أدب الرعب والعام

جريمة في دار الأيتام

بقلم : نوار – سوريا
للتواصل : [email protected]

ما أن رأته مقتولًا حتى أطلقت صرخة رعبٍ وهلع
ما أن رأته مقتولًا حتى أطلقت صرخة رعبٍ وهلع

دخل الرائد زياد شقّته الكائنة في الدور الرابع من عمارةٍ مؤلفةٍ من خمسة أدوار وهو يلهث، فقد اضّطر إلى الصعود عبر الدرج وعدم استخدام المصعد نتيجة انقطاع التيار الكهربائي . اتجه إلى المطبخ بعد أن التقط أنفاسه، فتح الثلاجة وتناول منها زجاجة ماءٍ أفرغ نصفها في جوفه، خلع سترته وشرع بإعداد طبقٍ من البطاطس مع شرائح اللحم، إنها أسرع طبخةٍ بالنسبة لرجلٍ مثله يعيش بمفرده . وقبل أن ينتهي من تقشير أول بطاطا رن هاتفه، نظر فيه فوجد أن المتصل هو العقيد نشأت، استنكر اتصاله فلم تمضِ على مغادرته الفرع سوى نصف ساعة، فما الذي استجد!

– أهلًا سيدي.. متى؟ الآن؟! .. حاضر سيدي.. حاضر لن أتأخّر .

أغلق هاتفه وارتدى سترته ثم عاود بامتعاض نزول الدرج على قدميه، لكن النزول أسهل من الصعود على كل حال، هكذا حدّث نفسه .

**

كان الرائد زياد ضابطًا لامعًا في الأمن الجنائي، استطاع أن يُثبت براعته خلال فترةٍ قصيرةٍ ويكوّن لنفسه اسمًا ومكانةً بين أقرانه المحققين الذين كانوا ينظرون إليه بعين الحسد نتيجة ذكائه وسرعة ترقيته ووصوله لرتبة رائد، بالإضافة لاكتسابه ثقة ومحبة العقيد نشأت، هذا الرجل الذي يهابه الجميع ويحسبون له ألف حساب .

وصل زياد إلى الفرع، ترجّل من سيارته واتجه فورًا إلى مكتب العقيد، لاقاه الحاجب عند الباب وأخبره أن سيده ينتظره بفارغ الصبر فعرف زياد أن مصابًا جللًا قد حدث . سأل بعد أن أدّى التحية العسكرية :
– ما الأمر سيدي؟
– جريمة قتلٍ في دار الحياة للأيتام، أظنك تعرف هذه الدار
فكّر زياد قليلًا قبل أن يجيب :
– أليست تلك الواقعة في قدسَيّا والمخصصة للبنات فقط؟
أومأ العقيد نشأت برأسه إيجابًا فأردف زياد :
– ولكن من الذي قُتِل؟
– النائب حليم المختار
عندما عرف زياد من المقتول أدرك سبب استنفار سيده، فحليم المختار كان عضوًا بارزًا في البرلمان وهو محامٍ لامع ورجل محبوب من قبل العامة بفضل أعمال الخير التي كان يقوم بها وإحسانه للفقراء والمحتاجين، بالإضافة إلى عراقة وغنى عائلته الضارب في القِدم .

– الجريمة تتبع فرع أمن ريف دمشق في قدسَيّا لكن نظرًا لأهميّة شخص المقتول فقد استنفر فرع الأمن الجنائي هنا واهتم العميد محمود بها بنفسه وطلب مني إرسال ضابطٍ من عندنا ليتحرّى عن الموضوع ويكشف القاتل، وأنا بصراحة لم أجد أكفأ منك لهذه المهمّة، لذا أرجو منك التوجّه حالًا إلى هناك والبدء بالتحريات .

شعر زياد بمسؤوليّةٍ كبيرةٍ تُلقى على عاتقه جرّاء حديث العقيد نشأت، لكنه لم يُبدِ تخوّفه بل قال بثقة :
– حاضر سيدي وأرجو أن أكون عند حسن ظنك بي .
– ستجد بانتظارك الملازم شريف، لديه كافّة المعلومات والتفاصيل دعه يطلعك عليها وتعاونا معًا على كشف ملابسات الجريمة والإمساك بالقاتل .

– هل هناك توجيهات أخرى سيدي؟

– حاليًا لا يوجد، انطلق الآن وأطلعني على أيّة تطورات ممكن أن تحصل

– حاضر سيدي، احترامي .

خرج زياد من عند العقيد وفي ذهنه عشرات الأسئلة والتصوّرات المتعلّقة بالجريمة، لماذا حدثت ومن له مصلحة بقتل رجل طيب ومحسن مثل السيد حليم المختار، أم للجريمة أبعادًا سياسية، وهل سيتمكن من الإمساك بالقاتل؟

**

أدار زياد مذياع السيارة في طريقه إلى مسرح الجريمة فوجد الإذاعات كلها تتحدث عنها، فقال لنفسه أبهذه السرعة وصل الأمر إلى الإعلام، إذًا فلأهيئ نفسي لطوابير الصحفيين الذين بالتأكيد سيكونون محتشدين على باب الملجأ من أجل الحصول على سبق صحفي أو أيّة معلومة يجعلون منها مادة للنشر على صفحاتهم ومواقعهم الالكترونية .

استغرق زياد للوصول إلى قدسَيّا نصف ساعة تقريبًا، فقد كانت هذه المنطقة تبعد عن العاصمة دمشق مسافة سبعة عشر كيلو مترًا . عند وصوله إلى هناك استدلّ على مكان الدار بعد بضعة أسئلةٍ طرحها على المارّة، وكما توقع وجد حشدًا من الصحفيين وأهالي المنطقة الفضوليين واقفين عند بوابة الملجأ . ركن سيارته جانبًا وشقّ لنفسه طريقًا بين الحشد نحو البوابة . كان منظره بشعره الأحمر المجعّد ووجنتيه المليئتان بالنمش ملفتٌ للنظر، فضلًا عن طوله الفارع وأناقته الشديدة . نظر الجمع إليه بفضول وهو يضغط بثقة على زر الجرس، تقدمت منه في هذه اللحظة فتاةٌ شابةٌ كحيلة العينين، ذات أنفٍ أقنى ترتكز عليه نظارة طبية، ولها حسنة في خدّها الأيمن . قالت بعد أن أمعنت النظر فيه :
– المعذرة، ألست أنت الرائد..
لكن سؤالها بُتِر عندما انفتحت نافذة صغيرة في البوابة أطلّ منها رجلٌ قال بصوتٍ غليظٍ من خلف شاربيه :
– من الذي رنَّ الجرس؟ رجاءً ابتعدوا من هنا
وكاد يغلق النافذة لولا إسراع زياد بعرض بطاقته عليه :
– أنا الرائد زياد منصور من فرع الأمن الجنائي بدمشق، أرسلتني القيادة للتحقيق في الجريمة التي حدثت هنا .

ازدرد البوّاب ريقه بصوتٍ مسموع ثم فتح البوابة ذات القفل الضخم مفسحًا المجال لدخول المحقق الشاب فقط، وأسرع بعدها في إيصادها بوجه البقيّة .

وقف زياد مبهورًا من اتّساع حديقة الملجأ ذات الأشجار الباسقة المنتشرة بشكل عشوائي، ومن بعيد تراءى له مبنى الميتم مختبئًا خلف الأشجار . “إنه مكان غير مريح ” قال زياد في نفسه وقرر عدم نسيان هذا الإحساس، فانطباعاته الأولى عن الأماكن والأشخاص قلّما تخطئ . أخرجه من أفكاره صوت البوّاب يقول :
– اتبعني سيدي لو سمحت .

سار زياد خلف البواب بطريق متعرّج زاد استقامةً كلما توغّلا أكثر باتجاه المبنى .

كانت جدران المبنى الخارجية مطليّة باللونين الأبيض والرمادي، لكن الزمن أحالهما إلى لون باهت كئيب . عند اقترابهما من المدخل لاحظ زياد عيونًا ترقبهما من النوافذ، وخلف النوافذ كان يدور هذا الحديث :

– لقد جاء رجلٌ غريبٌ إلى هنا

– يبدو أن المكان سيعج بالغرباء

– إنّ له شعرٌ أحمر كشعر “حسان” في أنمي سلام دانك

قاطع ثرثرة الفتيات صوتٌ صارمٌ صدر من فتاةٍ أكبر سنًا من الجميع تُدعى رهف :
صمتًا يا فتيات والتزما بتعاليم الآنسة سوسن، لا شأن لنا بالجريمة التي حدثت هنا، فهمتن؟

بعد كلامها هذا أخذت البنات يبتعدن بخوف عن النوافذ واحدةً تلوَ الأخرى، بينما تمتمت رهف بقلق : تُرى عن ماذا ستفصِح الأيام القادمة، يا إلهي أرى السواد قادمٌ نحونا وسيبتلعنا . رحمتك يا الله

***

حيّى زياد شرطيًا يقف عند الباب ثم دلف إلى الداخل ..
كان المدخل الرئيسي للملجأ عبارة عن صالةٍ واسعة في نهايتها ممر . غُطّيت نوافذها بستائر ثقيلة ذات ألوانٍ معتمة . يشغل جانبٌ منها موقد حطبٍ ضخم من شأنه أن يشيع دفئًا رائعًا أيام الشتاء، أما حاليًا في شهر نيسان كان مطفأً . وفي منتصف الصالة درج يفضي إلى الطوابق العلوية . وعلى أحد المقاعد الموضوعة أمام الموقد جلس رجل شاب في أواخر العشرينات، شعر جبهته متراجعٌ إلى الخلف مما يزيد من عرضها، بينما الكثافة تتركّز في شعر حاجبيه، يمتلك عينين جاحظتين نوعًا ما وشفاهًا دقيقة صارمة . نهض واقفًا ما أن رأى زياد يدخل، بادره الأخير القول :
– أعتقد بأنك الملازم شريف أليس كذلك؟
أجاب شريف بعد أن حياه :
– أجل، وأنت الرائد زياد، كلّمني رئيسي وأخبرني بقدومك وطلب مني تأجيل التحقيق ريثما تصل .
مدّ زياد يده مصافحًا :
– أرجو أن نتعاون معًا للوصول إلى القاتل وتقديمه للعدالة .
نظر شريف متفحّصًا زياد ومستغربًا من هذه الثقة التي تشع من عينيه الخضراوين وتغلّف صوته، لكنه تحامل على نفسه ومدّ يده مصافحًا هو الآخر . كان واضحًا منذ البداية أن هناك عدم ترحيب بمجيء زياد من قبل شريف وبدأت رياح المنافسة تزأر بينهما..

– أرجو أن تُطلعني على كافّة التفاصيل المتعلقة بالجريمة لكن قبل كل شيء، لماذا لم أجد شرطيًا يقف خارج المبنى ويمنع الفضوليين من الاقتراب! أرسل واحدًا إلى هناك من فضلك .
كاد شريف ينفجر غيظًا بسبب إهماله هذه النقطة البديهية لكنه تمالك نفسه وأسرع بإرسال الشرطي ..

– أين وقعت الجريمة؟ سأل زياد
– في مكتب السيدة ماجدة مديرة الملجأ وهي من اكتشفها

دوّن زياد شيئًا في مذكّرته قبل أن يرفع رأسه ويقول، خذني إلى مسرح الجريمة من فضلك .
اجتاز زياد الصالة يتبع خطى الملازم شريف الذي وقف أمام غرفة في نهاية الرواق وفتح الباب قائلًا تفضّل ..
جال زياد بنظره في أرجاء الغرفة، كانت الأرضية مغطاة بسجادة جميلة يتناسب لونها مع لون الستائر، ويشغل جانب منها مكتب أنيق تزيّنه التحف وقد صفت عليه بعض الأوراق والصحف .

تكلّم شريف :
السيد حليم المختار رجل في الثانية والستين من عمره وهو غنيٌّ عن التعريف، جاء ظهيرة هذا اليوم إلى الملجأ من أجل التبرّع بمبلغٍ من المال كما اعتاد أن يفعل في كل حين، استقبلته السيدة ماجدة هنا في مكتبها، تحدّثا لبعض الوقت ثم خرجت لتفض مشاجرة حدثت بين فتاتين من الميتم . وعندما عادت وجدته ملقىً وراء المكتب والدماء تسيل من مؤخّرة عنقه وصدره.. لقد كان جثةً هامدة .

– ما هي التحريات التي قمتم بها لحد الآن ؟
– لقد جئنا إلى هنا فور إبلاغنا بالواقعة، وصلنا تقريبًا في الواحدة وعشر دقائق، التقطنا الصور ورفعنا البصمات وبقية الإجراءات الأوّلية ونقلنا الجثة إلى المشرحة، ونحن بانتظار تقرير الطبيب الشرعي .

اكتفى زياد بهذه المعلومات، أما التفاصيل فأراد معرفتها بنفسه لذلك قال :
– أريد أن أستجوب كل من في هذا الميتم، أحضرهم لي كلٌّ على حِدا لو سمحت .
تملّك شريف غيظٌ شديد، فمنذ مدة لم يُكلَّف بمهمة تستحق، كل الحوادث التي كُلِّف بالتحري عنها في الفترة الأخيرة كانت وقائع عادية تم الاهتداء إلى فاعلها بسهولة، وعندما تم إبلاغه عن وقوع هذه الجريمة ملأه الحماس وقرر أن يثبت لمرؤسيه مهاراته، لكن هذا الرائد ذو الشعر الملتهب أفسد بقدومه كلّ شيء .
– بمن تريد أن تبدأ؟ سأل بصوت لا ينم عن البركان المتّقد في داخله .
– عدا الفتيات، من هم الموجودون هنا بشكلٍ دائم؟
– السيدة ماجدة مديرة الملجأ، الآنسة سوسن مساعدتها، البواب عطا الله، صفية وهناء خادمتان .
– فلنبدأ بالمديرة، إليّ بها ..

دخلت السيدة ماجدة الغرفة خائرة القوى فأسرع زياد وقدّم لها كرسيًا فتداعت عليه . كانت امرأةً خمسينيّة، ذات عينين حادتي النظرات يعلوهما حاجبين مشدودين يوحيان بالقسوة، تعقص شعرها الذي وخطه المشيب إلى الخلف، قالت بعد أن شكرته :
– اعذرني لكن ما حدث كان فوق طاقتي، أنا.. أنا لا أصدّق، لا أصدق أن المحسن حليم المختار قد قُتِل، يا إلهي إنه كابوس .

– هدّئي من روعك سيدتي وتماسكي حتى نفهم منك ما الذي حدث .
– لكني أخبرت هذا الرجل كلّ شيء أعرفه . قالت مشيرةً إلى شريف
ابتسم زياد :
– هلّا تكرّمتِ وأعدتِ علينا ما حدث من فضلك؟
مسحت ماجدة عن عينها دمعة غير مرئية وتكلمت :
– جاء السيد حليم إلى هنا في الساعة الثانية عشرة من ظهر هذا اليوم
– ألم تستغربي مجيئه؟
– أبدًا، فليست المرة الأولى . لقد كان المرحوم من أبرز المحسنين لهذه الدار، ودائمًا يكون على رأس المدعوين لحضور الفعاليات التي نقوم بها في الأعياد والمناسبات الأخرى .
– وهل كان يلبّي الدعوة؟
– بالطبع . أنت لا تعرفه، لقد كان يحب فتيات الميتم ويعاملهن بعطف وحنان كما يحنو الأب على صغاره، لذلك لا يتوانى عن الحضور تشجيعًا لهن .
– ولماذا أتى اليوم؟
– ليتبرع بمبلغٍ من المال
– وكم هو المبلغ؟
– أربعة ملايين ليرة
– هل استلمته؟
بلّلت ماجدة شفتيها بلسانها وقالت :
– بصراحة لا، لقد فتح الحقيبة ليعطيني المال لكن رهف اقتحمت المكان فجأة تناديني لفض مشاجرة حدثت بين فتاتين .
تدخّل شريف مستغربًا :
– حقيبة؟ لم نر أيّة حقيبة عندما قدمنا إلى هنا، ولم تذكري لنا شيئًا عنها!
– اعذرني فقد كنت منهارةً ومشتتة التفكير عندما قدمتم .
تكلم زياد :
– لا بأس، تابعي
– لقد حدّثني المرحوم عن قطعة أرض قام ببيعها هذا الصباح بمبلغ أربعون مليون ليرة، قرر أن يتبرع منها للميتم ويضع الباقي في البنك .
تبادل شريف وزياد نظرات الدهشة وسأل الأخير :
– وهل كان المرحوم معتادًا على مناقشة أموره معك؟!
انتفضت السيدة ماجدة وزاد توتر حاجبيها، قالت بحدة :
– ماذا تقصد؟ أخبرتك أن هناك صداقة تربطنا بهذا الرجل، ثم أنه رفض دعوتي له على الغداء وذكر أنه في عجلة من أمره، يريد أن يودع المبلغ في البنك قبل أن يغلق البنك أبوابه .

تجاهل زياد انفعالها وتابع :
– حسنًا، قلتِ بأنك اضطررتِ للخروج فجأة من المكتب
– أجل، لفض مشاجرة حدثت بين الفتيات
– هل تستطيعين أن تحدّدي كم الساعة وقتها؟
فكرت ماجدة قليلًا قبل أن تجيب :
– الثانية عشرة وعشرون دقيقة تقريبًا
– وكم تغيبتِ؟
– ربما عشرون دقيقة، أذكر أن الفتيات أكثرن المجادلة وشغلنني إلى أن تنبهت بأن الساعة أخذت تقترب من الواحدة، والرجل كان مستعجل ومن غير اللائق أن أجعله ينتظر فأسرعت بالعودة
– صفي لنا بدقة ماذا رأيتِ عندما عدتِّ .
تهدّج صوتها وهي تقول :
– دخلت الغرفة فلم أجد السيد حليم المختار جالسًا في مكانه، خِلتُ للحظة بأنه قد غادر لكني عندما اقتربت من المكتب وجدته ملقى خلفه على الأرض والدماء تسيل من عنقه وصدره، لقد كانت عيناه جاحظتان مرعبتان، يا إلهي كيف سأنسى هذا المشهد!
ودخلت بنوبة بكاءٍ شديدة، انتظرها زياد إلى أن تهدأ ثم قال :
– وهل كان يجلس خلف المكتب عندما قابلتِه؟
– لا، أنا من كنت جالسة هناك أما هو فقد كان يجلس أمامي على هذا الكرسي، وأشارت إلى الكرسي الذي يجلس عليه شريف مما جعله يتململ في مكانه .

دوّن زياد ملاحظة في مفكّرته ثم قال :
– متأكدة أنتِ من أن الحقيبة كانت مليئة بالنقود؟
– أجل ، فقد فتحها أمامي وكاد أن يعطيني منها المبلغ الذي وعدنا به .
– حسنًا، بإمكانك الانصراف الآن لكننا قد نستدعيك ثانية

ما أن خرجت السيدة ماجدة حتى اندفع شريف بالكلام :
– لم نجد أيّة حقيبة عند جثة القتيل عندما قدمنا، هذا يعني أن القتل تم بقصد السرقة، وهذا أيضًا يجعل الجريمة منطقية، فقبل ظهور الحقيبة وما تحتويه من مال كان كل شيء يبدو مبهمًا، أما الآن فقد ظهر الدافع .

التزم زياد الصمت، فلم يكن من النوع المتسرّع في استنتاجاته ولا يحب أن يطلق أحكامًا متعجلة على الأمور .

جاء دور الآنسة سوسن لتدلي بأقوالها، نهض شريف ليناديها لكن شرطيًا طرق الباب مستأذنًا بالدخول، كان يحمل معه تقرير الطبيب الشرعي . فضّه زياد بسرعة وألقى نظرة عليه، ثم رفع رأسه وقال :
– تقرير الطبيب الشرعي يفيد أن الوفاة تمت قبل أقل من ساعة من موعد وصول رجال الشرطة إلى الميتم، وقد ذكرتَ لي أنكم قدمتم في الواحدة وعشر دقائق، وبحسب إفادة السيدة ماجدة فالجريمة حدثت في العشرين دقيقة التي تغيَّبَتها، أي ما بين الثانية عشر وعشرون دقيقة والثانية عشر وأربعون دقيقة، وهذا يتوافق مع ما جاء في التقرير . أما سبب الوفاة فهو طعنتين، واحدة أسفل العنق والأخرى في القلب بأداة حادّة، ويرجّح الطبيب أن طعنة العنق كانت كافية للقضاء عليه وهي من تمت أولًا . أي أن القاتل هجم عليه من الخلف ومن ثم واجهه..

غرق زياد في أفكاره لكن شريف قاطعه :
– بماذا تفكّر سيدي؟
– ببضعة أسئلة سأطرحها لاحقًا على الطبيب الشرعي.. أدخل الآن الآنسة سوسن لو سمحت .

دخلت سوسن الغرفة بهدوء وجلست برصانة . كانت امرأة في منتصف العمر، قصيرة القامة، مكتنزة الجسم، لها عينان صغيرتان وأنف أفطس، ترتدي ثوبًا طويلًا وتلف نفسها بوشاحٍ مطرّز بالورود . ألقى عليها زياد نظرة حاول من خلالها سبر غورها لكن تعابيرها الجامدة لم تنم عن أي شيء فبدأ باستجوابها :
– ما الذي تعرفينه عن المغدور؟
– ما يعرفه الجميع عنه . رجل وقور، حمل بين جنباته قلبًا طيبًا جعله لا يتوانى عن مساعدة الملجأ بمبلغٍ من المال من فترة لأخرى .
– وهل تعرفين لماذا أتى اليوم؟
– عرفت فيما بعد من المديرة ماجدة، أي بعد وقوع الجريمة
– حسنًا، سأستوضح منك بضعة أمور كنت أود معرفتها من مديرتك لكن حالتها النفسية لا تسمح
– المسكينة، كان وقع الصدمة عليها شديدًا . تفضّل سيدي سل ما تشاء
– منذ متى تعملين هنا؟
– منذ ثماني سنوات
– والسيدة ماجدة؟
– كانت مديرة للملجأ قبل مجيئي تقريبًا بخمس سنوات .
– كم عدد بنات الميتم؟
– حاليًا ستةٌ وأربعون فتاة، ينقص العدد أو يزيد إما بانضمام فتاة جديدة أو بتبنّيها من قبل إحدى العائلات .
– أين كانت الفتيات ساعة ارتكاب الجريمة؟
– كن في الطوابق العلوية، فالمديرة ماجدة لا تحب الضجة فترة الظهيرة وتمنعهنّ من النزول إلى الصالة في هذا الوقت إلا للضرورة
– وأنتِ أين كنتِ؟
– كنت أشذّب بعض الأغصان وأسقي الورود في الحديقة منذ مجيء السيد حليم المختار وحتى سماعي لصراخ السيدة ماجدة، فهرعت إليها لمعرفة السبب، ويا لهول ما رأيت . كان المسكين مكوَّم خلف المكتب غارقًا في بركة من دمه . وصدرت عن رأسها حركة كمن ينفض عن ذهنه صورة بشعة لا يريد تذكّرها فيما تابع زياد أسئلته :
– قلتِ بأنكِ كنتِ في الحديقة تسقين الزهور، لكني لم أر أية زهور في الخارج عندما أتيت!
– الحديقة تقع في الجهة الخلفية من المبنى لذلك لم ترها . قالت سوسن مبتسمة

– شكرًا لك ، بإمكانك الانصراف

نهضت سوسن مغادرة الغرفة بهدوء مثلما دخلت، وجاء دور الخادمة صفية لتدلي بدلوها في القضية وقد كانت امرأةً بدينةً تمتلك وجهًا بشوشًا يوحي بالطيبة :
– لا أعرف أي شيء سيدي، كنت منشغلة في المطبخ طوال الوقت ثم اقتحمت المكان الآنسة سوسن وطلبت منا مناداة البواب عطا الله بأسرع وقت، كانت مضطربة وخائفة . بحثنا عن البواب فلم نجده في غرفته ثم عدت إليها بعد أن بحثنا عنه في كل مكان فوجدته فيها، وكنت وقتها قد علمت بما حدث، يا إلهي إنه لأمر فظيع .

لم تختلف إفادة الخادمة الأخرى عن إفادة صفية، نهض زياد من مقعده بعد أن غادرت واتجه نحو النافذة، أطلّ منها وأخذ يقدّر أبعادها بنظره ثم التفت إلى شريف :
– هل كانت النافذة مفتوحة عندما قدمتم؟

– أجل

– كما ترى هي بلا قضبان حديدية، من السهل على أي شخص أن يدخل منها إلى المكتب، كما أن غرفة الآنسة سوسن متّصلة بغرفة مديرتها، وحسب أقوالها فإنها كانت في حديقة الزهور طوال الوقت . يعني أن القاتل كان أمامه ثلاثة طرق للدخول إلى هنا وارتكاب جريمته ثم الهرب، إما عن طريق النافذة أو غرفة الآنسة سوسن أو من باب المكتب نفسه .

– كلامك صحيح سيدي وهذا يجعل دخول القاتل دون أن يلفت الأنظار إليه أمر سهل .

– لكن ما يحيّرني أن السيدة ماجدة لم تغب عن الضحية سوى عشرون دقيقة، وكان هناك احتمال أن تعود في وقتٍ أسرع، فكيف استطاع القاتل أن يفعل فعتله ويلوذ بالفرار دون أن يشاهده أحد! ثم كيف عرف أن حليم المختار بات لوحده في المكتب؟ هذا يعني أنه كان يراقب المكان واستغل فرصة خروج المديرة . لكن ماذا لو لم تحدث المشاجرة بين الفتيات وبالتالي لم تضطر ماجدة إلى ترك الرجل وحيدًا كيف كان سيقتله .

أجاب شريف مترددًا :
– ربما كانت المشاجرة مفتعلة من أجل إبعاد السيدة ماجدة عن الغرفة
زياد بعدم اقتناع :
– ذلك يعني أن من بين الفتيات من هي شريكة بالجريمة ، لا أعتقد ذلك . إنه احتمالٌ بعيد
استغلّ شريف الفرصة ليرد باستعلاء :
– عملنا بهذا المجال يحتم علينا ألا نستبعد أي احتمال، فكل شيءٍ وارد .
تغاضى زياد عن عجرفة شريف وتابع :
– لو دققنا بأحداث الجريمة لوجدنا أنها حدثت بالصدفة، فلولا خروج السيدة ماجدة المفاجئ لما قُتِل السيد حليم المختار .
– إلا إن كانت المديرة ماجدة هي القاتلة، وأنا أرجّح كثيرًا هذا الاحتمال، فهي الوحيدة التي رأت النقود في الحقيبة وهي الوحيدة التي كانت تمتلك متسعًا من الوقت لارتكاب الجريمة، فضلًا عن اعتقادي بأنها تمتلك من قوة الأعصاب ما يخوّلها بفعل ذلك .

عاد زياد للجلوس وقال :
– من المبكّر جدًا توجيه الاتهام إلى أي شخص، دعنا الآن نكمل استجوابنا، أَدخِل البواب عطا الله من فضلك .

دخل عطا الله بخطوات متردّدة، قال بعد أن نزع قبعته وعصرها بيده :
– بماذا أستطيع مساعدتكم؟ فالسيد حليم المختار لا يستحق ما حدث له . ليتني أمسك بالقاتل حتى أثأر لموته .
ابتسم زياد وقال مشيرًا له بالجلوس :
– شكرًا لتعاونك، تفضّل اجلس واحكي لنا ما تعرفه عن الموضوع .
كان عطا الله رجلاً ضخم الجثة أصلع الرأس، يغطي جسده بسترةٍ رثّةٍ تصل إلى ركبتيه وبنطال أدخل طرفيه بحذائه طويل العنق . قال بعد أن أعاد القبعة على رأسه :
– عذرًا، هل بإمكاني التدخين؟
– لا بأس.. حدثنا بما تعرفه عن الجريمة .

أشعل عطا الله سيجارة وضعها بين شفتيه المختبئتين خلف شاربيه ونفث منها نفثة ثم تكلم :
– للأسف لا أعرف شيئًا عما حدث، لقد استقبلت السيد حليم المختار عندما قدم اليوم وأوصلته إلى الصالة ومن ثم عدت إلى غرفتي بجانب البوابة ولم أبرح مكاني إلا عندما جاءت صفية تخبرني عن وقوع الجريمة .

مال زياد بجسده إلى الأمام وقال :
– لكن صفية أخبرتنا بأنهم بحثوا عنك في البداية ولم يجدوك، فأين كنت خلال هذه المدة؟

اهتزّت السيجارة في يد البواب وقال متلعثمًا :
– لكني لم أبرح غرفتي يا سيدي
صمت قليلًا يفكّر ثم استدرك :
– تذكّرت، خرجت لشراء علبة دخان بعد أن نفد ما لدي منه ثم عدت .
سادت لحظة صمت قصيرة ثم استأنف زياد استجوابه :
– هل كان السيد حليم المختار يحمل حقيبةً عند مجيئه؟
– أجل، كان يحمل حقيبةً سوداء متوسطة الحجم
– هل تعرف ما بداخلها؟
– ومن أين لي أن أعلم!
– متأكّد أنت بأنك لا تحمل أية معلومة قد تفيدنا بإماطة اللثام عن الجريمة؟
وضع عطا الله عقب السيجارة في المطفأة ووزّع نظرات مترددة بين شريف وزياد ثم قال :
– لدي شيء لكن لا أعرف ما أهميته في التحقيق
أسرع زياد يقول :
– هات ما عندك..
– عندما خرجت لشراء علبة الدخان رأيت أمين يقف بسيارته خارجًا
– من هو أمين؟
– الابن البكر للسيد حليم المختار

تلاقت عينا شريف وزياد وأومآ لبعض برأسيهما، فقد أدركا ظهور متهمٍ جديد على الساحة لم يكن بالحسبان .

طلب زياد بعد ذلك رؤية رهف فجاءت على استحياء تجر قدميها جرًا، تأملها المحقق فوجدها فتاةً في الرابعة عشرة من عمرها ذات وجهٍ مليح يكلّله شعر كستنائي مسترسل على كتفيها .
سألها بعد أن طلب منها الجلوس :
– ماذا يعني لك السيد حليم المختار؟
أجابت بثباتٍ منافٍ تمامًا لدخولها الخجول :
– من أكرم الرجال الذين مروا على هذه الدار وأكثرهم عطفًا ورأفة .
– منذ متى تعرفونه؟
– جاء أول مرة منذ سنة ونصف تقريبًا تلبيةً لدعوة بحضور حفل تبرّع خيري أقامته السيدة ماجدة، ومنذ ذلك الوقت وهو يغدق علينا بكرمه .
– سأسألك سؤالًا محددًا أرجو أن تركّزي كثيرًا قبل أن تجيبي عليه
– تفضل..
– عندما ناديتِ السيدة ماجدة من أجل فض الشجار الذي حدث بين الفتيات هل تذكرين ما رأيتِ في الغرفة؟
– رأيت السيدة ماجدة تجلس خلف المكتب وأمامها على المقعد كان يجلس السيد حليم واضعًا أمامه حقيبة مليئة بالنقود أسرع بإغلاقها عندما رآني داخلة .

– حسناً هذا كل شيء، بإمكانك الانصراف

نهضت رهف ومشت نحو الباب لكنها توقفت فجأة والتفتت إلى المحققين :
– كنت أعلم بأن أمرًا فظيعًا سيحصل
زياد مستغربًا :
– ماذا تعنين؟
– لقد شممت رائحة الشر هذا الصباح بعد أن استيقظت من كابوس مخيف رأيت فيه غربانًا ميتة في مكتب السيدة ماجدة، كانت جثث الغربان منتشرة بشكل كبير على المكتب والمقاعد وعلى الأرض

قالت كلامها هذا وخرجت مسرعة تاركةً الرجلين تحت تأثير كلامها الغريب ..

**

التقى زياد بعد ذلك بالفتيات وكانت بصحبته المديرة ماجدة، سألهن إن كنّ رأين أو سمعن شيئًا ما، فأجبن جميعهن بالنفي . قال زياد مخاطبًا شريف وهما ينزلان درجات السلم :
– هل لاحظت الخوف الكامن في عيون الفتيات؟ إنهن إما يخشين شيئًا ما أو تمارس عليهن أساليب قمع وترهيب..

– عذرًا سيدي، ولكن ما شأن الفتيات بمقتل السيد حليم! لا أظن أن سلوكهن يعنينا بشيء..

– تذكر يا صديقي أن المحقق المتميز هو من يلاحظ كل شيء يدور من حوله حتى لو كان تافهًا، فجرائمٌ كثيرة تم الاهتداء إلى فاعلها بسبب ملاحظة صغيرة .

**

خرجا بعد ذلك إلى حديقة المبنى الخلفية فانبهرا من روعة تنسيقها وجمال أزهارها
– أرجو أن تكون الحديقة قد نالت إعجابكما، قالت سوسن وهي تطل من نافذة غرفتها عليهما .
– أجل إنها رائعة . قال شريف، بينما سأل زياد :
– هل أنتِ من تشرفين عليها؟
– بل أنا من أنشأتها . لطالما عشقت الورود والاعتناء بها، وعندما التحقت بالعمل هنا لاحظت أن إطلالة نافذتي كئيبة ومملّة فقررت تحويل الجزء الخلفي من المبنى إلى هذه اللوحة كما ترى .
– بالفعل إنها لوحة متعدّدة الألوان لكن الاعتناء بها يحتاج إلى جهد عظيم .
– عندما تُنجِز عملاً تعشقه فإنك لن تشعر بتعبه، أو بتعبير أدق لن تكترث لهذا التعب . أفضل أوقاتي هو الوقت الذي أُمضيه في هذه الحديقة .

لاحظ زياد أن سوسن تتخلّى عن تحفظها عندما تتكلم عن حديقتها، ولو أفسح لها المجال لبقيت مسترسلة في الحديث إلى ما لا نهاية، لكنه لم يكن يمتلك الوقت لسماع المزيد، لذلك انسحب بلباقة يتبعه شريف . توقفا عند نافذة مكتب المديرة ماجدة فلاحظا آثار أقدام غير واضحة على العشب الجاف، قال زياد عندما دقق النظر فيها :
– يبدو أن صاحب الأقدام خرج من النافذة لكن لم يدخل منها . المشكلة أن الأرض هنا جافة ولا تمسك بالآثار جيدًا .
حاولا تتبعها لكنها لم تقودهما إلى شيء لأنها سرعان ما ضاعت
تمتم زياد :
– يجب أن نعرف صاحب هذه الأقدام .
نظر في ساعته فوجدها تقترب من السادسة مساء فقال :
– علينا التوجه الآن إلى القسم وسنعود غدًا إلى هنا .

غادر المحققان بعد أن طلبا من الجميع عدم مبارحة المكان ريثما ينتهي التحقيق .

**

عادت لينا متجهّمة الوجه إلى المنزل، ألقت التحية على والديها ودخلت مسرعة إلى غرفتها . لحقت بها شقيقتها مرح..
– تبدين مستاءة، ما الذي حدث؟
– لم أستطع جلب أية معلومة، لم يسمحوا لنا من الاقتراب ولا حتى طرح أي سؤال
أطلقت مرح ضحكة قصيرة قبل أن تقول :
– ألهذا أنتِ مكتئبة؟ عليكِ أن تصبري فالجريمة لم يمضِ عليها الكثير من الوقت، فما الذي تستطيعين الحصول عليه في هذا الزمن المبكر ؟
– ما أغاظني المحقق المغرور الذي كلف بالتحقيق، لم يلتفت لي ولم يعرني اهتمامًا عندما كلمته، يبدو أنه لن يكون متعاونًا معنا
شردت قليلًا ثم أسرعت إلى حاسوبها المحمول فتحته ووضعت اسم المحقق زياد منصور في محرك البحث على فيسبوك فظهرت لها عدّة صفحات بهذا الاسم، لكنها اهتدت بسرعة إلى صفحته بسبب شعره الأحمر المميز . لم يكن نشطًا جدًا على حسابه فتواريخ منشوراته عليه متفاوتة . نظرت في معلوماته الشخصية فعرفت أن عمره خمسة وثلاثون، ثم دخلت إلى معرض صوره وأخذت تقلب فيها، لم تستطع منع نفسها من الإعجاب به، توقفت عند صورة له مع فتاة تشع السعادة من عينيها وهي تسند رأسها إلى كتفه، أما وصف الصورة فكان ” معًا إلى الأبد ” . نظرت في تاريخها فوجدتها قبل خمس سنوات ولم تجد صورًا أخرى له معها . لا تعرف لمَ شعرت بالارتياح عندما لم ترَ صورًا أخرى لها خاصّة في المنشورات الحديثة .
أطلّت أختها مرح من خلف كتفها ملقية نظرةً على شاشة الحاسوب..
– من هذا؟
– المحقق زياد الموكل بالقضية
– وكأنني أشم رائحة إعجاب في الموضوع..
أسرعت لينا إلى إغلاق الجهاز وقالت منتفضة :
– أنا أُعجب برجل مغرور مثله! لا أنكر أنه وسيم لكن الوسامة ليست كل شيء
– إذاً لماذا بحثتِ عن حسابه!
– مجرّد فضول لا أكثر

**

دخل زياد قسم الشرطة في قدسَيّا وطلب مسرعاً رؤية الطبيب الشرعي، وعندما جاء سأله :
– هل الطعنات التي تم توجيهها للمغدور حليم المختار بإمكان المرأة القيام بها أم أنها تحتاج إلى جهد رجل فقط؟
فكر الطبيب قليلاً ثم أجاب :
– الضربات كانت في أماكن قاتلة، وفي الحقيقة الرجل يفعلها بكل سهولة لكن لا أستطيع نفي إمكانية المرأة القيام بها خصوصًا إن كانت بُنْيَتَها تساعدها على ذلك .
– وما هو تصوّرك عن أداة الجريمة؟
– أي أداة حادّة تفي بالغرض، سكين، مقص، مفك أو سيخ معدني
عند ذكر السيخ المعدني تذكر زياد سيخ تحريك الحطب في موقد صالة الميتم، وهو يذكر أنه رآه، إن له رأس حادة ممكن أن تقتل، وإن كان بالفعل هو أداة الجريمة فإن تركه هناك كان غباءً من القاتل .
شكر الطبيب وأسرع بالاتصال بالشرطي الذي تركه في الميتم وطلب منه إحضار السيخ حالًا إلى القسم . لكن الشرطي عاود الاتصال به بعد دقائق نافيًا وجود أي سيخ بجانب الموقد . ضرب زياد الطاولة بقبضة يده تعبيرًا عن استيائه فيما تابع الشرطي كلامه :
– سيدي أريد أن أطلعك على أمر..
– ما هو؟
– أمين المختار، ابن المجني عليه، جاء إلى الميتم بعد خروجكما تقريبًا
– ما غرض زيارته؟
– ليسأل عن حقيبة النقود التي كانت بحوزة والده
– وماذا فعل بعد أن علم باختفائها؟
– لم يفعل شيء، لكني شعرت بأنه متأثر بفقدان الحقيبة أكثر من فقدان والده..

قال زياد ملتفتًا إلى شريف بعد أن أنهى اتصاله بالشرطي :
– كم كنا أغبياء ، كان يجب أن ننتبه . أداة الجريمة كانت أمام أعيننا ولم ندرك ذلك إلا متأخّرين . أنا أذكر جيدًا أنه كان هناك، هل لاحظت وجوده أنتَ كذلك يا شريف؟
– أجل سيدي فقد جلست بجانب الموقد فترة لا بأس بها عندما كنت بانتظارك وأذكر أني رأيته . لكن عمّن كنت تتكلم مع الشرطي؟
– أمين المختار، جاء يسأل عن حقيبة النقود
– ألا ترى أن هناك علاقة بين زيارته واختفاء السيخ المعدني؟
– ربما نعم وربما لا، على كل حال لقد وضعنا تصوراً لأداة الجريمة، كما أن اختفاءه يعني أن القاتل بدأ بالتحرك، وتحرّك القاتل سيجعله يرتكب الأخطاء، وما علينا سوى الانتظار .

رمق شريف زياد بإعجاب، فقد بدأ يتضح له أن الشهرة التي اكتسبها لم تكن عن عبث، لكنه مازال مصرًا على أنه بإمكانه هو الوصول إلى القاتل دون مساعدة منه وسيُثبت ذلك لنفسه وللجميع .

***

توجّه زياد في العاشرة من صباح اليوم التالي إلى شركة المختار للاستيراد والتصدير لمقابلة مديرها أمين المختار والتحقيق معه بشأن مقتل والده .
نهض أمين من خلف مكتبه لاستقبال المحقق، فوجده الأخير شابًا رياضيَّ البنية حليق الذقن والشاربين، يربط شعره الطويل إلى الخلف، ورث عن أبيه لون البشرة القمحي والأنف المستقيم . قال مرحّبًا بزياد :
– أهلًا بك . أرجو أن تتوصّلوا إلى القاتل بأسرع وقت .

على الرغم من الحفاوة التي أبداها أمين في استقباله شعر زياد بأنه ضيف غير مرحّب بمجيئه .

– سرعة وصولنا للقاتل تعتمد على مدى تعاونك معنا .

– أنا على أتم الاستعداد للإجابة على أي سؤال تطرحه سيادتك

– قبل أن أطرح أسئلتي، اسمح لي أن أعبّر لك عن استغرابي لتواجدك في الشركة مع أن والدك قُتِل بالأمس، ألا يجب أن تكون في المنزل لاستقبال المعزّين؟!

– نحن ننتظر أن تسلّمونا الجثة لدفنها ومن ثم نقيم العزاء.

– آه حسنًا، لماذا برأيك قُتِل والدك في دار الأيتام؟
– لقد طرحت هذا السؤال على نفسي أنا أيضًا لكني لم أهتدِ إلى إجابة
– هل لوالدك أعداء؟
– والدي رحمة الله عليه رجلٌ ناجحٌ في حياته وأنت تعرف أن هنالك دائمًا أعداءٌ للنجاح، لكن عدو بالمعنى الذي تقصده أنت فلا أعتقد . وحتى لو كان، لا أظن أنه سيختار دار الأيتام لينفّذ جريمته فيها .

أومأ زياد برأسه موافقًا ثم تابع استجوابه :
– ما هو رأيك بأعمال والدك الخيرية؟
– مالُه وهو حرٌّ بكيفية إنفاقه، أجاب أمين بقلة اكتراث
– حقًا؟! أليس الأولى أن يساعد ابنه بدلًا من التبرع بأمواله للغرباء؟
– ماذا تعني؟
– وضع شركتك ليس على ما يرام كما جاء في البحث الذي أجريناه عنها.
أمين بسخرية :
– لا شيء يخفى عليكم، لكن ما شأن شركتي بالموضوع!
– يعني لا تُنكِر أنك بحاجةٍ ماسةٍ لمبلغٍ من المال تخرج به من أزمتك، وأن موت والدك سينقذك

– إلامَ ترمي؟ قال أمين متخليًا عن هدوئه وثباته، لكن زياد تابع محاصرته :
– أين كنت ساعة ارتكاب الجريمة؟
– كنت هنا في الشركة، أجاب وهو يخرج سيجارة لكنه ألقاها بغضب على الطاولة عندما بحث عن ولاّعته في جيوبه ولم يجدها .
– لكن هناك من رآك واقفًا بسيارتك قريبًا من الملجأ، ماذا كنتَ تفعل؟
ارتسمت المفاجأة على ملامح أمين ولم ينطق بأي حرف، قال زياد بعد أن أحكم الخناق عليه :
– سيد أمين، لا فائدة من الإنكار . أنصحكَ بأن تكون صريحًا وصادقًا معي، لماذا لحقتَ بوالدكَ إلى الملجأ؟
عاد أمين إلى هدوئه، قال باستسلام :
– منذ مدة أعاني من تدهور في أوضاع شركتي وكنت مضّطرًا على مبلغٍ من المال، طلبت المساعدة من والدي لكنه رفض بحجّة أنني يجب أن أخرج من أزماتي بنفسي ولا أعتمد عليه . صمتُّ واحترمت وجهة نظره لكن عندما علمت بأنه قام ببيع قطعة أرض وبأنه ذاهب ليتبرع بجزءٍ من ثمنها للملجأ ثار غضبي . قل لي أنت هل الملجأ أهم مني بالنسبة إليه؟ إنه لا يكف عن مد هذا الملجأ بالأموال فضلاً عن إحسانه لكل شخص محتاج وأنا ابنه لا يعبأ بي!

أجاب زياد :
– أتفهّم استياءك لكن كيف تعرف نشاطات والدك، هل هو من يخبرك بها؟
– في الواقع لا، هو لا يستشير أحدًا من العائلة في أي شيء يقوم به، لكن تحرّكاته تصلني عن طريق سكرتيره .
– أها، تقصد أن سكرتيره يعمل جاسوسًا على أبيك لمصلحتك!
– ولمَ لا ؟ والدي طيب القلب وأخشى أن يستغل أحدهم هذه الطيبة .
– وما رأي باقي إخوتك بتصرّفاته، هل هم كذلك غير راضين عنها؟
– شقيقي عماد مستقر في كندا بينما شقيقتاي هبة وندى متزوجتان ومنشغلتان مع عائلتيهما
– ووالدتك؟
– أمي تعترض على كثير من تصرفاته لكنه لا ينصت لها.
– بالعودة ليوم الجريمة، لماذا لحقت به إلى الميتم؟
– علمت كما أخبرتك أنه باع قطعة أرض وفي طريقه إلى البنك لإيداع ثمنها وقبل ذلك سيعرّج على الميتم، فلحقت به لأطلب منه مبلغا يعينني فيه على الخروج من أزمتي . وعندما رأيته يدخل الميتم انتظرته بسيارتي خارجًا، كنت أنوي التكلم معه بعد أن يخرج لكن زوجتي اتصلت بي لأمر طارئ فغادرت وأجّلت الحديث معه لوقتٍ آخر
– هل هذا كل شيء؟
– أجل
– متأكد؟
– طبعًا!

نهض زياد وصافح أمين مودّعًا ، لكنه قبل أن يهم بالخروج قال مستدركًا :
– بالمناسبة، كان غباءً منك أن تأتي أمس إلى الميتم لتسأل عن الحقيبة . إلا إن كان لديك غرض آخر من الزيارة..

– ما قصدك؟

– لا شيء، ثرثرة محقق يفكّر بصوتٍ مرتفع.. عن إذنك

ظل نظر أمين معلقًا بالباب الذي خرج منه زياد وهو يفكر بمعنى كلامه الأخير، أما زياد فقد زادت التساؤلات في ذهنه عن الجريمة بعد هذه الزيارة . فأمين بدا له شخصية غامضة، ورغم التصريحات التي أدلى بها مازال عنده المزيد ليقوله..

**

عُقِدت جلسة التحقيق الأولية في مقتل النائب حليم المختار بتغطية إعلامية محدودة، فلم تسمح الجهات المختصة للصحفيين بالتواجد داخل قاعة المحكمة . وقد قُيّدت القضية مبدئيًا ضد مجهول ريثما يتم استكمال التحقيق، وسلِّمت الجثة لذوي المغدور وتم دفنها .

خرج زياد من المحكمة فاتجهت نحوه لينا..
– أنا الصحفية لينا مصطفى من جريدة “الرأي المستقل”، أريد منك كلمة عن القضية لو سمحت . كانت ترفع شعرها الأسود للأعلى على شكل دبوس وتحيط رقبتها بوشاح حريري . ألقى عليها زياد نظرة سريعة ثم قال :
– لا توجد لدينا حاليًا إية معلومة نفيد بها الإعلام، القضية مازالت في بدايتها والتحقيق مستمر
– هل وجّهتم أصابع الاتهام لأحدٍ ما؟
– يا آنسة، مجريات التحقيق ليست مادة للإعلام، عندما تنتهي القضية ستكون تفاصيلها متاحة للنشر . عن أذنك يجب أن أذهب . اتجه نحوه صحفيين آخرين فاعتذر منهم وولج سيارته قاصدًا بها منزله قبل أن يذهب إلى دار الأيتام .
راقبته لينا وقد عضّت على نواجذها من الغيظ قائلة في نفسها : من يظن نفسه هذا المحقق المتعجرف المغرور!

**

دخل زياد شقته الواقعة في منطقة “المِزّة” في قلب العاصمة دمشق واتجه مباشرةً ليرد على الهاتف الأرضي الذي كان يرن ..
– آلو
– زياد أين أنت؟ ولماذا لا ترد على هاتفك؟
– أهلًا أمي، كنت في قاعة المحكمة وقد جعلت هاتفي على الوضع الصامت
– طمئنّي عنك بني منذ وقتٍ طويلٍ لم تأتِ لزيارتنا، لقد اشتقنا لرؤيتك
– آسف، أنتِ تعرفين ضغط العمل . سآتي إليكم بعد أن تنتهي القضية التي كُلّفت بالتحقيق فيها، بلّغي سلامي إلى والدي وإخوتي..

أغلق زياد الهاتف ومضى إلى المطبخ يعد لنفسه كوبًا من الشاي . لقد اعتاد على العيش بمفرده منذ أن انفصل عن سوزان، ألحّت عليه والدته أن يعود للسكن معهم لكنه أبى . وفي أثناء انتظاره لغليان الماء سرح بتفكيره في سوزان، حب حياته الوحيد..

لم يتوقّع أيُّ أحدٍ يعرفهما أو كان شاهدًا على قصة حبهما أن ينفصلا بعد سنةٍ واحدةٍ فقط من الزواج . فكل شيء كان يوحي بأنهما يشكّلان ثنائيًا جميلًا قادرًا على الاستمرار وتكوين أسرة سعيدة . لكن سوزان تغيرت كثيرًا بعد الزواج، أصبحت عصبيّة جدًا وغيورة، تتذمّر من غياب زياد الطويل عن المنزل وتلاحقه باتصالاتها الغاضبة . باتت حياتهما معًا عبارة عن مشاحنات وشجارات أحالت المنزل إلى جحيم لا يطاق . وبالنهاية وجدا أن الانفصال هو الحل الأمثل لكليهما .

تساءل زياد، هل يحمل جزءاً من اللوم في فشل علاقتهما؟ لكنها منذ البداية تعرف عمله وطبيعته التي تتطلب غيابًا متكررًا عن المنزل فلماذا لم تبدِ تعاونًا وتفهمًا للموضوع بعد الزواج؟ لماذا تحوّلت إلى إنسانة أخرى لا يعرفها!

**

في طريقه إلى دار الأيتام مرَّ زياد بمحطة وقود فوجد طوابيرًا من السيارات تنتظر دورها للتزوّد بالوقود، مشهد اعتاد الناس رؤيته في شوارع دمشق وبقيّة المدن السورية . فمنذ اشتعال فتيل النزاع في هذا البلد انقلبت الحياة فيه رأسًا على عَقِب، وأصبح السكان يعانون في توفير الوقود والخبز والغاز، بالإضافة لمعاناتهم مع تقنين الكهرباء وانقطاع المياه عن الأحياء وغلاء الأسعار مع تدهور العملة المحلية . بات الناس في ظل هذه الظروف يلهثون وراء توفير متطلبات الحياة الأساسية، ولو لم يكن زياد يعمل في سلك الأمن الداخلي حيث يوفّرون للعاملين فيه هذه المتطلبات، لوجد نفسه مضطرًا للوقوف في طوابير الانتظار الطويل مع بقية المنتظرين .

عند وصوله إلى الميتم وجد شريف يمشي بين أشجار الحديقة الباسقة فانضم إليه..
– الحديقة واسعة جدًا أليس كذلك؟ سأل زياد
– وموحشة أيضًا، قال شريف بينما كان يتابع بنظره غرابًا حط على أحد أغصان شجرة السرو
ترك زياد شريف يكمل مسيره بين الأشجار بينما مضى هو إلى غرفة البواب عطا الله فوجده جالسًا يدخن وأمامه على منضدة مكسورة القدم ومستندة على قطعة حجر وضع كوبًا من الشاي الثقيل . نهض البواب عندما رأى زياد :
– أهلاً سيدي، تفضل بالجلوس.. قال ذلك وهو يقدم له كرسيًا بلا ظهر مصنوع من عيدان القصب . جلس زياد وهو يتأمل المكان، على الرغم من حجمها الصغير كانت الغرفة تحتوي على جميع الاحتياجات، فقد ضمت سريرًا حديديًا تغطيه ملاءات بالية لكنها نظيفة، ودولابًا صغيرًا للملابس. بالإضافة لتلفاز وبوتوغاز وُضع عليه إبريقًا نحاسيًا تتصاعد منه أبخرة الشاي .
– هل أسكب لك كوبًا؟ قال عطا الله وهو يمسك بالإبريق
– لا شكرًا، ولكن قل لي، عندما جاء أمين المختار مساء ارتكاب الجريمة ليسأل عن الحقيبة هل كنت موجودًا؟
– أجل، فأنا من فتح له البوابة
– هل كان يحمل معه عند خروجه شيئًا ما؟
– شيء مثل ماذا سيدي؟
– أي شيء
– لا أذكر أنه كان يحمل شيئًا معه
نهض زياد ليغادر لكن عيناه التقطتا شيئًا يلمع قريبًا من قدم السرير ، انحنى والتقطه فوجده قدّاحة ذهبية .
– هل هذه القداحة لك؟ قال زياد وهو يلوح بها أمام ناظري البواب الذي ازدرد ريقه بصعوبة وقال :
– ومن أين لي بمثل هذه القداحة الثمينة!
ابتسم زياد ولمعت عيناه :
– أظنني عرفت صاحبها..

اقتحم شريف الغرفة بشكلٍ مفاجئ، قال بانفعال :
– سيدي الرائد، أرجو أن تأتي معي لأمرٍ هامٍّ جدًا
– ما هو؟
– سأشرح لك عندما تراه

أشار شريف إلى بقعةٍ تحت شجرة صنوبر :
– انظر سيدي إلى هذه البقعة، يبدو أن التراب فيها قد قُلب حديثًا
– تقصد أن شيئًا ما قد دُفن حديثًا هنا!
– بالضبط سيدي
– نادِ البواب وليجلب معه مِعول أو أي شيء يصلح للحفر
لكن شريف عاد بعد دقائق يلهث..
– لم أجده في غرفته، سألت عنه الشرطي الذي في الخارج فأخبرني بأنه ذهب لشراء علبة دخان
– إنه يكذب فعلبة دخانه ممتلئة وقد رأيتها بنفسي، لقد هرب، تعال نبحث عنه قبل أن يبتعد

خرج المحققان والشرطي للبحث عن البواب في الشوارع المجاورة، فوجده زياد عند موقف الحافلات ينتظر إحداها ليهرب . اقترب منه بهدوء ووضع المسدس في ظهره مما أثار الذعر بقلوب الناس الواقفين بجواره

– سأفرغ هذا المسدس في جسدك إن صدرت عنك أية حركة، امشِ أمامي هيا

سار البواب أمام زياد مستسلمًا وعاد معه إلى الملجأ وكانا قد التقيا بشريف في الطريق..

– لماذا حاولت الهرب؟ سأل زياد بعد أن اجتازوا البوابة
– لم أهرب
– إذا ماذا كنت تفعل عند الموقف؟ تستنشق الهواء؟!
أرسل عطا الله نظرات حائرة بين زياد وشريف ثم أخفض رأسه وقال بخجل :
– لقد شعرت بالخوف
– ممَ؟
– من نظراتك وكلامك، فأنت تشك بي
– كاذب، لقد حاولت الهرب قبل أن نعرف ماذا يوجد عند شجرة الصنوبر . رأيتنا نتجه نحوها فعرفت أن أمرك سينكشف، تعال معنا واحفر هناك لنرى ماذا تخبّئ..

كان العرق يتصبب من جبهة البواب مع كل ضربة فأس يهوي بها على التراب، وكانت السيدة ماجدة والآنسة سوسن قد انضمتا إلى المحققين بعد أن لاحظتا ما يجري . ولم تمضِ دقائق حتى ظهرت للجميع حقيبة سوداء مدفونة تحت الشجرة، شهقت ماجدة عندما رأتها :
– إنها حقيبة السيد حليم المختار، أنا متأكدة!
اقترب منها زياد ، عاينها فوجدها مغلقة لكن غير مقفولة، فتحها فرآها مليئة بالنقود . صوب نظرة نارية نحو البواب :
– إذًا أنتَ من سرق الحقيبة!

انهار البواب وأخذ يصيح :
– أجل، لكني لم أقتله صدقوني، لم أقتل حليم المختار، لم أقتله

– هذا ما ستُثبته في الفرع فأنت منذ الآن رهن الاعتقال..

**

دخل زياد فرع الأمن الجنائي في قدسيّا، وهناك أجرى اتصالًا بأمين المختار طالبًا منه الحضور، وعندما اعترض قال له :
– سيد أمين كان بإمكاني استدعاؤك بطريقة أخرى لكني لم أفعل حفاظًا على صورتك أمام موظفيك في الشركة . أنا بانتظارك فلا تتأخر .

– سيدي ألن نجري التحقيق مع البواب عطا الله؟ قال شريف مستفهمًا
– أريد الحديث مع أمين المختار أولًا أما عطا الله فدعه ينتظر، كلما انتظر أكثر كلما انهار نفسيًا مما يجعلنا نأخذ الاعترافات منه بسهولة .

جاء أمين المختار فأُدخِل إلى غرفة التحقيق، بقي فيها قرابة النصف ساعة قبل أن يدخل عليه زياد يتبعه شريف..
– هل بإمكاني معرفة سبب تواجدي هنا، هل أنا متهم؟؟

اقترب منه زياد وألقى بالقداحة أمامه على الطاولة..
– أظنك أضعتها بمكان ما..
– اللعنة.. أين وجدتها!؟ أُخِذ أمين على حين غِرّة فلم يحاول إنكار ملكيّته لها، لكنه قرر المراوغة بعد أن تحفزت جميع حواسه وأدرك خطورة موقفه
– جيد، أنت تعترف بأن القداحة لك
– هل استدعيتني إلى هنا من أجل أن تعيد لي قداحتي الضائعة؟ ربما سقطت مني أثناء زيارتك لي في الشركة
– بل وجدتها في غرفة البواب عطا الله
– ومن هو عطا الله هذا، لا أعرف أحدًا بهذا الاسم!
– بل تعرفه جيدًا وهو يعرفك، إنه بواب الملجأ الذي قتل فيه والدك

صمت أمين ولم ينطق بحرف أما زياد فتابع :
– لن أسألك ما الذي جاء بقداحتك إلى غرفة البواب لأنه اعترف بكل شيء

زاغت نظرات أمين ..
– اعترف بماذا!!
– بأنك حرّضته على قتل والدك وسرقة الحقيبة
– لا، إنه كاذب.. صرخ أمين
– كاذب؟ ما هي الحقيقة إذا، أنصحك أن تعترف بكل شيء فواضح أنك لم تكن صادقًا معي في زيارتي الأولى لك .

ازداد توتر أمين وانعكس ذلك في أنفاسه المتقطعة ويديه المرتجفتين، احتاج لبضع دقائق حتى يهدأ ويستطيع الكلام..
– حسنًا، يبدو ألا مفر.. سأعترف بكل شيء . أنا بالفعل لحقت بوالدي من أجل أن أناقشه بمسألة مساعدتي لكني كنت على ثقة بأنه لن يُنصت لي . وبعد أن دخل إلى الملجأ وقفت بسيارتي أنتظر خروجه، مرّت بضع دقائق ثم رأيت البواب يخرج فانتهزت فرصة تركه للبوابة مفتوحة فدخلت، لا أعلم لم فعلت ذلك، ربما الفضول لرؤية المكان.. وبينما أنا واقف أتأمل ما حولي إذ بصوت من خلفي يسأل من أنا وماذا أريد، التفت ورائي فإذا بالبواب قد عاد . وعندما عرف من أكون دعاني على الشاي في غرفته وهناك ادّعيت بأني على موعد مع والدي بعد أن ينتهي من زيارته للملجأ . لكني بينما كنت أدخن وأشرب الشاي خطرت لي فكرة تجعلني أستولي على ثمن الأرض دون الحاجة لاستجداء والدي . قال ذلك ثم أرسل نظره بين المحققيَن، وجدهما ينصتان له فأكمل :

– قررت سرقة الحقيبة بمساعدة البواب، طلبت منه أن يُفرِغ عجلات سيارة والدي ومن ثم يعرض عليه إيصاله بسيارة الميتم ولأنه يريد الوصول إلى البنك بأسرع وقت سيقبل، وهنا يأتي دوري ، آخذ سيارة أجرة وفي منتصف الطريق أعترضهما بعد أن أكون ملثمًا بالكوفية التي استعرتها من البواب، وتحت تهديد السلاح أستولي على الحقيبة وأهرب
– تهديد السلاح! وهل تحمل واحدًا؟ سأل زياد باستغراب
– مسدسي لا يفارقني، فأنت تعلم أن البلاد بعد الأزمة أصبحت غارقة بالفوضى وانعدم فيها الأمان

تدخّل شريف في الحوار :
– وهل قبل عطا الله بالخطة؟
– لقد عرضت عليه مبلغًا يسيل له اللعاب فوافق
– بهذه البساطة؟!
– ولمَ لا، المال يشتري ضمير أي شخص
– وبعد؟
– لا شيء، انتظرت في الشارع الخلفي للميتم اتصالًا من البواب، وكنا قد تبادلنا الأرقام ليخبرني ببدء تنفيذ الخطة حتى أتحرّك لكن هذا الاتصال جاء متأخرًا حيث أعلمني فيه أن والدي قُتِل، فأسرعت بالاختفاء عن المكان حتى لا أثير الشبهات من حولي .

نهض زياد من على مقعده واقترب من أمين، قال بسخرية :
– ألا تعتقد أن خطتك غبية؟
– ربما، لكني كنت مضطرًا، كان يجب أن أحصل على المال قبل أن يودَع في البنك بأي ثمن
– حتى لو كان الثمن حياة والدك؟
– ماذا تقصد؟
– قتل والدك كان حلًا لأزمتك أسرع وأضمن
– لكني لم أقتله ولم أفكّر بموته، صدّقني . حتى خطة السرقة التي كلمتك عنها كانت وليدة اللحظة، أنا لست بقاتل، لست بقاتل..

أودع أمين في الحجز ريثما يتم التحقيق مع البواب

**

دخل البواب عطا الله غرفة التحقيق المعتمة يقدّم رِجلًا ويؤّخر أخرى، جلس خلف الطاولة وخلع قبعته فظهرت صلعته تلمع في الظلام، بادره زياد القول :
– أهلًا أهلًا بالمارد عطا الله حارس الكنز
كتم شريف ضحكة كادت تفلت منه بينما استرسل زياد :
– اسمعني يا رجل، ليس من مصلحتك الإنكار والمماطلة، أخبرنا بكل شيء وسنكون متعاونين معك في تخفيف الحكم بقدر تعاونك معنا .
– أيّ حكمٍ هذا الذي تخففونه! أنا بريء من دم السيد حليم، أرجوكم صدقوني.. صاح عطا الله بهلع
– اهدأ وحدثنا عن كل شيء ابتداءً من مجيء السيد حليم، مرورًا بلقاءك ابنه وانتهاءً بسرقتك للحقيبة

شعر عطا الله بنفسه كفأر في مصيدة، أخرج منديلًا من جيبه مسح به العرق المتصبب من جبهته ثم بدأ بالكلام :
– جاء السيد حليم إلى الميتم ففتحت له البوابة ورافقته إلى الصالة الرئيسية للمبنى، أعلمت المديرة ماجدة بمجيئه ثم عدت أدراجي إلى غرفتي . أردت إشعال سيجارة فتنبهت إلى نفاد الدخان من عندي لذلك خرجت لشراء علبة وفي الخارج تنبهت لوجود سيارة فيها شخص ينظر إلى المبنى، كان منظره مريبًا لكني لم أعرفه بوقتها ولم أعره اهتمامًا وأكملت طريقي إلى المتجر، وعندما عدت وجدت أن هذا الشخص قد استغل فرصة غيابي وعبر البوابة إلى الداخل، علمت عندما سألته أنه أمين، ابن السيد حليم المختار

– هل تعلم أني شككت بك عندما أخبرتنا عن وجود أمين ينتظر خارجًا في سيارته، فمن أين لك معرفته إن لم يكن بينكما لقاء سابق، قال زياد مقاطعًا..

– أنت ذكي سيدي، كانت غلطة مني لكني بوقتها أردت توجيه اهتمامكم بعيدًا عني

– حسنًا، أكمل..

– حدثني السيد أمين عن مبلغ الأربعين مليونًا الذي يحمله والده معه في الحقيبة وعن حاجته الماسة لهذا المبلغ، وعن رغبته بالاستيلاء عليه بمساعدة مني .

– وكيف سيتم ذلك؟

– لقد وضع خطة تقضي بتعطيل سيارة والده من أجل أن يقبل اصطحابي له بسيارة الميتم، وفي منتصف الطريق سيهاجمنا السيد أمين تحت تهديد السلاح ويأخذ الحقيبة .

– وهل وافقته على التنفيذ؟

– في البداية أجل، فقد وعد أن يعطيني مليوني ليرة من النقود، لكن بعد مغادرته قلّبت الموضوع في ذهني ووجدتها خطة غير مضمونة، صحيح أن أمين قال بأن والده سيسامحنا في حال فشلنا وتم اكتشافنا فهو لن يقدم على وضع ابنه في الحبس لكني لم أطمئن، وقررت الذهاب إلى السيد حليم والاعتراف له بكل شيء . سأكسب ثقته من جهة، ومن جهة أخرى بالتأكيد سيمنحني إكرامية، فهو رجل كريم وسيقدر لي صنيعي هذا . لكن عندما توجّهت لمكتب المديرة ماجدة وطرقت الباب لم ألقَ ردًا، ترددت لبضع ثوان ثم قررت فتح الباب وليتني لم أفعل..

صمت عطا الله وغطّى وجهه بكفيه، لكن زياد حثه على إكمال روايته، فقد وصل لنقطة هامة وحاسمة بل هي أهم جزء بشهادته على ما حصل .

– رأيت السيد حليم ملقى خلف المكتب والدماء تسيل من أسفل عنقه وصدره ملوثةً السجادة، كل شيء حدث بعدها بسرعة، فبعد أن استوعبت أنه قد قتل تنبهت إلى الحقيبة الموضوعة على الطاولة، طمعي أنساني خطورة الموقف وقلت في نفسي لمَ لا أحصل على المبلغ كاملًا لي وحدي، حملت الحقيبة وقررت الخروج من النافذة لكن قبل أفعل سمعت صوت أقدام ورأيت مقبض الباب يتحرك فأسرعت بالاختباء خلف الستارة . كانت لحظات صعبة تلك التي انتظرتها وأنا مختبئ بمكاني، صراخ المديرة ماجدة وتّرني وأصابني بالهلع ثم صوت الآنسة سوسن ثم سمعتهم ينطقون اسمي ويبحثون عني .

– إذًا عندما لم يجدوك في غرفتك كنت مختبئًا خلف الستارة! قال شريف

– أجل سيدي

– وبعد؟

– أمرَتْ السيدة ماجدة أن تُغلق الغرفة ريثما يحضر رجال الشرطة، استغليت الوضع وخرجت متسلّلًا من النافذة وعدت أدراجي إلى غرفتي . احترت أين أضع الحقيبة بالتأكيد الشرطة ستفتش جميع الأمكنة، فخطر لي أن أخبئها في خزان المياه الموضوع على سطح الغرفة . لففتها بكيس من النايلون وصعدت بها إلى السطح، لكن لم أضمن سلامة النقود فيها إذا بقيت هناك لهذا تسللت بعد منتصف الليل على رؤوس أصابعي ودفنتها تحت إحدى أشجار الصنوبر على أمل أن أعود لها فيما بعد .

– هل هذا كل شيء؟

– أجل صدقوني، لقد كان السيد حليم المختار مقتولًا عندما سرقت الحقيبة

رن زياد جرسًا موضوعًا على الطاولة فجاء شرطي أمره زياد بإيداع عطا الله في الحجز، خرج عطا الله وهو يصرخ :
– أقسم أني بريء، صدقوني أنا لم أقتل السيد حليم..

سأل شريف زياد بعد أن بقيا لوحدهما في الغرفة :
– هل ترى بأنه قال الصدق؟
– هو صادق بالجزء المتعلّق بلقائه مع أمين، فكلام الرجلين متطابق، أما فيما تبقّى من كلام فلا نستطيع الجزم .
– أنا أظن بأنه القاتل، ربما طمع بالحصول على الحقيبة فآثر أن يقتل السيد حليم ويستولي عليها بالكامل بدلًا من تنفيذ خطته مع أمين
– المشكلة إن صدّقنا روايته فهذا ينفي عن الجريمة دافع السرقة، فمن قتل السيد حليم ترك خلفه حقيبة مليئة بالأوراق النقدية . وإن لم يكن القتل من أجل السرقة فمن أجل ماذا يقتل في دار الأيتام! لو قُتِل في مكانٍ آخر لتعددت أمامنا الدوافع أما في هذا المكان الغريب!!

قاطع حديثهما مجيء أحد عناصر الشرطة يخبرهما أن الأموال التي بالحقيبة تنقص مبلغ قدره أربعة ملايين، قال زياد وقد غاص بتفكيرٍ عميق :
– يبدو أن لنا جولةً أخرى مع المديرة الوقورة ماجدة..

**

عاد زياد مساءً إلى منزله مرهقًا وقد أرجأ مقابلة ماجدة والحديث معها إلى الغد . ألقى بنفسه على السرير بعد أن اغتسل وأكل عشاء خفيفًا، وغاص في النوم خلال بضع دقائق، لكنه استيقظ صباحًا على صوت هاتفه يرن، كان اتصالًا غاضبًا من العقيد نشأت :
– ما هذا يا حضرة الرائد؟
– ما الأمر سيدي!؟ سأل وقد بانت في صوته آثار النوم
– منذ متى نسمح لأي جريدة أو جهة إعلامية بمعرفة مجريات التحقيق ونشرها في قضية لم تنته بعد؟؟
– عفوًا سيدي، هلا شرحت لي عما تتكلم حتى أفهم!
– يبدو أنك مازلت نائمًا، (قال ساخرًا) ، ادخل يا أستاذ على موقع جريدة الرأي المستقل وستفهم
أسرع زياد بفتح حاسوبه المحمول والدخول على موقع الجريدة والهاتف مايزال على أذنه . قرأ سريعًا عنوان المقالة (القبض على قاتل عضو البرلمان السيد حليم المختار.. هل حقًا هو الفاعل؟؟)
أكمل الحديث مع سيده :
– لكني لا أعلم من سرّب معلومات إلى الإعلام!
– أنت موكل في هذه القضية، وأنت مسؤول عن أي خطأ قد يفعله مساعدوك في التحقيق
– حسنًا سيدي، أعدك بأني سأصلح كل شيء..

أغلق هاتفه ومضى يقرأ بعينيه محتوى المقالة :
أُلقي اليوم القبض على بواب الميتم بعد أن اعترف بسرقته لحقيبة الضحية المليئة بالأموال، فقد كان يدفنها في حديقة الميتم، فهل تمت الجريمة بقصد السرقة……
ترك القراءة ومضى إلى آخر سطر ليقرأ : المقالة بقلم الصحفية لينا مصطفى . ما أن قرأ الاسم حتى قفزت إلى ذهنه صورتها عندما تقدمت تطلب معلومات منه بعد انعقاد جلسة التحقيق الأولية . أغلق حاسوبه بعنف ثم نهض ليغير ثيابه ويتجه مسرعًا إلى مبنى جريدة الرأي المستقل .

وصل هناك قرابة التاسعة والنصف، سأل عن مكتب لينا مصطفى وبعد أن استدل عليه اقتحم المكان غاضبًا :
– ما هذا يا آنسة لينا، ألم أقل لكِ أن نشر أي تفصيل عن الجريمة ممنوع أم أنك تريدين تسجيل سبق صحفي على حساب مصلحة التحقيق!
نهضت لينا من خلف مكتبها، قالت صارخة :
– من تظن نفسك حتى تدخل إلى مكتبي بهذه الطريقة الهمجية!
– عندما تتدخّلين في عملنا سأدخل عليك بهذه الطريقة التي تليق بك وبجريدتك
– لم أتدخل في عملكم ولم أقترب منكم، كل ما حصلت عليه من معلومات كان بمجهودي الذاتي .
وضع زياد يده على وسطه وقال ساخرًا :
– هل لي أن أعرف ما هو هذا المجهود العظيم؟
– سأجيبك بالرغم من عدم أحقيتك في معرفته، كنت أتسكع بالقرب من الميتم عندما رأيتكم تقتادون البواب معكم وهو موصد اليدين، ثم غافلت الشرطي الموجود عند البوابة عندما غاب لبعض الشؤون ودخلت، وهناك عرفت من سؤالي لبعض الفتيات أن الحقيبة عثر عليها مدفونة تحت إحدى أشجار الحديقة، فاستنتجت ما حصل .
– لكن القضية مازالت غامضة ولم تُحل بعد لذا توقفي عن ملاحقتنا ونشر معلومات غير دقيقة عنها وإلا سنتخذ الإجراءات اللازمة ضدك وضد الجريدة بأكملها .
قال كلامه هذا ناظرًا مباشرة في عينيها فبادلته النظرات بتحدٍّ وهي تقول :
– أنا لم أخطئ وتهديدك لن يخيفني، ثم أن المقتول شخصية عامة وكل وسائل الإعلام تلتقط أي خبر لتنشره عنه . صمتت برهة قبل أن تردف ساخرة :
– برأيي أن تهدّئ من أعصابك، يبدو أنك جئت مسرعًا إلينا مع طلوع الشمس ولم تشرب قهوتك بعد، أدعوك لتشربها معي .

صوّب زياد نحوهها نظرة عدائية تفيض بغضًا ثم خرج صافقًا الباب خلفه، لقد دخل وخرج كالزوبعة مثيرًا وراءه فوضى في مشاعر لينا، فعلى الرغم من غضبها منه ومن أسلوبه في الكلام معها فإنها استمتعت بهذا الصدام الذي حصل بينهما وتمنت فعلًا لو أنه قبل دعوتها لشرب القهوة، مع أنها كانت دعوة ساخرة منها لتثير غيظه فقط!

**

في طريقه إلى الميتم هاتف زياد الملازم شريف :
– مرحبًا شريف، أين أنت؟
– أهلًا سيدي، مازلت في القسم
– أنا متجه إلى الميتم، لاقيني هناك
– حاضر سيدي لكن ما به صوتك، تبدو غاضبًا
– غاضب من صحفية حمقاء نشرت معلومات عن القضية وبسببها سمعت توبيخًا شديد اللهجة من العقيد نشأت
– نعم قرأت المقالة، هؤلاء الصحفيون حقًا مزعجون ..
– دعنا منهم الآن وأسرع بالمجيء، لكن قبل أن تخرج من القسم أريدك أن تسأل البواب عطا الله ما إن كان قد أخذ شيئًا من نقود الحقيبة أم لا .
– حاضر سيدي، احترامي

**

دخل زياد إلى الميتم فرأى شريف قد سبقه في الوصول، بادره الأخير قائلًا :
– عطا الله يقسم بأنه لم يأخذ شيئًا من أموال الحقيبة، اهتمامه كان منصبًّا على كيفية إخفائها عن أعيننا فقط ولم يتح له الوقت لصرف شيءٍ منها .
تمتم زياد :
– كما توقعت..

دخل المحققان على المديرة في مكتبها، قال لها زياد معاتبًا :
– كيف تسمحون لصحفية أن تأخذ معلومات عن القضية من الفتيات ؟
– نحن لم نسمح لها، لقد دخلت دون أن ننتبه، وعندما علمنا بوجودها صرفناها بسرعة، أما الفتيات فقد أنّبتهن على ما فعلن .
– حسنًا، أرجو ألا يتكرر ما حصل
– أعدك ألا يتكرر، لكن هل أستطيع معرفة سبب قدومكما اليوم بعد أن قبضتم على القاتل!
– أولًا، لم يثبت لنا بعد أن البواب هو القاتل، وثانيًا أظنكِ كنت تتوقعين عودتنا إليكِ بعد ظهور الحقيبة..
رمقته باستغراب :
– وما شأني أنا بها؟
– هناك مبلغ أربعة ملايين ناقصٌ منها
أطلقت ماجدة ضحكة متوترة وهي تقول :
– يبدو أن عطا الله كان مستعجلًا وبدأ يصرف من المال
– لكن البواب لم يمتلك الوقت لإنفاق أية ليرة من الحقيبة، منذ أن دفنها لم يعد إليها.
– ولماذا تخبرني عن الموضوع؟
– ألا ترين معي أن المبلغ الناقص هو نفسه المبلغ الذي كان ينوي التبرع به للميتم!؟
– إلام تلمّح حضرة المحقق!
– الأمر واضح ولا يحتاج إلى تلميح، المغدور حليم المختار أعطاكِ المال قبل أن يُقتَل
– لا أسمح لك بتكذيبي، إن أعطانيه فلماذا لم أذكر لكم ذلك!
– لأنك وبكل بساطة أردتِّ الاحتفاظ به لنفسك
– لو كان ما تقوله صحيحًا فلماذا أخبرتكم عن مسألة التبرع بالمال من الأساس!
ابتسم زياد وهو يجيب :
– فعلتِ ذلك لسببين، الأول تبرير زيارة السيد حليم إليكم، فهو بالتأكيد لم يأت لشرب القهوة مثلًا! أما السبب الثاني فأنت لم تتوقعي أن نجد الحقيبة بهذه السرعة، ظننتِها مع القاتل وعندما نلقي القبض عليه سنتّهمه بإنفاق المال منها، وإذا طالت مدة اكتشافنا إياه فهو حتمًا لن ينتظر وسيبدد الأموال، وهكذا تضيع الأربعة ملايين التي أخذتها أنتِ مع ما صرفه القاتل، أليس كذلك؟
– لا يوجد دليل على صحّة اتهامك لي .
– بل يوجد..
بان الاضطراب على السيدة ماجدة واصفرَّ لونها وهي تنتظر ما سيقوله زياد :
– في صباح اليوم التالي على وقوع الجريمة دخل في حسابكِ في البنك مبلغ أربعة ملايين ليرة، هلّا أخبرتنا من أين حصلتِ على هذا المبلغ؟!

– ليس من شأنكم معرفة من أين حصلت عليه
– لكننا نحقق في جريمة قتل ومن حقنا توجيه الأسئلة
– وأنا لن أجيبك بعد الآن على أي سؤال بدون استدعاء رسمي وبدون وجود محامي
– حسنًا، لك هذا أيتها المديرة لكن صمتكِ لن يدوم طويلًا وسنعرف قريبًا كل ما نريده منكِ .

تكلم شريف بعد أن خرجت غاضبة تاركةً لهما المكتب :
– لم أرتح لهذه المرأة مذ رأيتها
– وأنا أشعر أنها تخفي علينا أمرًا ما وذلك واضح من انفعالها، على كل حال سوف نستدعيها إلى القسم وهناك سننزع منها الاعتراف.

نهض زياد وخرج من المكتب فتبعه شريف . وفي الصالة رأى رهف تهم بصعود الدرج فناداها، ولمّا جاءت سألها :
– عندما ناديتِ المديرة ماجدة من أجل الشجار بين الفتيات هل ذهبت معكِ مباشرةً؟
أجابت رهف سريعًا وكأنها تنتظر مثل هذا السؤال :
– لا، قالت لي اذهبي وسألحق بك بعد قليل..
– شكرًا لك
سأل شريف بعد أن انصرفت رهف :
– هل تشك بأن تكون ماجدة هي الفاعلة؟
– هناك شيء علمته من البنك أثار شكوكي حولها..
– ما هو؟
– رصيدها ضخم يتنافى مع عملها ومستواها المادي، فحسب معلوماتنا التي جمعناها عنها هي أرملة لم يترك زوجها خلفه سوى راتبه التقاعدي والمنزل الذي تقطن فيه . لديها ابنة متزوجة من معلم مدرسة وابن يعمل في صيانة الأجهزة الكهربائية، إذًا من أين جلبت كل هذا الرصيد!

– هل تقصد بأنها تسرق الأموال التي تأتي للملجأ؟!
– ربما.. وربما علم حليم المختار بأمرها فهدّدها واضطرت إلى قتله
– لحظة، لو كانت هي الفاعلة فهل يُعقل أنها خرجت وجلبت سيخ تحريك الحطب وعادت لقتله دون أي مقاومة منه!
– نحن لم نجزم بأن ذلك السيخ هو أداة الجريمة
– والحقيبة، لمَ لم تأخذها؟
– على الأغلب ضيق الوقت منعها من فعل ذلك..
– إذًا لماذا لا نقبض عليها؟
– لأن كل الكلام الذي قلته لك مجرد شكوك، لا دليل مادي يثبت بأنها الفاعلة . صمت قليلًا ثم زفر بضيق وأردف :
– أشعر أننا مازلنا نتخبط في الظلام، هناك حلقة مفقودة لو وجدناها لاتّضح أمامنا كل شيء.. فقط لو وجدناها

**

خرجا إلى حديقة الملجأ وأخذا يسيران بين الأشجار، كانا صامتين وكل منهما غارقٌ بأفكاره، ثم عادا أدراجهما إلى المبنى، انحرفا يسارا واتجها إلى الحديقة الخلفية فوجدا الآنسة سوسن ممسكة بمرشّة ومنكبّة على سقاية الزهور، لم تنتبه لهما إلا عندما وقفا عند رأسها.. بادرها زياد القول :
– يبدو أنكِ عندما تتواجدين في حديقتك تكونين بمعزل عن العالم، فأنت لم تلاحظي وجودنا لولا اقترابنا الشديد منكِ!
قالت مبتسمة :
– لقد وصفت حالتي عندما أكون بين زهوري بدقّة.. عالم الورود عالم نقي وطاهر ليس كعالمنا نحن البشر شرير ومليء بالدّنس والنتانة.. لاحظ زياد تغير ملامح وجهها عندما بدأت تتكلم عن البشر، أما هي فتابعت :
– البشر كاذبون ومخادعون، يظهرون عكس ما يبطنون أما الأزهار فألوانها ورائحتها زكية، تسر الناظر إليها وتزرع في قلبه البهجة..
مضت سوسن تتحدث عن أزهارها وأنواعها وموسم تفتح كل زهرة، كان شريف متفاعلًا معها أما زياد فقد انسحب بهدوء ودخل مبنى الملجأ، كان يريد التأكد من أمر ما..

لحق به شريف بعد قليل فوجده واقفًا في منتصف الصالة ينظر إلى أعلى الدرج..
– ماذا هناك سيدي؟
– رجالك قاموا بتفتيش المكان بعد وقوع الجريمة أليس كذلك؟
– أجل، فتشوا جميع الغرف بما فيها العليّة
أخذ زياد يتمتم : العلية، العلية.. ثم هتف فجأة :
– هيا بنا إلى العلية

صعد المحققان إلى العلية وعيون الفتيات ترقبنهما من خلف الأبواب بفضول . كانت العلية تضم صناديق ومقاعد مكسورة وكل ما لا لزوم له . سأل شريف بينما كان زياد يفتح الصناديق ويلقي نظرة على محتواها :
– هلّا أخبرتني عماذا تبحث حتى أساعدك؟
جاءه الجواب سريعًا، فقد رفع زياد رأسه عن أحد الصناديق هاتفًا وجدته..
تسمّر شريف في مكانه وهو يرى زياد يخرج من الصندوق سيخ تحريك الحطب.. صرخ يقول بانفعال :
– ممتاز، ها نحن نتقدم خطوة إلى الأمام
– بل ربما خطوات.. علّق زياد وهو يضع السيخ في كيس أخرجه من جيب سترته ثم هبطا إلى الصالة، وفي طريقهما للخروج صادفا الآنسة سوسن تهم بالدخول، ألقيا عليها تحية الوداع بينما تعلقت نظراتها المستغربة بالكيس الذي يحمله زياد..

عندما وصلا إلى فرع الأمن الجنائي أمر زياد سريعًا بإخضاع السيخ للتحليل، وجاءت النتيجة بأنه يخلو من البصمات ومن أي أثر للدماء أو الأنسجة البشرية، قال زياد :
– كما توقعت، لقد كان إخفاء السيخ المعدني حركة ذكية من القاتل لإيهامنا بأنه أداة الجريمة..
– ما هي الأداة إذًا؟ سأل شريف فأجاب زياد :
– دعني أفكر، أنا بحاجة ماسّة إلى التفكير، اتركني لوحدي لو سمحت..

خرج شريف فيما غرق زياد في أفكاره، أخذ يعيد في ذهنه جميع تفاصيل التحقيق وأقوال الشهود، مرت كل الحوارات واللقاءات أمامه كشريط سينمائي، وبعد مدة من الإمعان في التفكير ارتسمت ابتسامة النصر على شفتيه..
نظر في ساعته فوجد عقاربها تشير إلى منتصف السادسة، خرج يبحث عن شريف وعندما وجده قال :
– هيا بنا يا شريف إلى الميتم
– الآن! في هذا المساء؟ لقد أمضينا هناك كل ساعات النهار، فما الذي استجد حتى نعود؟!
– إذا كنت تحب أن تكون شاهدًا على الفصل الأخير في القضية فاتبعني وإلا فابقى عندك
– الفصل الأخير من القضية!! طبعاً سآتي معك..

**

عبر المحققان بوّابة الملجأ التي أصبح أحد عناصر الشرطة حارسًا عليها بشكل مؤقت ريثما تنتهي القضية . سارا باتجاه المبنى وعندما دخلا وجدا فتاة تهم بصعود الدرج فناداها زياد :
– ما اسمك يا صغيرتي؟
– مروة
– حسنا يا مروة سأقول لك شيئًا
ثم اقترب منها وأسر لها بشيء لم يسمع منه شريف حرفًا واحدًا رغم جهوده في إصاغة السمع .

رافقتهما مروة إلى مكتب السيدة ماجدة، التفت نحوها زياد قبل أن يطرق الباب وقال : ابقي قريبة من هنا، فأومأت له بالموافقة..

وجد زياد وشريف عندما دلفا إلى داخل المكتب السيدة ماجدة وبرفقتها الآنسة سوسن، ظهرت المفاجأة على كلتيهما فلم تتوقعا عودة المحققين السريعة إلى المكان . همّت سوسن بالخروج فأوقفها زياد :
– أنا بحاجة لبقائك معنا، تفضّلي بالجلوس
جلست سوسن وقد ضمّت شالها المطرز بالورود بقوّة إلى كتفيها بسبب نسمة هواء باردة دخلت من النافذة المفتوحة..

لحظة صمت خيمت على الجميع قطعها زياد عندما نهض وبدأ الكلام :
– منذ علمي بوقوع الجريمة وإسناد أمر التحقيق فيها إلي شعرت أنها جريمة شائكة يلفها الغموض، بسبب شخص المقتول أولًا، وبسبب مكان القتل ثانيًا.. فرجل محسن وله وزنه في المجتمع كالسيد حليم المختار لماذا يُقتَل في دارٍ للأيتام!! وأعترف بأنني إلى الآن لم أهتدِ إلى السبب لكنني اهتديت إلى القاتل، وسأترك مهمة شرح الدافع عليه..

نظر زياد في عيون المرأتين ثم وجه إصبعه نحو سوسن قائلًا :
– أنتِ هي القاتلة

ضحكة ساخرة أطلقتها سوسن قبل أن تقول :
– كنت أظنك أذكى من ذلك سيدي المحقق، للأسف يبدو أن جهودك ذهبت سدىً، فأنتَ في المكان الخاطئ..

تجاهل زياد سخريتها ومضى في الكلام :
– عندما بدأت التحقيق في القضية سألت نفسي ما مصلحة أي شخص من المتواجدين في الميتم بقتل الضحية، لكن بعد مزيدٍ من جولات التحقيق اكتشفت أن كل واحد فيكم لو فكّرت فيه على حِدا لوجدت أنه يصلح لأن يكون القاتل.. وأعترف بأني لم أفكر فيكِ في البداية ولو فكّرت لاختصرت على نفسي الطريق .

صمت قليلًا يلتقط نَفسًا وهو يرمقها متحفزًا لأي ردة فعل تصدر منها لكن ملامحها ظلت جامدة، فأكمل :

– أخبرتِنا بشهادتك أنكِ كنتِ في حديقة الزهور منذ مجيء المغدور وحتى لحظة اكتشاف الجريمة، لكن لا يوجد أي دليل يؤيّد أقوالك، فمن يضمن لنا بأنكِ لم تبرحي مكانك!! ولو دقّقنا أكثر لوجدنا بأنك الوحيدة القادرة على الدخول بهدوء وحرية إلى مكتب المديرة، فغرفتك ملاصقة لغرفتها ويصل بينهما باب، فضلًا عن أن الجالس إلى المكتب لن يشعر بدخولك لأن باب غرفتكِ يقع خلفه..
 
– وماذا أيضًا؟ سألت سوسن بتهكّم بينما ماجدة وشريف كانا يتابعان الحوار بكل حواسهما..
 
– سيخ تحريك الحطب الذي أخفيته في العلية حتى توهمينا بأنه أداة الجريمة وتبعدي تفكيرنا عنكِ، وقد نجحتِ في ذلك لبعض الوقت . هذا السيخ حللناه بعد أن وجدناه، لا آثار دماء عليه مما ينفي استعماله كأداة للجريمة وأيضًا لا بصمات مما يعني أن من أخفاه حرص على محو أي بصمة توجد عليه .
 
– مستمتعة أنا بالإصغاء إليك، فكلامك يشعرني بأني أشاهد مسرحية كوميدية
 
– ما سأخبرك به الآن سيجعلك تخرجين من جو الاستمتاع هذا، فعلى ما يبدو بأن الحظ لم يحالفكِ يا آنسة سوسن رغم حذركِ . هناك شاهد على جريمتك أريد منك سماع أقواله..
التفت زياد إلى شريف :
– نادِ مروة لو سمحت..
جحظت عينا سوسن وهي ترقب دخول مروة . دخلت الفتاة ووقفت قبالة زياد الذي سألها :
– حدثينا يا مروة عما رأيته يوم الجريمة .
– كنت أتمشى خارجًا بالقرب من مكتب السيدة ماجدة، حانت مني التفاتة إلى النافذة فرأيت الآنسة سوسن تتسلل خلف السيد حليم المختار الذي كان جالساً إلى المكتب وتهوي على عنقه بمقص تشذيب أغصان الزهور، شعرت بالرعب وخشيت أن أفصح عمّا رأيت، فأنا أحب الآنسة سوسن ولا أريدها أن تعاقب، لكني بعد تفكير عميق وجدت بأنني يجب أن أتكلم وأظهر الحقيقة للجميع .
 
انهارت الآنسة سوسن وأخذت تصرخ :
– قتلته، أجل أنا قتلته . ولو عاد بي الزمن إلى الوراء لعدت وفعلتها ثانيةً .
 
صفّق زياد بيديه بعد اعتراف سوسن وقال مخاطبًا مروة :
– أحسنتِ، لقد كنت بارعة لدرجة أنني كدت أصدقك
– ماذا تقصد؟ سألت سوسن بقلق
– مروة لم ترَ شيئًا وأصلًا هي لم تقترب من النافذة ساعة ارتكاب الجريمة . ما حدث أمامك تمثيلية بسيطة لحملك على الاعتراف
 
غطت سوسن وجهها بيديها وبدأت بالنحيب، أشار زياد للفتاة بالخروج وجلس ينتظر انتهاء سوسن من نوبة بكائها..
 
مسحت وجهها بأطراف شالها بعد أن هدأت ومضت تتكلم :
– كنت أحترم السيد حليم المختار وأنظر له بإجلال بسبب كرمه وإحسانه وحبه للفتيات، إلى أن جاء اليوم الذي اكتشفت فيه حقيقته وبأنه شيطانٌ بثوب ملاك.. هذا الرجل يا سادة لم يكن ينظر إلى فتيات الميتم على أنهن بناته أو حفيداته بتعبير أدق، بل كان يشتهيهن . وباتفاق مع المديرة ماجدة وتواطؤ من البواب كانت ترسل له كل مرةٍ فتاةً حسب طلبه يشبع رغباته المريضة في جسدها الصغير ويعيدها بالخفاء مثلما أخذها .. كل هذه القذارة كانت تحدث تحت غطاء الإحسان للميتم، والحقيقة هي ملء جيوب ماجدة وشراء سكوت البواب، أما الميتم فلم يكن يدخل في حسابه إلا النذر اليسير . حتى مبلغ الأربعة ملايين – الذي أدعت بأنها لم تستلمه – أخذته منه لكن ليس للميتم بل كانت ثمن تواطؤها معه .
 
صَمْتُ المفاجأة فرض نفسه على الموجودين إلى أن قطعته ماجدة :
– كاذبة، مفترية.. ما هذا الهراء الذي تهذين به!!
أشار زياد لها بالهدوء فصرخت :
– كيف تريدني أن أهدأ وأنا أسمع منها هذه الاتهامات الخطيرة!
– دعينا نسمع كلامها حتى النهاية وإلا أخرجتك من الغرفة
صمتت ماجدة وقد بدأت أوصالها ترتجف، بينما أكمل زياد مخاطبًا سوسن :
– وأنتِ كيف صمتِّ على كل ما يحدث!؟
– خشيت ألا يصدّقني أحد، حليم المختار رجلٌ صاحب نفوذ وبإمكانه دحض ادعاءاتي فيما لو تكلّمت وبعدها يخفيني عن الوجود .
– منذ متى يحدث هذا الأمر؟
– منذ أكثر من سنة . لا تعرف كم سهرت الليالي وأنا أفكر وأحدّث نفسي بأنني يجب ألا أبقى صامتة ، يجب أن أفضح شناعة ما يحصل هنا .
– والفتيات المغتَصبات هل يعقل أن يبقين صامتات؟
– كن يتعرّضن للترهيب من قبل ماجدة، أنت لا تعرفها، هي شديدة وقاسية والجميع يخشاها، ثم أن حليم المختار لم يكن يختار إلا الطفلات دون العاشرة اللاتي لا يعرفن كيف يدافعن عن أنفسهن ويغرقهن بالهدايا والألعاب .
– ولماذا قتلته؟
بدأت أنفاس سوسن تعلو وأخذت تقبض على أطراف شالها بقوة كادت تمزقه..
– أخبرينا لماذا قمتِ بقتل حليم المختار
قالت سوسن بصوتٍ متهدّجٍ ثائر :
– قتلته لأحمي ابنتي
 
شهقت ماجدة بسبب المفاجأة ولم يكن زياد وشريف بأقل تفاجئٍ منها..
 
– منذ عشر سنين كنت أعمل ممرضة في مشفى، وهناك غرّر بي أحد الأطباء المتدرّبين.. وعندما أخبرته بأني حامل ويجب علينا أن نتزوج رفض بشدّة وأنكر أن يكون هو والد الطفل، بل ترك المشفى وانتقل ليكمل تدريبه في مكانٍ آخر . احترت في أمري وفكرت بجميع الحلول إلا الإجهاض، فقلبي لم يطاوعني على قتل الجنين الذي زرع في أحشائي وأخذ ينمو ..
مضت الأيام وبدأت آثار الحمل تظهر على جسدي، فاضطررت عندها إلى إخبار أمي التي كادت تجن من هول الصدمة، لكنها أخفت الموضوع عن أبي وأرسلتني إلى جدتي في القرية بحجّة أنها مريضة وبحاجة لممرضة تعتني بها، انطلت الحيلة على والدي المسافر في أغلب الأوقات بسبب طبيعة عمله . وهناك عند جدتي قبعت في غرفة ولم أخرج منها حتى لا يفُتضح أمري أمام أهالي القرية، إلى أن وضعت..
 
أخذ صوتها يصبح رقيقًا وهي تقول :
 
– كانت طفلة، عندما رأيتها نسيت كل عذابي وآلامي، ضممتها إلى صدري وغرقت في البكاء وغفوت، وعندما استيقظت وجدت أمي وجدّتي جالستان عند رأسي لكني لم أجد الطفلة، سألت عنها فلم يجبنني، بل ألقت علي أمي ثيابي وقالت بحزم : هيا لنعد إلى المنزل..
 
بقيت لشهور أسأل أمي عنها، أتوسل تارةً بالبكاء وبالصراخ تارةً أخرى إلى أن أشفقت عليَّ بعد سنة وأخبرتني أنها أعطتها لمرضعة في القرية ومن ثم أودعتها دارًا للأيتام..
 
– ألهذا أنت تعملين هنا؟ سأل زياد
 
– أجل، إنها الطريقة الوحيدة التي من خلالها أستطيع رؤية ابنتي ورعايتها
 
– كيف اهتديتِ إليها وأنتِ لم تريها سوى لحظة الولادة؟
 
– عن طريق اسمها، ولأتأكّد أكثر جعلت أمي تأتي وتدّعي بأنها تريد تبنّي إحدى الطفلات وهكذا قطعت الشك باليقين .
 
سألت ماجدة :
– من هي ابنتكِ من بين الفتيات؟
 
– سارة، ابنتي هي سارة.. سارة التي لفتت نظر السافل حليم عندما جاء فسألك عنها . كنتُ في حديقة الزهور في الوقت الذي كان جالسًا معك في المكتب، دخلت غرفتي ووضعت أذني عند الباب الواصل بيننا، كنت أفعل ذلك دائماً كلّما جاء حتى أعرف خططكم وتحرّكاتكم، فسمعته يسألك عن الفتاة الشقراء التي استقبلته عند الدرج لمّا دخل.. لا أنسى ضحكتك الشيطانية وأنت تقولين له أن اسمها سارة، وإن راقت له سترسلينها هذا المساء إليه . غلت الدماء في عروقي وأخذت أفكّر كيف أمنعكم من فعل ذلك، لكن الحل جاء سريعًا عندما دخلت رهف تناديكِ ولحقتِ بها، عندها أدركت أن الفرصة مواتية لأنقذ ابنتي من براثنه، نظرت من ثقب الباب فرأيته ينهض ليجلس خلف المكتب ويعبث ببعض التحف الموضوعة عليه، تسلّلت من خلفه بهدوء وكان مقص الزهور بيدي، فهويت به على عنقه بكل ما أوتيت من قوة وحقد وكره، وبحكم خبرتي كممرضة عرفت أن ضربتي هذه قاضية، لكن مع ذلك تأكدت من موته بطعنة أخرى غرزتها في قلبه ومن ثم تركته يغرق بدمائه وخرجت بسرعة قبل أن يراني أحد .
 
– أين خبّأتِ أداة الجريمة؟
 
– دفنتها سريعًا بين أزهاري، وعدت للتظاهر بسقاية الزهور إلى أن سمعت صراخ ماجدة . البشر وحوش ويجبرونك أن تكون وحشًا مثلهم، أنا لست مجرمة لكن من أجل ابنتي مستعدّة أن أكون مجرمةً وقاتلةً وكل شيء، من أجل ابنتي مستعدة أن أفعل أيّ شيء..
 
انهارت سوسن ودخلت بنوبةٍ أخرى من البكاء، أما ماجدة فالناظر إلى وجهها يشعر بأنها قد كبرت عشر سنين .
 
**
 
– كيف اهتديتَ إلى أن سوسن هي القاتلة؟ سأل شريف بينما كان يقطّع شريحة لحم موضوعة في صحنه، فقد دعاه زياد لتناول العشاء في أحد المطاعم احتفالًا بانتهاء القضية
 
– عندما التقينا بسوسن في حديقة الزهور وأخذت تقارن بين البشر والزهر، هذا الحقد الذي كانت تتكلم فيه عن البشر جعلني أرى شخصًا آخر أمامي، شخصًا بإمكانه أن يتحوّل بلحظةٍ من اللحظات إلى قاتل! وتذكّرت قولها بأنها كانت تشذّب الأغصان في الحديقة، والتشذيب يحتاج إلى مقص، والمقص يصلح لأن يكون أداةً للجريمة، فتركتك تتحدّث معها وتسلّلت إلى غرفتها، وجدت في إحدى زواياها إناءً موضوعًا فيه جميع أدوات الاعتناء بالزهور ما عدا المقص، قلت في نفسي ربما وضعته في مكان آخر لكني لم أستطع المكوث أكثر في غرفتها خشية رؤيتها لي، فخرجت . وعندما وجدنا سيخ تحريك الحطب واستبعدنا نهائيًا أن يكون أداة للجريمة عاد تفكيري إلى سوسن، وكلّما أمعنت في التفكير كلّما اقتنعت أن تكون هي الفاعلة لكن ينقصني الدليل الدامغ، لذلك اضطررت إلى مواجهتها والقيام بتلك التمثيلية مع الفتاة مروة .
 
– لم أتوقع أن تنهار بهذه السرعة!
 
– ذلك لأنها ليست مجرمة بطبيعتها، لكن الظروف اضطرتها للقتل فتجدها انهارت سريعًا ولم تتقن المراوغة والإنكار . هل تعرف بأني مذ دخلت إلى هذا الملجأ شعرت بالنفور منه، وانطباعي الأول عنه بأنه مكان غير مريح، وبعد أن علمنا ما كان يحدث بين جدرانه أدركت بأن إحساسي كان صادقًا، فما كان يحصل أفظع من الجريمة التي ارتكبت فيه .
 
– معك حق.. صمت شريف لبرهة ثم أردف :
– أريد أن أعترف لك بأمر
 
– تضايقتَ من وجودي وكرهتَ التعاون معي، قال زياد مبتسمًا
 
– كيف عرفت؟
 
– لا يحتاج الأمر إلى ذكاء، فمشاعر النفور واضحة وتصل مباشرةً إلى الطرف الآخر
 
– لكن ذلك كان في البداية فقط، فيما بعد تغيّرت نظرتي تجاهك، صمت قليلًا ثم أردف : أعترف بأنك محقق ذكي وتستحق الثقة التي تمنحها لكَ القيادة .
 
– شكرًا على الإطراء، أنت أيضًا بذلت جهدًا في القضية، فظهور الحقيبة كان بداية تجلّي الغموض عن الجريمة . والآن كفانا كلامًا ولنأكل..
 
***
 
أُودِعت سوسن في الحجز بعد أن سجّلت اعترافاتها رسميًا ريثما تتم محاكمتها، وفي مكتب العقيد نشأت وقف زياد مؤديًا التحية العسكرية..
 
– لم تخيّب ظني عندما أوكلت إليكَ هذه القضية، أنا فخورٌ بك والقيادة تبلغكَ شكرها وثناءها .
 
– أرجو أن أبقى عند حسن ظنكم سيدي، لكن لديّ سؤال
 
– تفضل
 
– هل تفاصيل الجريمة متاحة للإعلام؟ أقصد أنّ المقتول كان نائبًا في البرلمان وله وزنه في المجتمع لكن – كما تعلم – تبين أنه مصاب بالبيدوفيليا ويخفي خلف شخصيته المعروفة للناس شخصية مريضة ومضطربة، ألا يُعتبر نشر سبب ارتكاب الجريمة تشهيرًا به؟
 
– انتهى زمن التعتيم على الحقيقة، المقتول شخصية عامة ومن حق الناس أن يعرفوا لمَ قُتِل حتى لو تسبّب ذلك بفضيحة .
 
– فهمت سيدي، احترامي
 
***
 
في طريقه إلى منزله استرجع زياد حواره الأخير مع سوسن، إذ طلبت رؤيته قبل المحاكمة :
– لي عندكَ رجاء..
– ما هو؟
– سارة، ابنتي.. لا أريدها أن تعرف شيئًا عني . أخشى إن علموا بأني والدتها لن تجد عائلة ترعاها في المستقبل، وستُسَد أمامها جميع الأبواب، فالناس حقودين ولا ينسون بسهولة . لا أريد أن يشار إليها بابنة القاتلة، يكفيها وصمة اللقيطة، دعوها تعيش كغيرها من اليتيمات . هذا هو رجائي سيادة المحقق .
 
خرج من عندها وقد وعدها بأن يحقق طلبها..
 
***
 
جاء يوم المحاكمة وقد شهدت اهتمامًا واسعًا من قبل الناس وضجت بها مواقع التواصل الاجتماعي خصوصًا بعد القنبلة التي فجرتها سوسن بفضحها العمل الشنيع الذي كان يجري في دار الحياة للأيتام ..
 
 
أُدينت سوسن بارتكاب جريمة قتل السيد حليم المختار، لكن العقوبة خُفّفت من الإعدام إلى المؤبّد لأن القتل لم يتم عن سبق الإصرار والترصّد . أما فيما يتعلق بدار الحياة فقد انهارت ماجدة أمام اعتراف البواب وخضوع الفتيات للفحص من قبل الطب الشرعي الذي جاء تقريره مطابقًا لما روته سوسن، وعليه تم إغلاق الميتم بالشمع الأحمر وتوزيع الفتيات على دور أخرى للأيتام، أما ماجدة والبواب فقد حُكِم عليهما بالسجن مدة 25 سنة مع الأشغال الشاقة .
 
خرج زياد من قاعة المحكمة فوجد الصحفية لينا مصطفى بانتظاره، تقدّمت منه وقالت مبتسمة :
– باعتقادي الآن لن تبخل عليّ بدقائق من وقتك من أجل بضعة أسئلة عن القضية، أليس كذلك؟
رمقها بعينين متعبتين فشعر بنفسه يراها للمرة الأولى، لم تكن أجمل امرأة يقابلها في حياته لكن فيها شيءٌ جذّاب ومحبّب يدعوك للمزيد من النظر والتفكّر، هل تلك الحسنة في منتصف خدها الأيمن هي السبب أم عينيها الكحيلتين، أم..
قاطعت لينا شروده فيها :
– أنا بانتظار إجابتك..
شعر زياد بالحرج عندما اكتشف أنه أطال التحديق فيها أكثر من اللازم، مسح بيده على شعره كما يفعل عادةً عندما يكون متوترًا وقال :
– أنا مرهق جدًا وبحاجةٍ إلى كوب من القهوة، وأذكر أنكِ دعوتني إلى شربها في مكتبك، فهل ماتزال الدعوة قائمة؟
– طبعًا ماتزال، لكن ليس في مكتبي.. هناك مقهى قريب من المحكمة معتادةٌ أنا على الجلوس فيه، أدعوك إليه .
– موافق..
 
سارت لينا إلى جانب زياد وقد شعرت بأنها تسرّعت بحكمها عليه، فلم يكن مغرورًا ولا متعجرفًا، كل ما هنالك أنه شخص جدي أثناء عمله وملتزم..
ما كاد يأخذ أول رشفة من قهوته حتى رنّ هاتفه، وكان العقيد نشأت، يطلب منه الحضور فورًا إلى القسم.. اعتذر بشدّة من لينا ووعدها برؤيتها ثانيةً ثم مضى باتجاه سيارته .
 
هذه هي حياة المحققين، وقتهم ليس ملكهم، وهذا ما لم تستوعبه سوزان التي باعت حبها له وآثرت الانسحاب . أما لينا فبقيت ترقبه منذ خروجه من المقهى وحتى ركوبه السيارة وهي تأمل أن يجمعها به لقاءٌ آخر عسى أن يكون قريب .
 
 
 
~ تمت بعون الله وحمده ~

تاريخ النشر : 2021-05-22

نوار

سوريا
guest
44 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى