منوعات

العواقب المريعة للعبث مع الطبيعة

بقلم : وليد الشهري – المملكة العربية السعودية
للتواصل : [email protected]

التغير المناخي واقع حال بدأ جميع الناس حول العالم يشعرون به
التغير المناخي واقع حال بدأ جميع الناس حول العالم يشعرون به

حين نتحدث عن الطبيعة، فنحن نشير إلى جميع الكائنات الحيّة وغير الحيّة الموجودة ضمن المنظومة التي تشكّل بدورها هذا الكوكب المسمّى “الأرض” وما يرتبط به من أجرام أخرى، فالنبات والحيوان والماء والهواء والشمس والقمر والنار والتراب والضوء وطبقات الأرض والغلاف الجوي وغيرها، هي عناصر أساسيّة للطبيعة.. صحيح، نسيت أن أذكر الإنسان ضمن عناصر الطبيعة التي يلعب فيها دورًا رئيسيًّا وخطيرًا إلى حدّ الهلع، لأنّه – مع الأسف – هو الكائن الوحيد الذي حاول – وما زال – التمرّد عليها مدفوعًا بمشاعر التفوّق والسيطرة على جميع الكائنات من حوله، ومعتقدًا أنّه وصل من الذكاء إلى الحدّ الذي يمنحه القدرة على التحكّم بالطبيعة بدلًا من أن تتحكّم به!

blank
غابات الارض تحترق في اكثر من دولة .. الضحية .. والسبب .. هما الانسان

وعلى الرغم من صفعات الطبيعة المتكرّرة التي يتلقّاها الإنسان في كلِّ مرّة يتجاوز فيها حدوده معها، إلّا أنّ ذكاءه الذي يتباهى به لم يسعفه لاستيعاب درس بسيط يمكن صياغته في عبارة موجزة فحواها: “لا تعبث مع الطبيعة أيها الأحمق!”. ولا أدلّ على ذلك ممّا نراه اليوم من مخاطر الاحتباس الحراري، والاحتطاب الجائر، وإشعال الحرائق، والتجارب الحربية لمنظومات الأسلحة والصواريخ، والسباق العالمي لامتلاك السلاح النووي الذي تمتلكه بالفعل بعض الدول حاليًّا بما يكفي لتدمير كوكب الأرض عن بكرة أبيه عدّة مرّات، ناهيك عن حاجته المستمرّة خلال مراحله المختلفة إلى العناية والمتابعة منعًا لحوادث التسرّب الإشعاعي أو الانفجار كما حدث في المدينة الأوكرانيّة الشهيرة “تشيرنوبل”، إلى غير ذلك من المخاطر الكثيرة التي تحيط بنا من كل جانب، والتي ما كان لها أن توجد لولا الإنسان، وما لم يتداركها في الوقت المناسب ويصلح ما أفسده، فربما يأتي اليوم الذي تعجز فيه كل المشاريع والمقترحات والمؤتمرات عن إنقاذ الطبيعة من مواجهة مصيرها الأسود، مصطحبةً معها الوجود الإنساني بأسره!

في الحقيقة، إنّ الأضرار التي لحقت بالطبيعة جرّاء الرعونة البشريّة أكثر من أن تحصى، وما سوف نستعرضه بعيد قليل ليس إلّا بعض المآسي التي تشير إلى بقعةٍ صغيرة من رأس الجليد لا غير، ولا أدري ما الذي كانت الطبيعة ستقوله لنا لو أنّها نطقت، طبعًا في حال لم يتم استغلال صوتها أيضًا لأغراض سياسيّة أو تجاريّة!

إبادة القطط والطاعون الأسود

blank
تمت مطاردة القطط وجمعها وحرقها بالجملة

خلال القرن الثالث عشر الميلادي، ومع هيمنة محاكم التفتيش على أوروبا آنذاك، تمّت ملاحقة واعتقال من اتُّهِموا بممارسة أعمال السحر والشعوذة، وممّا استرعى الانتباه تجاه اعترافات المتّهمين الذين كانوا يقرّون على أنفسهم بما فعلوا وما لم يفعلوا تحت وطأة التعذيب، هو أنّ القطط السوداء كانت تشكّل جزءًا مهمّا في إتمام طقوسهم الشيطانيّة، وبموجب ذلك صدر مرسوم بابوي يقضي بإدانة القطط السوداء والتخلّص منها أينما وُجِدَت، وهو ما حدث بالفعل!

لم يتوقّف الأمر عند إبادة القطط السوداء، فمع مرور الوقت توسّعت حملات الإبادة لتشمل جميع أنواع القطط بصرف النظر عن أشكالها وألوانها، وأقيمت المحافل والمهرجانات المخصّصة لاستعراض المهارات في اصطياد القطط وقتلها، حتى بات من النادر وجود القطط في أوروبّا، الأمر الذي جعل الطبيعة تستشيط غضبًا، والويلُ من غضبة الطبيعة!

blank
ابادة القطط تسببت في زيادة الجرذان وانتشار الطاعون

لم يعلم الأوروبيّون آنذاك بأنّ القطط كانت الدرع الحصين ضدّ انتشار مرض الطاعون الأسود الذي كانت تنقله الفئران، وقد أدّى فناء القطط – بطبيعة الحال – إلى تكاثر وانتشار الفئران في أنحاء أوروبا حاملةً معها قنابل بيولوجيّة أودت بحياة ما يعادل ثلث سكّان أوروبّا، والعجيب أنّ الكنيسة آنذاك كانت تتّهم القطط بنشر الطاعون وليس الفئران، إلّا أنّ الواقع يقول بغير ذلك، فالطاعون ما زال يتفشّى في ظلّ الانعدام شبه التام للقطط، وكلّ ما كان ينبغي عليهم فعله لتفادي تلك الكارثة هو – ببساطة – ترك القطط وشأنها، ومن الجدير بالذكر أنّ الفئران الحاملة للمرض كانت قادمة من موانئ الصين على متن بعض السفن الإيطاليّة، ويتّضح من هذا ما للصين من تاريخ عتيد في نقل الأوبئة والأمراض!

توماس أوستن ونكبة الأرانب

blank
12 زوجا من الارانب تسببت بكارثة بيئية مدمرة

توماس أوستن هو رجل بريطاني الأصل، انتقل في عمر المراهقة مع عائلته إلى أستراليا عام 1831م، وذلك باعتبارها مستعمرة بريطانيّة آنذاك، وقد كان إصراره وحنينه المستمرّ إلى تطبيق أسلوب الحياة البريطاني على الأراضي الأستراليّة سببًا في اندلاع أكبر وأطول كارثة بيئيّة في تلك الجزيرة!

أصبح توماس رجلًا ثريًّا يمتلك من مساحات الأراضي وأعداد المواشي الشيء الكثير، ويبدو أنّه كان مولعًا بالتعامل مع الحيوانات تارةً بتربيتها وتارةً بصيدها، إلى درجة تخصيص جزء من أراضيه كمحميّات ترعى الحياة البريّة وتستقبل هواة الصيد، وقد بدأت إرهاصات الكارثة المنتظَرة بأن قرّر توماس عام 1859م استيراد بعض أنواع الحيوانات البريطانيّة في سبيل إنعاش الحياة البرّيّة، وتعليل النفس بشيءٍ من أثر الوطن، وإضفاء المزيد من المتعة على هوايته المحبّبة إلى نفسه، ألا وهي الصيد!

أوعز توماس إلى ابن أخيه بالقيام بهذه المهمّة، فأمره باستجلاب بعض الأرانب وأنواع الطيور والحيوانات الأخرى إلى الأراضي الأستراليّة، وعلى الرغم من قلّة أعداد الأرانب التي وصلت (12 زوجًا منها)، إلّا أنّ توماس كان يعرف أنّ سرعة تكاثر الأرانب كفيلة بحلّ المشكلة، وهو في الوقت نفسه لم يكن يعرف أنّ أستراليا تمتلك المناخ الملائم لتكاثر الأرانب بما يفوق الحد الطبيعي ويضمن تدهور التوازن البيئي هناك، فأطلق سراحها في الأراضي الأستراليّة بكلّ سعادة، معلنًا عن نشوب حربٍ بيئيّة ستعاني منها تلك الجزيرة لعقود طويلة قادمة!

أخذت الأرانب تتكاثر بسرعة رهيبة وتنتشر في أرجاء أستراليا بأعداد هائلة، فقضت على المحاصيل الزراعيّة بأنواعها، وتسبّبت في فساد التربة بعد أن كانت صالحةً للزراعة، ولم تدع شيئًا للحيوانات الأخرى التي كانت تتشارك معها في درجة السلّم الغذائي إلى الحد الذي باتت معه مهدّدةً بالانقراض، ولنا أن نتخيّل ما بلغته تلك الأرانب من أعداد ضخمة حين نعلم أنّ صيد مليوني أرنب منها بعد عشر سنوات من فعلة أوستن لم يفلح في كبح جماحها والحدّ من أعدادها المهولة!

blank
استمرات الارانب بالتزايد رغم صيدها بالملايين

وعلى إثر ذلك، ظهرت تحرّكات حكوميّة جادّة تجاه هذه الأزمة الخطيرة في سبيل القضاء على الأرانب وإعادة الأمور إلى نصابها، وأمام عجز الحكومة المتكرّر عن تحقيق مبتغاها، أعلنت عن جوائز ثمينة لمن يتمكّن من إيجاد الطريقة الفعّالة للقضاء على الأرانب، فكان من ضمن المحاولات أن قاموا بحرق الأرانب وتسميمها وخنقها دون جدوى، ونصبوا ما يتجاوز الألف ميل من الأسلاك الشائكة خلال القرن العشرين منعًا للأرانب من الوصول إلى الجانب الغربي من أستراليا، وسرعان ما تبيّن فشل هذه الطريقة أيضًا بعد أن تمكّنت الأرانب من اقتحام المنطقة خلال العمل على إحاطتها بالأسلاك الشائكة، وحتى لو تمّ التسوير دون مقاطعة من الأرانب، فسوف يكون مصير هذا المقترح هو الفشل نظرًا إلى قدرة الأرانب الفطريّة على حفر الأنفاق وتجاوز تلك الأسوار دون عناءٍ يُذكَر!

وبعد عقودٍ من المعاناة، وخلال خمسينيّات القرن الميلادي المنصرم، لجأ القوم إلى استخدام قدراتهم البيولوجيّة في حربهم ضدّ الأرانب، على أمل أن ينجح هذا الأسلوب أخيرًا في التخلّص من خطرها المتزايد، علمًا بأنّ أعدادها قد وصلت إلى 10 مليار أرنب خلال القرن العشرين، بمعدّل 3 آلاف أرنب لكلّ ميل مربّع، فكان الحلّ يكمن في تحميل البعوض بالفيروسات، لينقلها إلى الأرانب المتواجدة في المناطق التي ينتشر فيها، وقد كان النجاحُ حليفًا مؤقّتًا لهذه الطريقة، فقد أسهمت بالفعل في تقليل أعداد الأرانب، إلّا أنّها لم تكن على مستوى الكفاءة المأمولة منها، فالبعوض لم يكن منتشرًا في كثير من الأراضي التي تسيطر عليها الأرانب، بالإضافة إلى أنّ الأرانب المتواجدة في مناطق انتشار البعوض قد اكتسبت القدرة على مقاومة المرض، وأخذت أعدادها في الازدياد من جديد!

وعلى الرغم من النتائج المحبطة، إلّا أنّ الآمال ما زالت معقودةً على الأساليب البيولوجيّة في القضاء على تلك الظاهرة المتنامية بشكل مخيف، فقام العلماء بتخصيص مكانٍ ما على جزيرةٍ محاذيةٍ للساحل الجنوبي من أستراليا للعمل بطريقة آمنة على اختراع واختبار فيروس فتّاك وشديد العدوى يُعرف بفيروس مرض الأرانب النزفي (إيبولا الأرانب)، وعلى الرغم من حرص العلماء على عدم خروج الفيروس من المختبر حتى تثبت كفاءته وفعاليّته، إلّا أنّه تمكّن بالفعل من الخروج عن طريق الخطأ عام 1995م وحطّ رحاله على الجزيرة الأستراليّة بمساعدة الذباب، فكان هو الحلّ الأكثر فاعليّة حين انتشر في الأرانب انتشار النار في الهشيم وأبهر العلماء بمدى كفاءته، فأدّى إلى انحدار كبير في أعداد الأرانب يُقَدّر بـ 90%، وشيئًا فشيئًا بدأت الطبيعة تتعافى مستعيدةً نشاطها وتوازنها، بالتزامن مع الانخفاض المستمر لأعداد الأرانب، التي وصل تعدادها إلى 200 ألف أرنب في عام 2018م.

يُذكَر أنّ أوّل حالة إصابة بذلك الفيروس تم الإبلاغ عنها كانت قبل 35 عامًا، وأرجو ألّا تشعر بالغضب حين تعلم أنّ تلك الحالة كانت في الصين. نعم، الصين.. وعلى الرغم ممّا قد يبدو في ثنايا هذا المقال تحاملًا على الصين، إلّا أنّني أؤكّد لكم بمنتهى الصدق أنّ الأمر لم يكن مقصودًا البتّة، وكلّ ما هنالك أنّ الصين هي من كانت تظهر أمامي أثناء مراجعة المصادر، لذا وجب التنويه.

في الختام..

ليس للإنسان إلّا أن يمتثل لقوانين الطبيعة إن أراد لنفسه النجاة، فخَرق السفينة لن يجني على السفينة فحسب، بل سيأتي على كلّ من/ ما فيها، وهلاك الجنس البشري بأجمعه لن يضرّ بالطبيعة قيد أنملة، لكنّ العكس غير صحيح.. دمتم بخير.

كلمات مفتاحية :

– Cat-burning – Wikipedia
– How European Rabbits Took over Australia

تاريخ النشر : 2021-08-16

وليد الشهري

السعودية
guest
36 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى