أدب الرعب والعام
طعم الورق
أزال العصابة الملفوفة عن وجهه فانفجر ينبوع أسود سال على وجنتيه |
ما الذي يمكن أن يكون أكثر قذارة من هذه الجدران التي أطالعها و لا يخطر في ذهني سوى قبو (دوستويفسكي) و مساكن الفقراء والمتسولين القابعين في قاع الحياة و لوحات (دوري) الذي حاول رسم جحيم دانتي.
و ما الذي تخفيه اللوحات المعلقة بالاتجاه المعاكس ؟ و ذؤابة الفانوس الوحيد توزع ظلالها كأشباح تتلوى على لحن الجو الذي يعصف في الخارج . كان يجلس أمامي يأكل دون توقف الورق المنضود على الطاولة التي تتوسطنا ، لا شيء آخر هناك سوى ساعة عتيقة تشير عقاربها إلى نفاد الزمن داخل هذه الجدران.
– أنا هنا في مواجهة نفسي لا لأحاسبها و لكن لأبحث عن المعنى المفقود الذي انسلخ عن دماغي في لحظة جهل .
– ما الذي تريد أن تصل اليه ؟ أنا لا أصلح الأمور ، هذا كان اتفاقنا و لم أكن كذلك يوماً ، أنا فقط أجعلك ترى .
كلما حاولت النظر للأوراق منعني بيده المتخشبة و ضياء البرق النافذ يعيد رسم وجهة الذي يذكرني بشخص ما لولا العصابة القذرة المشدودة إلى عينيه و الملوثة على ما يبدو بدم متيبس.
– أنا أبصر .. تذكر ذلك .
يستمر في مضغ الورق و أنشغل أنا في لملمة الأفكار و ترتيبها حسب وقت ولادتها في رأسي ، ثم يقاطعني :
– هذا لن يجدي نفعاً .. علينا أن نحفر عميقاً إن أردت لاتفاقنا أن يسلك طريقه الصحيح .
لم يجبني حين سألته كم سيستغرق ذلك واكتفى برفع أصبعه ، ألقيت بثقل أفكاري على الطاولة وأغمضت عيني بشدة و سألته :
– ما هو طعم الورق ؟.
– ذلك يعتمد .
– على ماذا ؟.
– على ما مررت به في حياتك.
– وما هو طعمه الآن ؟.
– بعض من الحب و كثير من الأحلام ، يجب أن تقفز نحو قاع نفسك .
رغم سرعة سقوطي إلا أنني لم أشعر بالهواء يلفحني ، وقبل أن أصل لأعانق الأرض أغمضت عيني ، لقد استمر سقوطي و في رأسي صوت يهمس : أي عمر تريد ؟ عندها حضنت احدى السنين المعلقة في العدم ، كنت فيها بعمر الست أعوام أو أصغر بقليل ، فتحت عيني على عالم يمتلئ بالألوان و كل من أحببتهم كانوا هناك يبتسمون و لوحوا لي بأيديهم ، و بينهم أمرأة أصبح جمال وجهها كجمال قلبها ، مدت لي يدها إلا أنني أمسكت بطرف ثوبها كما اعتدت أن أفعل و مشيت أتبعها ، قالت لي والدموع في عيني و عينيها : سنعود إلى بيتنا يا عزيزي ..اشتقت اليك .
جفلت لوقع سوط امتد من الظلام ليلسع ظهري وبالكاد فتحت عيني ، ملت برأسي إلى الخلف لأتجنب وهج البرق الخاطف والمطر ما زال ينهمر مداراً كما لو كان بين الأرض والسماء حساب قديم و ما زال الرجل ذو العصابة يمضغ الورق على مهل :
-هل علينا أن نستمر في الحفر ؟.
-دون كلل .
كيف أصبح طعم الورق الآن ؟.
– بطعم الخيبات ، لكني بدأت أتذوق القليل من المعنى في أحلامك ، و أرى أكثر مما تجود به سطور ذاكرتك ، عليك أن تعلم بأنك لن ترحل إلى أي مكان ، فلا تسمح لعقلك بسحب الخيوط التي تربط أصابعك ، لقد طلبت ثم تمنيت و جثوت بعدها على ركبتيك متوسلاً ، لتعلم بأن لا عالم بعد هذه الجدران سوى الجنون ، أن كنت تود أن تذهب فلن أمنعك ، أذهب و الق نظرة ، أتحداك أن تفعل .
شعور اعتصر قلبي حين رجف ضياء البرق على زجاج النافذة الوحيدة و لم أشعر بأنني سأكون بحال أفضل لو استمريت بمجادلته دون أن أقفز ، لكنني في حال تسمح لي بتأمل هذا الجمال الذي يعبر الشارع باتجاهي مرتدياً زياً مدرسياً و تلف شعرها كذيل الحصان بمشيتها المتأنية وابتسامة شفتيها العذبة ، مراهق وسيم يتبعها و في يده زهرة ، مشى بمحاذاتها دون أن ينظر أحدهما للآخر ، ناولها الزهرة ثم وقفا لبرهة يتأملان بعضهما بشغف . وضعت الزهرة في حقيبتها ثم مضى هو من حيث أتى ، كنت أقف في الجهة الأخرى من الشارع ، نحيلا كما اعتدت أن أكون و في يدي أعتصر زهرة أخرى كنت أخطط لأهديها لها .
– ما الذي كنت تخطط له بالضبط ؟.
رفعت رأسي و قد ازدادت العاصفة جنوناً في الخارج .
– ما الذي كان مفقوداً لتبحث عنه في ركام أحاسيسك الهشة ، بين صفحات الكتب ، ما الذي لم يكن في مكانه الصحيح ؟ لقد أضفيت عليها من الفضائل ما لا يحتمل و رفعتها إلى مصاف الملائكة ثم كتبت و كتبت لها دون أن تصل إلى الطرف الآخر من الخيط و بقيت هناك تلوك حسرتك ، لا بأس ، علينا أن نكمل الحفر .
– ما هو طعم الورق هذه المرة ؟.
– يبدو أن شيء منك في غير موضعه .
– أصبحت الهوة سحيقة .
– عليك أن تعلم بأن ليس هناك تراكم كمي للزمن ، كل ذلك يبدو في عقلك فقط ، الزمن واحد لا يتغير امتداده ، أنت الذي تساقط بعضك فوق بعض .
– لكنني أخاف السقوط هذه المرة .
– أنت من طلب ذلك .. أتذكر ؟ لم يعد لأي شيء معنى ، ولم يعد هناك ما تسعى اليه ، لقد وصلت مرحلة اللا طعم في كل شيء ، حينها قررت أن تستدعيني وها أنا ذا ألبي ما أردت بكل إخلاص .
– هل بإمكانك أن تغير شيئاً مما مضى ؟.
يلتقط ورقة ويدسها في فمه بهدوء دون أن يجيب عن سؤالي .
و أسقط مرة أخرى في بُعد أعمق من سابقه و محيط الحفرة أخذ بالتيبس و ملمسه صار يخدش . و كلما نظرت حولي تداخلت الأشياء مع بعضها كلوحة مرسومة بأصابع فنان مجنون ، كان المكتب الذي أجلس قبالته يسمح لي بتخمين من كان يجلس أمامي بفظاظته المعهودة و أسلوبه الغليظ ، يتكلم بانفعال و الرذاذ يتطاير من بين شفتيه ثم يطلب إلي أن أقوم بإمضاء رزمة من الأوراق وضعها أمامي ، إلا أنني كلما هممت بذلك أعتصرني قلبي فأقبض على صدري بكلتا يدي وأسقط أرضاً ، أستجمع ما لدي من قوة ، أرفع عيني لأرى ذلك الكائن وقد تحول إلى تيس يقف على قائمتيه الخلفيتين و يزمجر بعبارات لا أفهما ، يلوح بالأوراق كما لو كان ينذرني بعاقبة فعلتي ، أغمضت عيني ثم صرخت بأقوى ما يمكنني فأمتزج صوتي بصوت الرعد القادم من السماء لأفيق على وقع السوط مرة أخرى .
– ما الذي يؤلمك ؟.
نظرت جانباً أحدق في ضوء الفانوس المتراقص و لا زالت كفي تقبض على صدري ، كنت على حافة الوجع و لا بد أن أحدد مصيري بين طريقين ، أما أن أدوس على رؤوس من ابتلعهم هذا الكائن أو أن أمضي باحثاً عن اللقمة غير الملوثة بدماء الآخرين ، و هو ما لويت ذراعي لأجله و غادرت ذاك البناء المتعالي بعد أن تم شطبي من قائمة العاملين فيه .
– هل ما زلت ترغب في تصحيح مجرى الأمور ؟.
– علمت أن ذلك لم يكن خياراً منذ البداية ، فكيف لك أن تعرضه علي الآن ؟.
أنا لا أعرض عليك شيئاً ، كل ما هنالك أنني أرى ترددك في قراءة التفاصيل التي أمضغها الآن و قد أصبحت أكثر مرارة ، ما الذي تخشاه ؟.
– أخشى المستقبل حين يكون واضحاً جداً .
– ما الذي تخشاه من الماضي اذاً ؟.
– تلك البقعة المعتمة من نفسي التي تتسع كلما بعدت الأيام ، ذلك المجهود الهائل الذي بذلته ليهتم الآخرون ، ليس هناك رديف لنفسي يحمل معي ما كنت أحمله ، لذلك لجأت لتلك الخدعة ، أن أملأ الأوراق ، أتقيأ ما يجول بخاطري حبراً على الورق.
– و هل نفعك ذلك ؟.
– لقد صنعت مخلوقاً ، أعدت خياطة أطرافه ببعضها ، كان خليطاً مما كنت أريده يوماً ، مما كنت أريد لنفسي أن تكون ، لا عمق فيه ، و لا تمر الأمور من خلاله ، و لا ينظر أبعد مما ترى عيناه ، و فوق كل ذلك لديه شراهة في سحق الساعات والدقائق دون أن يستغرق فيها أو يندم.
– علينا أن نكمل الحفر .
أنا لا أهوي هذه المرة ، أنا أنزل سلماً لا أعرف أين ينتهي ، فالقاع يملأه هواء ضبابي ، و حين مددت قدمي كانت الأرض زلقة و رائحة غريبة تعبق بالمكان ، و أنا أخطو إلى حيث لا أعلم تحيطني أسرة متحركة مغطاة بشراشف بيضاء و يبدو أنها تغطي أجساداً آدمية .
– علينا أن نبقي كل شيء معقماً قدر ما نستطيع .
التفت لأجد رجلاً يرتدي رداءً أبيض و على وجهه ابتسامة دافئة .
– أنها هناك ، لا أعلم أن كانت تتوقع قدومك أم لا .
أشار إلى أحد الأسرة يعلوه ضوء خافت ، مضيت اليه ، كان هناك كرسي و شاشة ترسم خطاً متعرجاً بجانب السرير ، جلست و أمسكت يدها و الدموع تملأ عيني .
– بني .. لماذا أتيت ؟.
كانت تنظر بأتساع لما حولها ، أسرة تغطيها شراشف بيضاء تستلقي عليها أجساد تمر من خلالها خراطيم يجري بها دم مستعار ، و صوت طرق منتظم ، ألتفت خلفي ، لا شيء في عمق الظلام ، تغمض عينيها بهدوء فيرتجف قلبي وأحكم قبضتي على كفها المعرورق كأني أبث فيها شيئاً من روحي ، تعاود النظر لما حولها ، أراقبها و شفتاي منفرجة و صدري متورم بكلمات فاتني أن أقولها يوماً ، تخنقني ، فتشق طريقها دمعاً على وجنتي ، صوت الطرق يعلو و لا شيء في عمق الظلام ، أغمض عيني بشدة ، أنه يقف هناك في قلب العتمة و العصا الغليظة بيده ، يضرب بها السكون فيرتاع قلبي و تتبعثر الكلمات ، يعلو صوت الطرق أكثر ، ثم يستقيم خط الحياة على الشاشة البيضاء ، حين قالت أمي للحياة : وداعاً .
لم أجفل هذه المرة لوقع السوط ، بل نهضت و قلبت الطاولة على هذا الكائن الذي يجلس أمامي ، قطعت ما تبقى من خيوط تربط أصابعي و هممت لأقتص منه ، إلا أنه سحب مسدساً و وجهه إلي .
– أنا لا أحاول أن أقتلك ، خذ … أنا أعطيك إياه ، لقد نفد الورق ، هل ستقرر هذه المرة أم لا ؟.
يدي ترتعش و أنا أحاول أن أسدد السلاح نحوه .
– أنتظر .. دعني أولاً أريك شيئاً .
أخذ يقلب اللوحات المعلقة على الجدران .
– هل انتهينا الآن ؟ لقد كانت قصة رائعة تلك التي تراها أمامك ، ها أنت هنا تلعب ، هنا تدرس ، هنا تسير على غير هدى كالمجنون ، و هنا ، و هنا ، و في كل لوحة أرى ظلاً أسود يقف خلفك ، هل تعلم ما هو ؟ لا أعتقد أن ذلك وُجد هنا بمحض الصدفة . في كل لوحة هناك من يقف خلفك بهدوء و يبدو كما لو كان يتربص بك ، أنه ينتظر منك أن تقرر منذ زمن دون كلل و العصا بيده .
أزال العصابة الملفوفة عن وجهه فانفجر ينبوع أسود سال على وجنتيه من جحرين غائرين مظلمين.
– أنه أنا …. قالها بطريقة احتفالية فاتحاً ذراعيه.
– أنا ذلك المخلوق الذي أعدت خياطة أطرافه ، أنا الذي كنت لا تراه سوى حبراً على الورق ، أنا الذي قضم أيامك و ساعاتك ، أنا أنت و أنت أنا.
ثم أشار بأصبعه إلى قلب العتمة حيث يقف ممسكاً عصاه … لا تنسى ، أنه ينتظر منك أن تقرر.
عندها علمت أنه لم يعد هناك طعم لأتذوقه ، فقررت أن أغير وجهة السلاح إلى رأسي ،
ثم……….
النهاية …….
ملاحظة :
القصة من وحي الخيال واللوحة أحد أعمالي الفنية.
رمضان كريم عليكم جميعاً و كل عام و أنتم بخير.
تاريخ النشر : 2021-05-03