أدب الرعب والعام

هاي جريف

بقلم : ميرنا أشرف – مصر

وقفنا برهبة ننظر إلى شواهد القبور القديمة المتراصة أمامنا
وقفنا برهبة ننظر إلى شواهد القبور القديمة المتراصة أمامنا

” هاي جريف .. أي ( المقابر العالية ) ، اسمٌ على مُسمى، حيث أنك لو كنت من سكانها فسيكون بإمكانك أن ترى المقابر القديمة المُقامة أعلى ذلك التل الكبير المُشرف على كل المدينة .. ستراها من كل مكان تكون به، من الشارع .. من العمل، أو حتى من نافذة حجرتك “.

* * *
مرحبًا! .. اسمي براد .. في الرابعة عشرة من عمري، انتقلتُ مع أسرتي المكونة من أبي وأمي وأختي الصغيرة أنستازيا إلى مدينة جديدة حيث تم نقل عمل أبي هناك، منذ اللحظة الأولى أحسستُ أنا وشقيقتي أننا لسنا سعداء بالنقل، دعك من أننا ابتعدنا عن منزلنا وأصدقاءنا وأتينا إلى مكان لا نعرف فيه أحدًا؛ ولكن حقًا المدينة الجديدة غريبة؛ فهي تثير القلق في نفسي، ولن أتكلم عن اسمها الغريب المرعب في حد ذاته ولكنه للأسف مناسب لها تمامًا؛ فأنت إذا وقفتَ في أي بقعة منها فإنك سترى تلك المقابر المُقامة على ذلك التل العالي، بشواهدها التي تبدو كما لو كانت أسنانًا غير مستوية فوق العشب الأخضر، هذا في الأيام المشمسة، أما في المساء فالأمر يختلف تمامًا، حيث تكون تلك المقبرة مخيفة جدًا؛ فالضباب الكثيف يحوطها من كل الجوانب، وتبدو شواهدها كأنما تطفو وتتهادى بلا رابط .. نعم حقًا إنها تبدو من بعيد كما لو كانت أشباح وظلال غير واضحة المعالم هائمة في وسط الضباب، هذا ما أراه من نافذة منزلي الواقع أسفل التل الكبير.

اليوم هو أول أيام إجازة الصيف، قررتُ أنا وأختي وبعض أصدقاءنا الذين تعرفنا عليهم من المدرسة أن نقوم بمغامرة استثنائية لكسر الروتين الممل المعروف للأجازة .. لقد قررنا أن نذهب ليلًا إلى تلك المقابر، تسألون لماذا؟! لنستدعي الأشباح بالطبع.

عندما جاء اليوم الموعود اجتمعنا جميعًا في منزلي، كان والداي مدعوان على العشاء عند أحد الجيران وقد ذهبا لتلبية الدعوة، لهذا كان منزلنا هو الأنسب لنلتقي فيه .. كنا خمسة أشخاص، أنا وأختي أنستازيا بالإضافة إلى ثلاثة من الأصدقاء، مارك وتمارا وكارلوس، جلسنا قليلًا ورتبنا أشياءنا التي سترافقنا في رحلتنا للمقابر، أخذنا معنا بطاريات للإنارة وبعض المقرمشات وماء، وطبعًا ورقة كرتون وقلم رصاص وعدسة صغيرة ..

خرجنا من المنزل وقمنا بارتداء أحذية التسلق لمساعدتنا في الصعود إلى أعلى التل، كان الضباب كثيفًا لدرجة أننا لم نكن نقدر على رؤية ما تطأه أقدامنا إلا بصعوبة بالغة، كان الجو باردًا والرياح تصطدم بنا بقوة وكأنها تطلب منا أن نعود أدراجنا، أحسستُ بهاجس خفي داخلي يطلب مني التوقف فأشرتُ إليهم بالتوقف ثم أرسلتُ ناظريّ نحو قمة تل هاي جريف ورأيت القمر يلقي بضوئه الهادئ على التل وأشجاره العارية التي تبدو كهياكل عظمية وسط هذا الضباب، لفت نظري أن تمارا تنظر إلى القمة وتحدق ببقعة معينة ويبدو التوتر والخوف جليّ على وجهها فسألتها : تمارا ماذا بكِ؟
نظرَت لي ثم أعادت النظر لقمة التل وقالت بصوتٍ مرتجف: أضواء!
استفسر مارك : أضواء؟!!
فأشارت إلى تلك البقعة التي كانت تحدق بها وقالت : انظروا.
نظرنا إلى حيث تشير ولكن ألجمتنا الدهشة، كانت هناك ومضات ضوئية متقطعة صغيرة وإن كانت شديدة البريق تصدر من بين شواهد القبور القديمة، كانت تنقطع وتتحرك بين المقابر كما لو كانت أشباح طائرة، وفجأة تلاشت هذه الأضواء خلف ستار الضباب الذي زادت كثافته عن ما كان قبلًا، وقبل أن ينبس أحدنا بكلمة صدح فوقنا صوت صرخة مفزعة، صرخة حيوانية وإنسانية في ذات الوقت، صرخة باردة .. وحزينة .. وقريبة جدًا.

نظرنا لبعضنا في رهبة وتحدث كارلوس : هل سمعتم ما سمعته أم أنني أتوهم!
نظرَت لي أنستازيا وقالت: براد هذا يكفي، أرجوك دعنا نرجع، أنا خائفة.
ضممتها إليّ قائلًا: لا تخافي، بالتأكيد هذه الصرخة قادمة من الغابة التي خلف التل، لا وجود للأشباح وأنتِ تعلمين هذا جيدًا.
أكّد مارك: نعم أنستازيا، نحن فقط نريد مغامرة صغيرة في جو من الإثارة والغموض، نريد إفراز الإدرينالين، لكن بالتأكيد لا وجود لشيء اسمه أشباح.
تمارا : إذًًا هيا بنا نكمل.

بعد بضع دقائق كنا قد وصلنا إلى القمة، وقفنا برهبة ننظر إلى شواهد القبور القديمة المتراصة أمامنا، كانت تبدو قديمة متهالكة، الجو من حولنا مُقبض ورائحة الموت تعبق في المكان، اقتربنا من بقعة خالية من الحشائش ووضعنا أغراضنا، كانت بقعة دائرية الشكل جلسنا داخلها والقبور تحيطنا من كل جانب، كان الصمت يلفنا، مدّ مارك يده إلى حقيبته وأخرج ورقة الكرتون والقلم الرصال والعدسة ووضعهم في منتصف جلستنا على الأرض، أمسكتُ القلم وبدأتُ بكتابة حروف اللغة الإنجليزية الأبجدية كاملة والأرقام من واحد إلى عشرة، وكلمتَيْ نعم ولا وأيضًا مرحبًا ووداعًا، وعندما انتهيتُ وضعتُ الورقة أرضًا ووضعتُ فوقها العدسة، نظرتُ لهم في صمت وهمستُ قائلًا : مَن نستدعي؟
قام كارلوس ونظر إلى شواهد القبور حولنا وأشار إلى قبرٍ كان يبدو أقدمهم وقال: ما رأيكم أن نستدعي صاحب هذا القبر لنسأله عن سبب موته؟

قلتُ: لا مانع هيا لنجرب.

كان اسمه ” ديفيد جونز “، ومكتوب على شاهد قبره أنه مات شنقًا، وضعنا أيدينا فوق بعض وأمسكنا جميعًا بالعدسة الصغيرة التي نستعملها بمثابة مؤشر بديل عن المؤشر الأصلي الذي يجب استخدامه في لوح الويجا بدائي الصنع الذي قمنا بعمله لإستخدامه في استدعاء الأشباح كما يقولون، وقبل أن نبدأ تمتمَت تمارا قائلة بهمس: هل أنتم واثقون مما نفعل؟ ماذا لو كان الأمر حقيقي وتم الاستدعاء حقًا؟

قال كارلوس: هذا مستحيل عزيزتي تمارا، لا وجود للأشباح كما تعلمين، وهذه اللعبة ليست إلا محض خرافات سنجربها فقط من أجل بعض الإثارة لا غير، ولكن هذا ليس معناه أن أيًا من هذا حقيقي.

أشرتُ لهما بالصمت وقلتُ: هيا نبدأ، نظرنا إلى بعضنا ثم نادينا قائلين بصوتٍ هامس بدأ يعلو شيئًا فشيئًا : ديفيد جونز.. ديفيد جونز نحن نناديك فلتحضر الآن لتلبية النداء.

مرت بضع دقائق ولكن لم يحدث أي شيء يدل على أنهم نجحوا، قال مارك : لم يحدث أي شيء، طبعًا وماذا كنا ننتظر غير هذا!
قالت أنستازيا: حسنًا بما أننا انتهينا فهيا نخرج من هنا، ثم التفتت لي مردفة: أرجوك براد دعنا نعود.. أنا خائفة.
ربّتُ على يدها برفق وقلت: لا بأس، هيا يا رفاق يكفينا هذه الليلة.

تذمر كارلوس قائلً ا: ولكننا لم نفعل شيئًا بعد.
ردت عليه تمارا : ولن نفعل، هيا قوموا الجو مقبض ولا أشعر بارتياح هنا.
سخر مارك : أيعقل أن سبب عدم الراحة هو لأننا في وسط المقابر عزيزتي تمارا!
ابتسمتُ قائلًا : كفى مارك، هيا نعود الآن.

جمعنا حاجياتنا وسط تذمر كارلوس وسخرية مارك من تمارا وأنستازيا وقررنا الرحيل فورًا، ولكن عندما كنتُ أراقبهم أحسستُ بأنفاسٍ خلفي، وكأن أحدهم واقف خلفي بالضبط، التفتُّ بسرعة ولكن لا أحد، نظرَت لي شقيقتي مستفسرة فأشرت بيدي أن لا شيء، وأعدتُ الألتفات متوترًا، انتهينا من الترتيب ومشينا للخلف عائدين إلى البوابة الخارجية ولكن لفت نظري شيء غريب، وكأن هناك ظل شخص بجوار قبر المدعو ديفيد جونز، نظرتُ هناك وإذ بي أتصلب واقفًا لدرجة أنهم نظروا جميعًا إلى حيث أُرسل نظراتي، كان القبر مفتوحًا.. للدقة كان وكأن ما بداخله قد حفر ليخرج، نظرنا لبعضنا في ذعر وتساءل مارك : ماذا يعني هذا؟ هل استدعينا الشبح وهو خرج من قبره!

قلتُ : لا لا يمكن أن يحدث هذا، ربما هناك أحدٌ ما يمازحنا.
قالت تمارا : ولكنني لم أرى غيرنا.
وقبل أن يرد أحدنا أحسستُ بيد تحيط بكاحلي، فتحتُ فمي لأصرخ ولكن لم يخرج مني أي صوت، وشدَّدَت اليد قبضتها على كاحلي حتى بدأتُ أشعر ببرودتها حول قدمي فصدرَت مني صرخة حادة وأنا أحاول أن أرفس بقدمي : لا!!!

واستطعتُ أن أحرر نفسي بالفعل وسقطتُ أرضًا ولكن لم أرى شيئًا، لا وجود لأي شيء غريب على الأرض، فقط أغصان جافة، نظر الجميع لي بغرابة وقال كارلوس: براد هل أنت بخير؟
وقفتُ أنظر نحو المقابر الساكنة وأوراق الأشجار التي تتلاعب بينها محاولًا التقاط أنفاسي ومنتظرًا أن يكف جسدي عن الارتعاد، ترى هل كانت يد بالفعل؟ يد الشبح الذي ناديناه؟
أم أن قدمي قد علقَت بشيء ما.. أخذتُ أحدق بالأعشاب العالية بين شواهد القبور ولكن لم أرى شيئًا يتحرك.
استدرتُ إلى كارلوس وقلتُ وأنا لا أتمالك نفسي من الارتجاف: فلنخرج من هنا حالًا.

أسرعنا باتجاه البوابة التي كانت قد بدأت تتضح أمام أنظارنا ولكن لا تجري الرياح كما تشتهي السفن، فجأة صدح من حولنا صوت صرخات عالية، كانت وكأن صادرة من الهواء نفسه، تمسكنا ببعضنا في رعب وارتفع صوت صراخنا عندما وقعَت أنظارنا على شواهد القبور وهي ترتفع وتخرج الجثث من داخلها ، جثث متآكلة شاحبة، صارت تتقدم باتجاهنا بمشيتها الركيكة البطيئة، لم نتحمل المنظر وهرعنا إلى البوابة ولكن وجدنا خلفنا شخصًا، ليس شخصًا على وجه التحديد بل إنه جثة، جثة تحلل أكثر أطرافها وظهرَت عظامها بيضاء لامعة، كان محجريها مجوفين مظلميْن، رفعَت إصبعًا متحللًا وأشارت إلينا قائلة بصوتٍ مرعب يلفه الموت : أنتم أقلقتم راحتي وصارت أجسادكم من حقي.

تعالت الأصوات من كل الهياكل والتفت حولنا مرددة : لقد أقلقتم راحتنا.

صرخنا من هول ما نرى ولم نعد نعرف ماذا نفعل، كانت دائرة الموتى تضيق حولنا ومعها يزداد ذعرنا حتى جاءتني فكرة، أمسكتُ بالمصباح الذي كان في جيبي وأشعلته فسطع الضوء الأبيض على وجوه الموتى، صرختُ في أصدقائي ففعلوا مثلي، ارتفع صراخ الموتى من حولنا وابتعدوا عنا هاربين من الضوء، كان يسبب لهم ألمًا مبرحًا، الجلود تتجعد وتتدلى ثم تسقط ذائبة، كنا ننظر إلى ما يحدث في اشمئزاز ورعب حتى أخرجنا صوت مارك من تجمدنا: هيا بسرعة قبل أن يعودوا.

جرينا بأقصى سرعة وسط صفٍ طويل من شواهد القبور متجهين ناحية البوابة، كان الضوء ينعكس على ضباب القبور ونحن نجري على الحشائش الطرية المغطاة بالندى وخلفنا تعلو صرخات الموتى كأنهم يتعذبون في السعير، وصلنا أخيرًا إلى البوابة وكانت الشمس قد أوشكَت على السطوع، خرج مارك تتبعه تمارا وأنستازيا ثم كارلوس، وعندما حان دوري أحسستُ بيد تسحبني من كاحلي وصوت ديفيد يُدوي في أذني: أقلقتَ راحتي، وجسدك من حقي.

صرختُ عاليًا وحاولتُ الافلات منه ولكنه كان قويًا جدًا كانت يده كـ كماشة من حديد، ظل يسحبني حتى كاد يمسك بي تمامًا، ولكن في هذه اللحظة بالذات أشرقَت الشمس وغمر ضوءها البِكر أرض المقابر، صرخ ديفيد وغطى وجهه بيديه وقال بنبرة جمدت الدماء في عروقي: لن تهربوا.. سوف أعوووووود.، ثم ذاب جسده وتحول إلى كومة من العظام وسط ملابس مهلهلة مكرمشة.

وقفنا نلهث ونحاول التقاط أنفاسنا ونظرنا إلى البوابة وخلفها شواهد القبور ساكنة هادئة وكأن شيئًا لم يحدث، تلاقت أنظارنا في صمت ثم عدنا أدراجنا متجهين إلى أسفل التل وكلنا رهبة ورعب من الذي مررنا به…

تاريخ النشر : 2021-09-18

guest
3 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى