكائن كنت أشعر بألم في أذني و كأن تردد صوته لا يناسب أذناي البشريتان.

– وقع بدم يدك الشمال على العهد ؟.
 
كنت أسخر دائماً من تلك القصص والروايات التي تحكي عن أشخاص وقعوا مواثيق مع الشيطان و كيف باعوا أرواحهم ثمناً للشهرة أو الأموال أو حتى شفاء من مرض ما ، أنهم كشخص رمي نفسه في حفرة حتى لا يتعثر بحجر، أنا فضولي ولكنني لست أحمق ، أنه ليس جنياً سأخرج من تجربتي معه بحكايات أرويها لأصدقائي ، أنه إبليس بذاته.
 
رفعت رأسي لأرفض ذلك العرض الكريم وأخبره بأن يذهب للجحيم ، فأنا لن أوقع لأجل الشيطان أبداً ، ولكنني تجمدت في مكاني وأنا أرى غرفتي بكاملها تغزوها كائنات سوداء قصيرة لا يتعدى طولها المتر ، يملئ الشعر أجسادهم و حتى وجوههم كان الشعر يغطيها ولا يظهر منها إلا عينان مشقوقتان بلون قرمزي ، كانوا يتحركون على السقف والحائط و الأرض ، بينما أختفى قريني تماماً ، و فجأة توقفوا جميعاً عن الحركة و نظروا إلي ، أعلم ما سيحدث الآن ، لقد قرأته في الف رواية رعب ، سيزحفون إلي و تغرزوا مخالبهم في جسدي ، و لكنهم لم يفعلوا ، استمروا بالنظر إلي و هم هادئين بينما كاد قلبي أن يتوقف عن الخفقان من شدة الرعب ،

و في لحظة بدأوا يدقوا بأيديهم على الحوائط لتنكسر تحت وقع ضرباتهم وكأنها شيء هش ، وهنا خرجت نار من الحوائط والسقف ليست كأي نيران ، لقد كانت تشبه الحمم البركانية ، صرخت ولكن خرج صراخي مكتوماً و كأن شيء من الخرس أصابني، و ما زاد المشهد فزعاً أن الأرض بدأت في الانشقاق عن حفرة يخرج منها النار، وقفت أرى الحفرة تزداد اتساعاً و هي تبتلع أثاث الغرفة  و تقترب مني ، و أنا لا أجسر على القفز من فوقها للوصول إلى باب غرفتي ، كان ذلك هو أخر ما رأيته عندما أشفق علي عقلي و فصل الكهرباء عن رأسي لأسقط مغشياً علي.

 
فتحت عيناي لأجدني ممداً على الأرض أصرخ و جسدي لا يطاوعني و يتوقف عن التشنج ، و وجه أمي الباكي و بعض الجيران يلتفون حولي ، و البعض الأخر يحاول تثبيتي و فتح فمي حتى لا ابتلع لساني ، معتقدين أنني أعاني من الصرع ، و عندما بدأ جسدي يهدأ وأخذت أولي أنفاسي محاولاً استيعاب الموقف ، وجدتني أقف مسرعاً و أصرخ بهم أن يخرجوا من غرفتي و أدفع بعضهم بيدي حتى خرجوا و هم مندهشين ، أغلقت الباب وأنا استمع إلي أمي تعتذر لهم عن ما بدي مني متحججة بأني مريض و تجيب عليها احدى السيدات بأنه من المؤكد بأنني ممسوس و يجب ألا تسكت و تذهب بي إلى شيخ .
 
نظرت إلى الغرفة من حولي و أنا اشعر بوجود شيء ما ، و كان هناك شخص يراقبني و لكني لا أراه ، تقدمت إلى الطاولة لأجد الكتاب ما زال قابعاً عليها غير متأثر بما حدث ، جلست على الكرسي معطياً ظهري للغرفة و أنا أشعر بأنفاس أحدهم الثقيلة ورائي ، أدركت وقتها أن ما حدث كان تحذيراً لي حتى لا أرفض توقيع العقد ، كنت خائف و مشتت و أنا أفتح صفحات الكتاب و أخرج من درج المكتب مقص و أجرح به يدي ثم أضعها على ورقة لتشرب دمائي في لحظات و تكتب كلمات بالعربية :
 
” تم توقيع العقد.. الضحية الأولى الليلة”.
 
ضحية ! أي ضحية ، هل سيفعلون معي كما فعلوا بعم لبيب ، هل سيقتلون أمي و أحبائي لأنني وقعت العقد ؟ كان رأسي على وشك الانفجار من هول الصدمة ، و وقعت على الأرض و أنا أبكي متضرعاً ، كنت أبكي بحرقة و أنا أتوسل الشيطان أن لا يؤذي أمي ، و لكن لا حياة لمن تنادي ، لم يظهر لي قريني أو أحد من هؤلاء المسوخ القصيرين ، حاولت تمالك نفسي و بدأت أقرأ تلك الملاحظات التي لاحظتها من قبل ، لعلها تساعدني في إنهاء تلك اللعنة و إنقاذ أمي ، قلبت الصفحات لأجد أولها كانت بالعربية و بخط مهزوز أعرف شعور صاحبه جيداً.
 
” 600 هجرية – 1204 ميلادية :

بحوراً من الدماء سالت هذا العام ما بين حروب العباسيين مع السلجوقيين و هجوم الجيوش الإسلامية على الصين والهند ، بينما قُتل الألاف المسلمين بعد غزو القسطنطينية على يد الفرنجة في عكا ، انتشر الفقر والجوع في مصر بسبب الزلزال الذي هدم المأذن والبيوت والسدود ، و كان منزلي الذي أعيش فيه أنا و زوجتي و ولدي قد هُدم فوق رؤوسنا ليأخذ روح أبني الصغير معه و يترك قلبي أنا و زوجتي يدميه فراقه ، و وسط أطلال البيت وجدت ذلك الكتاب ، و ليلتها حلمت بقريني يعيد إلي ابني و لم أدرك من أمري إلا وقد وقعت العهد ، ولكن بدل أن يعيد لي الشيطان طفلي ، أخذ معه زوجتي و كل من أعرف.

لا أعرف إن كانت كلماتي ستمسح أو سيتركها الملعون ، و لكن اذا قرأت فلا توقع العهد ، فأن وقعته فلا مجال للتراجع.
أحمد بن الحسن.
 
وقعت تلك الكلمات علي رأسي كالماء المغلي ، ولكنني بدأت بتقليب صفحه تلو الأخرى أقرأ ملاحظات من وقعوا في فخ الشيطان مثلي.
 
“1521ميلادي :

كنت تلميذاً لمارتن لوثر ، ذلك الراهب الألماني الذي كان يعاند الكنيسة كلما سمحت له الفرصة ، و لكن تلك المرة كان اعتراضه على صكوك الغفران و ذلك ما جعل الإمبراطور شارل الخامس ينفيه بعيداً واصفاً تفكيره بالهرطقة ، لقد عشت أغلب سنوات شبابي مع مارتن ، و لم يكن أبداً ساحراً و لا مهرطقاً كما وصفوه ، لكنه اختلف معهم ، و الكنيسة تكره الاختلاف ، تكره أن يفكر أحدهم ، و كانت جريمة معلمي هي التفكير ، فكر لوثر اللاهوتي هو أنّ الحصول على الخلاص أو غفران الخطايا هو هديّة مجانيّة و نعمة الله من خلال الإيمان بيسوع المسيح مخلصاً ،

و بالتالي ليس من شروط نيل الغفران القيام بأي عمل تكفيري أو صالح ، تلك الترهات كما وصفها البابا ليون العاشر هي ما جعلتهم ينفونه بعيداً ، و في رحلة هروبي حتى لا يتم القبض علي أيضاً وجدت ذلك الكتاب مخبأ في كنيسة صغيرة مهمشة على أحد التلال و قد أعماني غضبي فوقعت العقد معتقداً أنني أحفر قبر أعدائي ، و لكن يبدو أنني حفرت قبري بيدي ، اذا رأيت ذلك الكتاب فلا تحرقه ولا تقطعه و لا تحاول أن تلمسه يداك ، اتركه و أهرب قبل أن يفقدك روحك.

ألكسندر فيرديناند.
 
كان هناك الكثير من الملاحظات ولكنها بلغات لم استطع فهمها أو ترجمتها ، توقفت عند واحدة استطعت قراءتها.
” ١٦٨٥ ميلادي :

اسمي جاك كيتش أو كما لقبونني جلاد لندن ، منذ كنت صغيراً و أنا استمتع برؤية الناس يتأذون و يتألمون ، و ما يزيد نشوتي أن أكون أنا من أعذبهم ، و قد أتى حظي السعيد بأن أعمل كجلاد ، كنت أقطع رؤوس المذنبين أمام أعين الناس المرتعبة ، تفننت بعدم قطع رؤوسهم بضربة واحدة ، فكنت أخطأ حتى تصل ضرباتي لثمان أو تسع ضربات بفأسي على جسدهم حتي تفارقهم الروح ملطخين بدمائهن ،

و لكن حياتي تغيرت ذلك اليوم الذي استدعاني فيه الدوق منماوث جيمس سكوت إلى زنزانته ليعرض علي الكثير من العملات الذهبية حتى أقتلع راسه سريعاً ، و لكنني رفضت ، عندها أعطاني ذلك الكتاب و قال : أنه مذكرات الشيطان التي يحكي فيها عن نفسه ، في اللحظة التي رأيت ذلك الكتاب بها شعرت أننا متشابهان و أنني سأجد ضالتي به ، و قد صدقت ظنوني فقد تعلمت الكثير عن البشر و رأيت بداية كل شيء ، فأن كان المقدر أن يقع ذلك الكتاب في يد أحد من بعدي فليوقع العقد وليعلم أنه محظوظ”

نظرت إلي أخر الصفحة و كان هناك ملاحظة أخرى من جاك كُتبت بسرعة ، وكان الموت يقف لكاتبها وراء الباب و كانت كالتالي :

” لقد تجاهلت ملاحظات من قبلي ، أعماني غروري واجتذبني فضولي للمعرفة ، و لكن يبدو أن مكري هزم شر الشيطان بذاته ، فقد وجدت طريقة لكسر اللعنة و هي أيراث الكتاب لأحدهم و جعله يوقع علي العهد بكامل إرادته و ذلك ما فشلت به أنا ونجح فيه الدوق منماوث جيمس قبل أن اقتلع رأسه “.
 
كنت أحاول التفكير في ذلك الشخص الذي يستحق أن أهديه تلك اللعنة حتى قطع تفكيري صراخ أمي ، فأسرعت أبحث عنها ، و قد أتي صوت صراخها من الحمام ، و قبل أن أضع يدي على مقبض الباب انقطعت الكهرباء و سكت معه صراخ أمي ، شعرت برجفة تجتاح جسدي بأكمله و أنا  أقف كالمشلول ، أعلم ما الهول الذي ساراه اذا فتحت الباب ، لذلك أسرعت إلى غرفتي و بيد مرتعشة وضعت الكتاب في حقيبتي و جريت هارباً من الشقة لأجد جارتنا أمامي تنظر إلي وجهي الخالي من الدماء بقلق ، و قبل أن تسألني تركتها ، و قبل أن أصل إلى بوابة العمارة سمعت صوت صراخها و هي تردد أنني قتلت أمي.

لقد قتلت الشياطين أمي ، و لكن أي قاضي سيصدقني ، لذا أنا الأن مطارد من الأنس و الجان.

وهنا انتهت قصة محمد موسى ، ذلك الطالب الفضولي ، و بدأت قصة حارس بوابات إبليس ، و لكن تلك قصة أخرى .

تاريخ النشر : 2021-03-30

guest
29 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى