أدب الرعب والعام

أبناء أيلولين

بقلم : منى شكري العبود – سوريا

افترشت الأرض و تلحفت السماء ، غدوت مشرداً بعدما كنت سيداً
افترشت الأرض و تلحفت السماء ، غدوت مشرداً بعدما كنت سيداً

كما في كل ليلة أعانق الوسادة وأبث لها كيف أني غدوت نكرى ، كيف أنني أب لأبناء أيلولين ، جالسٌ أتأمل بحرقة كيف تتعرى شجرتي الهرمة من أوراقها بخريف عقوق قد عصف بهم ، استيقظت فزعاً على صرخات زوجة ولدي رائد تطرق مسمعي برفضها وجودي ، بينما ولدي يحثها صبراً على وجودي ، ليس رضا إنما خوفاً من فضحية تعتريه أمام مجتمعه المخملي ،

أن رائد هو الأبن البكر لقلبي ، أحببته دون أخوته حباً جماً ، كيف لا وهو فرحة عمري الأولى ، زادت زوجته حدة صوتها ، جررت نفسي وأنا أحزم حقائب الرحيل باكياً ، لملمت شتات كرامتي و بقايا احترامي و قيمتي ، متحفظاً على بعض الود لولدي رائد بجعبة الرضا ، هدء الضجيج في الخارج، خرجت من الغرفة متثاقلاً بحزني ، كان ولدي يجلس بصحبة زوجته يحتسون القهوة وعلى ثغرها بسمة تلاشت لرؤيتي ، باغتهم بهدوء:

– سأذهب إلى ماجد ، فهو ينتظرني ، و قد أراد حضوري على الفور.

لم ينبس أحدهما ببنت شفة و لم يكلف ولدي رائد نفسه عناء النظر إلي ، جررت حقائب الأسى ، خرجت من منزل ولدي منهكاً بالخيبة ، تصفعني أكف الكرامة ، تباغتني نصائح ولد زوجتي يونس الذي لم أحبه أو أبره يوماً ( لا تفعلها يا أبي، لا تبع منزلك و كل ما تملك لترضي أولادك ، ستغدو ضيفاً ثقيلاً بعدما كنت سيداً ) لكن ما كان مني إلا أن طردته للمرة التي لا تعد ، دخل يونس منزلي يتيماً وهو أبن الستة أعوام ، لم تفلح براءته بتسلل محبته إلى قلبي ، بل زادتني بغضاً له ، ظلمته كثيراً، تلقى مني أعنف تعذيب بحجة تربيته ، لم يكن من أمه سوء ذرف المزيد من دموع القهر عليه ، أنجبت لي أربعة أولاد عاقين ،

قد نخرو عقلي لأبيع ما أملك ليتقاسموه و لأحل عليهم ضيفاً ثقيلاً ترمقني العيون بأحدّ النظرات ، بينما ترشقني الألسنة بأسواء الألفاظ ، و بنت واحدة تزوجت رغماً عني لبلاد المهجر، لم ينل يونس نصيب والدته كما أوصت ، فقد حرمه أبنائي أن يرث أمه كما حرموه حنانها وعطفها باكراً، حينما غدت صريعة ذبحة قلبية سببها لها أبنائي الأربعة بعقوقهم لها ، كنت سيافاً أضرب بسيفهم ، ينسل نصل خنجري بوجد كل من قال لهم لا ، حتى غدوت خادماً لأطفالهم بغية مأوى يسترني من صقيع الوحدة، لكن ما كان منهم إلا الإهمال و العقوق.

وصلت إلى منزل ولدي ماجد ، ضجة صاخبة في منزله هدأت ما أن سمعوا صوتي ، باب المنزل لا زال مغلقاً في وجهي ، ولا أظنه سيُفتح ، فقد مر على طرق باب المنزل ساعة و نصف أجهدت أقدامي الهشة فجلست أرضاً ، أسترق من الحياة همة جديدة لأكمل حيث منزل ولدي ياسر، سرت أرمي ثقلي على عكازي ، تثاقلت خطواتي إلى منزله، تعثرت ذاكرتي بشتائم زوجته لي، فقد كانت أشدهم بغضاً لي، رغم أن ولدي ياسر كان أكثرهم رأفة بي ، لكن قلة الحيلة هي سيدة الموقف، وصلت حيث منزله، ارتعشت يدي، تصلب جسدي، رفضت كرامتي طرق الباب بعدما أسعفها عقلي لآخر طرده كانت لي على هذه العتبة، هممت بالرحيل، وإذا بصوت سيارة من خلفي، هرول نحوي مرحباً، أنه ياسر:

– أهلاً بك يا أبي، كيف حالك؟.
فتح الباب وعيناه تختلس النظر برعب إلى داخل المنزل، دعاني للدخول بصوت خافت، سخرت مني كرامتي، رميتها أرضاً دست عليها بقدمي معللاً أنه منزل ولدي، ودخلت، صوت باغتنا قائلاً:
– لا مرحباً بضيفٍ يجثو على قلبي كصخرة.
أردف ولدي ياسر قائلاً:
– أنه والدي يا سارة، لا أسمح لكِ، الضيف ضيف الله.
رميته بابتسامة سخرية اذاً قد غدوت ضيفاً ؟ أردفت بحنق شديد:
– فلترحل بصحبته إذاً، أم أنك نسيت أن هذا المنزل باسمي؟.

نظر لي ولدي بعجز، ربت على كتفه بابتسامة، كوني تلك القطعة المرنة القابلة للتمدد وتقبل جميع الأحوال، لملمت أشلاء كرامتي، جلدتني عقاباً على استهتاري بها، جررت حقائب الخيبة إلى أصغر أولادي سالم، حيث الفشل متمركز في حياته، غارقاً بأزمات طلاق وأطفال ونفقات، ومشروبات كحولية، معتنقاً فتيات الليل والسهر، وقفت على أعتاب منزله، ضجة صاخبة تصدر من خلف الباب، طرقت الباب كثيراً لكنه لم يسمع، جلست أرضاً لأريح هشاشة عجوز هرم، تساقطت جميع أوراقه، أعدت طرق الباب بقوة أكبر لكن فائدة، جلست أرضاً من جديد إلى أن هدأ الضجيج، أعدت طرق الباب بعكازي، فتح لي سالم الباب وفي يده زجاجة النبيذ، يترنح يميناً وشمالاً، سألني بغضب هادر:

– ماذا تريد أيها العجوز الهرم؟.
انتابتني نوبة بكاء جامحة ، جلست أرضاً فلم تعد قدماي تقوى على حملي ، باغتني بحدة متلعثماً:

– هيه ، هيا ارحل من هنا أيها الحثالة.

زدت من حدة نحيبي ، وقفت على قدمي مستعيناً بعكازي البار بي ، أوليته ظهري وأنا أردد:
– قد صدقت أنني حثالة ، قد صدقت، قد…

افترشت الأرض و تلحفت السماء ، غدوت مشرداً بعدما كنت سيداً ، تكورت على نفسي ونمت أرضاً، بجانبي حقائب لملمت بها ما تبقى لي ، استيقظت على صوت أحدهم يجهش بجانبي ببكاء حار، قال بصوت متقطع وهو يقبل يدي:

–  أرجوك أن تسامحني إن نسيتك ، والله أني متمنياً لو أنني في جوف الأرض على أن أراك هكذا.

وهو يرجوني أن أسامحه على غيابه ، أتدرون من كان؟.

أنه يونس ولد زوجتي ! عانقته بشدة أبث له عقوق أبنائي ، أرجوا منه أن يسامحني على كل صفعة ظلم صفعته إياها يدي ، ساقني إلى حيث منزله البسيط ، رغم أن الفقر قد نسج خيوطه في أركانه ، إلا أن هالة الحب كانت تحتويه ، قدمني لعائلته مبجلاً إياي:

– أنه والدي ، من رباني واجتهد في تربيتي، فلترحبوا بسيد المنزل الذي نقطن فيه.
قبلت زوجتهُ يدي ، ركض أطفاله يتعلقون بي ضاحكين ، بكيت بشدة.
 

النهاية …..

تاريخ النشر : 2021-05-24

guest
7 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى