أدب الرعب والعام

ليلة بداخل مشفاه

بقلم : البراء – مصر
للتواصل : [email protected]

قالا أننا يجب أن نحذر من غضبه
قالا أننا يجب أن نحذر من غضبه

سمع الجالس على كرسيه صوت رنين جرس شقته المتواضعة، فوقف من فوره ليفتح الباب، وما وجد إلا الخواء أمامه، أما تحت قدميه فمغلف متوسط الحجم. التقطه من على الأرض ثم عاد للداخل وهو يفض المغلف ليجد أن مكنوناته قرص صلب، وورقة يتيمة تم طويها على شكل رسالة، فتحها ثم بدأ بالقراءة.

“في عام 2021، وأثناء حملة أرشفة القضايا القديمة في أحد أكبر أقسام الشرطة بالقاهرة، واعفني من ذكر الاسم بالتحديد. وجدت أنا وادعني الصول -ن- تسجيلات مرئية قديمة تعود لعام 2008، وقد كانت تلك التسجيلات محاولة من الشرطة المصرية لإدخال نظام تسجيل التحقيق الأوروبي إلى مصر، لكن فجأة، صدرت الأوامر من الجهات العليا بالتخلي عن هذا النظام، والعودة للنظام الطبيعي المُتعارف عليه، ولم نعرف السبب قط وقتها. بالعودة لما كان لدينا من تسجيلات آنذاك، فآخر تسجيلات وجدتُها مثيرة فعلاً للاهتمام، وارتأيت أنك يا سيادة المحقق، يا من يدعونه القبعة السوداء، ستكون مهتماً بإعادة فتح هذه القضية بعد أن أغلقناها تماماً في 2008، لأني وحسبما أرى، فالقضية لم تملك أي مقومات إغلاق على الإطلاق! بل أعتقد أن الأوامر جاءت من الجهات العليا بإغلاق القضية لأنهم لم يعلموا ما يتعاملون معه، ومن ثم فربما كان ذلك سبباً لوقف نظام تسجيل التحقيق الذي زار قسمنا لفترة من الزمن.

ومن الجدير بالذكر أننا لم نجد أي أثر للمدعو محسن، ولا نعلم مَن استأجر مجموعة العمال تلك. المزيد من التفاصيل بشأن هذا في التسجيلات.

الآن، لا أؤمن فعلاً أنك ستتمكن من حل لغز هذه القضية، لأنها أكبر منك سيادة المحقق، أكبر منا جميعاً، أكبر حتى من الجهات العليا.
استمتع بعجزك.
الصول -ن-“

أمسك الرجل بالقرص الصلب ثم أوصله بالحاسوب ، بعد ثوان بدأ بتفقد محتوياته ليجد قائمة من الفيديوهات المرقّمة ، فبدأ بالأول.

* * *

تدور الكاميرا ويبدأ التسجيل علی وجه رجل شاحب يضع ضمادة علی عينه اليسری.. يأتي صوت من الخلفية :
– “ماذا تعتقد؟!”
ينظر الرجل للكاميرا ولا يتكلم.. يعود الصوت من خلف الكاميرا مجددا :
– “ماذا تعتقد أنه حدث؟!”
رد الرجل وهو يعبث بأصابع يده :
– “لا أعرف.. كل شئ كان ضبابيا.. لم أستوعب ما حدث حتی الآن”
– “لكنك تعرف ما حدث.. لديك قصة.. أليس كذلك؟!”
– “لا أعرف.. أعتقد أنها كانت خيالات”
– “و لماذا تعتقد هذا؟”
رد الرجل مرتبكاً :
– “لن يصدقني أحد.. أنا نفسي لا أصدق ماحدث.. لم أعد أثق في عقلي”
أطلق الشخص خلف الكاميرا تنهيدة خفيفة ثم عاد يقول:
– “نحن لا نعبث هنا.. ثمة أرواح في الأمر.. أرواح قد فُقدت، وأنت مشتبه به مثالي إذا لم تخبرنا بما حدث حقاً.. الآن انظر جيداً للكاميرا وقل اسمك وسنك ووظيفتك بصوت واضح”
إبتلع الرجل ريقه ثم نظر للكاميرا قائلاً :
– “كريم.. جاد الله.. 37 عاماً.. عامل بناء”
– “جيد.. والأن قص عليّ ما حدث.. منذ البداية”
رد الرجل وهو ينظر لما خلف الكاميرا هذه المرة :
– “حسناً ولكن قبل أن أبدأ.. سيدي.. هل تؤمن؟!.. هل تؤمن بعودة الموتی للحياة؟!”

* * *

يظهر وجه إمرأة خائفة علی الكاميرا ثم يتكلم الشخص خلف الكاميرا قائلا :
– “سيدة غادة إذن.. أحتاج منك أن تنظري للكاميرا وتقولي لنا إسمك وسنك ووظيفتك من فضلك”
– “غادة عبد الصمد.. 32 عاماً.. مهندسة معمار وأعمال الهدم”
– “الآن أريدك أن تقصي علينا كل شيء حدث وكل ما شهدتِ عليه البارحة.. بالتفصيل ومنذ البداية”
بدت غادة متشككة وهي ترد :
– “هل تضمنون لي ألا تعتبرون كلامي مجرد هلوسات؟”
– “ماذا تعنين؟”
– “تطلبون الحقيقة سأخبركم بها كاملةً ولن أكذب.. ما أطلبه في المقابل عدم اعتباري مجنونة”
– “هذا يعتمد علی ماتقولينه يا سيدتي”
ازدردت المرأة لعابها ثم قالت بصوت مبحوح :
– “و ما سأقوله لا يبدو معقولاً أبداً”

* * *
كريم جاد الله

– “بدأ الأمر في اليوم الـ17 من يونيو.. أتتني المكالمة من رب عملي.. السيد محسن، قال لي أن الأمر مختلف هذه المرة.. وأن هناك أموال كثيرة علی المحك، كان يتحدث عن المستشفی.. مستشفی الأمل، أخبرني أنه أمامنا عشرة أيام فقط كي ننتهي من أعمال الهدم في المستشفی الذي كان مهجوراً منذ فترة”
قاطعه صوت شخص من وراء الكاميرا :
– “ما هي طبيعة عملك مع السيد محسن بالضبط؟!.. أعني منظومة عملكم”
– “السيد محسن هو رئيسنا نحن مجموعة العمال.. يراقبنا ويشرف علينا، وجوده مهم رغم أنه قد لايبدو كذلك.. لأنه يريح أصحاب العمل من مشكلة تجميعنا فردا فردا.. هم فقط يتواصلون مع السيد محسن.. والسيد محسن يجمعنا ويشرف علينا، بالطبع إذا أخطأ أحدنا فإن السيد محسن هو من يُلام علی الأمر “
– “أكمل من فضلك”
– “لم يكن الأمر بجديد علي.. فأنا معتاد أن يتصل بي السيد محسن دوما من أجل أشياء مثل هذه، لكن مالفت نظري هو المقابل المادي الذي سأناله حينما أنتهي…كان أكبر من المعتاد.. بكثير.. وكان هذا هو المبلغ المبدأي فقط”
قاطعه الصوت من وراء الكاميرا :
– “هل يمكنك أن تكون أكثر دقة؟!”
– “كان أربعة أضعاف ما كنت أتقاضاه في العادة”
– “جيد.. أكمل”
– “في مهنتنا حينما يصادفنا هذا الأمر فهذا يعني شيء من اثنين.. إما أن صاحب العمل الحقيقي سخي للغاية.. أو أن العمل سيكون متعباً للغاية، في كلتا الحالتين لم نكن لنتذمر.. إذا كنا سنضغط علی أنفسنا أكثر مقابل أموال أكثر فلا بأس.. نحن نحتاج المال. بدأنا العمل بعدها بيوم واحد فقط.. وهو رقم إذا لم تكن تعرف قياسي، لم يسبق لنا أبدا أن بدأنا بهذه السرعة، لكننا تقبلنا الأمر لحقيقة أنه إذا لم ننتهی قبل الـ30 من يونيو فلا أموال.. هكذا أخبرنا السيد محسن، في الواقع لقد ضغطنا هذا الشرط كثيرا.. كما تری كنا ننحدر من قری بعيدة عن المستشفی وربما نستغرق 4 ساعات أو أكثر في الطريق إلی المستشفی.. هذا غير أننا يجب أن ننصرف أسرع من المعتاد كي لا يتأخر الوقت بنا، ناقشنا هذا الأمر حينما رأينا المستشفی لأول مرة.. إقترح علينا السيد محسن أن نتقاضی أكثر مقابل أن نخيم هنا العشرة أيام كي نختصر الوقت.. وقد كان، رجعنا لبيوتنا مرة أخری كي نجلب بعض الملابس الإحتياطية وكي نخبر أهالينا بالأمر وبعدها عدنا لنكمل في اليوم التالي… الذي وافق يوم 19 يونيو، كان الأمر مثالياً، كنا قد أجرنا بعض المعدات الثقيلة المخصصة لهذه الأعمال كالمعتاد وكانت النية إنجاز العمل مهما كان الثمن. أذكر السيد محسن وهو يصرخ فينا.. دمروا هذا المشفى المجهور بأسرع ما يمكن!”

* * *

غادة عبد الصمد

– “وظيفتي كانت بكل بساطة هي الحرص علی تدمير البناء بشكل صحيح، أعني هذا ما أخبروني به، هناك مبنی وهناك عمال يحتاجون للإشراف الداخلي.. قلت لهم حسناً أقبل بالأمر، السبب الرئيسي لقبولي كان هو المال بالطبع.. أنت لا تری كمية الأموال تلك دائماً”
– “دعيني أخمن.. أربعة أضعاف ما تتقاضينه في العادة؟”
– “لم أحسبها حقا ولكن نعم.. قد يكون الرقم قريباً”
– “جيد أكملي من فضلك”
– “مجرد كوني في هذا المركز يجعلني المسؤولة عن أي نوع من الإصابات أو الأضرار بسبب الغباءات الفردية.. والمشكلة هي أننا مع مبني بهذا الحجم كان علينا إسقاطه بالديناميت.. والديناميت حسناً.. فلنقل أنه أضراره في هذا النوع من الأعمال إذا حدثت فهي غالبا تؤدي لكارثة في أفضل الأحوال وأنا لست مستعدة لتلقي اللوم علی الإطلاق، ولهذا تأكدت من كل شيء أكثر من مرة.. أماكن الديناميت.. أماكن وقوع المباني.. أشياء مثل هذه، كل شيء كان مثالياً وكنا علی استعداد لبدء الأمر، تأكدنا من إخلاء القسم الذي سنفجره وابتعدنا لمسافة آمنة.. بعدها أعطيتُ الأمر لبدأ التفجيرات، ضغط الرجل الزر وانكمشتُ في مكاني إستعداداً للانفجار. لكن لم يحدث شيء!.. لم ينفجر إصبع ديناميت واحد حتی، الآن أنا أعرف أن هذه الأشياء من الممكن أن تحدث ولهذا بالذات تفقدت الأمر بنفسي.. كنتُ متأكدة من أن كل شيء في مكانه”
– “ما مدی تأكدك من الأمر؟”
– “رقمٌ ما بعد المائة بالمائة”
– “ماذا؟!”
– “لقد تأكدنا من الأمر مراراً وتكراراً.. لدرجة أن الليل خيم علينا بدون أن ندري ما المشكلة، لقد أرسلت جميع العمال للتأكد من سلامة الأسلاك وذهبت بنفسي لتفقدها”.
-“كم كان عدد العمال وقتها؟”.
-“كنا تسعة.. بوجودي”.
-“جيد أكملي”.
-“عند هذه النقطة قررنا فقط أن ننهي اليوم بسلام وأن نخيّم بالخارج، بالطبع ما حدث حينها هو أنه وبينما نحن في طريقنا للخروج ارتج المبني بشدة، قد إنفجر الديناميت ونحن بداخل المشفى!”.

* * *

كريم جاد الله

– “الإنفجار؟ بصراحة.. كان الأمر غريباً للغاية، أعني نحن تفقدنا جميع أسلاك التوصيل.. كلها كانت سليمة، أنا بنفسي تفقدت معظمهم”.
– “هل لديك خبرة في التعامل مع هذه الأشياء؟”.
– “رسمياً وعلی الورق لا.. أنا عامل فقط لا غير، لكني دمرت الكثير من الهياكل البنائية قبلاً، قد رأيت الكثير من الديناميت في حياتي كي أتمكن من فهم العملية بأكملها، لن أكذب أو أبالغ لو قلت أنني أقرب لخبير في مجال متفجرات المباني”.
– “إذن لم يكن خطأ مهني في موقع العمل؟”.
– “تقصد المهندسة غادة؟ لا… لقد كانت أكثرنا حرصاً في العملية بأكملها، كانت تعرف أن العملية خطرة”.
– “إذن الإنفجار كان من دون سبب؟ أهذا ما تحاول قوله؟”.
– “أنا فقط أحكي ما حدث سيدي”.
– “كنتم جميعاً بداخل المستشفی يومها؟”.
– “نعم.. جميعنا جن جنوننا لتأخر التفجير والعمل، أنت تعلم الوقت كان يحكمنا، دخلنا دفعة واحدة للتفقد من كل شيء بأنفسنا”.
– “أكمل.. ماذا حدث بعد الإنفجار”.
– “حينما اهتز المبنی أول شيء فعلناه كان الاتصال برفيقينا أشرف وعماد”.
– “ظننت أنكم التسعة تجمعتم معاً وقت الخروج”.
– “نعم كنا في طريقنا للالتقاء بهما.. تواصلنا معهما عن طريق جهاز الاتصال اللاسلكي، ولكن لحظة الانفجار انقطع الإتصال بهما، كانا في الجانب الشرقي يتفقدان الديناميت هناك وكنا في المنتصف، لم نجدهما أبداً، بالطبع حتی أتيتم أنتم ووجدتوهما تحت الأنقاض”.
قالها ثم ارتجف خيفة والصوت يأتيه :
– “إذن أول جثتين كانا أشرف وعماد، أعرفتهما شخصياً؟”.
– “عملت معهما بضعة مرات.. معرفة سطحية فقط”.
– “أكان لديهما أي نوع من أنواع الميول الانتحارية؟”.
بُهت كريم لوهلة قبل أن يقول بدهشة لم يستطع أن يمحها عن وجهه :
– “أتقصد أنهما فجرا الديناميت عنوة كي يقتلا نفسيهما؟! ما هذا الكلام؟! الديناميت لم يكن ينفجر كما قلت لك مسبقاً”.
– “أكمل سيد كريم”
– “بعدما فقدنا الاتصال وجدنا أنفسنا حبسی للحطام حولنا… “.
قاطعه الصوت قائلاً :
– “كيف لم يقتلكم الحطام كما قتل عماد وأشرف؟”.
– “كنا قد قسمنا المسشفی لثلاثة أجزاء نفجرها بالتتابع، بدأنا بالجانب الشرقي وبضعة أجزاء من المنتصف، وكانت الخطة هي التحوّل نحو الجانب الغربي وباقي أجزاء المركز أو المنتصف، ثم بعد ذلك ندمر مبنی منفصل عن المستشفی”
– “مافائدة ذلك المبنی المنفصل ؟”.
– “كانوا يستخدمونه للأوراق ولسكن الممرضات ولخزانة المال وإستراحات الأطباء وبضعة أشياء أخری. علی كل حال كنت أقول أننا حُبسنا في مركز المستشفی، الكتل الأسمنتية العملاقة سدت باب الخروج الخاص بنا، في ذلك الوقت وحينما أدركنا الأمر بدأ صراخ يتعالی من وسطنا، صراخ مجنون وكأن صاحبه مصاب بمس أو شيء كهذا”.

* * *

غادة عبد الصمد

– “لم يفهم أحدنا لماذا كان يصرخ ذاك العامل، مع الكثير من الموساة لتهدئته اكتشفنا من جملة الكلمات التي كانت تخرج من فمه أن الرجل مصاب بالرهاب من الأماكن المغلقة، سبب لنا جواً من الذعر خصوصاً أن الشمس وقتها كانت في لحظتها الأخيرة قبل الغروب”.
– “لماذا لم تتصلوا بالنجدة؟”.
– “حاولت بهاتفي وبجميع الهواتف المتاحة لكن شبكة الإرسال كانت سيئة حقاً، لكن بمعجزة ما تمكننا من إرسال رسالة لهم”.
– “ألم تشعري بالذنب لأنكِ السبب في كل هذا؟”.
ردت غادة بتلقائية مدافعة عن نفسها :
– “كان كل شيء علی ما يرام، وتأكدت بنفسي من كل شيء مراراً وتكرارا”.
قالتها ثم أشاحت بوجهها الذي كانت علامات الشحوب لاتزال بادية عليه، أردفت بعدها :
– “الشياطين كانت تعبث معنا يا سيدي”.
صدرت ضحكة خفيفة من خلف الكاميرا.. قال صاحبها ولا تزال إهتزازت الضحكة واضحة في صوته :
– “أكملي يا غادة بالله عليكِ”.
– “حلنا الوحيد كان البقاء بسكون حتی تأتي عربة حمل الأنقاض في الصباح، بالتأكيد سيرون الموقف وسيعرفون أننا حُبسنا بالداخل”
ثم وقفت لوهلة أستكملت بعدها :
– “لأنه لم تكن توجد هناك كهرباء في المستشفی فقد كان الظلام مخيفاً فعلاً، كنا نحمل عدة مصابيح إحتياطاً ولكن لم نثق بضوئها كثيراً لأن الليل كان أطول مما وجب كي تكفينا”.
– “لماذا لم تحفروا طريقكم بأنفسكم إذاً؟”.
– “لم يكن معنا الأدوات اللازمة لذلك كما أن حالة المبنی كانت ضعيفة ولا تحتمل أي عبث من الداخل، من يدري لربما انفجر باقي الديناميت أثناء محاولتنا البائسة، كان من الأفضل أن ننتظر حتی يأتي الصباح ويجدوا مخرجاً آمناً لنا”.
– “ظننت أن الديناميت قد انفجر كله في المرة الأولی”.
– “لا لم ينفجر كله، وإلا لكنا متنا بالداخل، وقتها أخرجت مخطط الديناميت وتفقدت الأماكن التي نستطيع الوصول إليها، لم أرد أن يتكرر الأمر مجدداً لذا سارعت بإزالة الديناميت من مواقعه قبل أن تحدث كارثة”.
– “مخطط الديناميت؟”.
– “نعم.. وضع الديناميت يكون له إستراتيجية معينة حتى نستهلك أقل قدر منه بدون أخطار كبيرة.. وبالطبع أسباب كثيرة لكني أذكر لك ما يسهل فهمه”.
– “إذن كيف كان ذلك المكان الذي حُبستم به؟”.
– “كانت قاعة استقبال الحالات.. ورواقين، الرواق الأول يحتوي علی الحمامات والرواق الثاني يحتوي علی عدة غرف فارغة ترجيحي أنهم كانوا يستخدمونها كغرف لإستقبال الحالات الخاصة، شيء مثل غرف طوارئ مؤقتة. بعد البحث جيداً لم أجد المزيد من حزمات الديناميت فقررت الجلوس علی الأرض مثل معظم العمال.. كان التعب قد نال مني وقتها، جلست قبالتهم ورحت أراقب الجدران حولي في قلق، ثم مجدداً تردد صوت صراخ آخر .. لكن هذه المرة كانت أقرب لشهقة فزع”.

 * * *

كريم جاد الله

– “كان الرجل يجلس ساكناً بجانبي، وفجأة من دون أي سابق إنذار إذ به ينتفض واقفاً وهو يطلق صرخة خوف، لم أفهم شيئاً مما يقوله لأن لسانه كان يردد أكثر مما يمكنني فهمه، لكن أظن أنه كان يقول المعوذتين أو شيء كهذا.. متأكد من أنني سمعته بعدها يقول «بسم الله الرحمن الرحيم» في لهجة تدل علی الدهشة وعدم التصديق، صاحبنا الآخر الذي يخاف الأماكن المغلقة بدا وكأنه أستحضر عفاريته هو الآخر وبدأ يصرخ طالباً منا أن نخرجه من هنا بسرعة، لم نعره إهتماماً وسألنا الرجل الآخر عن سبب فزعه، قال شيئاً ظنناه وقتها غريباً، أشار بيده ناحية رواق الغرف الفارغة ثم قال بصوت مرتجف أنه قد رأی ماعز بقرون طويلة يدخل إحدی الغرف، أقسم أنه قد رأی قرونه الطويلة بعينيه تحت ضوء خفيف للغاية كان يصل للرواق، قال أيضاً أنه كان يمشي بغرابة.. حينما سألناه قال أن جسده لم يكن يهتز صعوداً وهبوطاً أثناء المشي.. وكأنه كان يطفو. بالطبع هدّأنا من روع الرجل وأخبرناه أنها خيالات بسبب الظلام وما شابه.. لكنه ظل يقسم بأغلظ الأيمان أنه رآه بعينيه وهو يدخل تلك الغرفة، بالطبع لم يهدأ حتی ذهب معه ثلاثة منا -وأنا من ضمنهم- لتلك الغرفة وتفقدناها أمامه”
– “كانت فارغة أليس كذلك؟”.
– “لا.. هذا ما ظننته أيضاً”.
– “ماذا!”.
– “وجدنا سريراً عادياً في جانب الغرفة”.
– “فقط سرير؟”.
– “نعم لا شيء غيره”.
– “وماذا قال الرجل؟”.
– “لم يصدق في البداية ثم عاد يقول أن -الماعز- خرج أثناء حديثنا”.
– “وما قولك؟”.
– “كنت خائفاً أكثر منه!”.
أطلق الرجل خلف الكاميرا همهمة مستفسراً فعاد كريم يقول:
– “هذه الغرفة بالذات كنت قد تفقدتها قبلاً، كانت فارغة تماماً! لدرجة أنني كنت أعلّمها بعلامة في السقف.. كان بقعة كبيرة من طلاء السقف قد اهترئت ووقعت، حينما وجهت مصباحي للسقف ووجدت تلك البقعة الكبيرة لم أنتظر كثيراً، فقط حملت نفسي وخرجت مسرعاً من الغرفة عائداً لزميليّ في القاعة”.
– “ولماذا لم تخبرهم بذلك؟”.
– “لم أستطع أن اخبرهم بشيء كهذا.. لم يكن الوقت مناسب لهكذا حديث، أيضاً… الشيء الآخر الذي لم يلحظوه هو ذلك السرير، السرير لم يكن طبياً بأي شكل من الأشكال.. كان مجرد سرير خشبي عادي للغاية، إذا افترضنا انهم تركوه هنا وهم ينقلون معدات المستشفی فلماذا هو سرير عادي؟!”.
ثم صمت وحدق في الكاميرا قليلاً قبل أن يعود ويقول :
– “كانت هذه هي البداية.. أول الغيث”.

* * *
غادة عبد الصمد

– “لم أفهم لماذا عاد كريم مسرعاً من هناك لكنني استشعرت القلق في تحركاته”.
– “تعرفين كريم؟”.
– “نعم أعرفه”.
– “هو مجرد عامل.. كيف تمكنتِ من معرفته؟ وكيف تمكنتِ من رؤيته في الظلام؟”.
– “عرفته فيما بعد.. حدثت بعض الأشياء لنا”.
– “والظلام؟”.
– “كان يحمل مصباحاً.. تمكنت من ملاحظة وجهه قليلاً”.
– “أكملي”.
– “لفترة عم السكون المكان وهدأ الجميع، فقط كنا ننتفض بين الحين والآخر علی صوت ذاك الرجل الذي يهاب الأماكن المغلقة، كان يصرخ وكأننا نعذبه، لم يكن الجو يسمح أبداً لهذه التفاهات، أعصابنا كانت محطمة سلفاً، ويبدو أنني لم أكن الوحيدة التي ظنّت هذا في وقتها، لأنه ما إن بدأ مجدداً بالصراخ والنحيب بأن نخرجه من ذاك المكان حتی وصلته صفعة من مكانٍ ما جعلته يهدأ قليلاً، لم أر يد من فعل هذا لأننا كنا في الظلام نسبياً لكن لا أنكر أنني شعرت بالراحة آنذاك.. كما بعض الرغبة في الضحك رغم الموقف الذي كنا فيه”.
– “من ضربه؟”.
– “لا أعرف.. هل هذا سؤال مهم؟”.

* * *

كريم جاد الله

قال الصوت من خلف الكاميراً لكريم الجالس أمام الكاميرا :
– “من صفع ذلك المجنون الذي كان يصرخ؟”.
ابتلع كريم ريقه ثم رد بصوت خافت :
– “لا أعرف”.
– “كيف لك ألا تعرف؟!”.
– “كنت أجلس بجانب الرجل.. كان ملتصقاً بي، صدقني لم أر أية يد تطاله في الظلام، وكأن الصفعة أتت من اللامكان”.
– “وكيف تفاعل معها ذلك الرجل المجنون؟”.
– “لم يدر بشيء.. ظن أنه أحدنا.. أو علی الأغلب ظن أنه أنا، فقط هدأ وجلس صامتاً”.
– “وماذا عن الآخرين”.
– “ظنوا نفس الشيء، أن هناك أحدٌ ما قد ضربه، سيدي أنا أقسم لك.. قد كنت بجانبه.. مالم يكن طول ذراع أحدهم ثلاثة أمتار فالرجل تلقی صفعة من شيء مجهول”.
– “كريم.. انظر.. لا تتوقع منا أن نصدق هذا الهراء!”.
– “أنا فقط أحكي ما حدث يا سيدي.. أردتم مني الحقيقة وهأنذا أقولها لكم”.
– “أكمل إذن”.
– “بعد أن هدأت الأمور مجدداً أطفأنا المصابيح كي نقتصد في البطاريات، حينها قامت تلك المهندسة المشرفة علينا.. قالت أنها ذاهبة لتتفحص جزء آخر من المبني.. جزء ظنت أننا قد غفلنا عنه”.

* * *

غادة عبد الصمد

– “كان هناك جزء لم نتفقده بعد من المبنی، جزء بعيد في الزواية.. الحمامات، لا أعرف كيف واتتني الشجاعة للذهاب وحدي لكني فعلتها”.
– “ذهبتِ وحدك؟”.
– “نعم كما قلت.. لا أعرف كيف فعلتها. حينما وصلت دخلت أتفقد المكان بناءاً علی خريطة الديناميت.. كانت تشير أننا وضعنا حزمة في مكان قريب، حينما قمت بحساباتي وجدت تلك الحزمة.. كانت بالداخل مثبتة علی عمود خرساني آخر، توجهت ناحية تلك الحزمة بخوف شديد.. قد كانت في نهاية رواق الحمامات وكان الظلام حالك، أزلتها بسلام وحملتها كي أخرج من الحمامات، ثم… “.
– “ثم ماذا؟”.
– “أنت تعرف.. في تلك النوعية من الحمامات توجد مرايا كثيرة في رواق الحمامات”.
– “نعم.. ما دخل ذلك بالموضوع؟”.
– “لا أعرف كيف ولكن أقسم لك سيدي الضابط أن انعكاسي في تلك المرايا كان يبدو أبطأ من المعتاد.. كانت الحركة متأخرة لنصف ثانية علی الأقل، رأيت الأمر بطرف عيني فتوقفت منذهلة ونظرت للمرآة التي وقفت أمامها بخوف”.
– “ورأيت الشيطان؟”.
صمتت غادة لوهلة ثم سرعان ما قالت :
– “لا.. كان وجهي الطبيعي، لكن ماحدث بعدها… أعرف أنكم لن تصدقوني بكل حال ولكن سأقول ما حدث بالضبط، لما وجدت أن الصورة في المرآة كانت متأخرة قليلاً عن الواقع ذعرت.. برغم أن انعكاس وجهي كان طبيعياً ولكنني حينما رمشت بعينيّ وفتحتهما شاهدت نفسي وأنا أغلقهما وأفتحمها.. لقد رأيت نفسي وأنا أرمش في المرآة!”.
– “ماذا فعلتِ بعدها؟”.
– “بالطبع حينما حدث هذا خفت كثيراً وأردت الهروب من المكان، لكن… حينما هممت بفعل هذا وجدت خيال مظلم يقف علی مدخل الرواق، بتلقائية خوفي وجهت مصباحي نحوه بسرعة وتراجعت للخلف… “.
ثم صمتت غادة وقد بدا أنها تسترجع ذكری ما رأت، قال الصوت من خلف الكاميرا:
– “ماذا رأيتِ؟”.
– “لا أعرف.. أظن أنني قد فقدت عقلي آنذاك”.
كرر الصوت السؤال بشكل أكثر صرامة فعادت تجاوب :
– “رأيت.. امرأة.. امرأة تشبهني تماماً.. رأيت نفسي، لم تبتسم.. لم يكن ثمة اختلاف قط.. فقط كانت أنا.. تلبس مثلي.. تقف هناك وتنظر لي ببرود”.
– “أكملي من فضلك”.
– “لم أعرف ما الذي يجب فعله.. فقط تسمرت مكاني من الرعب لثانيتين، ثم سمعت صوت يأتي من الردهة.. كان صوت كريم، بدا وكأنه يحدث تلك النسخة مني”.

* * *
كريم جاد الله

– “تأخرت المهندسة كثيراً.. انتابني القلق فوجدت نفسي أتبعها، قالت إن المكان الذي نسيناه جميعاً هو الحمامات.. وأنا بخبرتي في هذه الأمور كنت أتذكر مكان الحمامات”.
– “وذهبت هناك؟”.
– “نعم، وهنا كان الجزء المريب”.
– “ماذا تعني؟”.
– “حدث أمر غريب للغاية وقتها، ذهبت لتلك الردهة التي تؤدي للحمامات.. أمام المدخل رأيت المهندسة غادة تقف هناك وتحدق في شيءٍ ما يقف بداخل الحمامات، وعلى ما يبدو كان ذلك الشيء هو مصدر ضوء منبعث من الداخل ويتم تصويبه نحوها، استغربت الموقف حينها وأذكر أنني سألتها عما تفعله ومن أين يأتي الضوء، لم تنظر إلي حتى.. وجدتها تدخل لرواق الحمامات”.
– “لماذا توقفت؟ أكمل”.
– “تبعتها مسرعاً.. نظرت للرواق لأجد ما لم أتوقعه ابداً، رأيت شخصين.. رأيت المهندسة غادة تدخل أحد الحمامات.. ورأيت مهندسة غادة أخری تمسك بمصباح وتوجهه نحوي”.
– “هنا يبدأ المزاح.. ألا تری هذا معي؟”.
– “أقسم لك ياسيدي أن هذا هو ماحدث، لم أصدق الأمر أيضاً ولكنه حدث أمام عيني، قبل أن أفهم الأمر وجدت المهندسة غادة -التي تمسك المصباح- تهرول نحوي وتطلب أن نخرج من هذا المكان، كانت خائفة للغاية وبدا أنها علی وشك البكاء، عرفت منها الحكاية فيما بعد حينما هدأت”.
– “حسناً.. قلت أنك ذهبت ورائها لأنها تأخرت كثيراً.. في تقديرك.. ما الوقت الذي استغرقته هناك”.
– “علی الأقل نصف ساعة.. إن لم تستغرق ساعة إلا الربع”.

* * *

غادة عبد الصمد

– لم أعرف لماذا أتی كريم وقتها.. فغيابي لم يتعدَ الخمس دقائق.. لكن لم أكن لأعترض بأي حال. بمجرد أن تحدّث إلی تلك النسخة التي تشبهني حتی وجدتها تتقدم صوبي، كنت لا أزال تحت تأثير الصدمة لذا لم أحرك ساكناً.. دخلَت إلی أحد الحمامات وانتهی الأمر. الحق يقال، لم نملك الشجاعة لكي نبقى ثانية واحدة في المكان.

– تقولين أنك تأخرتِ خمس دقائق فقط؟
هزت غادة رأسها مؤكدة على ما قالته. يأتيها صوت المحقق:
– أكملي.
– لم تكن المفاجآت قد انتهت بعد.
– وضّحي.
– قابلنا أشرف وعماد.
– مَن؟
– كانا ضمن العمال، لم نلتقِ بهما بعد الانفجار.
– أنت تعرفين أننا وجدنا جثتيهما.
كانت على شفا الانهيار حينما قالت:
– أقسم أني رأيتهما، لم أصدق عينيّ حينما رأيت جثمان أشرف وظننت أني أحلم و…
قالتها ثم انخرطت فجأة في بكاء خوفٍ صامت.

* * *

كريم جاد الله

– لم أصدّق نفسي حينما قابلنا أشرف وعماد، ظننتهما فقدا للأبد. ونعم، أعرف، لقد رأيت جثة عماد المحطّمة بنفسي! ألم أخبركم أن قصتي لن تعجبكم سيدي!
– أكمل رجاءً.
– لم يبديا طبيعيين في كل الأحوال.
– وكيف ذلك؟
– كان الخواء بادياً على وجهيهما، حتى كلماتهما كانت باردة ولا تحمل المشاعر. وكأنهما نوع من… الدُمى.
– تحدثتما معهما؟
– نعم، وما قالاه كان… غريباً بحق.
– ماذا قالا؟
– قالا أننا يجب أن نحذر من غضبه.
– غضبه؟
– نعم. لم نفهم، فسألتهما عما يقصدانه…..
– أكمل لماذا توقّفت؟
– لا أعرف إن كان يجب أن أقول هذا.
لهجة آمرة يشوبها الهدوء :
– أكمل.
– جذبني عماد بقبضة حديدية إلى أحد الجوانب ثم قال لي بصوت يشبه صوت الروبوتات، أني حينما أُحادث… حينما يستجوبني المدعو معتز عبد الرحمن الكردي، وأصر أن أحفظ الإسم، قال لي أن أخبره ألا يكشف تفاصيل استجوابي وإلا…. قَتل إبنه.
لحظات صمت ثقيلة قطعها صوت المحقق الذي يحاول أن يبدو هادئاً :
– كيف علمت إسمي الثلاثي؟
– أقسم لك يا سيدي أني لم أركَ قط!
صوت الباب يُفتح ويُغلق، ثم صوت صراخ يتسرب إلى داخل الغرفة، ومع كل كلمة تصل كريم، كان ينزوي أكثر في كرسيه خائفاً، وكأنه يعلم أن مصيبة ما ستحدث. يصل خيط صراخ طفيف إلى مسامع كريم، يعلو تارة ويخفت تارة
“ليس حتى اسمي الحركي! إنه يعلم أني محقق خاص تم استدعاؤه لهذه القضية. الاستدعاء كان عشوائياً للغاية! يستحيل أن يعرف عني كل هذا! إنه يتلاعب بنا وتريد مني تصنّع الهدوء أمام الكاميرا اللعينة!”

* * *

غادة عبد الصمد

– بعد أن انتحى عماد بكريم يحادثه، اقترب مني أشرف وقال أننا يجب ألا نقول حقيقة ما حدث هنا، لأن هذا لن يعجبه.
– لن يعجب من؟
– لا أعرف، لم يوضح لي ممن يجب الحذر. لكن أكثر ما أثار استغرابي هو نبرة أشرف، أقسم أنها كانت خالية من كل المشاعر، وكأنه صوته صوت قراءة كلمات آلي! تخيلت أن أحدهم يكتب على لوحة مفاتيح فتُبث الكلمات إلى أشرف ليقولها بآلية….. نوع من أنواع ال… الاستحواذ.

– وماذا حدث بعدها؟
– حينما وصلنا للجمع أخيراً نظرت خلفي لأجد كريم فقط يمشي مطرقاً. سألته عن عماد وأشرف فبدا أنه تفاجأ من اختفائهما هو الآخر. لم ندرِ أين ذهبا! كان ذلك هو الوقت الذي تمكنت فيه فرقة الإنقاذ من صنع ثغرة في السقف ليمدوا لنا الحبل ويأمرونا بالتسلق خروجاً. تسلقتُ من فوري.
– والزملاء؟
– حدث الأمر في القاعة، حيث رقد الجميع بانتظار الإغاثة، كان واضحاً أن هذا حبل نجاتنا.
– إذن لم تريهم؟
– سمعت فقط أصوات تنهد وفرح وحمد، ورأيت في الظلام ظلالهم تقف.
– هل أنتِ متأكدة؟
– نعم.

* * *

كريم جاد الله

– كانوا فرحين أيما فرحة! أخبرتهم بالإسراع ثم تسلقت خلف المهندسة غادة.
– سمعت صوتهم؟
– نعم، حتى أن أحدهم أحتضنني في الظلام قبل أن أتسلق الحبل.
– هل تعرفت عليه؟
– نعم، كان مرتضى، أحد الرفاق.
يُسمع صوت تقليب أوراق، ثم يقول المحقق معتز الذي بدا واضحاً أنه عاد يكمل استجواب كريم:
– مرتضى تقول؟
– نعم.
– متأكد؟
– مائة بالمائة.
– حسناً، ربما قد حان الوقت لنكف عن اللعب.
– عرفت أنكم لن تصدقوني بكل حا…
قاطعه صوت المحقق:
– أنت تعرف أن كل زملائك، وُجدوا ميتين!
أخذت الصدمة وقتها حتى ظهرت على ملامح وجه كريم:
– لا أعتقد أني أفهمك سيادة المحقق!
– الوحيدان اللذان خرجا من المشفى، هو أنت، والمهندسة غادة.
صمت كريم ناظراً لما وراء الكاميرا وقد بدا أنه يريد التحقق من جدية محدثه.
– غير منطقي لقد رأيتهم بنفسي!
– ذلك المدعو مرتضى.. أهذا هو؟
ثم وُضعت أمام كريم ورقة فأمسكها ينظر بها قبل أن يعيدها على الطاولة قائلاً:
– نعم، هو، متأكد من أنه هو الذي احتضنني فرحاً.
– أتعرف كيف وجده فريق الإنقاذ؟
نظر كريم بغباء لما خلف الكاميرا ويكمل صوت المحقق :
– وجدوه معصوراً كالليمون.
ملامح خوف شديد تظهر على كريم ويستأنف المحقق :
– وكأن هناك دباً ضخماً احتضنه… لا.. الدب لا يملك قوة تدميرية مثل هذه، وكأن يا كريم، سوبر مان أمسك به، وظل يحتضنه حتى صار نصفه العلوي في سُمك حبة نقانق سميكة الحجم قليلاً. هذه صورته بعد موته.

ثم ظهرت ورقة أخرى أمام كريم الذي لم يقربها سوى بنظرتها، لحظات ثم انكمش وجهه لتصدر منه تنهيدة خوف قال بعده:
– رباه!
– الآن تحدث، كيف قتلته؟

* * *

غادة عبد الصمد

– بالطبع صُدمت حينما رأيت جثة أشرف المتأثرة بالحطام أمامي، وزاد هلعي بعدها حينما رأيت جثة عماد بحالة مشابهة كذلك، لم يملكوا الوقت لتغطية جسده على النقالة. لهذا انهرت وقتها.
– أتذكرين ذلك الزميل الذي قلتِ أنه تلقى صفعة وسط الظلام أثناء صراخه؟
– نعم.
– أتعلمين كيف وجدناه ميتاً؟
– ميتاً؟!
قالتها غادة باستنكار ولم يهتم الصوت لهيئتها وأردف بهدوء:
– كان يستند على الحائط تماماً كما قلتما أنتِ وكريم، لكن رقبته كانت ملفوفة كزنبرك بشري، رأسه لفت حول نفسها ست مرات.
– ماذا تقول!
– ولحم خده محترق، وكأن هناك من ضربه بمطرقة على خده بقوة هائلة فلم تحتمل عظام الرقبة وكُسرت لتصنع لنا مشهداً لم نكن لنظن أننا سنراه أبداً في مسيرتنا!

– أنت تعبث معي أليس كذلك؟

يُسمع بعدها صوت انفتاح الباب وانغلاقه وبدا أن المحقق الذي يسألها الأسئلة قد غادر. تنظر بعدها للكاميرا بجمود. قبل أن ترتسم ابتسامة مريبة على شفتيها.

* * *

كريم جاد الله

– أقسم لكَ أني لا أعلم مَن ولا أعلم اسمك حتى سيدي! ولا علاقة لي بجثمان مرتضى.. لا أعلم ما حدث!
– ذلك الذي تدعي أنه يحذرني، لم يدرك أن لديّ أبناء أصلاً ليهددني بهم.
انتفض كريم فجأة:
– نعم! نعم! تذكرت يا سيدي! كنتُ مركِّزاً للغاية مع حفظ الإسم لدرجة أني نسيت ما قاله بالضبط! قال أن الطفل، ابنك معه ويلاعبه، وأنه سيقتله قبل أن تراه حتى.

– ألا تفهم؟ أخبركَ أني حديث الزواج! ثم إن القضية صارت إعلامية بالفعل، والتفاصيل ستخرج للعلن بعد قليل، لذا أياً كان هو، وأياً كان تهديده، فهو لا يخيفني.

في تلك اللحظة رنّ هاتف في المكان، فبدا أن المحقق يرد على الهاتف وخفت صوته بعد أن خرج من غرفة الاستجواب. في تلك الأثناء نظر كريم للكاميرا بجمود قبل أن يقول:
– التصوير كان غلطة.
قالها ثم ابتسم ابتسامة غامضة. بعد لحظات سُمع صوت فتح الباب فجأة، ثم دخل أحدهم إلى الكادر ليرتمي فوق كريم ويهبط به من على الكرسي أرضاً، ويختفيا عن الكادر، بينما صوت المحقق الغاضب يقول:
– كيف أجهضتها أيها الوغد! كيف علمت أنها حامل!
هرع أشخاص يلبسون زي الشرطة في إثر العراك ليدخلوا الكادر ويفرقوا بينهما، وصوت المحقق يتردد في المكان :
– في الثالث أيها الحقير! أرادتها مفاجأة لي! تكلم مَن أنت!
بعد عناء أبعدوا المحقق عن كريم وخرجوا من الغرفة مغلقين الباب خلفهم.

ظهر كريم بداخل الكادر مجدداً لينظر للكاميرا قائلاً بآلية:
– لكل من يشاهد هذا التسجيل، اعلموا أن مَن يبحث في أمري سيحدث له مثل الذي سيحدث للمحقق.
قالها ثم نزع العصابة عن عينه فظهر مكانها تجويف، أما بداخل التجويف فسكن عود ديناميت تم حشره بداخل العين. أعطى ظهره للكاميرا ثم نادى:
– أيها المحقق، سأعترف!
بعد ثوان تردد صوت الباب يفتح وصوت المحقق الغاضب يقول :
– أخبرني بكل شيء!
– حسناً ولكن اقترب.
– ماذا؟
– اقترب مني وأخبرك.
دخل المحقق إلى الكادر ووضع يده على كتف كريم الذي سرعان ما التف واحتضن المحقق المذهول من هول الصدمة، قبل أن تصدر شرارة من كريم ويُسمع دوي صاخب أطاح بالكامرا لتنقلب على عقبها وتصوّر السقف مليئاً بنقاط حمراء عشوائية منتشرة في جميع أرجائه.

غادة عبد الصمد

بدا أنها نائمة على الطاولة، ولما دخل أحدهم إلى الكادر ليوقظها، حل الظلام على المكان، وسُمع صوت صرخات هلع عالية.

…..

وكان ذلك آخر تسجيل على القرص الصلب. حلّه الرجل الجالس أمام الحاسوب ثم رماه في سلة المهملات قبل أن يخرج من الغرفة غالقاً مقبس الإضاءة خلفه.

تمت بحمد الله.

تاريخ النشر : 2021-07-22

البراء

مصر - للتواصل: [email protected]
guest
62 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى