أدب الرعب والعام

طعم الورق

بقلم : حسين الطائي – العراق

أزال العصابة الملفوفة عن وجهه فانفجر ينبوع أسود سال على وجنتيه
أزال العصابة الملفوفة عن وجهه فانفجر ينبوع أسود سال على وجنتيه

ما الذي يمكن أن يكون أكثر قذارة من هذه الجدران التي أطالعها و لا يخطر في ذهني سوى قبو (دوستويفسكي) و مساكن الفقراء والمتسولين القابعين في قاع الحياة و لوحات (دوري) الذي حاول رسم جحيم دانتي.

 و ما الذي تخفيه اللوحات المعلقة بالاتجاه المعاكس ؟ و ذؤابة الفانوس الوحيد توزع ظلالها كأشباح تتلوى على لحن الجو الذي يعصف في الخارج . كان يجلس أمامي يأكل دون توقف الورق المنضود على الطاولة التي تتوسطنا ، لا شيء آخر هناك سوى ساعة عتيقة تشير عقاربها إلى نفاد الزمن داخل هذه الجدران.

– أنا هنا في مواجهة نفسي لا لأحاسبها و لكن لأبحث عن المعنى المفقود الذي انسلخ عن دماغي في لحظة جهل .

– ما الذي تريد أن تصل اليه ؟ أنا لا أصلح الأمور ، هذا كان اتفاقنا و لم أكن كذلك يوماً ، أنا فقط أجعلك ترى .

كلما حاولت النظر للأوراق منعني بيده المتخشبة و ضياء البرق النافذ يعيد رسم وجهة الذي يذكرني بشخص ما لولا العصابة القذرة المشدودة إلى عينيه و الملوثة على ما يبدو بدم متيبس.

– أنا أبصر .. تذكر ذلك .

يستمر في مضغ الورق و أنشغل أنا في لملمة الأفكار و ترتيبها حسب وقت ولادتها في رأسي ، ثم يقاطعني :

– هذا لن يجدي نفعاً .. علينا أن نحفر عميقاً إن أردت لاتفاقنا أن يسلك طريقه الصحيح .
لم يجبني حين سألته كم سيستغرق ذلك واكتفى برفع أصبعه ، ألقيت بثقل أفكاري على الطاولة وأغمضت عيني بشدة و سألته :
– ما هو طعم الورق ؟.
– ذلك يعتمد .
– على ماذا ؟.
– على ما مررت به في حياتك.
– وما هو طعمه الآن ؟.
– بعض من الحب و كثير من الأحلام ، يجب أن تقفز نحو قاع نفسك .

رغم سرعة سقوطي إلا أنني لم أشعر بالهواء يلفحني ،  وقبل أن أصل لأعانق الأرض أغمضت عيني ، لقد استمر سقوطي و في رأسي صوت يهمس : أي عمر تريد ؟ عندها حضنت احدى السنين المعلقة في العدم ، كنت فيها بعمر الست أعوام أو أصغر بقليل ، فتحت عيني على عالم يمتلئ بالألوان و كل من أحببتهم كانوا هناك يبتسمون و لوحوا لي بأيديهم ، و بينهم أمرأة أصبح جمال وجهها كجمال قلبها ، مدت لي يدها إلا أنني أمسكت بطرف ثوبها كما اعتدت أن أفعل و مشيت أتبعها ، قالت لي والدموع في عيني و عينيها : سنعود إلى بيتنا يا عزيزي ..اشتقت اليك .

جفلت لوقع سوط امتد من الظلام ليلسع ظهري وبالكاد فتحت عيني ، ملت برأسي إلى الخلف لأتجنب وهج البرق الخاطف والمطر ما زال ينهمر مداراً كما لو كان بين الأرض والسماء حساب قديم و ما زال الرجل ذو العصابة يمضغ الورق على مهل :
-هل علينا أن نستمر في الحفر ؟.
-دون كلل .
كيف أصبح طعم الورق الآن ؟.

– بطعم الخيبات ، لكني بدأت أتذوق القليل من المعنى في أحلامك ، و أرى أكثر مما تجود به سطور ذاكرتك ، عليك أن تعلم بأنك لن ترحل إلى أي مكان ، فلا تسمح لعقلك بسحب الخيوط التي تربط أصابعك ، لقد طلبت ثم تمنيت و جثوت بعدها على ركبتيك متوسلاً ، لتعلم بأن لا عالم بعد هذه الجدران سوى الجنون ، أن كنت تود أن تذهب فلن أمنعك ، أذهب و الق نظرة ، أتحداك أن تفعل .

شعور اعتصر قلبي حين رجف ضياء البرق على زجاج النافذة الوحيدة و لم أشعر بأنني سأكون بحال أفضل لو استمريت بمجادلته دون أن أقفز ، لكنني في حال تسمح لي بتأمل هذا الجمال الذي يعبر الشارع باتجاهي مرتدياً زياً مدرسياً و تلف شعرها كذيل الحصان بمشيتها المتأنية وابتسامة شفتيها العذبة ، مراهق وسيم يتبعها و في يده زهرة ، مشى بمحاذاتها دون أن ينظر أحدهما للآخر ، ناولها الزهرة ثم وقفا لبرهة يتأملان بعضهما بشغف . وضعت الزهرة في حقيبتها ثم مضى هو من حيث أتى ، كنت أقف في الجهة الأخرى من الشارع ، نحيلا كما اعتدت أن أكون و في يدي أعتصر زهرة أخرى كنت أخطط لأهديها لها .
– ما الذي كنت تخطط له بالضبط ؟.

رفعت رأسي و قد ازدادت العاصفة جنوناً في الخارج .

– ما الذي كان مفقوداً لتبحث عنه في ركام أحاسيسك الهشة ، بين صفحات الكتب ، ما الذي لم يكن في مكانه الصحيح ؟ لقد أضفيت عليها من الفضائل ما لا يحتمل و رفعتها إلى مصاف الملائكة ثم كتبت و كتبت لها دون أن تصل إلى الطرف الآخر من الخيط و بقيت هناك تلوك حسرتك ، لا بأس ، علينا أن نكمل الحفر .

– ما هو طعم الورق هذه المرة ؟.
– يبدو أن شيء منك في غير موضعه .
– أصبحت الهوة سحيقة .
– عليك أن تعلم بأن ليس هناك تراكم كمي للزمن ، كل ذلك يبدو في عقلك فقط ، الزمن واحد لا يتغير امتداده ، أنت الذي تساقط بعضك فوق بعض .
– لكنني أخاف السقوط هذه المرة .

– أنت من طلب ذلك .. أتذكر ؟ لم يعد لأي شيء معنى ، ولم يعد هناك ما تسعى اليه ، لقد وصلت مرحلة اللا طعم في كل شيء ، حينها قررت أن تستدعيني وها أنا ذا ألبي ما أردت بكل إخلاص .

– هل بإمكانك أن تغير شيئاً مما مضى ؟.

يلتقط ورقة ويدسها في فمه بهدوء دون أن يجيب عن سؤالي .

و أسقط مرة أخرى في بُعد أعمق من سابقه و محيط الحفرة أخذ بالتيبس و ملمسه صار يخدش . و كلما نظرت حولي تداخلت الأشياء مع بعضها كلوحة مرسومة بأصابع فنان مجنون ، كان المكتب الذي أجلس قبالته يسمح لي بتخمين من كان يجلس أمامي بفظاظته المعهودة و أسلوبه الغليظ ، يتكلم بانفعال و الرذاذ يتطاير من بين شفتيه ثم يطلب إلي أن أقوم بإمضاء رزمة من الأوراق وضعها أمامي ، إلا أنني كلما هممت بذلك أعتصرني قلبي فأقبض على صدري بكلتا يدي وأسقط أرضاً ، أستجمع ما لدي من قوة ، أرفع عيني لأرى ذلك الكائن وقد تحول إلى تيس يقف على قائمتيه الخلفيتين و يزمجر بعبارات لا أفهما ، يلوح بالأوراق كما لو كان ينذرني بعاقبة فعلتي ، أغمضت عيني ثم صرخت بأقوى ما يمكنني فأمتزج صوتي بصوت الرعد القادم من السماء لأفيق على وقع السوط مرة أخرى .
– ما الذي يؤلمك ؟.

نظرت جانباً أحدق في ضوء الفانوس المتراقص و لا زالت كفي تقبض على صدري ، كنت على حافة الوجع و لا بد أن أحدد مصيري بين طريقين ، أما أن أدوس على رؤوس من ابتلعهم هذا الكائن  أو أن أمضي باحثاً عن اللقمة غير الملوثة بدماء الآخرين ، و هو ما لويت ذراعي لأجله و غادرت ذاك البناء المتعالي بعد أن تم شطبي من قائمة العاملين فيه .

– هل ما زلت ترغب في تصحيح مجرى الأمور ؟.
– علمت أن ذلك لم يكن خياراً منذ البداية ، فكيف لك أن تعرضه علي الآن ؟.
أنا لا أعرض عليك شيئاً ، كل ما هنالك أنني أرى ترددك في قراءة التفاصيل التي أمضغها الآن و قد أصبحت أكثر مرارة ، ما الذي تخشاه ؟.
– أخشى المستقبل حين يكون واضحاً جداً .
– ما الذي تخشاه من الماضي اذاً ؟.

– تلك البقعة المعتمة من نفسي التي تتسع كلما بعدت الأيام ، ذلك المجهود الهائل الذي بذلته ليهتم الآخرون ، ليس هناك رديف لنفسي يحمل معي ما كنت أحمله ، لذلك لجأت لتلك الخدعة ، أن أملأ الأوراق ، أتقيأ ما يجول بخاطري حبراً على الورق.
– و هل نفعك ذلك ؟.

– لقد صنعت مخلوقاً ، أعدت خياطة أطرافه ببعضها ، كان خليطاً مما كنت أريده يوماً ، مما كنت أريد لنفسي أن تكون ، لا عمق فيه ، و لا تمر الأمور من خلاله ، و لا ينظر أبعد مما ترى عيناه ، و فوق كل ذلك لديه شراهة في سحق الساعات والدقائق دون أن يستغرق فيها أو يندم.

– علينا أن نكمل الحفر .

أنا لا أهوي هذه المرة ، أنا أنزل سلماً لا أعرف أين ينتهي ، فالقاع يملأه هواء ضبابي ، و حين مددت قدمي كانت الأرض زلقة و رائحة غريبة تعبق بالمكان ، و أنا أخطو إلى حيث لا أعلم تحيطني أسرة متحركة مغطاة بشراشف بيضاء و يبدو أنها تغطي أجساداً آدمية .
– علينا أن نبقي كل شيء معقماً قدر ما نستطيع .

التفت لأجد رجلاً يرتدي رداءً أبيض و على وجهه ابتسامة دافئة .
– أنها هناك ، لا أعلم أن كانت تتوقع قدومك أم لا .
أشار إلى أحد الأسرة يعلوه ضوء خافت ، مضيت اليه ، كان هناك كرسي و شاشة ترسم خطاً متعرجاً بجانب السرير ، جلست و أمسكت يدها و الدموع تملأ عيني .
– بني .. لماذا أتيت ؟.

كانت تنظر بأتساع لما حولها ، أسرة تغطيها شراشف بيضاء تستلقي عليها أجساد تمر من خلالها خراطيم يجري بها دم مستعار ، و صوت طرق منتظم ، ألتفت خلفي ، لا شيء في عمق الظلام ، تغمض عينيها بهدوء فيرتجف قلبي وأحكم قبضتي على كفها المعرورق كأني أبث فيها شيئاً من روحي ، تعاود النظر لما حولها ، أراقبها و شفتاي منفرجة و صدري متورم بكلمات فاتني أن أقولها يوماً ، تخنقني ، فتشق طريقها دمعاً على وجنتي ، صوت الطرق يعلو و لا شيء في عمق الظلام ، أغمض عيني بشدة ، أنه يقف هناك في قلب العتمة و العصا الغليظة بيده ، يضرب بها السكون فيرتاع قلبي و تتبعثر الكلمات ، يعلو صوت الطرق أكثر ، ثم يستقيم خط الحياة على الشاشة البيضاء ، حين قالت أمي للحياة : وداعاً .

لم أجفل هذه المرة لوقع السوط ، بل نهضت و قلبت الطاولة على هذا الكائن الذي يجلس أمامي ، قطعت ما تبقى من خيوط تربط أصابعي و هممت لأقتص منه ، إلا أنه سحب مسدساً و وجهه إلي .

– أنا لا أحاول أن أقتلك ، خذ … أنا أعطيك إياه ، لقد نفد الورق ، هل ستقرر هذه المرة أم لا ؟.

يدي ترتعش و أنا أحاول أن أسدد السلاح نحوه .

– أنتظر .. دعني أولاً أريك شيئاً .

أخذ يقلب اللوحات المعلقة على الجدران .

– هل انتهينا الآن ؟ لقد كانت قصة رائعة تلك التي تراها أمامك ، ها أنت هنا تلعب ، هنا تدرس ، هنا تسير على غير هدى كالمجنون ، و هنا ، و هنا ، و في كل لوحة أرى ظلاً أسود يقف خلفك ، هل تعلم ما هو ؟ لا أعتقد أن ذلك وُجد هنا بمحض الصدفة . في كل لوحة هناك من يقف خلفك بهدوء و يبدو كما لو كان يتربص بك ، أنه ينتظر منك أن تقرر منذ زمن دون كلل و العصا بيده .

أزال العصابة الملفوفة عن وجهه فانفجر ينبوع أسود سال على وجنتيه من جحرين غائرين مظلمين.

– أنه أنا …. قالها بطريقة احتفالية فاتحاً ذراعيه.
– أنا ذلك المخلوق الذي أعدت خياطة أطرافه ، أنا الذي كنت لا تراه سوى حبراً على الورق ، أنا الذي قضم أيامك و ساعاتك ، أنا أنت و أنت أنا.

ثم أشار بأصبعه إلى قلب العتمة حيث يقف ممسكاً عصاه … لا تنسى ، أنه ينتظر منك أن تقرر.

عندها علمت أنه لم يعد هناك طعم لأتذوقه ، فقررت أن أغير وجهة السلاح إلى رأسي ،

ثم……….

النهاية …….

ملاحظة :

القصة من وحي الخيال واللوحة أحد أعمالي الفنية.

رمضان كريم عليكم جميعاً و كل عام و أنتم بخير.
 

تاريخ النشر : 2021-05-03

guest
9 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى