أدب الرعب والعام

البئر المسكون

بقلم : محفوظ نور

لازلت أذكر واقعة سقوط هري في البئر.
لازلت أذكر واقعة سقوط هري في البئر.

عدت من الغربة ليقال لي أن منزلك مسكون ،كان الشيخ العجوز والبستاني الخاص برعاية أشجار الفاكهة و اللوز، هو من تقرب مني بعد لقائي معه بغرض التعرف عليه و قبل أن أودعه ليعود لبيته، ناداني على تردد و استوقفني محرجا وصمت قليلا، ظننت للوهلة الأولى أن سبب إحراجه هو تأخر أجره أو شيء كذلك، و حين صارحته بما أفكر دهش قليلا و نفي الأمر تماما، لكنه ألح بصمته و قبل أن يغير الموضوع أو ينفي أي شيء مريب، ضغطت عليه و توددت منه عن سبب حرجه أو قلقه ،فبادل سؤالي بسؤال آخر
“هل ستبات في الفيلة؟”

فهززت رأسي بالإيجاب مظهرا تعجبي من سؤاله، خطف نظرة للفيلة ليعود التوجس إلى وجهه، أزعجني تلكؤه و مناوراته فطلبت منه التصريح عن سبب سؤاله الغريب:
“هل هناك شيء في الفيلة؟”

نظر إلي وقد رفع شيء من الحرج عن وجهه ،وكأنه سر أن غيره من فتح الباب لهذا الموضوع ،ثم رأيته يجمع شجاعته و تقدم نحوي قليلا و قال:” لا أعرف السبب يا ولدي لكن المنزل مريب، منذ وفاة والديك بات البقاء بقربه لا يحتمل، أشياء تتحرك أصوات تهمس و ظلال تسعى بين النوافذ والأبواب، و لست و حدي من شهد على هذه الأمور كل من يعمل في البستان مر عليه نفر منهم “

لاحظت خفوت صوته و هو يتحدث معي تحت ظل الفيلة، و لابد أنه رأى الابتسامة التي توسعت في وجهي كلما تقدم في كلامه، ولم أقصد أن أكون قليل الأدب لكن مجرد التفكير في المنزل الذي عشت فيه أغلب حياتي والذي درست جميع زواياه في صغري، و حتى استخدمت قبوه المظلم كأفضل مخبئ لي في لعبة الغميضة مع إخوتي و أبناء الأقارب، لم يحدث أن شهدت فيه أتفه شيء يوحي بأن شبحا يسكنه أو أن غولة تحوم به ليلا، لكن الشيخ لم يستوعب ذلك فارتد و أبعد وجهه عني و قال بصوت ساخط لكن هادئ:

” و الله لولا احترامي لأبيك رحمه الله و صحبتي له سنين، ما كنت لأحدثك بشيء ،لكنكم تدفعون لي لكي أحافظ على صحة البستان و حراسته و الفيلة جزء منه و هو واجبي أن أعلمكم بكل صغيرة و كبيرة تجري فيه، و ها أنت قد خلفت المرحوم و قد أعطيتك مفتاح البوابة و الفيلة و للأمانة أنا أقول لك ، منزلك به خطب ما ، عطل لا يمكن أن أؤجر أحدهم ليصلحه ، لأنه ليس في أنابيب الماء و الغاز ، لأنني لا أعرفه ، اللهم أني بلغت فاشهد ، جيلكم هذا يعتقد أنه يحكم العالم فقط لأنه عرف عنه شيء أو اثنين ، لكنكم تعيشون في دنيا من المصابيح و الأنوار المزيفة ،لكنكم لا تعرفون الليل عن حق”

لم أتدارك سرعة تضخم الوضع وأصبت بحرج كبير من رجل كان من الأصدقاء الأعزاء للوالد، فاعتذرت منه بشدة و طلبت منه العفو في تواضع، لكنه سرعان ما عاد إلى وضعه الطبيعي و اعتذر هو أيضا معلقا أنه تمادى بعض الشيء، و لأرضيه و أطمئنه سايرته في حديثه و سألته عن ما رآه في المنزل مظهرا اهتماميغير مكترث بأغلب ما يسرده علي في الحقيقة، لكنني تفطنت في كلامه عن البئر و ما واجهه هو شخصيا فيه، كما قلت من قبل فأنا لم أشهد أي شيء غير طبيعي في هذا المنزل و لا أي شيء حوله ، لكنني لازلت أذكر واقعة سقوط هري في البئر.

عادت بي الذكريات إلى يوم من أيام الصيف المنقضي، كنت أمام الحديقة أمرح لوحدي ممسكا بعصا متخيلا أنني فارس أواجه مجموعة من الأشرار، وبسيفي البتار كنت أقطعهم يمنة و يسرة اشتدت وطأة المعركة الشرسة وتكالب علي الأشرار حتى سمعت زئير وحش من الوحوش خلفي، التفت لأجد قطنا يموء طالبا مني حق العبور بين البئر و الصور القديم، أشهرت سيفي نحوه متحديا إياه أن يتجرأ و يتقدم نحوي فلا عبور لأي مخلوق من هنا اليوم، نظر إلي في ملل و اتجه على يساري نحو البئر، كانت البئر ترتفع عن الأرض مما يستدعي مني في ذلك العمر أن أقف على أنامل قدمي لكي أتفقد قمتها،وزيادة على علو جدرانها لم أرى البئر مفتوحة إلا مرات معدودة في حياتي، فقد كان يغطيها قرص خشبي مثبت في مكانه بعدة أحجار ثقيلة فوقه.

لكن غطاءها هذه المرة كان مزاح بحوالي الشبر، كان أبي يتفقد ماءها آنفا و قبل أن ينطلق ليتفقد شيء آخر نهاني عن الاقتراب منها، طبعا لم أنصت له حين ابتعد و لذلك اعرف مقدار الشق المفتوح والذي قفز قربه القط، كنت قد بدأت بمخاصمة شجرة زيتون قريبة، لتستنزف مني فجأة الرغبة في اللهو واللعب حل علي نعاس غريب، توقفت و يدي المرخاة تكاد تفلت العصا لأتفطن من شرودي شاعر برعشة تمر ببدني جله، كان أقرب ما أعرفه لذلك الإحساس هو شعور أن يمسكك أحد متلبسا، إلتفتُ خلفي متوقعا أبي بنظراته الحادة ليبدأ بلومي على ذنب لا أعرف ما هو ولا متى اقترفته.

لم تلقى عيناي سوى القط و هو يركز نظره باتجاهي، بدا لي أنه مستعد للهجوم فقد كان من عاداته أن يباغتني و يقفز علي، لكنني أدركت بعد وهلة أن فروه منفوش وأن نظره كان باتجاهي لكن فوقي نحو أفرع الشجرة، أدرت رأسي ببطء للأعلى متوقع أن يقفز علي هر مشرد أو مخلوق أكثر شرا وإيذاء منه، مسحت أفرع الشجرة المظلمة ولم أفلح في إلتقاط أي حركة إلى أن سمعت الحفيف، تجمد دمي وازدردت ريقي مبتعدا ببطء من دون أن أزيح عيني عن الشجرة.

خطأ واحد مهما كان صغيرا، رمشة واحدة و سينقض علي ساكن الشجرة، و فجأة و جدت نفسي في الهواء تعثرت بأحد الجذور الناتئة وسقطت على ظهري، لأتحرر من لعنة الرعب المجمد وألقى بين أحضان الرعب الذي يجعلك تهرول و تبلل سروالك.

اندفعت للوراء و أنا أكاد أبكي حتى أصدمت مؤخرة رأسي بجدار البئر، أمسكت رأسي متأوها ونظرت نحو الأعلى متفقدا الهر لأجده وقف حانيا ظهره، مظهرا أنيابه مطلقا مواء عميقا و طويلا بصوت لم آلفه منه من قبل، لم تكن صيحة حرب و جبروت لقد كان صوت حيوان خائف و محاصر.

وقفت و كنت قد قررت أن أجري نحو أبي لينجدنا من المعتدي، أدرت جسدي قاصدا إياه لكنني لم أكن قد ابتعدت خطوتين لأسمع ورائي صوت نفث و مواء القط الحاد مختلطا بصوت جر ثقيل واهتزاز عنيف للشجرة. بدأت المعركة، إلتفت ورائي بسرعة لألمح خيال القط و هو يختفي بسرعة من على البئر، لففت بصري نحو الشجرة متوقعا صخب القتال بين العدوين ،إلى أن دوى صوت ارتطام في قاع البئر.

دهشت للحظة فعقلي الصغير لم يكن قد استوعب شيء، حتى سمعت مواءه و خربشت براثنه بالجدار عميقا بداخل البئر، اشتد هلعي و طفقت أهرول نحو أبي و أنا أناديه، أطل علي من باب الحظيرة، ارتطمت به ليثبتني بيديه سائل إياي
” ما خطبك يا ولد “

اختلطت عليه الكلمات المتسارعة عن حية في أعلى الشجرة، وقط، و سقوط في البئر. و ما أن سمع الأخيرة هب نحو البئر تاركا أياي وراءه، جريت خلفه لكنه غاب عني بسرعة بعد أن غطاه الجدار القديم، دخلت المنحنى لأجد نظرات التعجب على وجهه و هو يتفقد الشق الصغير ، ليسألني بعد أن ضعفت وطأت الهلع على صوته
“ماذا سقط في البئر يا عزيز “

” القط يا أبي “

لاحظت الارتياح الذي عم وجهه للحظة وظننت أنه لم يصدقني و أن القط هالك لابد، لكنه نهرني و صاح في أن أحضر الدلو، و في ثوان أتاه الدلو، كان قد أزاح غطاء البئر في غيابي ثم بدأ بربط الدلو و البسبسة للقط، لم يستجب شيء داخل تلك الظلمة الباردة، رغم ذلك أنزل أبي الدلو وبه بعض الحجارة لكي تثقله و لم ييأس، انزله أبي ببطء حتى لمس الدلو الماء ،صمتنا قليلا متسمعين لأي رد فعل، ليبدأ أبي بالبسبسة للقط و تودد له ،شاركته في ذلك و ناديت قاع البئر و البكاء قد بدأ ينال من صوتي

” أرجوك عد يا قط ، هيا اقفز في الدلو “

لتستجاب دعوتي في الحين، اشتد الحبل حتى كاد يفلت من أبي الذي مد جسده متداركا إياه و سمعنا الدلو يغطس تحت الماء، بدأ أبي في الحين بسحب الحبل بشغف وسألت أبي في قلق
“هل هو القط يا أبي ” فرد علي بابتسامة قائلا ” إنه لم يسقط شيء في البئر سواه”

شعرت حينها بسرور غريب ،شعور أحسست به لأول مرة رغم صغر سني ،شعور أن تعتقد أنك فقدت أحدهم ،ليأتيك أمل عودته على الأفق

* … لم يسقط شيء في البئر سواه *

رن فحيح الأفعى في رأسي و أختلط مع صوت احتكاك الحبل بالخشب، فلم أدري هل كان خيالا أم أنه متصاعد من البئر، تيبست جميع جوارحي و لم أستطع تحذير أبي بأن من في الدلو لم يكن القط بل كان قاتله، و تبادرت لي صورة أبي و هو يخرج الدلو ليفاجأ بجثة القط و هي تعصر من قبل أفعوان أسود ضخم، واستغلال الأفعى لجموده فتنقض عليه غارزتا أنيابها في عينه التي لم ترمش بعد، فتنفث فيها سمها الملعون أو ترتد مقتلعتا إياها من محجرها.

نظرت إلى أبي و قد شخصت عيناي، لكنني لم أستطع أن أنطق أو أصرخ وحتى التنفسي كان يكاد يتوقف، كأنني في كابوس أعرف نهايته تماما فمهما علمتَ أن وراء الباب شبح أو غول و مهما حاولتَ أن لا تستجيب إلى الصوت الذي يناديكَ من ورائك، فإنك دائما ستفتح الباب و إنك حتما ستلتفت وراءك.

توقف قلبي حين رأيت الدلو العظيم يخرج من البئر و هو يترنح من شدت ما يحمل و ما يخبئ، أمسك أبي به و قربه منه ليتفقده ورأيت الدهشة على وجهه للحظة، لقد رأى الأفعى ،أرمي الدلو يا أبي و أعده إلى قاع البئر، لا تقف في مكانك مصدوما. لكن الدهشة ذابت عنه لينظر إلي بشفقة لا يجيدها سوى الآباء.

ولا أعرف كيف لكن الدلو انزلق من يدي أبي و أراد العودة إلى البئر، لكنه أمسك به في السماء و كأن قلبه سقط منه، و رغم محاولته إخفاء ما في الدلو فانه لم ينجح، ظهر رأس القط الميت و المتدلي من حافة الدلو و هو ينظر إلي بالمقلوب، كان فروه الطويل المبلل الملتصق به و قطرات الماء التي تسيل من عينيه المتجمدتين يحفر شيء في داخلي، هلعا ورعبا لن يزول إلا بعد ليال طويلة من الأنوار المشتعلة و الكوابيس، وهو ما كان فقد أغمي علي هناك في الحين.

مر باقي اليوم كمأتم حقيقي، على الأقل بالنسبة لي و لأختي الكبيرة. فإنه قد يبدوا الأمر هينا على الكبار لكنه هز عالمنا نحن الصغار، نحن الذين لم نعرف من الحياة سوى اللعب و المرح، كنت قد دخلت على أختي الكبرى بعد أن خرجت أمي من غرفتها لأراها تحتضن ركبتيها خافية رأسها باكية في صمت، وأخي الذي يليها جالس أمامها و هو يحكي لها ما سمعه عن حوار أبي مع أمي، ذلك أن القط مات و هو يقاتل أفعى كانت تهاجمني و أنه مات موتت شرف و بطولة، و أضاف بعد أن رق صوته و قال:
” و قد قال أبي أنه لم يشعر بأي ألم لأنه وجد رقبته مكسورة “

رفعت رأسها و نظرت له في اشمئزاز و صرخت في وجهه ” إنها قطة يا حمار ،إنها قطة ” و ركلته على جنبه لكن جسده السمين لم يتزحزح من مكانه، ليستقيم في غضب و يغادر الغرفة غير مكترث بي و أنا ملتصق أمام الباب، نظرت إلي مرة و أعادت رأسها إلى مستقرها الأول.

قال أبي أنه دفن القطة تحت الشجرة قرب البئر، مواسيا إياي أنا وأختي شارحا لنا أن المجاهد الذي يقاتل من أجل أرضه وأهله يدفن حيث يموت مربت على رأسي وكتف سمية.
__

استرجعت نفسي من هذه الذكريات وسألت الشيخ ” ماذا حدث في البئر القديمة ” ،رد علي مباشرة ” لم نكن لنفتحها لو لم تتعطل المضخة ،كنا اثنان ،بقيت أنا أمام المحرك وأمرت ابني ليتفقد البئر ،ليناديني أن أتي من دون أن يشرح لي السبب ،تقدمت نحوه ليطل على قاع البئر قائلا: “هل ترى ما أراه يا أبي؟”

تفحصته لكنني لم أرى شيء ،كنت أعتقد أنه رأى جثة جرذ أو شيء ما يسد الأنبوب ، حتى قال لي : ” لا يا أبي أنظر في الوسط تماما لترى تلك العينين “

ثم سكت الشيخ قليلا و أكمل ،” لقد كانت عينا قط ،ألتفت إلى وجه ابني الباسم و أعدت نظري لكنهما لم تختفيا ،حمل ابني الأخرق حجرا وهم برميه، لتظهر بجانب تلك العينان أنياب لماعة ” ثم أمسك يدي وهو يؤكد على كلامه قائلا ” وليزد الله في عذابي أن كنت أزيد في كلامي ،لقد بدأ الماء بالتوتر و الهيجان من ريح نشأت في عمق البئر، في عمق البئر أتصدق، و كنت لأكذب عيناي لو لم اسمع صفيرها وهي تعصف في، و حتى ابني تبددت ابتسامته المستهزئة حين رآها، و لم نلتفت وراءنا “

ودعت الشيخ من أمام البوابة و هو يوصيني بأن لا أطيل البقاء في هذا البيت، وأن أستأجر خدمة راق شرعي في القريب العاجل، أوصدت الباب، وعدت إلى مهامي في ترتيب حاجياتي داخل الفيلة، لكن تروس المكينة التي في رأسي لم تتوقف عن الدوران، كانت تبحث عن جواب لسؤال غريب..

كيف كسرت رقبته؟

لأن صوت موائه واحتكاك مخالبه بجدار البئر لحظة سقوطه محفور في رأسي، لكني لم أجد أي تفسير منطقي، فالأفاعي تلدغ و لا يوجد أي نوع في بلدي يعصر ضحيته حتى تكسر عظامه، ألح علي السؤال حتى لم أعد أتحمله فأنا من المصابين بهوس و فرط التفكير، خرجت قاصدا البئر مباشرة، تأملته لوهلة عند وصولي إليه لكن الجلسة لم تطل، هممت برفع ختمه الثقيل و أزحت الغطاء، وألقيت الضوء بداخله. كان جافا بعض الشيء و لم تبقى منه سوى بركة صغيرة تكاد تستنزف، استفزتني ظلمته و عمقه وتردد قصة الشيخ في عقلي، ومن دون معقب ناديت قاعه

” أظهر نفسك أيا كنت “

وتوقفت للحظات متحسس محيطي و أنا أسمع صدى صوتي الضعيف يرتد نحوي، متذكرا مقولة مشهورة لأحد الفلاسفة

” أطل النظر في الهاوية وستجد الهاوية تمعن النظر فيك. “

شعرت بعد وهلة بإحراج شديد من نفسي وغبائها ،ومن حقيقة أنني ناديت شبحا للخروج….

ملاحظة: هذه القصة على غير عادتي كانت خاطرة و لم أكن قد خططت لأحداثها مسبقا فتركت القلم و مخيلتي تقودني و كل مابنيته عليها هو فكرة ” مغترب عاد ليجد منزله مسكون ” القصة لم تنتهي بعد لكن عقلي مرتطم بالجدار ، و هنا يأتي دوركم ،فإن كانت لكم أي اقتراحات أو أفكار مهما كانت سخيفة أو أحداث تعتقد أنها ستحصل للبطل ،فاتركوها في تعليق لنسمعها و نناقشها مع بعض.. 

مع تحيات محفوظ

تاريخ النشر : 2021-08-11

guest
14 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى