أدب الرعب والعام

الجرسون

بقلم : عطعوط – اليمن
للتواصل : [email protected]

بما أنك عشت حياة الذكر والأنثى أيهم كان إليك أجدى؟
بما أنك عشت حياة الذكر والأنثى أيهم كان إليك أجدى؟

في ليلة من ليال الشتاء …جلس الجد منصور جوار المدفأة بعد أن فرغ من طعام العشاء.. 
فالتف الأحفاد حوله متلهفين لسماع قصة من قصصه… جلسوا القرفصاء ناظرين إليه بإصغاء .. حمد الله فاثني وعلى المختار صلى…
فقال:  يا أحفاد سأحكي لكم قصة حدثت في البلاد…

كان هناك طفلة شديدة العناد سلوكها معاكس ..تخطت عامها الخامس ومع حلول
السادس التحقت بإحدى المدارس… لها آخ لطيف نحيف اسمه عفيف يكبرها بعامين
إلا انه كفيف ، يشاركها الضحك والكلام ويبتسم لها في غسق الظلام وتساعده في تناول الطعام فكانت بذلك تعين والدتها ببعض المهام إنها عصمت كمثرية الوجنات كلثومية الشفاة
عنقاء زرقاء صهبا تظهر عليها ملامح الثراء ..

تأرجحت بين الذكر والأنثى . أضحت من الوجهة الشرعية خنثي. تناقل سيرتها العوام وتجاذبتها وسائل الإعلام…
إليكم سرد قصتها من البداية للختام.ِ..

أول يوم ذهبت فيه إلى  المدرسة بصحبة والدتها زكية كانت لبذلة أخيها عفيف مرتديه
فهي شديدة التعلق بملابس الأولاد وارتدا القبعات تكن الكراهية لثياب الفتيات..

نظرة إليها السكرتيرة
فقالت : ما شاء الله ما هو اسمك يا بني ؟
ردت بسرعة مقاطعة أمها اسمي عصمت ..
دونت اسمها وكافة بياناتها في السجل
وأعطتها المنهج والجداول

ثم انحنت وباست
وقالت : نلتقي غدا الثامنة صباحا ياعصمت
ظنتها السكرتيرة ولد من الأولاد
فشعرها مقصوص وبيدها لعبة مسدس وإصبعها على الزناد ، بقيت زكية صامته عن الكلام
اكتفت بالابتسام ورد السلام اثنا العودة أدخلتها إحدى المحلات وطلبت زي الطالبات
صاحت عصمت ولاحت وأصرت على أن تشتري لها بذلة من أحسن البذلات فهي لا تريد أن ترتدي ملابس البنات .. نزول عند رغبتها اشترت لها بذلة طالب مع جزمة وحقيبة باشا من البشوات تحتوي على كل الأدوات…

عادت زكية وعصمت إلى البيت فحكت لوالدها علاء كل ما جرى
فضحك وتبسم قبل أن يتكلم .. وقال: دعيها تلبس ما يحلو لها حتما ستكبر وتغير رأيها …

باتت عصمت ليلتها مختلفة عن باقي الليال تفكر وتتخيل كيف سيكون عليه الحال …
السابعة والنصف صباحا سُمع صوت الباص على الباب اسرعت زكية بإيصال عصمت
وأركبتها مع بقية الطلاب…
بنين وبنات من عدة حارات …
شاركت زكية السائق التحية
وأعطته بعض النقود إكرامية…

في ساحة المدرسة وقف الوكيل بعد أن قرع الجرس وصاح  انتظموا أيها الطلاب في صفوف لأداء طابور الصباح فكان الطلاب في جهة والطالبات في أخرى …
اتجهت عصمت ووقفت إلى جانب البنين متجاهلة أنها أنثى …

جرت الأناشيد الاعتيادية بصوت الإذاعة المدرسية من ثم توجه الطلاب بقطارات منتظمة إلى الفصول فدخل الطلاب الجدد الطابق الأول حسب المألوف…

كان المعلم واقف بجانب الباب وبادر في تنظيم جلوس الطلاب

الطالبات في الأمام والطلاب في الخلف حسب المعتاد … لم ترغب عصمت بالجلوس في الخلف وأصرت على الجلوس في الأمام
اضطر المعلم إلى قسمة الفصل إلى شقين بينهما ممر … البنات في شق والبنين في الشق الآخر ، فأجلس عصمت في مقدمة البنين أمامه فهو في نظر المعلم طالب وليس طالبة
بهذه الطريقة حُل الإشكال واستمر الحال..
انقضى الفصل الأول فظهر تفوق عصمت من خلال درجات الجدول…فزادت مكانة عصمت في قلوب المعلمين والمعلمات … في بداية الفصل الدراسي الثاني.. كُرم عصمت كطالب مثالي… وتقرر انتخاب رائد للفصل… فكان عصمت مرشح البنين وندى مرشحة البنات..
فاز عصمت بأغلب الأصوات…
اغتاظت ندى واضمرت له العداء … 
ندى إبنة كبير الجزارين … حفيدة عمدة العطارين.ِ.. دلالها فائق وكلامها بائق ولديها سائق

تقف لقدومها العوام وتصغي لحديثها الأنام… تستقبلها الأبلات ببشاشة فريادتها للفصل  أمر لا يجوز نقاشه. ترى من حولها خدام ليس لهم مقام تشير إليهم بالسبابة والإبهام

ترتدي الغرور  وتنتعل الفجور ترى نفسها هامة إلا إنها تتلعثم في الإجابة وترتعش عند الكتابة .. هذه هي ندى رائدة الذكى… والمرتبة الأولى…

سؤال كُتب بالطبشور..

ما الفرق بين الثديات والطيور؟

أجابت ندى: جيران سوء…

قال المعلم : كلام ندى صحيح وإنما أريد فقط التوضيح… 
الثديات تلد بينما الطيور تبيض…

بتفوق عصمت احتفلت زكية وعلاء  ودعوا الجيران لتناول طعام العشاء
احضر علاء كمية لا بأس بها من أسماك المحار ..
فهو يعمل صياد في البحار … وكان على رأس المدعوين مدير المدرسة والوكيل والسكرتيرة و المعلمين…
وعدد من الطلاب المتفوقين.. زاد غيظ ندى عندما سمعت بما جرى فحرصت على إظهار الاحترام بينما تكن الانتقام…  فأخذت تدس لعصمت الدسائس وتنشر عليه لدى زميلاتها بعض الوساوس…

استمر عصمت في التفوق في نفس المقام في كل الصفوف على مدار الخمسة الأعوام
ذات يوم تلصصت ندى واختلست من حقيبة سهام بعض المساطر والمبراة والأقلام …
ووضعتها في حقيبة عصمت أثناء غيابه في الحمام…
افتقدت سهام أدواتها وبعد أن تأكدت..
أبلغت المعلم بتعرض حقيبتها للسرقة ..يعتريها الإحراج..

أمر المعلم جميع الطلاب بالوقوف وطلب من سهام تفتيش جميع الحقائب والأدراج …
تمت سهام التفتيش ثم جلست فقالت ندى بقيت حقيبة عصمت..
ترددت سهام فعصمت في نظرها منزه عن الشبهات..
فطلب منها المعلم نزولا عند رغبة ندى إتمام البحث عن المسروقات… بقي عصمت صامت بينما تقدمت سهام على خجل ففتحت حقيبة عصمت بعجل …
فصاحت هذا غير معقول… هذه أدواتي المسروقة أصيب الجميع بالذهول… كانت صدمة عصمت كبرى حاول نفي التهمة عن نفسه دون جدوى…
اعتراه الخجل وطأطأ رأسه بعد أن وصفوه بالكذاب … رغم ما أبداه من إنكار فلم يصدقه احد لا المعلم ولا الطلاب.. غادرت عصمت المدرسة مكسورة الجناح…
لزمت غرفتها امتنعت عن الطعام وصامت عن الضحك والكلام…
احتارت زكية وعلاء لم يجدوا تفسير لما جرى…
فطلبوا من عفيف أن يراوغ عصمت بكلامه الظريف …

بقيت عصمت صامتة تنهمر من عينها دموع غزيرة… وامتنعت عن الذهاب إلى المدرسة
ذهبت زكية وقابلت السكرتيرة فأوصلتها إلى سهام وطلبت منها أن تشرح لها لب الكلام..
كانت سهام شديدة الإعجاب بعصمت …
فطلبت من زكية بإلحاح أن تصطحبها كي تطلب من عصمت السماح…
وصلت سهام فرثت حالة عصمت
فقالت: إنسى ما جرى وعد المدرسة وسأخبر الجميع أن من وضع الأدوات في حقيبتك هو أنا!
لم تستطع عصمت أن تضع عيناها في عين سهام
فانهارت بعد أن كانت قد استقامت…
رفضت كل المحاولات…
حاورت ذاتها فقالت: لم اقبل ان ينظر إلي كأنثى بل كرجل راجح ثقيل
كيف لي الآن أن اقبل أن ينظر إلي كلص ذليل…

سأختفي عن الأنظار … لن اقبل الاحتقار …

لم يكن أمام والديها من خيار سوى نقلها إلى مدرسة أخرى… وهي 
في الصف السادس الابتدائي… بعد أن سجلاها عادا فلم يجدا عصمت في البيت …
بحثا في كل مكان سألا عفيف … انقضت ليلة ليلتان ثلاث لا حد يعرف…
تم إبلاغ الشرطة بفقدانها مع صورة …

مرة الأيام لم يعثر على خبر فقد الأمل واختفى الأثر…
انتاب الطلاب حزن تام وتوجهوا باللوم نحو سهام…
فحز في نفسها تأنيب الضمير … فقررت ترك المدرسة دون تفكير… ارتبكت ندى بعد غياب سهام فذهبت إلى منزلها وتلطفت لها بطيب الكلام ..
وأنها تكن لها كل الحب والاحترام .. ثم أجهشت بالبكاء واضعة رأسها في حضن سهام …
فحاولت سهام تهدئتها دون جدوى .. نهضت سهام وأغلقت باب الغرفة ..
ثم قالت: ما الذي يبكيك يا ندى أنا المذنبة أنا سبب ما جرى 
هل تتحملين وزر ذنب لم تقترفينه…
رفعت ندى نظرها إلى سهام وقالت:
بل أنا السبب يا سهام أنا من اخذ أدواتك ووضعها في حقيبة عصمت بدافع الحسد والانتقام…
شعرت بأن عصمت اخذ مقامي فوجهت نحوه غضبي وانتقامي…
أطلب منك أن تبقي هذا الأمر طي الكتمان
ومساعدتي في البحث عن عصمت في كل مكان…
أبدت سهام تعاطف تجاه ندى
رغم امتعاظها مما بدر منها …
قالت :سهام أبي ضابط شرطة
سأطلعه على الأمر وأرى وجهة نظره…
ردت ندى بتفاؤل: وأنا سوف أجمع مبلغ من النقود تعيننا على أعمال البحث والتحري  …
بشرط أن نعود للدراسة وكأن شيء لم يجري…

دخلتا الفصل فثار غضب حسام فتهجم على سهام ببعض الكلام
وطلب من ندي مفارقتها وترك صداقتها… كونها سبب ماجرى…
تحملت سهام الإهانة من حسام
واستلطفته بلين الكلام… وفي فترة الراحة بين الحصص .. انفردت سهام بحسام في الحديقة وعرضت عليه المساعدة
فهي تعرف أن حسام صديق حميم لعصمت … وكثير ما كانت تراهما يلعبان ويلهوان في حديقة المدرسة ويتقاذفان الأزهار والورود حتى أضحيا مناط حسد كل حاسد
وضغينة كل حاقد بالإضافة لتجاورهما في المقاعد

…وافق حسام بتلهف
فأحضر صورة لعصمت ونشرها في الصحف …

كان حسام يتيم الأم عانى من خالته الأمرين … معظم الأيام ينام دون طعام
وإذا أراد أن ينام يدس في إذنيه السبابة كي لا يسمع صوت التلفاز وضجيج الكلام
وفي الصباح لا يجد احد في البيت صاح …

فيبحث عن فضلات الرغيف الصحاح وبماء الصنبور
يبلها ويمضغها وراح

يعود من المدرسة تعبان فلا يجد له في البيت مكان…

فبمجرد أن يجلس على احد الكنبات تنهال عليه الأوامر والطلبات

خظ الحقيبة يا حسام وأذهب إلى الجزار وأثناء عودتك مر على العطار
ثم عرج إلى محل الخضار وعلى طريقك أحضر حاجتنا من محلات البهار …
ثم عد في الحال بعد أن تأخذ التبغ واليم والزيتون وبعض البرتقال… 
تذكر الرمان والتوابل و الهبهان  .ِ …
أضف كأس جديد للمرح والتسلية ..
اجمع فواتير الجميع وحطها في الطبلية. 

رغم هذا كان حسام مواظب متفوق أنيق متألق لم يتأثر بالوسط الذي عاش فيه صباه
من اللهو وصخب الحياة

دارت الأيام ولم تأتي بالقصد والمرام …

تغيرت أحوال سهام و ندى وتردت درجاتهم إلى أدنى مستوى وظهر على ندى ملامح الإرهاق والعياء… غرق مركب الصيد الخاص بوالد عصمت بأكمله….فتغيرت أحواله وانقطع دخله…

اختلفت زكية مع صاحبة محل التطريز الذي تعمل فيه فطردتها… فزاد وضعهما سوء
ساءت الظروف فأودعوا عفيف دار المكفوفين… مضت ثلاثة سنين…
كانت ندى شاردة باستمرار فشبح عصمت يراودها ليل نهار
فبمجرد أن تغفو ترى عصمت بصورة امرأة تهجم عليها بمخالب وتغمرها في احد الآبار …
رسبت ندى في الإعدادية ونجحت سهام …

نشرت الصحف خبر غرق مركب الصيد الخاص بعلاء …

كانت زكية تعثر كل صباح خميس على مبلغ من المال
محشور في ثقب الباب يكفي لستر الحال …ظنته من فاعل خير بغية الأجر والثواب …

كانت زكية قد راقبت من الذي يحط مبلغ النقود فلمحت شاب ملثم يعصرها في الثقب ثم يعود فاخفت الأمر عن الأنام وفي احد الأيام طرق عصمت الباب
ففتحت زكية فإذا بعصمت زهية بهية  فصاحت ولاحت علاء اصحى
عصمت عادت عصمت هنا نهض علاء مسرع فغمرته الفرحة فترجل
ثم طلبت منهم تحضير أدوات السفر على عجل 
سننتقل للعيش في فيلة على الساحل تطل على مرفاة الصيادين..
استبشر علاء عند سماعه كلمة صيادين
فقال ولماذا نذهب هناك
ردت : سترى ما يسرك يا أبي وتقر به عيناك
أين عفيف أيقظوه الظريف..
فاخبروها بما صار عليه الحال ومكان تواجد عفيف
شدوا الرحال واخذوا عفيف
من دار المكفوفين 

تولى علاء إدارة مرفأ الصيادين إلتف الجميع حوله
فقد كان ذلك من صميم عمله

سافرت عصمت بعفيف وأجريت له عملية للنظر فعاد إليه البصر
وأما قصة عصمت فبعد أن خرجت من الدار
ركبت قطار لا تدري أين تذهب ….

في آخر محطة بقيت عصمت بمفردها
نزلت وبقيت تتلفت وتتعجب
رأت الركاب يصعدون حافلة فصعدت
وعلى أحد المقاعد جلست …
كثر الزحام فقالت إحدى النساء
يا بني هل تسمح تقف كي أجلس فإني على الوقوف لا أقوى…
فجلست بينما استقام جوارها وكان يتكئ على كتفها… فتحت شنطتها وأعطته بعض قطع الحلوى فأكل على عجل عرفت أنه جائع فأعطته أخرى
سألته أين ذاهب يا بطل ؟
رد: لا أعلم غريب أبحث عن عمل .
أين أمك وأباك؟
رد: لا أعلم هربت من دار الأيتام .
وضعت يدها على بطنه باسترحام.
إنك جائع ليس في أحشائك سوى أمعائك..
وقفت الحافلة فتح الباب فنزل الركاب..
نهضت بعد أن خف الزحام ..
فأمسكت بيد عصمت بإحكام ..
وأنزلته معها من الحافلة ودفعت عنه الأجرة …
فقالت: لا تخف ستأتي معي أعطيك طعام وأساعدك في العثور على عمل.
فرح واستبشر وشعر نحوها بالأمان.
أوصلته إلى مطعم وأجلسته على طاولة
وقالت احضروا له الأكل الان..
أجابها الجرسون بالإذعان…
آكل وشرب وحمد الله على ما وهب
ثم وثب
يريد أن يذهب …
فأخذ بيده الجرسون فأوصله إليها فإذا بها قاعدة على درج الحساب..
فأجلسته إلى جوارها …
واستمرت في عملها…
فشاهد عصمت كيف تقوم بأخذ الفواتير والحسابات …
وتحط الفلوس في درج
وتدخل السندات احد الخانات..ِ
ظنه عمال المطعم ابنها أو احد أقاربها… انقضي النهار فنظرت إليه فوجدته شديد الانبهار.
قالت: ما اسمك؟
رد:عصمت.
أفرغت الدرج من المحصول ووضعت الفلوس في الشنطة …ثم طلبت العمال حضروا حولها… فأعطتهم الإكراميات … وفرزت الأرباح وأخرجت قيمة المشتريات  …
وأعطتها احد العمال كي يحضرها في الصباح.. أغلقت أبواب المحل … وعلقت شنطتها على كتفها وعلى كتفي عصمت وضعت يدها
ومشًته جوارها …
ضغطت جرس منزلها ففتحت الباب بنت على رأسها عصاب وهي في سن الشباب..
فدخلا
فقالت: جهزي لعصمت الحمام يا مرام.
تبسمت مرام ومشت
برشاقة وخفة كأنها حمامة…
أوجست في نفس عصمت الخوف والقلق …
تأفف وتأجح
وقال: لا أريد أنا يوم أمس اغتسلت في المسبح…
قالت : صاحبة السعادة سعاد
كلامي لا يكرر ولا يعاد…
فآخذت مرام بيده ونحو الحمام اقتادته… كانت مرام تتفحصه بنظرات إعجاب
قبل أن تدخله الحمام لمحت أذنيه مخرومتان … تبسمت وقالت لماذا خرموا أذنيك يا غلام؟
رد: بدار الأيتام يضعوا علينا أختام كي لا نضيع وسط الزحام …
ردت باستغراب أيتام أي أيتام ما هذا الكلام؟
دخل الحمام محتاس فأغلق الباب بالترباس …
عادت مرام إلى سيدتها مهرولة مذهولة …
فقالت مرتبكة: رأيت ما راعني ؟
إذني عصمت مخرومتان 
وقد اخبرني أن دار الأيتام يضع على أذنيه الأختام ..
قالت: دعي عنك هذا وجهزي طعام العشاء…
خرجت عصمت من الحمام بعد أن اغتسلت .. وفي الصالون جلست رجل على رجل … ..
جهزت مرام سفرة الطعام
ونادت سيدتها
حضرت
جلست ودعت عصمت فأجلسته مقابلها على الطاولة… انصرفت الخادمة مرام …
كانت عصمت شديدة الخجل تأكل بتأني ولا ترفع نظرها إلا على وجل …
وبعد الطعام جلسا في الصالون يتجاذبا أطراف الكلام…
فلمحت أذنيه كما أخبرتها مرام…
فأعاد عليها نفس الكلام…
فاعتقدت صدق مقاله …
ثم قالت: يا عصمت
اعلم إني وحيدة الزمان
أولادي بالخارج لا يوجد بجانبي سوى أخي المعتوه بركان …
سأعتبرك ابني الأمين المأمون على أن تعمل في مطعمي جرسون.. سأدفع لك أجر واكسب فيك أجر  ستكون أمام ناظري ولن تتخطى الباب.. وتسكن هذه الغرفة
تبسم عصمت وأبدا رضاه
ثم طلبت منه أن يكتم قصة دار الأيتام وأن يخبرهم بأنه أحد أبناء الجيران
ثم نادت مرام وطلبت منها تجهيز غرفة عصمت كي ينام

اصطحبته في الصباح إلى المطعم وبدأ العمل فكان نشيط مبدع ملهم
أنيق المظهر
لطيف النبرة
مبتسم الثغر
يطوف على الزبائن كظل
لا يمل ولا يُكل .

ذات يوم وجدت الخادمة مرام في غرفته عند تنظيفها كلسون وبنصيون خاص بالدورة الشهرية فأوصلت ذلك إلى سيدتها سعاد

فحامت حوله الظنون .. طُلب منه كفاله كونه بدون هوية
فكفلته صاحبة المحل فاستخرج بطاقة شخصية بإسم عصمت علاء رشيد فرغلي .
موهما سعاد بأنه اسم وهمي حظي باحترام صاحبة المطعم
بعد أن أبدع في عمله واستقام فزاد المحصول عن المعتاد
بعد أن تضاعف الرواد فتنوعت أصناف الوجبات وبقي يفتح معظم الساعات
وتم إضافة أجنحة إحداها خاص بالعائلات
وأخر بالحفلات
كان ذلك من إبداع عصمت واختراعه ففُتحت أبوابه على مدار الساعة كثرة الأرباح وعمت الزيادة فدخل عصمت شريك لصاحبة السعادة فأوكلت إليه الإدارة
والحسابات بعد أن اخبرها الطبيب بوجود حصاة في إحدى الكليات
فاقتصر تواجدها في المحل على بعض الزيارات
كانت في الستين من عمرها
توفى عنها زوجها ، لها ولدان وبنت يقيمان في أوروبا وبقيت مع أخيها مصدر الشر والبلاء
اعتلت صحتها فألتحقت بأولادها بأوروبا
احتاجت للمال لإجراء عملية
فطلبت من عصمت بيع المطعم وإرسال ثمنه
فأشترى حصتها برأس ماله

 

تمكن من بيع المطعم بعد أن ظهرت عليه علامات الأنوثة ولم يعد بمقدورها إخفائها تحت الاعطاف بعد أن تكورت النهود وتدلت الأرداف .. فبرزت للناظر والسامع …
بعد أن كان يخفي ذلك تحت جاكت واسع 
توارى عصمت فرغلي عن الأنظار وانقطعت عنه الأخبار بين العباد
بعد أن أشاع انه ينوي السفر للخارج لحاقا بسعاد

سمحت لشعرها بالتدلي شيئا فشيئا حتى انسدل على الأكتاف.

قرأت إعلان في صحيفة البلاد عن عرض أسهم شركة صيد بحري للبيع في المزاد ..
قررت الحضور وكشف النقاب عن جسدها المستور ذهبت على الفور محل أزياء
فاشترت احدث ملابس النساء وقبل موعد المزاد بعدة أيام
اتصلت بمحامي مشهور وطلبت منه الحضور . ضغط الجرس ففتحت مرام
اخبرها بعد أن رد السلام أن تبلغ الآنسة عصمت فرغلي
بحضور المحامي حسب الموعد
ارتبكت مرام وتلعثمت بالكلام
وتمتمت آنسة عص عص مت.
تركته على الباب وطرقت باب عصمت عدة طرقات…متسارعات…
وقالت: حضر محامي
رد : ادخليه الصالون حتى ارتدي ثيابي وآتي…
اجلسته ثم ذهبت لإحضار بعض الشراب…
عادت وفي يدها الأكواب فشاهدت فتاة زهية بهية مقابل المحامي جالسة مستوية
بادرتها بالتحية والترحاب وأعطتهم أكواب الشراب ..
عادت إلى المطبخ فداهمتها الأفكار من هذه الفتاة كيف دخلت بدون إستئذان
لابد أن اذهب واخبر عصمت بما جرى وصار… وجدت باب عصمت مفتوح وروائح العطر منه تفوح..

أحتاست واغتاظت وإلى أدراجها عادت… بقت تحوم حول الكنبات وكأنها ترفع الأدوات…
والفتاة والمحامي في نقاش حامي حول ملف على الطاولة ملقي…عادت مرام لتراهم خارجين فأغلقت خلفهم الباب والى غرفة عصمت هرعت…
نادت عصمت فلم يجيب…
لكنها رأت ما هو غريب وعجيب …
كلسونات وجوارب ومساحيق
ازدادت هم وضيق…
كان عصمت قد شغفها حب وهامت بعشقه بين الفينة والأخرى…
فلم تستوعب ما جرى…
قالت في نفسها سأنتظر حتى يخرج عصمت من الحمام
لعله يأتيني بلب الكلام …
طال الانتظار
لاحس ولا خبر
قرقعت الأبواب ورجفت السفر
تأكدت أنه لا يوجد في البيت بشر
بقت في البيت تحوم
هاتف عصمت لا يجيب
فجأة رن الجرس أسرعت ففتحت
فشاهدة الفتاة الذي راحت أتت…
فبادرتها بالسؤال تريدين عصمت؟
عصمت غير موجود.
دعيه وشأنه ابحثي لك عن غيره.
تبسمت عصمت ابتسامة أعقبتها ضحكه…
عندما رأت في عيني مرام شرر الغيرة..
وقالت: هل تسمحي بالدخول سأنتظر حتى يعود؟
وافقت على مضض
وقالت : انتظري هنا في الصالون
ماذا تريدي من عصمت؟
ردة: هو خطيبي ونريد إقامة حفلة خطوبة.
لكن أنا لم أراك من قبل مع عصمت ؟
ردت: كنا نتقابل في النادي؟
مبروك مبروك … ثم تمتمت لا بارك الله لك.

ذهبت مرام ثم عادت فلم تجد الفتاة
في الصالون.
لمحت باب عصمت مفتوح
دخلت فوجدتها ممتدة على السرير وسستة فستانها مفتوح فصاحت :
ياللبجاحة إلى هذه الدرجة وصلت بك الوقاحة..
استمرت عصمت في الضحك الشديد
خرجت مرام ثم عادت وبيدها سكين فقالت: 
إذا لم تخرجي بإرادتك غرزت هذا الخنجر في أحشائك…
رأت عصمت أن الجد جد
وأن السكين حد
وأن حياتها راحت في قبضة اليد..
فقالت: أنا عصمت يا مرام قالتها بلطف وحنية…
عصمت من؟
عصمت قريب سعاد.
عصمت ولد وأنت بنت…
كنت ولد و الآن بنت.
ما أنت إلا جنية من الجان
تتشبهي ببني الإنسان.
تراجعت مرام إلى الخلف وألقت ما في يدها
ولمت أغراضها وغادرت البيت مسرعة…
لم تستطع عصمت الاقتراب منها أو اللحاق بها…
فتركتها وشأنها….
حضرت عصمت المزاد وفتحت المظاريف حسب المعتاد…
وهنا كانت المفاجأة
لقد كان المنافس لعصمت هو حسام
وكاد أن يرس عليه المزاد…
فتقدمت عصمت فزادت وبالغت
حتى شاهت الوجوه وصمتت
فازت عصمت فأخذت رقم حسام من احد المظاريف …

أسست مجلس إدارة للشركة
وزودتها بوسائل صيد متطورة
فكانت رئيسة مجلس الإدارة
وعلى عاتقها تقع مسؤولية الربح والخسارة…
ثم
أسست شركة فرغلي للصيد البحري
تمتلك عدة مراكب صيد
فأضحت من اكبر تجار السمك
بعد أن أسست مصنع تعليب تونة
وتصدير الفائض
استقطبت كثير من المهنيين من العمال والفنيين.
عينت حارس لمنزل سعاد إلى جانب مرام…
اتصلت بحسام وطلبت مقابلته
فحضر إلى مقر الشركة على المرفأ
كان قد تخرج دبلوم تجارة قسم محاسبة
وبدأ يشق طريقه في الحياة ..
عند وصوله إدارة الشركة
لمح اسم رئيسة مجلس الإدارة
عصمت علاء رشيد فرغلي …
قال في نفسه لعله تطابق أسماء
وعند دخوله المكتب شاهد فتاة تجلس علي المكتب وأمامها على الطاولة نفس الاسم عصمت علاء رشيد فرغلي…

جلس على احدى الكنبات بينما كانت تقوم بالتوقيع على احدى الملفات..
في هذه الأثناء دخل علاء والد عصمت
عرفه حسام فأنتفض واستقام
وبادله التحية والسلام ..
وجلس إلى جانبه
أتمت عصمت مراجعة الأوراق
فأعطاها علاء ملف وكانت تنظر إليه بوجه براق.
طالعت الملف وأبدت ارتياحها فقالت
ألم أقل لك يا أبي أنك الأجدر . بفضلك صار ربحنا أكبر ودخلنا أوفر… أنت ذا بصيرة نافذة وخبرة سابقة…
اذهب ونقب عن أصحاب المواهب لا تدع صديق ولا صاحب…
أخذ الملف وخرج
فخرج مسرع بعده حسام دون أن يدلي بأي كلام …
وفي الدرج امسك بيد علاء بإحكام
وقال:  هل عثرت على ابنك عصمت الذي تاه بعد أن سرق المساطر والأقلام…
رد: ومن أنت؟
أنا حسام زميله في الدراسة تلك الأيام.
نعم : عصمت بنت وليس غلام وهي التي رأيتها تجلس امامك تماما بتمام…
كان علاء مستعجل تركه وذهب. 
تعجب حسام شديد العجب
قال في نفسه: أتيت للبحث عن فرصة عمل
سأعود المكتب واترك ذلك للمستقبل…
دخل وجد عصمت بإنتظاره
قالت: كاد المزاد يرس عليك
وبشق الأنفس انتزعته من بين يديك..
وقد استدعيتك كي أحط يدي في يديك…
فقد رأيت فيك صفات الأشخاص الثقاة وأريد تعيينك مديرا للحسابات…
اندهش حسام من العرض وترتيب العبارات …
إلتزم الصمت
فمدت يدها وأعطته ملف التوظيف
وطلبت منه أن يملأ الخانات والبيانات …
ارتفع نبض قلبه وزاد الخفقان في ركبه…
جف لعابه فخرج
لم يعلم كيف خرج ومتى تخطى الدرج…
دخل البيت فنبش الأوراق وشتت باحثا عن صورة عصمت
ثم اتصل بسهام
وأطلعها على مضمون الكلام…
حضرت ومعها صورة عصمت
حيث كانت تحتفظ بها وتعتبره فارس أحلامها..
قاما بمقارنة الصورة بالصورة التي إلتقطها حسام بجواله في مكتبها خلسة…
أكدت سهام أن هذا هو عصمت بذاته…
ملأ حسام البيانات والجداول
حضر فسلمها وكان ذلك تحصيل حاصل….
باشر عمله فأبدع… فتضاعف راتبه
أتت سهام لزيارة حسام
وأثناء تواجدها في مكتبه
دخلت المديرة
وقف حسام إحترام
فإلتفتت سهام فإذا بعصمت
لم تتمالك عصمت فأرتمت بحضن سهام
وقفت سهام مذهولة مشلولة
ما الذي حدث وجرى
كيف تحول الذكر إلى أنثى ..
ردت: ممكن تحلي علي ضيف يا سهام وسوف أطلعك على مضمون الكلام…
وافقت سهام على مضض بعد أن كان حسام قد اعترض…
بعد أن سردت عليها قصتها قالت: هذه هي حكايتي يا سهام من البداية للختام ..
ج

ازداد التوتر والقلق لدى مرام
فأتصلت بعصمت على جواله .
الو عصمت؟
رد : نعم؟
إنت فين مختفي أقلقتني عليك.
رد : أنا في الطريق  إليك..
استبشرت بالخير
ورتبت البيت …
فُتح الباب نظرت فإذا بتلك الفتاة
تدخل وعليها أحسن هندام
فترد السلام وتتجه غرفة عصمت ..
سقطت مرام وأغمي عليها
خرجت عصمت حاولت إيقاظها
وبعد أن رشتها بالماء أفاقت
وبمجرد أن نظرت لمن أيقظها
عادت في غيبوبتها…
كان لدى عصمت موعد هام
فغادرت البيت …

أما مرام بعد أن صحت فقد أبلغت سعاد بأن منزلها باتت تسكنه الهوام
وأن عصمت اختفى وظهرت بدلا عنه فتاة من الجان تدخل المنزل بدون استئذان…
ردت سعاد بأنها على اتصال بعصمت بإستمرار
وان كل ما يحدث لها مجرد أوهام من الوحدة وتوتر أعصاب
وأنها ستأتي بمجرد إنتهاء الاستطباب .
ألمت بسعاد العلل فأحتاجت للمال
فطلبت من محاميها عرض منزلها للبيع على وجه الاستعجال…
تم البيع فغادرت مرام وهي في اسوأ حال…
أتى سُعاد الأجل قبل وصول المال.ِ.
وعند الاطلاع على وصيتها
وجدوا أنها قد أوصت لعصمت فرغلي بثلث تركتها…
بشرط أن يتزوج من مرام الخدامة…
عاد الورثة إلى البلاد
فطلبوا من المحامي حصر التركة
وإعلان الموصى له وتحديد ميعاد …
لم يتمكن المحامي من العثور على عصمت فرغلي
إلا انه عثر على مرام …
أطلعها على لُب الكلام.ِ..
فقالت: هذه منيتي إلا أنها المحال بعينه
فعصمت اختفى وظهرت بدلا عنه لعينة…
تم نشر الوصية في صحيفة..
اطلعت عصمت على الوصية
تشوش فكرها واحتارت في أمرها…
فالوصية بإسمها
إلا إن الشرط أوضح أن الموصى له ذكر … بينما هي أنثى…
مضت ثلاثة شهور … وهي مستغرقة في التدبير والتفكير وقياس الأمور…
خلال هذه الفترة لمحت إعلان بيع فله… تعود لأحد الجزارين…
فقررت خوض المزاد علها تفوز بها
خاضت الغمار فجنت الثمار
فحضرت مع المحامي إجراءات التسليم …
فخرج أفراد العائلة والنساء مطأطئات الرؤوس يتلفتن إلى الوراء …
اقتربت من إحداهن
بغرض استيضاح ما جرى.ِ.
تفاجأت بأن هذه الفتاه ندى.ِ.
تمهلت لعل عيناها قد خانتها …
فسألتها…
تعتريها الحيرة…
يا آنسة ممكن تحكي لي سبب بيعكم للفلة…
رفعت رأسها تظهر على وجهها المسكنة والذلة…
حدثت خناقة إثر تنافس بين أصحاب المسالخ …
اقتحم أصحاب المسلخ المجاور
مسلخ والدي…
حاملين السكاكين والهراوات بالأيدي..
فوقعت مشاجرة كبيرة …
نتج عنها مقتل اثنين وإصابة اخوي …
وجهت تهمة القتل إلى والدي
وإخوتي أودعوا السجن
وها نحن كما تري…
إلى أين انتم ذاهبين … ؟
لا ندري المهم نخلي الفلة للمشتري..
كي نتمكن من تسديد الغرامات ودفع الديات…
ما اسمك يا آنسة؟
:وماذا ترجين من اسم فتاة بائسة؟
:فقط للتعارف ربما يكن بيننا تآلف.
اسمي ندى وهذه قصتنا من المبتدأ إلى المنتهى…
فقالت في ذاتها:
سبحان مغير الأحوال …
من يصدق أن هذه ندى
صاحبه التباهي والغرور والدلال
فقد حل محلهما الإذلال…
همت ندى بالانصراف واللحاق بالعائلة..
فطلبت منهم الانتظار والوقوف…
حتى تنظر إلى الفلة وتطوف…
تكوموا تحت الشجرة
وتبادلوا الهمس ماذا تريد منا هذه المرأة…
عادت إليهم بمنظر مهاب بعد أن أقفلت الباب…
فقالت خذي يا ندى مفاتيح الدور الأرضي
اسكنوا فيه أثناء فترة غيابي
عسى أن يفرج عنكم ربي …
تهللت وجوههم بالفرح والسرور ودعوا لها بالدعاء المأثور…
فقالت: خذوا هذا الكرت فيه اسمي ورقمي ..
إن عرض لكم عارض عليكم إبلاغي..
انصرفت مع المحامي وضميرها عما فعلته راضي…
في المساء تفحصت الكرت ندى..
. عصمت علاء رشيد فرغلي .
يالهذا الاسم من معنى..
إلا ان ذلك ذكر وهذه انثى..
فتحت الدولاب لتعيد الثياب الى موضعها المعهود..
فعثرت على مبلغ من النقود…
فصاحت ولاحت فحضرت حولها العائلة
فحمدت الله وشكرت ..
فها هيا يد الخير إليهم امتدت …
أرينا يا ندى اسم هذه المرأة الكريم
علنا نستوضح فعلها هذا العظيم…
فبدأ الهم والغم ينتاب ندى
على ما بدر منها وما جرى …
لمثل هذا الاسم في أعوامها الأولى…
واستمر كابوس عصمت ينغص حياة ندى
فتارة يأتيها بهيئة شبح برأسين
وأخرى يبرز بصورة غوريلا بجناحين..
تراه في سقف الغرفة قبل أن تنام …
تمشي فتسمع الصدى على أبعد مدى.. فتقف كي تسمع النداء
أصوات متداخلة تصرخ يا ندى…
كأنها صادرة من مأتم أو وكر ببغاء..
مع تقدم الأيام ظهرت عليلة نحيلة كمن أصابها سُقام…
لم يبق من جسدها سوى العظام
لازمت الفراش وقطعت المعاش…

كانت عصمت تزورهم بين الفينة والأخرى ِ..
فتجود عليهم بما كتب الله وأعطى…

عادت عصمت لهواجس الميراث
فقد سئمت من التغاضي وعدم الاكتراث…
فمرام لم تترك مخيلتها
وهي ترى وجوب إستحقاقها وأحقيتها…
فمرام من أسرة فقيرة تبحث عن اللقمة…
بالصدفة مرت بالقرب من زاوية جامع…
فسمعت صوت واعظ طالع .ِِ
همت بالدخول إليه
لتطلعت على فحوى الوصية وتسمع رأيه..
ترددت بعد ان رأت ملابسها غير محتشمة
شاهدت محل ملابس نساء بالقرب من الزاوية…
فدخلت وارتدت عباية…
فذهبت إلى الواعظ
جلست على مقربة
محجبة منقبة…
أكمل الواعظ وعظه
فانصرف الطلاب من حوله…
نهض واستقام وإليها وجه الكلام…
هل لك من حاجة اقضيها أو خدمة أسديها…؟
:نعم لدي مسألة شائكة
حيرتني شهور
ريشها نابت
ومنقارها مبتور
رد: عافاك الله وهداك أفصحي عن مقصدك…
هل فقدتِ عذريتك…؟
قالت: حاشاك الله
بل طالتني وصية من سيدة فاضلة
بثلث المال
وكانت قد عهدتني في حياتها راجل من اوفى الرجال…
وحين أعلنت الوصية وذاع الخبر
ها أنت تراني أنثى وليس ذكر…
وفي الوصية شرط واجب التمام
وهو زواجي من مرام…
فهل لك مما أنا فيه فتوى مسموعة
أو حيلة مشروعة…؟
رد: ومن هي مرام؟
خدامة صاحبة الوصية سيدة المقام…
أطبق رأسه على يديه برهة
ثم
قال: اكشفي كفيك وقدميك وأميطي النقاب عن وجهك وأريني خصلة من شعر راسك…
ففعلت ما أراد علها تنال المراد…
فقال: نلتقي بعد شهر في هذا الميعاد….

عادت عصمت إلى مكتبها على الساحل
تفقدت المراكب
وتسويق المنتجات
ورفعت لدى الصيادين المعنويات
فعمت الخيرات وزادت المهيات …
لمحت على وجه حسام الإرهاق .ِ
فظنته إلى سهام قد اشتاق…
منحته إجازة كي يجدد نشاطه…
قال: لا حاجة لي بذلك فكل ما هُنالك
أن سهام جفتني بخصام ..
ردت: دعك من هذا
فهنا ساحة عمل وليس مكان لتبادل العشق والغرام…
مخصوم من راتبك عشرة أيام…
استغرب حسام من كلام عصمت الشديد
المصحوب بالتهديد والوعيد…
قال في نفسه
سأبقى على عملي لن ابدأ ولن أعيد…
انصرفت عصمت بعد أن أحست بتأنيب الضمير…
وقالت في ذاتها
هل الغيرة أذهبت عني البصيرة
هل أحاول أن أخطف من سهام خطيبها حسام… 
سأعود إلى الواعظ
وصلت في نفس الميعاد مرتدية نفس الجلباب والنقاب…
فلما رأها استقام
فقال: أتيتك بفتوى لحالك…
أعتبري نفسك زوج هالك
مات دون أن يخلف
فترث زوجته ربع الوصية
فرضا بالإضافة لإستحقاقها مهر المثل…
وبذلك تذهب الوصية إلى مستحقتها مرام…
فما عليك إلا البحث عن مرام وإبرام عقد زواج ثم إعلان الوفاة …
فلن يطآلك اثر … فأنت أنثى و المتوفى ذكر… حسم الخبر…
والثانية : أتيتك بحيلة أبى الحيل …
فمن الوجهة الشرعية فأنت خنثى مشكل …
سألت :وما هو الخنثى المشكل؟
رد: المولود الذي يولد وأعضائه التناسلية  مخفية
فلا هو بالذكر ولا هو بالأنثى
إذ لا يوجد ظاهر منها سوى ثقب خروج البول…
فيحتار أبويه فيعطوه صفة الذكر
بإعتبار ما سيكون …
فإن بلغ مرحلة الصبا
إما أن تغلب علية صفة الذكر
أو الأنثى…
وأنت ظهرت عليك علامات الأنوثة
فعدت لأصلك أنثى..

فارتديت ملابس النساء ونثرت العطور وكنت في ذلك معذور…
فتستحق الوصية وتكن حاجتك مقضية…
فإن طلبك القاضي للحضور أوضحت له كل تلك الأمور..
أنه بعد صدور الوصية ظهرت عليك العلامات الأنثويه..
شكرت الواعظ شكر مبجل وأجزلته بالمال على عجل ..
رأت عصمت
أن حيلة الخنثى المشكل
هي الأنسب وإلى الصواب هي الأقرب…
ذهبت إلي المحامي وطلبت حصتها من الميراث …
رفض طلبها ولم يعطيها أدنى اكتراث
تقدمت بدعوى استحقاق الوصية إلى المحكمة

طلب منها القاضي إثبات صحة دعواها
فأحضرت الشهادات المدرسية
بأنها طالب وليس طالبة
تم أستدعاء مرام
قضت المحكمة بإستحقاق مرام الوصية كاملة غير منقوصة…
استنادا إلى قصد وإرادة صاحبة الوصية
والتي صبت في مصلحة مرام
من خلال الشرط المقرون وهو الزواج الميمون…
فالباعث على الوصية كان بغرض التحفيز على الزواج
ولو علمت أن عصمت أنثى لم تكن تعقد الوصية بإسمها وإنما كانت ستكتب بإسم مرام
هكذا قضت محاكم التفتيش
رغم قطع المنقار ونبت الريش

كانت عصمت سعيدة بذهاب الوصية لمرام
فذهبت إلى الواعظ وأعطته هدية
امتنانا لحيلته الذكية…
أما مرام فغابت وسط الزحام مختفية
هربا من عصمت الجنية….
تناولت الصحف
قصة عصمت الجرسون
بالزيادة المملة والنقصان المخل التام
فكانت حديث المقاهي والنوادي
ووسائل الإعلام .
شاهدت ندى عرض قصة الجرسون عصمت على التلفاز…
تأكدت أنه عصمت زميل الدراسة
فخجلت وتمنت أن تبتلعها الأرض
قبل أن تنظر إلى عيني عصمت
سارعت للاتصال بسهام 
فحددت معها ميعاد ..
كانت سهام قد تعرفت على مرام
في جلسة المحكمة
اتصلت بها وأحضرتها بصحبتها
التقيا الثلاث في مسبح للنساء
اتضحت لديهن الحقيقة بجلاء
وهي أن عصمت الطالب الولد
هو نفسه الأن عصمت الأنثى …
تذكرت مرام عندما شاهدت في أذنيه الأخرام…
فقالت: قد أخطأت فأعتبرتها فتاة من الجان وليس من بني الإنسان …
فهاهي عصمت صاحبة الفضيلة والقيم النبيلة…
قالت: ندى هل تعتقدي يا سهام
أن عصمت قد عرفتني …
ورغم ذلك أكرمتني… ؟
أم أنها إذا عرفتني ستذكر الماضي وتقوم بطردي ..
ردت سهام: دعك من الأوهام فعصمت بعيدة كل البعد عن روح الانتقام…
ولكن مشكلتي الأن مع حسام …
فانا على علم تام… بماكان بين عصمت وحسام من ألفة وانسجام…
إذا تأكد لي أن ما بينهما باق …
عندها يتعين عليا اللحاق…
سأعطي حسام الدبلة وافسخ الخطبة .
ردت مرام: عليك التأكد قبل الأقدام على هذه الخطوة…
انتهى اللقاء وتفرق الأصدقاء … ندى تخشى… وسهام تتأنى… ومرام تتمنى اللقاء…
قررت ندى الإقدام على ما هو هام …
انتهزت فرصة زيارة عصمت المعهودة …
للفلة…
فارتمت بين قدميها تنهمر الدموع من عينيها…
على مرأ ومسمع كل أفراد عائلتها…
جثت عصمت على ركبتيها
ماسحة الدموع من خديها ..
ثم حملتها بين ذراعيها
ووضعتها على السرير …
وأسقتها كوب عصير….
رثت حالها مما حل بها وابتلاها…
قائله: ابشري باقتراب موعد خروج والدك وأخويك من السجن خلال الفترة القريبة…
بعد سداد الدية وانقضى نصف مدة العقوبة…
ردت: بدموع غزيرة كينبوع الماء…
وارادت النطق إلا أن جفاف لسانها جعلها على النطق لا تقوى….
:شعرت عصمت أن ندى  ترج السماح..
فجادت بكرمها راجية تخفيف ألمها…
فقالت: اللهم اعف عن ندى في كل ما بدر منها وجرى…
وأعني وإياها على البر والتقوى…
فأجسادنا على النار لا تقوى…
فنهضت ندى من ساعتها وبرئت من علتها
وذهبت عنها الأوهام والأشباح التي كانت تطاردها…
ثم أعطتها رأس مال فتحت به محل تطريز وخياطة
وبذلك أضحت في قمة السعادة..
بعد  خروج أبيها وأخويها من خلف قضبان الحديد… 
وأعادت فتح المسلخ من جديد….

ساءت ظروف سهام المعيشية
بعد إحالت والدها على المهية
فزارت عصمت في مكتبها شارحة لها قصتها
فأسندت إليها وظيفة في الشركة وعينتها سكرتيرة
هكذا أتوا أصحاب الشهادات الجامعية
طالبين الوظيفة لدى عصمت التي لم يتجاوز مؤهلها مستوى محو الأمية…
بادرت مرام بزيارة عصمت . تبتسمت عصمت ابتسامة لقاء الأصحاب..
بينما مرام تنهمر من عيناها دموع العتاب..
قالت عصمت: إعتبريني سعاد
وابقي عندي على عملك المعتاد…
وافقت مرام رغم ثراها ..
فسعدت وطاب بقائها…

تكررت زيارة بركان الهائم الولهان
لمنزل عصمت بحثا عن عمل …
كان بركان قد اعتدل بعد أن حل به ما حل…
فلا ميراث حصل ولا فرصة عمل…
أنست به مرام وأنس بها وعلى سنة الله طلبها.
في احد الأيام طلبت عصمت
من سكرتيرتها سهام
إبلاغ حسام بالحضور لمناقشة أمر هام ..
.
حضر وبقي مع عصمت في المكتب عدة ساعات في مناقشة بعض الملفات…
اجتاحت سهام الغيرة
تركت المكتب وغادرت قبل الظهيرة .
ضغطت عصمت على جرس السكرتيرة .. مرتين..
لم تدخل حسب المألوف…
خرج حسام ليجد دبلة الخطوبة على الطاولة… ولم تكن سهام موجودة…
عاد لعصمت وشرح لها القصة…
ردت بعد أن تبسمت إنها الغيرة تعمي البصيرة…
خذ الدبلة معاك حتى تتصالح وإياك…
غابت سهام عدة ايام …
فأرسلت لها عصمت أخيها عفيف
اللطيف الظريف..
حاملا إليها الدبلة…
ضغط الجرس وعلى حافة الباب جلس…
فتحت الباب امرأة مسنة
بقت إليه ناظرة لم تتفوه بكلمة..
قال: هذا منزل سهام السكرتيرة ؟
نعم: ماذا تريد أنا والدتها؟
أتيت لها بدبلة الخطوبة التي ضاعت منها..
تفضل ادخل سأناديها
الأن عرفت سبب حزنها وإنعزالها في غرفتها…
حضرت سهام فرحبت بعفيف صاحب الدم الخفيف…
سريع الكلام دائم الابتسام…
ذهبت والدتها لتجهيز الشاي

قال : تفضلي هذه الدبلة وجدتها على طاولت مكتبك مرمية…
ذرفت من عينيها الدموع وقالت لا أريد فتح هذا الموضوع…
شارحة عليه قصة عصمت وحسام من البداية للختام.. وما كانا عليه من ود وانسجام…في سالف الأعوام..
وأخبرته بأن ما أقدمت عليه أمر قاطع غير قابل للتراجع…
اعد إليه الدبلة وابلغه فسخي للخطبة…
رد: بشرط أن تعودي للعمل ..
فحضوري كان لإعادتك وليس إرجاع دبلتك…
أنت لا تعرفي قيمة نفسك وذاتك …
فقد مضت ثلاثة أيام زلل…
من دخل المكتب تلفت وعليك سأل:
أين صاحبة المُقل؟
أين من لا تُكل ولا تُمل…
صاحبة الهامة الرفيعة والابتسامة العريضة…
أين الشقراء العنقاء صاحبت الوجه الوضاء…
فإن لم يعثر عليك ذهب
بعد أن يحجم عن تقديم أي طلب…
فعن المكتب تراجعت الأقدام وخف الزحام… هل هذا يرضيك يا آنسة سهام…
نظرت إليه بذهول وقالت : هذا غير معقول.
خذ الدبلة واذهب غدا ستراني في المكتب…
في بداية الدوام
خرجت عصمت وحسام
لجرد المحلات وتحصيل الإيرادات…
وفي احد المراكب تكعبلت عصمت فسقطت في البحر غرقت وعن الأنظار توارت…
قفز حسام خلفها في البحر عام كأنه سهم من السهام…
انتشلها من الأعماق وحملها على الأعناق…
وإلى المركب حملها على ساعداه بعد أن افرغ ما في جوفها من المياه…
تنفست الصعداء بعد أن أعطاها قبلة الحياة…
فتحت عيناها فوقعت في عيني حسام
فرنت إليه كما ترن إلى فراخها الحمام…
كانت شبه عارية من الثياب
بعد أن ابتلت وعلى جسدها التصقت
فبدت مفاتنها…
احتضنها بعفاف وطلب من الحاضرين الانصراف…
عادت إليها جوارحها فوجدت نفسها في حضن فارسها…
احتشمت وعلى حافت المركب جلست…
فتبسمت وإلى حسام بكلمات الشكر والعرفان تقدمت… مدينة لك بحياتي…
ثم نظرت إلى البحر وأخذت نفس عميق وقالت: مخاطبة البحر…
رغم ظلمك أنصفتني وبنصفي الضائع جمعتني …
هجت فهاج فؤادي …ومن قعرك حملني جوادي…
أحب قدماي اللاتي أوقعتني … وأعشق الأمواج على ابتلاعي….

في البحر الزاخر غرقت الهواتف والأوراق والدفاتر..
علمت سهام بالواقعة فاتت مسرعة… 
فشاهدت عصمت مستلقية
وحسام يقوم بتدفئتها بحنية…
اتسعت  بين سهام وحسام الهوة..
وحلت محل الود الجفوة…
انتزعته من أحشائها مثلما تُنتزع من الجسد النبلة…
عادت من حيث أتت وعلى المكتب قعدت…
حضر عفيف أطرى عليها وأثنى..
وقال: من دونك الحياة ليس لها معنى… استدرك ضاحك قصدي الشركة…
تبسمت رغم غيظها… وقهقهت…
وبشت به أيما بشاشة…
فكان يمضي معها جُل أوقاته..
صار حسام بالنسبة لسهام زميل عمل
فكان تعاملهما رسمي بالعبارات والجمل…
أوعز عفيف إلى عصمت أن تخطب له سهام …
تفاجأت عصمت وقالت في نفسها
هذا هو القصد والمرام..ِ
تمت الخطبة واقيمت حفلة …
حضر الجميع وكانت سهام فيها نجمة …
اقترب ما كان ابعد
فصار حسام بالنسبة لعصمت في متناول اليد…
ظهرت علاقتهم على الملأ
فخطب حسام السيد/ عصمت علاء
فانقشع الغيم وانجلا …
تم ترتيب الزفة وعلى الشاطئ كانت الحفلة…
كان عُرس جماعي سعيد حضرة القريب والبعيد…
وكان من ضمن الحضور ندي رائدة الفصل الأولى…
عُقد قران بركان بمرام
وعفيف بسهام
وعصمت بحسام
وبهذا الحفل السعيد
أضحت الأيام عيد
أعقب الحفل لقاء صحفي مع عصمت..
أذيع على الشاشات وخُط على الحيطان والأسوار…
لفت الأنظار وجذب الأفكار…
المرأة المتحورة …
من ذكر إلى أنثى…
من جرسون جوال…
إلى سيدة أعمال….

بادرها الصحفي بهذا السؤال;
بما أنك عشت حياة الذكر والأنثى أيهم كان إليك أجدى؟ …
هُنا أُسدل الستار
وإلى المشاهد والمستمع انتقل الحوار….

وفي النهاية والختام صلوا على خير الأنام…
اللهم صل و سلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن تبعه بإحسان من اليوم إلى يوم الدين، آمين ..

تاريخ النشر : 2021-09-08

الفهد

اليمن . للتواصل مع الكاتب : [email protected]
guest
27 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى