منوعات

المنصور بن أبي عامر : الغاية تبرر الوسيلة!

بقلم : اليماني
للتواصل : [email protected]

رجل لم يدخر وسيلة للوصول الى سدة الحكم
رجل لم يدخر وسيلة للوصول الى سدة الحكم

من كاتب على باب القصر إلى حاكم مطلق للأندلس!

أن أعلى سقف طموحات الإنسان في هذه الدنيا هو الرئاسة، في سبيل الوصول إليها يغامر بنفسه وبأعز ما لديه.. والطامحون للرئاسة صنفان .. صنف لا يبذل أدنى جهدٍ للوصول إلى الحكم، لأنه اصلا وُلِدَ لأسرة حاكمة. وصنف ثاني تصنعه الأحداث والفرص فتوصله إلى سدة الحكم… وهذا عائد للتغيرات السياسية والحروب وغير ذلك من الأمور التي تغير من المواقع ومن أصحابها.
ويندر من الناس من يصنع نفسه صناعة، يسعى بجهدٍ فردي للصول إلى الحكم.

ومن هؤلاء الذين صنعوا مجدًا بأنفسهم: الحاجب المنصور محمد بن عبدالله بن أبي عامر المعافري، من كاتب على باب قصر الخليفة المستنصر في الأندلس إلى الحاكم المطلق للبلاد، بداية مليئة بالغدر والخيانة، ونهاية مليئة بالجهاد والإعمار وضبط الدولة.

ولد سنة 328هـ، من أسرة يمنية الأصل تنتسب إلى قبيلة معافر اليمنية (حاليا: الحجرية، في محافظة تعز – الجمهورية اليمنية).

دخل جده عبدالملك إلى الأندلس مع طارق بن زياد، وأظهر شجاعة في بعض العلميات العسكرية في الجزيرة الخضراء (قادس جنوب اسبانيا) فكوفئ عليها بإقطاعات جليلة في بلدة طرش شمال شرق الجزيرة الخضراء، واستمر أبناؤه من بعده في عداد الطبقات الراقية، وجاور بعضهم الخلفاء بقرطبة، وبرز منهم الولاة والقضاة والعلماء.

أحد أصدقاء بطل قصتنا وهو موسى بن عزرون ، روى حكاية طريفة تتجلى فيها طموحات المنصور فقال: “اجتمعنا يوماً في منتزه لنا، بجهة الناعورة بقرطبة، مع المنصور بن أبي عامر؛ وهو في حداثة سنة، وأوان طلبه، وهو مرجى مؤمل، ومعنا ابن عمه عمرو بن عبد الله بن عسقلاجة، والكاتب ابن المرعزي، والحسن بن عبد الله بن الحسن المالقي. وكانت معنا سفرة فيها طعام؛ فقال ابن أبي عامر، من ذلك الكلام الذي كان يتكلم به: إني لا بد أن أملك الأندلس، وأقود العساكر، وينفذ حكمي في جميع الأندلس! ونحن نضحك معه، ونتعجب من قوله؛ فقال لنا: تمنوا علي! فقال عمرو بن عبد الله بن عمه: أتمنى أن توليني على المدينة! وقال ابن المرعزي: أشتهي أن توليني أحكام السوق! وقال ابن الحسن: أحب أن توليني قضاء رية! قال موسى بن عزرون: فقال لي: تمنَّ أنت! فأسمعته كلاما قبيحا وسمجاً. فلما صار المنصور إلى ما صار إليه من ملك الأندلس، ولي ابن عمه المدينة، وابن المرعزي السوق، وولي ابن الحسن رية، وبلغ كل واحد منهم إلى ما تمنى. وأغرمني مالاً عظيماً أحجف بي وأفقرني، لقبح ما كنت قد جئته به”.

نشأ نشأة حسنة، وكان منذ حداثته طموحًا ذا همة عالية، نال قسطا من العلم الشرعي، ثم فتح دكانًا عند باب قصر الخليفة ليكتب فيه للناس الطلبات والعرائض، وسرعان ما استهوى الجمهور بذكائه ومهارته.

بلغ خبره السيدة صُبْح زوجة الخليفة الحكم وأم هشام – أي: الخليفة بعد أبيه الحكم – عن طريق خدم القصر، فاستخدمته عندها ليدير لها أملاكها، فأظهر كفاءة ممتازة أعجبت السيدة صبح.

توسطت لدى الخليفة الحكم المستنصر لكي يرفع من شأنه فولَّاه أمانة دار السكة، ثم قضاء بعض النواحي، ثم الإشراف على أموال الزكاة والمواريث في إشبيلية، وعلى إدارة الشرطة فيها، ثم جعله وكيلا لولده هشام ولي العهد، وهنا تبتدئ حياته كرجل سياسي وإداري كبير في الدولة.

وعندما توفي الخليفة الحكم المستنصر بالله قرر المصحفي وأم الخليفة ومحمد بن أبي عامر أن يكتموا خبر موته حتى تستتب الامور لولي العهد الصغير هشام ويتخلصوا من المنافسين ، وعلى رأسهم المغيرة ، أخ الخليفة الميت ، فتطوع أبن أبي عامر لهذه المهمة، وقام بشنق المغيرة بخيط حرير وهو لم يزل شابا ، وبعد ان صفا الجو اعلنوا موت الخليفة وقاموا بتنصيب أبنه هشام محله ، وهكذا وضع المنصور قدمه على اول درب الوصول الى السلطة.

استطاع بعزيمته الجبارة وذهنه المتقد أن يوقع بين خصومه ويضرب بعضهم ببعض، ثم يصرعهم واحدًا بعد الآخر، غير مبالٍ بضمير أو أخلاق في سبيل الوصول إلى مآربه.

أول خصومه هو رئيس الوزارة نفسه الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي، فانتهز فرصة العداء الذي نشأ بين المصحفي وبين رؤساء الصقالبة – الصقالبة هؤلاء هم حراس الخليفة مثل الحرس الجمهوري الآن – وأن يُوقع بين الفريقين، واستطاع المنصور بهذه الطريقة أن يشتت قوات الصقالبة ويخرجهم من القصر ويولي غيرهم من مماليكه عُرفوا باسم الفتيان أو المماليك العامرية.

وتحالف مع المصحفي للقضاء على الصقالبة وبعد عدة أحداث تخلص من الصقالبة.

تزوج بابنة القائد غالب بن عبدالرحمن قائد الجيش وأمير الثغور، عند ذلك أخذ في مناصبة المصحفي العداء ونسب إليه تهمًا عديدة وأوغر صدر الخليفة عليه، فأمر الخليفة بعزله من الحجابة والقبض عليه وزجه في السجن، ثم أذله وسجنه إلى أن مات.

ثم رجع إلى صهره القائد غالب، فاستعان بشخصية أخرى عليه وهو القائد جعفر بن علي بن حمدون، كوَّن جيشا تابعًا له في العاصمة مقابل جيش صهره الذي في الثغور، وحجر على الخليفة – الخليفة هنا طبعا هو: هشام المؤيد ابن الحكم المستنصر -.

ساء غالب قائد الجيش هذه السياسة التي اتبعها المنصور… وبعد أحداث التقى القائدان في معركة حاسمة: المنصور وصهره ، وفي أثناء المعركة وفجأة سقط غالب من على فرسه ميتا، وليس فيه أثر السلاح، يا لها من مفاجأة، وقد كاد القائد غالب ، وهو عجوز في الثمانين ، أن ينتصر ، وقد أيقن ابن أبي عامر بالهزيمة لولا موت غالب فجأة.

بعد أن تخلص المنصور من غالب تحول إلى حليفه السابق: جعفر بن علي بن حمدون فقتله.

وهكذا تخلص المنصور من جميع منافسيه، تحت مبدأ: (الغاية تبرر الوسيلة).

وحين صفا له الجو قام بالحجر على الخليفة وأمه – التي كانت هي بالاساس التي ادخلته القصر حين كان كاتبا – واخذ منهما الاموال وصار هو الحاكم الفعلي المطلق ، وتسمى بالمنصور ، ودعي له على المنابر.

وقد لخص بعض المؤرخين هذه السياسة العامرية تلخيصا جميلا بقوله: كان المنصور آية من آيات الله في الذكاء والمكر والسياسة، عدا بالمصاحفة – أي: أعوان الحاجب المصحفي – على الصقالبة حتى قتلهم، ثم عدا على المصاحفة حتى قتلهم، ثم عدا بجعفر الأندلسي حتى استراح منه، ثم عدا بنفسه على جعفر حتى أهلكه، ثم انفرد ينادي صروف الدهر: هل من مبارز؟!!! فلما لم يجده، حمل الدهر على حكمه….

في الحقيقة المنصور لم يرحم حتى أبنه عبدالله حين شك في تآمره عليه ، فحبسه ، وحين فر الابن والتجأ الى حاكم قشتالة وقعت الحرب بين الطرفين والتي انتهت باجبار حاكم قشتالة على تسليم الأبن ، ثم دس المنصور رجلا قتلوا أبنه ، وأرسل رأسه مع كتاب الفتح الى الخليفة ..

تفرغ المنصور بعد ذلك لمحاربة الممالك المسيحية في الشمال: قشتالة وليون ونبرة وقطالونيا.
كذلك اهتم بمحاربة الفاطميين وأعوانهم في المغرب العربي.

واهتم بإدارة البلاد وعمارتها واستتباب الأمن وضبط البلاد، وبذلك قلَّت الجرائم والاضطرابات في عهده.

ولا شك أن وفاة المنصور قد أحدثت في الأوساط المسيحية موجة من الفرح والبشر، بدليل ما كتبه الرهبان في الكنائس في ذلك الزمان، فكتبوا يقولون: وفي سنة 1002م مات المنصور وذهب إلى جهنم.

وقد كان يجمع الغبار الذي يصيبه في حروبة ضد ممالك الشمال في صرة ثم أوصى أن تدفن معه بعد وفاته. وقد كتبوا على قبره الابيات التالية :

آثاره تنبيك عن أخباره    **   حتى كأنك بالعيان تراه
تالله لا يأتي الزمان بمثله  **   أبدًا ولا يحمي الثغور سواه

فانظروا إلى البداية وإلى النهاية من أمر هذا الرجل العجيب!!!

blank
اختلف الناس فيه وفي تأثيره على مسار الاحداث في الاندلس

يرى البعض ان المنصور كان المسمار الذي دق في نعش الدولة الاموية بالاندلس حيث قضى على النخبة السياسية واستعمل الدسيسة والغدر لتحقيق اهدافه وفتح الباب امام كل طامح للوصول الى السلطة ، فما ان مات حتى عمت الفوضى وشاعت الفتن والحروب ودخل الاندلس مرحلة مضطربة عرفت بعهد ملوك الطوائف. فيما يرى اخرون ان المنصور كان قائدا عسكريا فذا ورجل دولة من الطراز الاول وان الفتن كانت تعصف بالاندلس حتى قبل صعوده للحكم.

وقد جسد مسلسل تلفزيوني مصري حياة ابن أبي عامر بعنوان: “الصعود إلى القمة”، وقد قام بدور ابن أبي عامر الفنان المصري: محمد وفيق.

تاريخ النشر : 2021-07-03

اليماني

اليمن
guest
14 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى