البئر المسكون – الجزء الثاني
كانت نفس المرأة التي هاجمتني سابقاً ، لكنها الآن كانت ملتحفة بكفن أبيض غطى جسدها الذي تجاوز المترين |
فقد تركتها حتى تأتي أختي غداً لمساعدتي كما وعدتني، خرجت بعدها متجولاً بين الأشجار في الحديقة المحاذية للبستان مستمتعاً بالشمس و هي تودع هذا الوجه من الأرض مرة أخرى، أتى صوت مؤذن القرية البعيد في موعده تماما كما اعتاد منذ 14 قرن أغمضت عيني وأنا انصت إلى صداه المختلط بصوت الطيور التي ملأت الأشجار معششة لاستقبال الليل وهمس النسيم العذب يداعب أذناي، لتحل علي لحظة من السكون و الطمأنينة الداخلية اللذيذة مدركاً في حينها أنني قد أقضي باقي عمري هنا على هذه الأرض، استدرت نحو المنزل و رمقته بحنين ، تلك لم تكن فكرة سيئة.
دخلت المرحاض وضغطت على زر الإنارة لكن المصباح لم ينر، حاولت مجدداً و ضربت الزر بشدة وكاستجابة لذلك سطع المصباح بقوة وانفجر راشاً المرحاض بالزجاج ،سحبت الهواء متفاجئاً و زفرت بعض السباب واللعنات، نفضت عن شعري الرذاذ الذي علق به وتقدمت في الظلام مرتديا بلغة تقيني من شظايا الانفجار الصغير، وبمساعدة من ضوء الرواق الذي تسلل منه القليل حاولت أن أقضي حاجتي بلا أية حوادث أخرى، و أنا كذلك ادركت مدى السكون والصمت الخانق المطبق على البيت نتاجا لزوال سكانه، فالتوت جمرة الفقد بقلبي كعادتها من دون تحذير أو رحمة محاولة غرس نفسها أعمق لكن شغاف قلبي كان قد تيبس قبل أن تخترقه ولم يسمح لها بنيل مرادها هذه المرة، غير أنني أصبت بالإحباط وتعكر مزاجي فجأة،
فأخرجت زفيراً طويلاً أفرغت كلتا رئتي خلاله، وقبل أن أستنشق الهواء تحرك الزجاج في الظلام، اعتقدت في البداية أنها قطعة لم تكن قد أكملت سقوطها أو أنها تحركت بتشجيع من نسمة لم احس بها لكن الصوت استمر بالتردد، لقد كان صوت شيء يتقدم بين شذرات الزجاج الصغيرة والذي كنت لن آبه له لو لم تكن دثارة الصمت المحيطة بي موجودة، فقد كان واضحا جداً حتى أنني استطعت معرفة مكانه بالتحديد و بدا من حركته البطيئة والمتوجهة نحو الباب أنه يعلم أنني هنا، تسمرت عيناي على بقعة الظلام التي أتى منها الصوت، فتوقف فجأة ثم انطلق الشيء من الظلام و رأيت خيال ظله الطويل و الرقيق يزحف هارباً ماراً من الباب، لم يكن جرذاً كما خطر لي أول الأمر، لقد كانت أفعى، تداركت نفسي و جريت وراءها مطلاً من الباب لألمح جسدها يزحف بجانب الجدار وهي تتوجه نحو غرفتي، تحقق أسوء سيناريو، التقطت مكنسة وجريت وراءها مصدرا عدة أصوات محاولاً جذب انتباهها أو على الأقل إبعادها عن غرفتي ،
و رغم ذلك كانت قد اقتربت من الغرفة في سرعة رهيبة ، غير أنها بدل أن تلتفت لبابها المفتوح يساراً انعطفت يمينا و دخلت من خلال ثقب مهترئ في باب الغرفة المقابلة، استراح قلبي كثيراً حين لم تدخل غرفتي ، لكن رجفة رؤية أفعى لم تزل عالقة به، كان الأمر واضحاً يجب عليها أن تخرج من هذا المنزل أو أن تموت بداخله ، قفزت إلى غرفتي قابضاً سلسلة المفاتيح وفتحت الباب الموصد ببطء ، لم أمرر خلال الشق الصغير الذي صنعته سوى يدي التي لطمت الجدار بهستيريا حتى صفعت زر النور سطع الضوء وفتحت الباب بقوة وكأنني عضو من فرقة التدخل السريع، لمحت الأفعى السوداء مباشرة فلقد كانت تتسلق عصا اتكأت على اطار النافذة المفتوحة قليلاً ، التف رأسها نحوي وأطلقت فحيحاً رهيباً ، فتراجعت غريزيا خطوة للوراء وقد اقشعر بدني ،
لكن ردت فعلها العنيفة أسقطت العصى وهوت بها إلى الأرض ، و بدورها تبعتها الأفعى، ومن دون تفكير أنزلت المكنسة على جسدها لتتفاداها الأفعى بسرعة لا تليق إلا بجني ، لكنني لم أتوقف وبغوغاء وهمجية تتالت عليها الضربات وهي تسعى محاولة الهرب ، فأصابت بعضها جسدها الطويل لكنها لم تمس رأسها ، فاستمرت في الحركة محاولة الهرب بلا طائل ، لأجدها و تجد نفسها محاصرة عند الزاوية ، توقفت حركتها المجنونة للحظة والتوت حول نفسها مطلقة فحيحاً ضعيفاً هذه المرة و كأن أنفاسها قُطعت ، مسني فحيحها المبحوح بشيء من الشفقة ، لكن يداي كانتا مرفوعتان وقد اشتدتا استعدادا للضربة القاضية ، تماماً كما شاهدتها وقرأتها في ألف قصة، نزلت الضربة بقسوة على رأسها وأحسست بشيء صغير يهشم تحت النهاية البلاستيكية القاسية للمكنسة ، لكن عطشي للدماء لم يكن قد ارتوى بعد ،
فرفعت سلاحي مجدداً للضربة الحاسمة التي تفصل الشك من اليقين ،ليرتفع جسدها ملتصقاً بالمكنسة مفارقة إياها بعد لقاء سريع، فنقطت جثتها المرتخية من فقدان الحياة إلى الأرض منقلبة وكاشفة عن بطنها ناصع البياض فاغرة عن فاهها الذي نزلت منه ساقية دم صغيرة، تمكنت الشفقة التي مست قلبي آنف منه وحدت من سطوة غريزتي الهمجية عليه فأرخيت يداي أحس بارتجافهما من أثر الأدرينالين ، نزلت مقرفصاً متفقداً جثة المخلوق وأنفاسي قد بدأت تهدأ، كان من الواضح أنها ميتة ، لكنني لكزتها عدة مرات من باب الاحتياط ، بدت لي الآن حقيقتها و مدى ضآلة جسدها الذي خُيّل لي في هلعي أنه يكاد يصل للمتر وكذا حراشفها الخضراء والمزركشة والتي رآها بصري المشوش سوداء كالقطران،
ثم اكتشفت وأنا أتفقد فمها المفتوح أنها ليست سامة حتى ، فقد افتقد فاهها الصغير الأنياب الأمامية المميزة لكل أفعى قاتلة، أدركت حينها في لحظة حقيقة مع نفسي أن أغلبنا يرى ما يرى بعاطفته ولا يعمل عينيه ولا حتى عقله، وضعف البصيرة ذاك هو ما يغرس و يرعى كثيراً من جذور الأوهام في حياتنا و التي نكتشف حقيقتها دائماً بعد فوات الأوان، بعد أن يقتل قابيل هابيل، فنصبح من النادمين.
ثم ابتسمت متذكراً أختي وأخي، فقد حُسم موضوع ارثنا بسلاسة ، سمحا لي في حقهما من المنزل وتركاه لي كله رغم أنني لم أطلبه إطلاقاً ، واكتفيا بحقهما من البستان و أرضه على أن أستأجره منهما بمبلغ زهيد جداً إن قورن بثمن السوق، ابتسمت رغم الفوضى التي عمت بيت الجيران ونفسي كلها حبور، فالمرء لا يدرك قيمة ما عنده حتى يرى حالة المحروم منه ، لم أرد أن أطيل تجسسي عليهم فذلك من سوء الجوار وأنا حديث عهد بهم فلففت وجهي نحو حاسوبي وفارقت النافذة داعياً لهم بالصلح والمودة، و من الظاهر أن دعائي كان سريع الاستجابة، فلم أكن قد اقتربت من كرسي حتى لتتوقف الضجة، لم تخبوا أو تضعف تدريجياً بشكل طبيعي، بل قُطعت في منتصفها و كأن قابس المذياع أو التلفاز قد نُزع ، وما أدراني فربما مصدر الضوضاء كان التلفاز من البداية أو ما شابه ، وعلى أية حال لقد بدأت بفقد اهتمامي، لكن يدي توقفت فوق زر البدء من دون أن تضغط عليه، فان فكرة غريبة بدأت تراودني، ففي الواقع هناك احتمالين لمصدر الضجيج، الأول وهو البديهي كان منزل الجيران و ذلك ما خطر على بالي أول مرة ، أما الثاني و الغير معقول هو …
لكن على الأقل طارت من مخيلتي صورة العملاق الذي استوطن ظلام الغرفة لتستبدل بحقيقة مخلوق أسود ملتصق بالزاوية العلوية تماما تحت سريري وبالتحديد أين أضع رأسي، ولدت فكرة مضحكة في مخي دليلاً على أن الجنون قد بدء ينال منه، فلقد كانت وضعيته وهو ملتصق في الزاوية بأطرافه أشبه بوضعية الرجل العنكبوت، تحرك فاهي الشبه مفتوح محاولاً رسم ابتسامة ، لكن لا شيء سواه من أعضاء وجهي ، و يبدو أنها لم تعجب ذلك الذي في الزاوية، فارتخى وترك جسده ينزل من محله ليقع على سريري الذي أطلق صريراً حاداً محتجاً فيه من ثقل ما يحمل، وقع الشيء مقرفصاً ثم استقام لتظهر ملامحه الوحشية بوضوح، أمتد ذراعاه الطويلتان المغطاة بفرو أسود كباقي جسده حتى كادت مخالبه تلامس الأرض ، ابتسم مكشراً عن أنيابه الملتوية لكن عيناه البيضاويتان لم تحملا أي جدل أو سرور على وجهه الخنزيري السمج ،
لم أتحرر من تجمدي حتى حول أحد رجليه من السرير إلى الأرض نحوي، لينتفض جسدي وأنقض بكلتا يدي على مقبض الباب الذي قاوم رغبتي في الهروب، سمعت من خلفي وقع حافره الثاني على الأرض وصوت السرير وهو يتنفس مستريحاً بعد أن تخلص من وزنه، لألوي المقبض بشدة كادت تكسره، فانفلق الباب فاتحا أمامي مهربي من النور الغرفة إلى ظلام الرواق، لكنني لم أعد آبه فليس هناك فرق بينهما ، ارتميت في الرواق بعد أن سمعت لهاثه الثقيل يقترب مني، وبهلع انطلقت نحو الدرج بسرعة رهيبة ، رغم ذلك أحسست بأنها غير كافية للنجاة من براثنه، و كأي فيلم رعب فلا بد من أنه موبوء “بالكليشاي”، لم أطل هرولتي لأتعثر بشيء في منتصف الطريق، أمام باب غرفة مغلق، التفت خلفي متفقداً مطاردي ، أطلت فنطيسته ليظهر بعد لحظة وجهه وهو لا يزال يرمقني بتلك النظرة وبتلك الأعين، أعطاني ذلك شحنة رعب جديدة شجعتني على مسابقة الريح مجددا،
ولم أكن قد استقمت من سقوطي حتى فتح الباب الموصد بالمفتاح كأن لا شيء يعيقه ، وأطل علي من الاطار العلوي له وجه امرأة طويل وشاحب ذات عينين سوداويتين جامدتين، أصدرت صوت غرغرة عميق و وجهها قد بدأ ينسحب نحو الظلام حتى اختفى، لتمسك بي فجأة يدها الزرقاء محاولة دعوتي إلى غرفتها السوداء، تشبثت بالأرض حتى انشق أحد أظافري وتحرر من موضعه ، استدرت نحو الغرفة التي سحب نصف جسدي نحوها وبرجلي الحرة ركلت الظلام حتى صاحت مزمجرة وألقت بي خارج الغرفة ليصطدم رأسي بالجدار موصده الباب بعنف ، لم أسترح طويلاً فخلال معركتي الصغيرة تلك كنت أسمع وطء حوافره على الأرض و هو يتقدم، التفت بسرعة نحو اليسار متذكراً إياه ، لأتفاجأ بذراعه الطويلة الممتدة نحوي ومخالب يده التي كادت تحتوي عنقي،
في تلك اللحظة أحسست حقاً بتلك البرودة التي تعم جسدك قبل خروج روحك، بلعة ريقاً لم يكن موجوداً وأدركت أنني قد أموت حقاً ، فانتفضت غريزة البقاء بداخلي مجدداً ، وانفجرت صارخا ًوأنا أتراجع جاراً نفسي على الأرض، لاحظت قبضته تنكمش على الهواء عاصرة إياه في غضب، استقمت على رجلي وأنا لم أعد اصدق أن السلالم كانت بهذا البعد عن غرفتي منذ الصغر، اصطدمت بالجدار كوني كنت أجري بكل ما عندي، واستعديت للقفز الأدراج غير مكترثاً باحتمال إصابتي بعد ارتطامي بشيء في الظلام، فمهما حاولت لم أستطع تبين أثر أي شيء في العتمة التي عمت الطابق الأول، لم أتردد طويلاً ، لكن كل أمل بالنجاة بهت بعد أن رأيتها تصعد السلالم، كانت نفس المرأة التي هاجمتني سابقاً ، لكنها الآن كانت ملتحفة بكفن أبيض غطى جسدها الذي تجاوز المترين ، سمعت فقراتها تكسر بعد أن استدار رأسها نحوي بزاوية مستحيلة، وعلى عكس الرجل الخنزير فان حركتها كانت أسرع وهادفة،
التفت إلى كليهما وأنفاسي تكاد تتحور إلى نحيب من انعدام مهرب، و كأي مخلوق محاصر استولى على عقلي اليأس وقمت بحركة بائسة للنجاة، قفزت مباشرة من أعلى السلالم إلى الطابق السفلي، لكن أحد قدمي تعثر بعمود الدرج فوقعت رأساً نحو الأرض ، ولولا أنني لم ألتف في الهواء لكانت دُقت عنقي فور اصطدامي بالأرض ، سافرت عبر الهواء لأقع على ذراعي الأيسر وأسمع عظمه ينشق و ينكسر، لم أشعر بأي ألم ، لكن موجة من الغثيان اكتسحتني بعنف شديد ، فأفرغت كل ما ابتلعته آنفا دفعة واحدة، انطلقت ضحكة مريضة من شبح المرأة الطويلة رأيت جسدها يرتعش في نشوة وفاهها يفتح ويغلق بجنون محرراً صوت الضحك القبيح نازلة من الدرج نحوي، حاولت النهوض وعيناي الغارقتان في الدموع كن أثر تقيئي تتبعان وهجها الشبحي ، لكن يدي وقعت على موضع قيئي وانزلقت معيدة جسدي الذي ارتكز عليها تماماً نحو الأرض، استنزفت كل طاقتي وخلى فؤادي من أي إحساس ، حتى الرعب الذي نهشه نهشاً قبل لحظات اختفى فجأة من دون أثر، واستبدل بشعور آخر أعذب منه لذة الاستسلام.
فبدل أن يفكر في طريقة للنجاة، أو على الأقل يسرد شريط حياتي أمامي الحقير راح يفكر في عدة سيناريوهات لنهايته كأي عقل بسيط ، ثم تذكرت بأنه مصاب بفرط التفكير، فدعوت له بالشفاء في سري ، مال جسد المرأة للأمام متقدمة أكثر، لأسمع صوت الباب يفتح بقوة لكنني لم أره ، التفتت اليه الأخرى مفاجأة ، أحسست بشيء يلتوي على ساقي ، اشتدت قبضته فجأة لأُسحب من قبله و أُجر بلا اكتراث لإصابتي ، وجدت نفسي خارج البيت لأُرمى على التراب و يستكمل جري عليه أكلاً منه ما استطعت ، وصرخات المرأة المزمجرة تلاحقني بكلمة واحدة :
واكتفوا بالكوابيس وتخويفهم بين الفينة والأخرى ، و كان أبي يوصيهم بأن يتجاهلوهم ، ثم سألت عن نفسي وكيف أنني لم أرى أي شيء منهم طيلت حياتي معهم ؟ فأجابت سمية “لا أعلم السبب ، لكن ربما لأنك لم تكن من ذرية أبي ، فهم يكرهونه ويكرهوننا حقاً ، كنت أعرف ذلك كلما ظهرت تلك المرأة و رمقتني بوجها الذي امتلأ بالمقت والغيض ، كانت هي الأفعى التي لم تستهدفك بسوء لكنها قتلت قطتي لكي تأذيني أنا، رأيتها في الحلم وهي تعدني بذلك قبل أن حدث ما حدث”.
النهاية ……….
ملاحظة : أرجو أن تزوروا الفصل الأول لكي تتضح لكم أحداث هذا الفصل.
تاريخ النشر : 2021-09-14