أدب الرعب والعام

رعب المشاعر (ماهي العائلة؟)

بقلم : أنور صابر – اليمن

رعب المشاعر (ماهي العائلة؟)
معنى أن ينبض قلبك , لا يعني أنه على قيد الحياة ..

الرعب الحقيقي في هذا العالم لا يتجلى فقط في قصص السفاحين و مصاصي الدماء أو أساطير الجن و الأشباح و البيوت المسكونة.. عليك أن تعرف أنه هنالك رعبا آخر أكثر قتامة و أشد قساوة و افظع وحشية .. هذا الرعب لن يؤرقك في الليل و يجعلك تلتفت إلى الخلف بين كل حين وآخر .. لا لالا .. بل هو رعب مختلف .. يلتف حول حياتك, فيجعلها سوداء, و يحولها إلى جحيم لا يطاق .. عنيد , يلتصق بك كالعلكة فلا تستطيع التخلص منه بسهولة , يأكلك من الداخل و يستمر في نهش قضمات كبيرة من روحك ولا يشبع .. فلا تجذبك من براثنه سوى أيادي الموت التي لا يستدعيها سوى أجلك فقط .. و الغريب في الأمر أنه يفعل بك كل هذا و أنت لا تعلم حتى .. فهو بمثابة المحرك الذي لا تستطيع أبدا مقاومته .. قليل من خيرة البشر فقط هو من يتمكن من نزع قيود هذا المحرك و التخلص من ذلك الرعب .. حتى و أنت تقرأ هذه الكلمات قد لا تدرك ذلك الرعب الذي أتحدث عنه .. فدعني أقتل حيرتك و أقول أنه ببساطة (( رعب المشاعر ))

.. هاه ؟؟ .. ما هذا الجنون ؟؟ .. هل ما أشعر به يرعبني ؟؟ .. هل أنت غبي ؟؟ .. لا ألومك إن قلت هذا أو غيره , فكما قلت سابقا أن لا أحد يشعر بهذا الرعب .. لأنه مختلف , ينقلك إلى مستوى آخر من الخوف لدرجة عدم شعورك بأنك خائف أصلا .. فكل ما يحدث على هذا العالم من خراب , دمار , حروب , جرائم , حقد , كراهية , حالات نفسية .. سببه هذا الرعب الذي ينتظر أي فرصة للانقضاض عليك

.. مجريات القصة التي على وشك أن تقرأها الأن هي غير واقعية , و شخصياتها من نسج الخيال , و لكنني لا أستعبد فكرة وجود أحداثها على أرض واقعنا و بأعداد هائلة أيضا .. و لهذا السبب عزيزي الإنسان و ليس القارئ , أريدك أن تقرأ ما بين السطور .. تقرأ تلك الكلمات التي كتبت بذلك القلم الذي يسمى بالمشاعر .. ليس من عيناك و إنما من قلبك … كما كتبت هذه الكلمات أنا أيضا من قلبي .. حاول أن تصفي ذهنك من أي شيء يربطك بحياتك في الدقائق التي ستقرأ بها هذه القصة .. فقط لكي تستحضر القليل من هذا الرعب .. ففي النهاية , لا أحد يمكنه إدراك رعب المشاعر إلا من كانت لديه مشاعر !!

****

” ذات مرة .. كان هنالك طفل صغير , هذا الطفل لم تكن لديه عائلة .. كان الجميع من حوله يمتلك واحدة إلا هو فقط .. (( ماهي العائلة ؟؟ )) سأل نفسه و لم يلقى إجابة .. فقرر أن يسافر بحثا عن عائلته الخاصة .. سار الطفل طويلا حتى وجد نجارا فقال له (( هل تعرف أين عائلتي ؟؟ )) فقال النجار (( لا , لكنني سأساعدك في البحث عنها )) فسار الاثنان طويلا حتى وجدا خادمة فقال لها (( هل تعرفين أين عائلتي ؟؟ )) فقالت الخادمة (( لا , لكنني سأساعدك في البحث عنها )) فسار الثلاثة طويلا حتى وجدوا راهبا فقال له (( هل تعرف أين عائلتي ؟؟ )) فقال الراهب (( لا , لكنني سأساعدك في البحث عنها )) فسار الأربعة طويلا .. و بحثوا لأربع سنوات , و لكنهم لم يعثروا على عائلته .. فحزن الطفل كثيرا و بكى طويلا .. و هو مازال لا يعرف أن عائلته تقبع معه طوال السنوات الأربع الماضية !! “

-فقط كم عدد المرات التي اعدت بها قراءة كتاب الأطفال هذا ؟؟

– إنها المرة الخامسة والعشرون ..

– اقفله إذا .. فلديك عملا اليوم

يقفل الكتاب , و ينتشل مسدسه ..

-انتظر .. ألا تريد أن تعرف من هي ضحيتك ؟؟

– لا يهمني .. سأعرفها عندما أصل إلى هناك ..

بعد ساعة ونصف تقريبا .. تمر سيارة سوداء فاخرة من طريق جبلي مهجور احتوت داخلها على امرأة في منتصف الأربعينيات و رضيعها الصغير النائم بين ذراعيها , بالإضافة إلى السائق الوقور الذي كان يقود السيارة باطمئنان و راحة بال , حتى فاجأه شاب أشقر الشعر , بملامح باردة , يقف في منتصف الطريق تماما , فاطبق السائق فرامل السيارة بكل قوته حتى توقفت رغما عنها أمام الشاب مباشرة , و بغضب شديد يخرج السائق رأسه من النافذة ..

– أيها الغبي .. ألا ترى ؟؟ .. ابتعد عن الطريق

رصاصة في منتصف جبينه تخرس السائق على الفور و تسقطه على الأرض صريعا , بينما يقترب الشاب من السيارة حتى يصبح بجانبها ..

-اخرجي

تخرج المرأة و الذعر يملأها و هي تحمل رضيعها الصغير بين يديها ..

– مـ .. من أنت ؟؟

-اخرسي .. و اجلسي على ركبتيك

– حـ .. حاضر

-ما اسمك ؟؟

– فرايدا .. فرايدا ألكمار

– طفل جميل لديك هنا .. ما اسمه ؟؟

– جـ .. جيسون

ثم دقائق قليلة من الصمت يحطمها صراخ المرأة المفاجئ ..

-اسمع .. إن زوجي ثري جدا , مهما كان المبلغ الذي تطلبه فسأعطيك إياه .. لنقل خمسة ملايين .. ما رأيـ ..

رصاصة تستقر بين عيني المرأة تخرسها على الفور و تحطها جثة أخرى هامدة ..

– غبية .. حياتك لا تستحق كل هذا القدر ..

ثم يلتفت إلى الرضيع الذي بدأ صوت بكائه بالارتفاع ..

-لا تخف .. سوف أقوم بإنقاذك الأن

و رصاصة ثالثة يعم الصمت بعدها نهائيا ..

****

-أنا قلقة على السيد الصغير .. فهو لم يخرج من غرفته منذ جنازة والدته

-لقد تم استدعاء مشرف إجتماعي خاص به .. من المفترض أن يصل اليوم

و تنحت الخادمتان جانبا بإرتباك حال وصول سيد الخدم هيلفرين إلى باب غرفة السيد الصغير و معه شاب أشقر الشعر , بملامح باردة , عرفت الخادمتان فورا أنه المشرف الإجتماعي الذي كانا يتهامسان حوله قبل قليل ..

-ها هي غرفة السيد الصغير .. نرجو جميعا أن تكون قادرا على إعادته إلى حالته الطبيعية

يفتح هيلفرين باب الغرفة ليدخل المشرف الإجتماعي إلى غرفة هادئة و كأنها غير مسكونة , لكنها كانت تحتوي في أحد أركانها على صبي صغير يتطلع إلى النافذة في شرود غريب , و ما جعله غريبا أن النافذة في الأصل مغلقة ..

-لا بأس .. يمكنك تركنا الأن يا سيد هيلفرين

ينحني هيلفرين دلالة على الموافقة و يخرج من الغرفة ليلقى شابا آخر أسود الشعر , مغطى بالنمش , يرتدي ثياب فاخرة تنم على أنه من أصحاب هذا المنزل ..

– أين كنت يا هيلفرين ؟؟ .. أريد منك أن تجهز ملابس رحلة الغولف في أقل من ساعة .. أفهمت ؟؟

– سمعا و طاعة .. يا سيد إينزال

في الوقت الذي رحل فيه إينزال مبتعدا عن الغرفة كان المشرف الإجتماعي يتجول في أنحاء غرفة الصبي الصغير , حتى ألتقط كرسيا و جلس عليه واضعا إحدى قدميه فوق الأخرى ..

– من أنت بحق الجحيم ؟؟

هكذا تكلم الصبي بصوت خافت بعد صمت دام خمس دقائق او أكثر ..

– أنا المشرف الإجتماعي .. المسئول على علاجك

– أنا لست مريضا حتى تعالجني ..

– هل يمكنني معرفة اسمك إن لم يكن لديك مانع ؟؟

–  كرستوفر .. ألكمار

– كريستوفر .. هل يمكنني سؤالك ؟؟ .. ماذا تعني العائلة بالنسبة لك ؟؟

-ما هذا السؤال السخيف ؟؟ .. من تظنني , طفل في الرابعة ؟؟

-حتى الفلاسفة العظماء لم يستطيعوا الإجابة على هذا السؤال .. فما بالك بطفل في الرابعة ..

صمت الصبي كريستوفر قليلا ..

-العائلة هم الأشخاص الذين أنجبوني .. أبي , أمي , و كذلك إخوتي .. هذه هي العائلة بالنسبة لي

-فهمت .. الأشخاص الذين تكونت بينهم رابطة لا تنكسر , و ثقة لا تتزعزع .. الأشخاص الذين لا يرون الجانب السيء من بعضهم البعض أبدا .. الضحك يصبح اكثر مرحا حولهم .. البكاء يصبح أقل كآبة بينهم .. مهما يحدث فإنهم سيبقون إلى جانبك على الدوام ..

-هاه ؟؟ .. ما هذا الكلام المبهم الذي تغمغم به الأن ؟؟ ..

-لا .. لا شيء على الإطلاق , انا فقط أطلب منك التوقف عن حزنك الذي لا مبرر له ..

– ماذا ؟؟ .. ألا تعرف بأن الشخص الذي مات هي والدتي ؟؟ .. ألا تملك قلبا أيها الوغد ؟؟

-لقد فقدت مثل هذا الشيء منذ زمن طويل , لم أعد أشعر بأي شيء على الإطلاق .. أتساءل ماهي آخر مرة ابتسمت فيها أو عبست … معنى أن ينبض قلبك , لا يعني أنه على قيد الحياة

يعتدل في جلسته ..

-” ستصبح وحيدا في اليوم الذي سيضحك به الجميع ” كل ما أقوله فقط هو أن تتمالك نفسك .. لأن القادم سيكون أسوا بكثير ..

-ما .. ما الذي تعنيه ؟؟

و حالما أنهى الصبي كريستوفر سؤاله حتى سمع أصوات مذعورة تصرخ قادمة من خارج الغرفة ..

-مصيبة … سيارة السيد إينزال التي غادر بها .. إنفجرت فجأة في وسط الطريق

و يتجمد جسد كريستوفر فورا , و تتسع عيناه مذهولا مما سمعه .. يشعر بسخونة زائدة في جسده .. و أطراف أصابعه ترتجف , حتى ركبتاه أصبحت ضعيفة فجأة و غير قادرة على حمل جسده ..

-أخي .. إينزال

ثم يلتفت بخوف و رعب شديدين إلى المشرف الإجتماعي الذي لم تتغير ملامحه الباردة و لوهلة قصيرة , مما جعل الصبي كريستوفر يستشيط غضبا و دموعه تنهمر بغزارة من عيناه ..

– أنت .. لقد كان أنت .. أيها الحقير , لماذا ؟؟ .. لماذا قتلتهم بهذه الطريقة المتوحشة ؟؟ ما الذي فعلوه لك ؟؟

لا رد ..

-أيها الحقير … لا تحسب أنك ستنجو بفعلتك .. سأخبر الجميع الآن حتى يقبضوا عليك ..

ثم يهرع راكضا إلى خارج الغرفة و لكنه لا يعثر على أحد في الممر المقابل لغرفته ..

-هذا صحيح .. والدي .. علي إخبار والدي بسرعة

و يعدو بقدميه الصغيرتين نحو غرفة والده .. و عيناه قد إمتلأت بالدموع على آخرها و بدأ صوت نحيبه يعلو .. كان تفكيره مشوشا بالكامل لدرجة أنه لم يلحظ الرجل الذي كان واقفا أمامه .. فأصطدم به بقوة و سقط على الأرض .. و عندما رفع رأسه إلى الأعلى شاهد الرجل الذي كان يبحث عنه .. إنه والده السيد فينون ألكمار .. فنهض عن سقوطه مسرعا و تلعثم و هو يهتف ..

-أبي .. أخي إينزال .. القاتل موجود هناك .. تعال ..

لم يدع السيد فينون ولده يكمل حديثه ,حيث جذبه من كتفيه و هو يبتسم إبتسامة عريضة ..

-اليوم هو يومك يا كريستوفر .. إن فزت باللعبة اليوم , فإن والدك سيربح أطنانا من المال ..

-أبي .. عن أي لعبة تتحدث ؟؟ .. ألا تعرف بما حصل مع أخي إينزال ؟؟

-لا بأس .. سوف أدع هيلفرين يتولى مسألة الإنفجار , أما الأن فعلينا الإسراع

انعقد لسان كريستوفر في هذه اللحظة و لم يستطع أن ينبس بحرف واحد .. صدمته في تلك اللحظة جعلته يفقد استيعابه بالكامل و هو يجر من قبل والده الذي كان متحمسا و سعيدا .. (( هاه ؟؟ لم تضحك هكذا ؟؟ .. ولدك قد مات , الى  يفترض بك أن تكون حزينا .. ألست مهتما بأمره على الإطلاق ؟؟ .. ما هذا ؟؟ .. أنت لست أبي … فقط .. فقط من تكون أنت ؟؟ )) .. أفكار عديدة كانت تجول في رأس الصبي كريستوفر و لكنه لم يستطع البوح بها .. ظل فقط يحدق كالأبله في الفضاء و هو ينقاد من قبل والده عبر ممرات و ردهات القصر الفسيح .. نزلا درجات السلم إلى الطابق السفلي و منه إلى خارج بوابة القصر الكبيرة حيث إنتظرت سيارة زرقاء جديدة و معها سائقها المحترم من أجل إصطحابهما .. إنطلقت السيارة من دون أن يعرف كريستوفر وجهتها و هو جالس في المقعد الخلفي , لا يشعر بأي شيء من حوله .. حتى جاءت تلك اللحظة , و كأنما قرع أحدهم جرسا في رأس كريستوفر و يحثه على النظر من النافذة .. و حالما أدار الصبي رأسه حتى شاهد ذلك المنظر .. سيارة أخيه و هي تحترق وسط الطريق و محاطة بسيارات الإسعاف و شاحنة الإطفاء التي تحاول إخماد الحريق , لا سيما صراخ الناس و تجمهرهم حول الحادث محاولين تقديم يد المساعدة , في الوقت نفسه التي مرت فيها سيارة الصبي كريستوفر كأي سيارة عابرة غيرها , فعندما ألتفت كريستوفر بحزن إلى والده شاهد تلك الإبتسامة الخبيثة التي لم تختفي من على وجهه و هو يتطلع إلى الأمام فقط .. (( هل هذا حقيقي ؟؟ .. لماذا يا أبي ؟؟ .. ما الذي حل بك ؟؟ .. أكنت تكره أخي إينزال أم ماذا ؟؟ .. لماذا تتصرف هكذا بحق الجحيم ؟؟ )) دموع جديدة تنزلق من عيني الصبي , و يشعر بضيق يكبت على صدره .. أنفاسه بدأت تتسارع , و أصبح يلهث بقوة … استمر على هذا الحال حتى توقفت السيارة أمام متجر صغير مهجور وقف رجل ضخم الهيئة بثبات أمام بابه مباشرة .. و حالما نزل السيد فينون و ولده كريستوفر من السيارة و اقتربا من المتجر , حتى افسح لهما الطريق و هو يحني رأسه بإحترام ..

-أهلا بقدومك يا سيد ألكمار ..

كان عقل كريستوفر غائب عن الوعي تماما في الوقت الذي يسير به جسده وفقا لتحركات والده , الذي دخل إلى المتجر الصغير ثم سار إلى باب داخل المتجر ليجد شخصا آخر يقف أمامه و قد احنى رأسه هو أيضا ..

-أهلا بقدومك يا سيد ألكمار … يمكنك الأن أن تعطيني الفريسة من فضلك ..

إزدادت إبتسامة السيد فينون توسعا و هو ينخفض رأسه مخاطبا ولده ..

-إسمع يا كريستوفر .. سوف نذهب الأن مع هذا الرجل اللطيف من أجل التحضير للمنافسة , إن أبليت بلاء حسنا اليوم فسوف يصبح والدك أغنى مما هو عليه بضعفين , لا بل بثلاثة أضعاف … و سأشتري لك كل ما ترغب .. لذا حاول ألا تخذلني , حسنا ؟؟ …

و قبل أن يحاول الصبي كريستوفر النطق بأي كلمة كإجابة , وجد ذراع قوية تجذبه إلى غرفة إختبأت وسط الظلام .. كان ينظر إلى صورة والده المبتسم و هي تبتعد عنه شيئا فشيئا حتى لم تعد عيناه ترى سوى السواد الحالك فقط .. بدأ يشعر بنعاس شديد .. يحاول مقاومته و فتح عيناه لكنه لا يفلح .. يشعر بوخز في رقبته .. ثم يغيب عن الوعي تماما !!

****

مع العديد من الذكريات المشوشة و المختلطة , يفتح الصبي كريستوفر عينيه بصعوبة من السبات العميق الذي كان فيه على صوت هتافات عالية تصم الآذان من حوله .. و حالما أستعاد القليل من وعيه حتى وجد نفسه مصلوبا وسط ساحة واسعة فارغة محاطة بمدرجات اكتظت بالناس على آخرها , و جسده عارا كما ولدته أمه , و قد رسمت علامات و أرقام على مختلف أنحاءه .. 5 على ذراعيه , 7 على قدميه , 8,5 على عضوه الذكري و العديد من الأرقام الأخرى … لا أحد يمكنه تصور الخوف الذي شعر به الصبي كريستوفر في تلك اللحظة , ظل يصرخ مستنجدا بأعلى صوته ..

– النجدة .. أنقذوني .. أبي أين أنت ؟؟ .. أخرجوني من هنا ..

إلا أن هتاف الجماهير المتحمسة من حوله كان يغطي على صراخ صوته الرفيع و الذي في النهاية لم يسمعه أي أحد .. ثوان قليلة مضت قبل أن يدخل رجل يحمل مكبر صوت إلى الحلبة , أقترب من الصبي كريستوفر المعلق و بدأ بالحديث من خلال مكبر الصوت مخاطبا الجماهير ..

-أهلا بكم سيداتي و سادتي , إلى المنافسة رقم 550 هنا في (( ديسارتلوكيشون )) .. تحدي هذه الليلة سوف يكون ساخنا جدا , و كيف لا يكون و المنافسة تجمع بين عائلتي ألكمار و برنديا ..

تصفق الجماهير معا بحرارة ..

-فريسة هذه الليلة هي من عائلة ألكمار .. الصبي أشقر الشعر ذو العشر سنوات .. كريستوفر ألكمار

تصفق الجماهير بحرارة مرة أخرى ..

– قوانين المنافسة هي كما اعتدنا عليها جميعا .. عائلة الصياد و التي في هذا التحدي هي عائلة برنديا سوف تقوم برشق الكرات على العلامات المحددة على جسد الفريسة و التي هي من عائلة ألكمار .. إن أصابت عائلة الصياد أحد العلامات فإن الرقم المدون على العلامة سوف يدفع من قبل عائلة الفريسة , أما إذا أخطأت عائلة الصياد الهدف فإنها سوف تدفع ضعف أقل رقم موجود على جسد الفريسة و التي في هذه الليلة سيكون الرقم 2 .. إلا أن هنالك قاعدة شاذة تصب في مصلحة عائلة الفريسة , فإذا انتهت المنافسة و الفريسة ما زالت على قيد الحياة فإن مجموع كل الأرقام المدونة على جسدها سوف يذهب لصالح عائلة الفريسة .. رغم أن هذه القاعدة الشاذة لم تحدث أبدا في تاريخ المنافسة إلا في ثلاث مناسبات فقط .. فهل سنشهد اليوم معجزة تقف إلى جانب عائلة ألكمار ؟؟ .. خصوصا أن تحدي اليوم سوف يشمل ستة أصفار إلى يمين كل رقم في المنافسة .. نعم أعزائي الحضور , إنه رهان على الملايين ..

يزداد تصفيق الجمهور حرارة , و تتسع ضحكاتهم و وجوههم المتحمسة المترقبة للحدث الكبير .. شخص واحد في المكان لم يكن يضحك في ذلك الوقت .. إنه الصبي كريستوفر , كان خائفا , غاضبا حزينا .. ما هذا الذي سمعه للتو ؟؟ .. أهذه هي اللعبة التي كان يقصدها والده ؟؟ .. أكان فريسة لا قيمة لها منذ البداية ؟؟ .. ماذا كان طوال حياته ؟؟ … نسل عائلة نبيلة ؟؟ .. صبي لم يهتم به أحد على الإطلاق ؟؟ .. أم مجرد ضحية سيلقى بها من أجل إمتاع تلك الجماهير الغفيرة ؟؟ .. قلبه أصبح غير قادرا على التحمل أكثر .. شارع ببكاء مرير .. كم مرة بكي بها في هذا اليوم ؟؟ .. لم يعد يقاوم , إستسلم لمصيره .. ذلك الأب , تلك العائلة .. حياته كلها لم تكن سوى كذبة كبيرة قام بتصديقها .. ينظر بعيون ذابلة إلى الشاب المفعم الذي دخل إلى الساحة .. إنه يلوح بيديه محييا الجماهير … يقترب من صندوق يحتوي على عشرات الكرات المعدنية , و التي يبدو من منظرها أنها ثقيلة جدا … يحمل الشاب واحدة منها بصعوبة , و يقف على بعد عشرين مترا أمام الصبي المصلوب تماما .. بضع ثوان انقضت .. ثم بدأ عرض الجحيم .. أتعرفون لحظة الترقب و الخوف تلك التي تسبق قيام معلمك بضربك على راحة يدك بعصاه الخشبية ؟ , أتتذكرون ذلك الألم الذي تشعرون به و أنتم تهزون أيديكم بقوة في إشارة لقوة الضربة التي تلقيتموها ؟ .. إذا حاولوا مضاعفة تلك اللحظة و ذلك الألم عشر مرات في مخيلتكم .. إنه أمر فظيع أليس كذلك ؟؟ .. فهذا ما حدث بالضبط للصبي كريستوفر الذي حطت تلك الكرة المعدنية الثقيلة على ساعده الأيمن مباشرة , صانعة صرخة ذعر مفزعة أطلقها الصبي الصغير و قد تهشمت عظام ذراعه و أصبح لا يرى منها إلا اللون الأحمر الداكن .. ذلك الألم الذي كان يبدو و كأنما يعتصر الصبي كريستوفر عصرا .. يحاول مسح دموعه المنهمرة على خديه و لكنه لا يستطيع … يحاول إحتضان ذراعه المهشمة و لكنه لا يستطيع … يحاول الإنطلاق و الهروب على قدميه و لكنه لا يستطيع .. ما الذي فعله حتى يستحق هذا ؟؟ .. آخر همومه كانت تفويت إحدى حلقات مسلسله المفضل .. فلماذا الأن ؟؟ .. يشعر و كان روحه قد أصبحت في صدره تريد الخروج .. يتقيأ كل ما في معدته حتى يتسخ جسده ماسحا بعض من العلامات و الأرقام المرسومة … عيناه اليائستان تنظر إلى الشاب .. إنه يستعد لرمي كرته الثانية بعد أن أصاب الأولى بنجاح .. (( أرجوك توقف .. لا ترمها .. هذا يكفي .. أرجوك , فقط توقف )) و بينما كان نظره يتتبع مسار الكرة قبل إنطلاقها .. يلتقط ذلك المنظر , الذي تمنى لو أنه لم يره إطلاقا .. إنه السيد فينون المبتهج و هو يصفق بحرارة من خلف الشاب على أحد مقاعد المدرجات .. إنه يشجع و يهتف , بل و يداعب شاربه بإفتخار .. منظر أضاف نوبة بكاء أخرى , إلا أن هذه كانت آمرها على الإطلاق (( هذا صحيح .. أن لدي أب .. و أخوة أيضا .. عمي و عمتي .. خالتي و إبنتها الشابة , لا أنسى خالي و زوجته الذي تصغره سنا .. إنني أملك هؤلاء جميعا .. إذا لماذا ؟؟ .. لماذا أشعر بالوحدة ؟؟ )) اغمض عيناه .. فليحدث ما يحدث .. لم يتبقى له أي شيء في هذه الحياة .. كان ينتظر اللحظة التي سترتطم بها الكرة المعدنية في أي مكان في جسده .. و لكنها لم تأتي .. إنها المعجزة كما يقولون .. إنفجار هائل يهز صرح المكان .. هتافات الجماهير تتحول إلى صرخات مذعورة .. تندلع النيران و تبدأ في إلتهام كل ما يقف في طريقها . يتكدس الهاربون فوق بعضهم البعض أمام باب الخروج يريدون الفرار , لكن الباب موصد و لا يفتح … تلتقطهم النيران , تشويهم شويا … يختفي الواحد تلو الآخر وسط توهج لهبها .. إنهم يطلبون النجدة و لكن لا جدوى فالحريق طال المكان بأكمله .. من لم يمت محترقا سيموت جراء الاختناق , الصبي كريستوفر متفاجئ , لم يدرك بعد ما يحدث … صحيح بأنه قد نجا من تلقي تلك الكرة المعدنية , و لكنه سيحرق حيا عوضا عن هذا .. النيران تحاصره .. إنها تقترب منه شيئا فشيئا .. لا أحد لديه الوقت ليفك قيده .. عليه فقط أن يقف ساكنا حتى يقتل مثل الآخرين .. النيران بدأت تلتهم قدماه .. لم يكن يتوقع أن هنالك ألما أشد من ألم تلك الكرة … إلا أنه لم يصرخ أو يبكي , فليس هنالك فارق بعد الأن , لقد فقد الشعور بكل شيء من حوله .. إنه ينظر فقط إلى الأمام .. إلى المشرف الإجتماعي الذي وقف وسط النيران , بملامحه الباردة تلك .. لم ينطق كريستوفر بحرف , و لم يفعل المشرف الإجتماعي ذلك أيضا .. إنه يتذكره , المجرم الذي قتل كلا من والدته و شقيقيه .. و لكنه أصبح يفهم بعض الشيء .. يتمنى لو أنه عرف هذا مسبقا … ينظر إليه و قد ارتسمت على وجهه ضحكة عريضة و الدموع تنساب من خديه ..

–  تبا لكم جميعا ..

قال هذه الجملة اليتيمة قبل أن تختفي صورته وسط ألسنة اللهب التي احتضنته بدفئها … بينما وقف المشرف الإجتماعي يتطلع إلى تراقص ضوء النيران من دون تغيير واحد في تعابيره ..

– هذا صحيح .. جميعنا , مجرد حثالة ..

و يستدير راحلا عن المكان بخطوات هادئة ..

****

بينما كانت ضربات الأمواج الزرقاء تداعب صفيحة الرمال الناعمة , و ضوء الشمس الساطع يسدل ستائره بحرارة دافئة … جلس المشرف الإجتماعي على الشاطئ و إلى جانبه هيلفرين يتطلعان إلى الأفق الممتد أمامهما … نسمات الرياح كانت تداعب خصال شعرهم في صمت ساد بينهما , قبل أن ينهي هيلفرين المكالمة التي كان يجريها و يغلق هاتفه ..

– لقد تم التأكيد .. لم يتم تسجيل أي ناج واحد من الحادثة .. لا من عائلة ألكمار و لا من عائلة برنديا .. لقد أتممنا العمل بنجاح ..

– هيلفرين … في الوقت الذي ذهبنا به إلى ذلك القصر .. هل رأيت صبيا صغيرا كان يشبهني تماما ؟؟ .. نفس شعري الأشقر , نفس معاناتي , نفس أفكاري السابقة .. حتى أنه كان لديه نفس ماضيي تماما ؟؟

-هاه ؟؟ .. لم أرى صبيا كهذا أبدا ..

-إذا فقد كانت مخيلتي بعد كل شيء ..

-هذا يكفي .. لنعد إلى المنزل يا كريستوفر

يتحسس الشاب كريستوفر الندبة التي على ذراعه ..

– هذا صحيح .. أحتاج إلى قراءة تلك القصة مرة آخرى

****

خاتمة : –

ما أظهرته الأن لم يكن سوى جزء بسيط جدا من هذا الرعب , الذي يتجسد في ملايين القصص غيرها التي لا يمكن إحصائها .. البشر أصبحوا ضعفاء جدا , و رعب المشاعر صار يتحكم بهذا العالم الأن .. الحياة معقدة جدا و تفاصيلها أصبحت غير واضحة , و مع مرور الوقت تصبح سوداء أكثر .. عقول الناس تبلدت و يغطيها التخلف .. حتى و إن حاول أحد التشجع و مواجهة هذا الرعب فإن هموم الدنيا و ناسها سوف تجبره على الخضوع … قد لا تؤمن برعب المشاعر و لكنه موجود , فهنالك العديد من الأشياء التي لا نراها رغم أنها تكون واضحة أمامنا وضوح الشمس .. أرجو أن يكون لي معكم لقاء آخر .. لأن مسيرتي مع رعب المشاعر مسيرة طويلة .

* تنقيح : موقع كابوس 

تاريخ النشر : 2015-09-16

guest
45 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى