أدب الرعب والعام

قدر – الجزء الثاني

بقلم : جمال – سوريا
للتواصل : [email protected]

خارت قوى فاليريو و قد تحولت دماءه لبركة توسطها
خارت قوى فاليريو و قد تحولت دماءه لبركة توسطها

 
– إنه أحد الأشخاص الرائعين ، بل إنه الأروع بالنسبة لي ، لم تسنح لنا أي فرصة لنتكلم بجدية أنا و أنت ، كنت بالطبع سأحدثك عنه ، لقد أنقذني من الموت حينما كنت صغيرة ، مات أبي وأمي وقد كنت أبنتهما الوحيدة ، ثم ترعرعت عند عمي و زوجته ، لقد تركا لي ثروة كبيرة ، و كان من المفترض أن أُحصّل هذه الثروة حينما يشتد عودي ، لكن الطمع أعمى قلب عمي و زوجته فبدءا بإشاعة أني قد أُصبت بالطاعون و حبساني في غرفة مزرية جداً ، وبالطبع لن يلومهما أحد و لن يفكر بزيارتي أيضاً ، ثم في تلك الليلة فتح الباب دخلت زوجة عمي وشدتني بعنف ، لقد باعاني ، لكني بمعجزة ما هربت ، ركضت طويلاً حتى انتهى بي المطاف في الغابة.
 
و قبضت بيرلا راحتي يديها كأنها استذكرت أكثر جزء مؤلم في ما تقوله :
 
لقد بت تلك الليلة في العراء وحيدة ، أكلت ورق الأشجار ، و في اليوم التالي ، هاجمتني أفعى ولدغتني ، ظننت أنها النهاية ، عندما استيقظت وجدت نفسي في منزل الجد، لقد رعاني حتى كبرت ، إنه أطيب إنسان قد تقابله في حياتك ، بالمناسبة من أنت ، حدثني عنك ؟.
 
نظر فاليريو في وجهها ثم هم بالترجّل :
– لا أدري.
 
بيرلا (مستنكرة ) :

-لا تدري ! ، أتسخر مني فالي ؟.
 
– أبداً .. ربما سقطت من السماء كما أنا.
 شكراً على كل شيء .
 
– دعنا نتقابل مجدداً أرجوك ، لدي كلام مهم لك .
 
-أخبرتك ، لا شأن لي بالنساء ، وداعاً.
 
شعرت بيرلا بالإحباط و أحاطت بها أطياف من الحزن و اليأس :
 
“أنا فقط أريد أن أخبرك كم أحبك فالي ، أعطني هذه الفرصة “.
 
همست لنفسها بتلك الكلمات وهي تراقب فاليريو عند آخر الممر حتى ارتطام الباب .
 
*****

” كل هذه المقاومة لن تجدي ، لينقذني أحدكم قبل أن يخرج “.
 
أمسكت بيرلا الكأس ، تأملت تماوج الشراب فيه ، يمنة ثم يسرى ، كانت تتماوج كما أفكارها ، وضعت يدها على الطاولة ثم أسندت رأسها إليها :
 
– أي مبلغ قد بلغه ذلك الفاليريو مني !.
لماذا أنا متعلقة به إلى هذا الحد ؟.
لماذا لا أستطيع أن إخراجه من تفكيري و أنا التي استطيع تحريك جيش من الرجال بإشارة مني ، لماذا هو ، لماذا ؟.
 
أسبوع مضى ذاقت فيه بيرلا مرارة الانتظار و اكتوت بأسره ، لطالما عهدته على مدار ترددها إلى الحانة ، هناك على تلك الطاولة في الوسط ، تتبسم كلّما رأته يأخذ المال من خصمه و تزداد ابتسامتها شغفاً حين تراه يطيح بمتحديه واحداً تلو الآخر .
همست لنفسها وقد تنهدت تنهيدة تنم عن تساؤلات يائسة :

– أين يمكن أن يكون ، أخشى أن أذىً قد لحق به ، أو أن ذلك الصداع ساء عليه ، إني أخشى ذلك حقاً.
 
***

بدأت أشعة الشمس تلملم خيوطها المنسكبة ، و تبرّجت السماء بشفق وردي سار بها حيث يقبع الأفق ، و في حضرة تلك البداعة وجدت بيرلا نفسها أمام منزل متهالك قديم على أطراف البلدة .
 
طرقة ، اثنتان ، ثلاث ، لا إجابة.
 
– يا إلهي هل من الممكن أن يكون حقاً هنا ، يا له من غريب أطوار ! عندما سألتقي به سأخبره أنني عشقت أكثر شخص كريه ، بليد ، غريب أطوار و سأخبره أيضاً أن من تعشقه هي أكثر فتاة رعونة وغباء ، فلو لم تكن كذلك لما عشقته .
همست بيرلا ذلك لنفسها و قد ترددت في البقاء أكثر :
 
– فالي ، فالي ، هل أنت في الداخل ؟.
 
أدركت بيرلا بعد عدة صيحات أملت من خلالها ظهور فاليريو أنْ -لا حياة لمن تنادي – شعرت بضيق شديد ، أخذت نفساً عميقاً و رفعت وجهها نحو السماء ، كان الشفق قد ازداد تجمُّراً ، والسماء قد استسلمت لمدِّه الثائر .

أما هي فقد استسلمت أيضاً لتلك البداعة الساحرة ، تمتمت : يا له من سحر يبهر العيون !.
واستندت بيرلا مذعنة على باب ذلك المنزل ، لكن الباب انفتح من خلفها و بين هنيهتين كانت هي في وسطهما وجدت نفسها في الداخل .
 
 
نفث دخان سيجارته ثم عاد إليها فوجد نفسه قد قضى منها وطراً ، تململ بعينيه الباردتان و مد يده لجيبه يريد علبة سجائره ، استل واحدة ، أشعلها  ثم وضع يداه في جيبه وعاد للسير مجدداً ، بضع خطوات ثم توقّف رافعاً رأسه ، و تمتم :
 
“من هنا سيبدأ كل شيء “.
 
***

ركضت بيرلا لاهثة مذعورة بعيداً عن ذلك المنزل ، كأنما يطاردها شبح بل كأنها التقت بإبليس ذاته ! الرعب على وجهها الركض الهيستيري جعلها فُرجة لما تبقى من الناس في الشارع.
 
– إنه .. إنه ..
 
سيجارة أخرى قد استلب منها ما أراد و ها هو يرميها عقباً غير مبال.
 
– يجب أن أفهم كل شيء ، يجب عليَّ هذا.
 
حل الظلام على عجالة من أمره ، فأنهى بفعلته تلك اللوحة الساحرة التي تزينت بها السماء ، الظلام ، النجوم ، صوت البومة التي تخرق الهدوء بين الفينة والأخرى ، لقد عاد الليل الكلاسيكي وعادت بيرلا بعد ماراثون ذعر طويل لتدخل بسرعة إلى المنزل .
 
– ” يُقال : الحياة تعطينا فرصة واحدة فقط ، فرصة نكتشف من خلالها شخصنا ، من نكون ، وماذا سنفعل ، والحال الذي سنكمل عليه ، أليس كذلك “
 
تسمرت بيرلا مرتعشة في مكانها جاحظة بعيونها :
 
-ف..فا…لي ، ما ..
 
-ما الذي جاء بي إلى هنا ؟ ، جئت لأكتشف نفسي ، لأعلم من أكون ، الحياة أعطتني فرصة ..ربما.
 
كان فاليريو مستلقياً على أريكة و قد حمل سكيناً وضع مقبضها على صدره و مثبتاً إصبعه على رأس نصلها ، شعرت بيرلا وكأنه شخص آخر ، وعاد بها خيالها حيث سقطت داخل ذلك المنزل .
 
****

– يا إلهي ! هل يقطن فاليريو حقاً هنا بحق ! ، فالي هل أنت هنا ، فااالي ، من حسن حظي أن الضوء لا زال يتسلل إلى الداخل .

 
تذكرت جيداً كيف نظرت حولها و ما رأته على الجدران ، نداءات ، استغاثات ، طلب حثيث للنجدة ، رسومات سوداوية متوسلة “أنقذوني قبل أن يخرج “.

ذلك الذعر أنساها المخرج فتعثرت لتجد نفسها أمام كومة من البقايا البشرية ، كانت مكومة تحت عبارة :
 
” لقد خرج .. أنتهى أمركم جميعاً ”.
 
***
 
هزّت بيرلا رأسها عدّة مرات ، أرادت أن تستجمع نفسها لتنجو مما هي واقعة فيه ، لكن ذلك الذعر أبى إلّا و أن يفتك بكل رباطة جأشها :
 
– ف..ا ليريو ، هل تع..لم أين كُنت ؟.
 
– لقد حزرت ، في منزلي ، أوه يا إلهي لقد اكتشفتِ أمري.
 
(مختنقة ) :

– لقد ذهبت إليك لأني أُحبك ، أنا أُحبك ، أقسم ل.. اقسم لك.
 
– بالطبع ستفعلين كذلك ، أي أمٍ ستحب ابنها ، وخاصة بعدما رمته لسنين طويلة ، لماذا تركتني ، لماذا ابتعدتِ عني ، لقد رميت بي كل هذا الوقت
لماذا يا أُمي لماذا !.
 
صُعقت بيرلا مرة أخرى ، و لعلها صعقة أشد عنفاً من كل ما خاضته حتى اللحظة ، أحنت رأسها ، أمي ! ماذا تقصد الآن بأُمي ؟.

رفعت بصرها مجدداً لترتد بضع خطوات شاهقة شهقة كشهقات الردى ، كان فاليريو قد اتجه نحوها مسلطاً سكينه على حنجرتها ، أهتز السواد في عينيها الحوريتين ، لم يعد كما عهدته ، الشخص العدمي البارد ، بل إنه الآن شيطان مشتعل ثائر.
 
حاذاها صارخاً :

– لماذا ، لماذا لا تريدين الاعتراف بي ؟ ، حتى الآن ، حتى عقلك يأبى ذلك ، ما الذي فعلته لك ، لماذا جعلتني أعيش كل تلك التعاسة ؟ .
 
وجدت بيرلا نصل السكين قد لامس عنقها ، خرجت منها كلمات علق نصفها في حنجرتها :
 
– لكني .. لس..ت ، أ..مك ، فالي .. ما..بك ؟.
 
رد صارخاً و قد ارتسمت ابتسامة طفيفة على وجهه سرعان ما تحولت لضحكة هيستيرية :
 
– اصمتي ، كيف تستطيعين فعل ذلك ، كيف يمكنك إنكار أبنك ؟ ليس على لسانك فقط بل و بعقلك أيضاً ، أنتِ مجرمة تستحقين مصير من رأيتهم هناك ، لقد عشت ولا أعلم من أنا ، ما استطيع الوصول إليه من ذاكرتي هو تلك العربة التي رمتني وذهبت ، تركتني وحيداً ، ذلك الجزء المفقود من ذاكرتي لطالما أراد أن يعود ، لطالما حثني لأساعده على التسلق من الأعماق ، أتعلمين ، لقد نجوت ، وجدت بداخلي قدرة غريبة ، قدرة أعطتني سبيلاً للعيش ، في ذلك اليوم تأكدت ، لم يكن الأمر مصادفة أبداً ، أنا استطيع أن استمع إلى ما تفكرون به ، أعلم ماذا يدور في أذهانكم ، وأيضاً لا استطيع نسيان أي شيء ،

هذا ما مدّ لي يد العون لأستمر في هذه الحياة ، لم أكن أفضل من أي أحد في كل تلك الأدوار ، لقد كنت اهزمهم لأني اعلم ما يدور في عقولهم ، لكِّن هذا ما رمى بي بعيداً أيضاً ، أتعلمين يا أمي ، كل أولئك الذين في الخارج هم محض حثالة تستحق الموت ، جميعهم ضواري على هيئات بشرية ، و أيضاً في داخلي قد نمى وحش ، وحش أراد التخلص منهم جميعاً ، أراد تنظيف كل تلك القذارة في الخارج ، ستتفقين معي عندما تتجولين في أفكارهم وتستمعين لصوت عقولهم ، لقد حاولت منعه ، صارعته طويلاً ، أصارع الوحش بداخلي و أصارع تلك الذكريات المفقودة ، من أنا ؟.

عندما رأيتك للمرة الأولى ، والذي أصابني يومها ، أدركت أنك جزء من كينونتي الضائعة ، لكن صوت عقلك كان ساذجاً .

عيناك ، أنفك ، وجهك ، صوتك ، لقد كانت متطابقة مع ما استطاع التسلق من ذاكرتي والصعود ، عاد وجهك الذي حملني مبتسماً ، يا له من جنون ، يا له من جنون ، استطيع تذكر نفسي عندما كنت رضيعاً بين يديك ، بضع ذكريات خرجت غير مكتملة ، لكني واثق أنها حقيقية يا أمي حقيقية ، بذات الوقت خرج ذلك الوحش ، إني الآن احمل رسالة تطهير لهذا العالم ، أليس هذا جميلاً أمي ؟ ، أليس هذا جميلاً ، لكن أم لا تريد الاعتراف بابنها لا تستحق سوى الموت ، الموت فقط .
 
أحست بيرلا برأس السكين يضغط على حنجرتها ، ماذا ستقول ، ماذا ستفعل ، ماذا ستبرر ؟ بل أي شيء قد تبرر ، عن بعثرة طويلة سمعتها دون أن تفهم حرفاً منها ، هيئة فاليريو أمامها و ذلك الشرر في عيناه ، افقدها أي أمل :
 
– فالي ، لربما إن أكملت هذه السكين طريقها عبر عنقي ، لربما استيقظ من كابوس مزعج ، و لربما استيقظ على صوت طرق الباب ، افتحه ، وإذ بك أنت تبتسم لي ، تهديني باقة من الأزهار ، وتطلب مني الخروج في موعد ، تابع فقط ، أنا لم أفهم شيئاً منك و لكن سأكون بصفك دائماً ، أنا بجانبك فاليريو ، ستبقى روحي بجانبك و إن مت الآن على يدك ، ستبقى كالعاشقة التي أريدها أنا و الأم التي تريدها أنت ، أعدك ..أعدك بذلك .
 
سال خيط من الدماء على عنقها وسال شلال دموع من عينيها ، وامتزجت تلك الدماء و الدموع أمام وحش بات خارجاً عن أي سيطرة ..
 
-فاليريو .. استيقظ أرجوك.
 
***
 
– نعم ، نعم ، أنا قادم ، قادم ، هذا يكفي .
 
كان يسير نحو الباب بجسده الهرم الهزيل مستعيناً بعكاز قديم و مع ذلك فإنه لم يستطع ضبط خطواته بشكل جيد ، أطلق سعلة نمّت عن داخل متهالك كخارجه ، ولهثة أظهرت عجلته في أمره ، إذ لم يسبق وأن طُرِق عليه الباب بهذه الطريقة ، بكل الأحول فإن حق الزمن عليه يلزمه بهذه الهيئة التي هو عليها الآن ، فبين الشباب و المشيب كما بين الثرى و الثريا هذا ما أعلنته تلك اللحية البيضاء التي أخفت جزءاً يسيراً من ذلك الوجه المجعّد ببصمات الدهر .
و ها هو أخيراً يتقدّم آخر خطوة قبل أن يفتح الباب نافِثاً الصُعداء :
 
– لكن ما الذي يحدث بحق الآلهة !.
 
– مرحباً أيها الجد ، لا بد وأنك قد تذكرتني.
 
وجد ذلك العجوز نفسه بين لحظة وأخرى قد تلقى دفعة أطاحت به أرضاً :
 
– أهذا أنت ! ، ما الذي تفعله ، ماذا تريد ؟.
 
– جئت إليك لأشكرك على معالجتي في ذلك اليوم.

 
كان ذلك الطّارق فاليريو ، أغلق الباب و تقدم بضع خطوات باتجاه العجوز الملقى على الأرض ، نظر إليه مليّاً ، ابتسم بوجهه ابتسامة شيطانية ، أظهر حربةً عكس نصلها النور الخافت داخل المنزل ، ثم انحنى إليه و قد تبدلت ملامح وجهه إلى الغضب ممسكاً إيّاه من مجمع ملابسه ثم خاطبه بنبرة ملئت سوداوية مقيتة :
 
– هل هي صدفة أم ترتيب القدر أيها العجوز ؟ أتذكر تلك الأغنية التي كنت تتمتم بها في ذلك اليوم ، عن تلك السماء الصافية و ذلك البدر ، وعن نفسك المنتصر ، لسوء حظك لا يمكنني نسيان أي شيء ، لم أنسَ وجهاً قابلته حتى الآن ، ولا أي تفصيل قلّ أو كثر ، بفضل تمتمتك تلك في ذلك اليوم استطاع جزء آخر من ذاكرتي المفقودة بالعودة ، لقد كنت تتمتم بها طيلة ذلك الطريق أتذكر !، بإمكان الزمن أن يغير ملامحك ، لكن ليس بمقدوره أن يمسح علامة من على جسدك .
 
كانت كلمات فاليريو تدخل مسامع العجوز تحته و كل كلمة تترك أثراً أكبر من التي سبقتها على ملامح وجهه .
 
تابع فاليريو بنبرة ازدادت ظلاماً و حُلكاً :
 
– على مدار حياتي الفارغة ، كنت استمع لما تتفوه به العقول ، الجميع دون استثناء ، أو هذا ما ظننت ، لأنك كنت الاستثناء الوحيد ، الاستثناء الذي جعلني افكر مرة ثم أخرى ، لقد كنتُ مستلقياً على ذلك السرير عندما تقدمتَ إليّ ، و رأيتُ تلك العلامة على كفِ يدك ، نعم لقد تذكّرت ، ذلك اليوم ، ذلك الكف ، تلك التمتمة ، أنت موجود في ذاكرتي ، أيها العجوز ، أخبرني من أنا ؟ لأني على عجالة من أمري ، فالآن لدي رسالة تطهير لهذه الحياة ، أولئك الحثالة في الخارج يجب أن يموتوا جميعاً ، كما سيحصل بك إن لم تتكلم .
 
أرخى الجد جسده و أدار وجهه ثم أتبع ذلك بقهقهة مقتضبة :
 
– يا للقدر ! ، لكنها مجرد أسطورة ليس إلا ..
” ذلك النور ، قد جاء إلي ..
عانقته بغبطة ..
وسرعان ما أندثر
الظلام قد حل ، الليل أكفهر ..
كل شيء غاضب ، لقد سقطت في الشر ، هناك وحش ، قادم إليّ ، مسرع نحوي ، كيف أفلت ؟ … لا لا مفر .
 
إنها تتمة الأغنية ، لم أعتقد لوهلة أنها نبوءة ستتحقق ، و أنها ستتحقق عليّ أنا ، لقد خسرت كل شيء بسببك ، عندما ظننت أن القدر قد رضي عني ، وها أنا الآن لا زلت أخسر .
والدك كان مجرد بائع حلوى ، يصدح بأعلى صوته ، و ينادي بُحّة دون أن يجاب ، تقدمت إليه ، وهمست له ما رأيك أن تصبح ثريّاً ؟ ، اعتَقدَ أني أسخر منه ، لكنه وافق على الفور حين عرضت عليه ذلك العرض .
 
– روح الجبل ستحقق لك ما تشاء ، مقابل أن تقدِّم لها.
 
– و ماذا سأقدم ؟.
 
– سعادتك ، ستقدم كل روح تحبها ، بمجرد أن تمتلك مولوداً ، ستأتي به إليّ و سآخذه كقربان لتلك الروح ، لن تفقد طفلك فقط ، بل ستفقد زوجتك عند أول ولادة لها ، و ستستمر بالعيش على هذا المنوال حتى تموت .
 
آنذاك وقف والدك على ذلك العقد المحرم بين روح الجبل و بينه ، أما أنا فلم أكن سوى وسيط ، منذ زمن غابر قام أحد النسّاك بحبس تلك الروح في كهف ، لكن الروح لتضمن بقائها كانت تتغذى على أرواح البشر ، و لأنها كانت حبيسة الكهف ، فقد استطاعت أن تعين وسطاء لها ، و من هنا وُلد العقد الذي أبرمه الكثير قبل والدك ، لكن الثعلب الأبيض -والدك- الذي أصبح أغنى أغنياء المدينة ، لم يكن يعلم بأنه لا ينجب ، كنت أتردد إليه باستمرار ، و في ذات يوم أخبرني أن زوجته حامل ، لقد كان غاية في السعادة ، كيف لا وهو يعلم أن عدم وفاءه لشروط العقد ستجعله يخسر كل شيء ، لكن بعد ولادتك بفترة مات هو و والدتك .
 
صرخ فاليريو مقاطعاً :
– كذب ، كذب ، أمي تخلت عني ، لقد عالجتني في منزلها أيها الدّجال .
 
رد الجد ساخراً :

من تقصد بيرلا ؟ ، يا إلهي كيف لم ألحظ هذا ؟ إن الشبه بينها وبين والدتك قد يصل إلى حد التطابق ، أنت لعنة حقيقية ، مذهل أن ترى شخصاً بذاكرتك ، ذاكرة تتمسك بأيام الرضاعة ، حقاً مذهل ، بكل الأحوال كان لزاماً عليّ إيصال القربان للروح ، لكن و بسبب ثراء والدك فقد وضعت تحت رعاية الحكومة حتى تستطيع إكمال مسيرة الثعلب الأبيض ،

و بمعجزة استطعت اختطافك ، أردت أخذك حيث كهف القربان ، مسكن تلك الروح ، لا بد أنك تذكرت هذا الجزء ، مضيت بك بعيداً و لكن بعد أن وجدت نفسي ملاحقاً وأصبح الوضع خطراً علي رميتك ، لا زال صوت ارتطام رأسك في أذني حتى الآن ، ربما لهذا فقدت جزءاً من ذاكرتك ، بعد فشلي تخلت عني الروح ، خسرت كل امتيازاتي التي كانت لدي عندما عملت لخدمتها ، و عوقبت بفقدان البصر من إحدى عيناي ، قررت بعدها أن أعيش نادماً على ما اقترفت ، لكن يبدو أن للقدر قرار آخر.

 
غارت عينا فاليريو وانتبجت عروق وجهه ، انتفض الوحش بداخله ، صرخ صرخة مدوية جعلت قلب العجوز يدقُّ رعباً بعد ذلك الاسترخاء الذي تمسّك به :
 
-أنت شيطان ، شيطان يجب أن يموت .
 
-أعلم أنك لن تكتفي بقتلي ، ستفتك بالجميع ، ستتحول إلى عاصفة يعصف بريحه حياة كل من تقابله ، للجميع جانب أسود في عقله ، طالما أنك تستطيع قراءة هذا الجانب ، فلن ترحم أحد ، لقد ارتكبتُ الكثير من الأخطاء في حياتي ، يجب أن أكفّر عنها بحماية الجميع منك .
 
بلمح البصر أخرج العجوز سكيناً كان قد أخفاها تحت ثوبه و باغت فاليرو بطعنة أخترقت صدره .
 
تسارعت أنفاس فاليريو عندما رأى دماءه تقطر على ثوب الجد ، برهة ثم استجمع بها نفسه ليدق بعدها عنق العجوز تحته.
 
ترجّل متألماً مرتجفاً :
– لن أموت ، أنا لن أموت أبداً.
نطق بهذه الكلمات متحشرجاً سائراً بتثاقل .
 
– أمي ، أمي تعالي ، تعالي ساعديني ، يجب أن نعيش سوية في عالم نقي.
 
بدأ البرد يتسلل لجسد فاليريو الذي كان ينزف و كل خطوة كان يخطوها كانت أثقل من التي سبقتها .

جرّ جسده المطعون بين أنين و شهقة جرّه لمسافة طويلة صعوداً .
لكنه في النهاية سقط أرضاً ، نظر إلى يديه و قد تخضبت بالدماء ، نزع السكين من صدره .
 
-أيتها الروح ، سأقضِ عليك ِ.
 
قالها بتحشرج بالغ ، و رويداً رويداً خمد كجذوة أنتهى ثورانها حتى بات عاجزاً عن تحريك جسده .
 
..الآن ، أنا أتذكر ، أتذكر كل ما جرى في تلك الليلة
 
– مارديك ، يبدو أنك غير سعيد ، ما الذي جرى ؟.
 
– لا شيء.
 
-ألق نظرة عليه ، ستحبه ، ما بك تنظر إليّ هكذا ؟.
 
– إن لم يحدث ذلك الأمر ، سأُحدثه أنا بنفسي .
 
– ما الذي تقصده ؟.
 
– كان من المفترض أن تموتِ مارية ، لماذا لم تموتي ، لماذا ،  لماذا ؟.
لا يهم ، سأسوي هذا الأمر ، لن أخسر كل شيء بعدما وصلت إلى هنا ، يجب عليّ إتمام شرط العقد.
 
– مارديك ما الذي تتفوه به ؟ أخفض هذا المسدس ، هل جُننت ؟.
 
– فات الأوان مارية .
 
– إذن .. لا مناص من الموت ، من حقك أن تصاب بالجنون مارديك ، ليس فقط للسبب الذي يدفعك الأن لقتلي و الذي لا أعرفه ، بل لأني لم أحبك يوماً ، كرهتك و كرهت والدي الذي انصاع لك ، لم أفهم كيف أذعن لحثالة مثلك ؟ دمرتم حياتي ، عشقته ، نعم عشقته ، كان يحب القهوة الحلوة ، و كنت أعشق ما يعشقه ، ذلك الطعم الذي حرمت نفسي و حرمتك منه لأنه مفتاح ذكرياتي السعيدة معه ، و في ذلك اليوم التقيت به صدفة بعد زمن طويل جداً ، لقد وجدت بداخلي الحب ذاته ، بل ربما أكثر ، و لأختصر عليك ، الطفل بجانبك ليس من صلبك ، هذا هو العدل الذي لطالما حدثتك عنه ، أقتلني الآن فقد أخذت انتقامي منك .
 
لقد قتل والدي والدتي ، ثم أفرغ رصاصة في رأسه ، علم أنه سيخسر كل شيء ، ستسلب الروح كل ما قدمته له ، لأنه عقيم ، ليت ذاكرتي كانت عقيمة أيضاً.
 
خارت قوى فاليريو و قد تحولت دماءه لبركة توسطها :
 
– أمي ، س..س..اعد..يني.
 
مضت تلك الليلة وأنبلج الفجر ، لقد كان بملامحه الهادئة ، لافظاً أنفاسه الأخيرة على عتبة كهف القربان .
 
 
النهاية ………
ملاحظة :
 
 النظام اللندني : هو افتتاحية شهيرة في لعبة الشطرنج وتتميز بصلابتها وجعل الوضع على الرقعة وضعا استراتيجياً صعبا للغاية .

تاريخ النشر : 2021-06-07

جمال

مهندس نظم قدرة كهربائية وكاتب ومعلق صوتي - للتواصل عبر البريد الالكتروني : [email protected] عبر تلغرام ؛ https://t.me/Jamsyr ايضاً من خلال صفحتي على فيسبوك أو انستغرام ادناه :
guest
55 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى