أدب الرعب والعام

الحافلة المظلمة

بقلم : امل شانوحة – لبنان
للتواصل : [email protected]

الحافلة المظلمة
ما هذه الرحلة المشؤومة ؟!

كانت الساعة التاسعة صباحاً , حينما أعلنت أبواق الحافلة (الصغيرة) انطلاق الرحلة نحو الوطن .. و بدأت سنوات الأحدَ عشر تمرّ أمام عيني مع بداية المسير… إلى أن قطع حبل أفكاري , صوت السائق يُعرّفنا (بمكبّر الصوت (الميكرفون)) عن اسمه : ((سلّوم عيسى !!)) .. ثم عرض لنا معلومات عن الرحلة … و في هذه الأثناء , اقترب مني مساعده : حيث كان شاباً طويلاً قوي الجسم في الثلاثينات من عمره , يضع نظارات طبّية , فبدى لي كرجلٍ مثقف اكثر من كونه مساعد حافلة !

و قدّم لي تذكرتي و هو يقول :

 –  رحلة سعيدة يا آنسة !!

 –  بإذن الله , و شكراً لك

 و بعد ان اخذت التذكرة , صرت أتأمّل رفقاء الرحلة , خاصة ان عددهم  لا يتجاوز العشرين فرداً .

ففي المقدمة : جلس السائق و مساعده .. حيث بدى سلّوم كرجل في نهاية الخمسينات او اواسط الستينات , خفيف الشعر مائل للبياض مُقطّب الجبين , يضع سيجارة في فمه .. لكنه أثار في نفسي بعض الخوف , حين تلاقت أعيننا (بعد أن نظر إليّ من خلال مرآته) مما جعلني التفت لبقية الركاب .

أما في المقعد الذي امامي : فجلس رجل قدمه ملفوفة بالجبيرة , تساعده زوجته .. و في نفس الصف , جلس ابنيهما : الأول في الحادية عشر و الثاني بحدود الثماني سنوات , لكن يبدو إنه بسيط عقلياً ! و كان يلعب بلعبته الكترونية ..

و جلست بجانبي (قرب النافذة) اختيهما (ذات السبع سنوات) و إسمها : ريم .. اما بجانب مقعدينا : فجلس رجلان في اواسط العمر , و كانا يتحدثان بأعمالهم التجارية .. و خلفهما (في وسط الحافلة) : جلست إمرأة عجوز ,  تاركة عصاها بجانبها .. اما خلفي (بصفّين من المقاعد) : جلست صبيتان .. و في المقاعد الأربعة الأخيرة للحافلة : يوجد رجلٌ عجوز و امامه ثلاثة شبان , كانوا يضحكون بصوتٍ عالٍ .. أما في نهاية الحافلة عند المقعد الطويل : فكان عليها فراش السائق , لأخذ راحته وقت تبادل القيادة مع مساعده .

و قد انطلقت رحلتنا مع نغمات الموسيقى الهادئة , مما جعل الكثير منا يخلد للنوم .. اما انا , فكنت اتأمل السائق و مساعده و هما يتحدثان بصوتٍ منخفض .. لكن فضولي و كثرة قراءتي للقصص البوليسية جعلني أتوهم  إن علاقتهما يشوبها الغرابة ! فأنّصت لحديثهما , و كان من بين ما سمعت : (( انت السبب !! اسكت !! هذا قدرك ! انا احق منك !!)) كلماتٌ غريبة ! لكن لم يسعفني الوقت لأفكر فيها , فقد غلبني النعاس .

عند الساعة الحادية عشر ظهراً .. إستيقظنا جميعنا على اثر مشاجرة عنيفة حدثت بين السائق سلّوم و بين احدَ الشباب (في الخلف) , و عرفت لاحقاً : ان الشاب حاول مضايقة العجوز (الذي يجلس بجانبهم) مما اغضب سلّوم فصار يسبّ و يلعن الشاب .. فبادره الشاب (الذي إسمه صالح) بالشتائم أيضاً , و لم يحنّ وقتٌ طويل حتى تشابكت الأيدي ! و قام بعض الرجال لتهدئة الموقف , مما اضّطر جمال لإيقاف الحافلة امام سيارة للشرطة (متوقفة بجانب الطريق) .. ثم نزل وهو يقول :

– مشاجرة في الداخل !!

فركض الشرطي الى داخل الحافلة .. و قام على الفور !! بصفع صالح بقوة , جعلته يفقد صوابه , فصار يسبّ الشرطي و يلعنه .. فمسكه الأخير من يده و ارغمه على النزول… و كان الموقف على وشك التصاعد لدرجة اعتقاله , الاّ ان الجميع حاولوا حل الموقف .. و قد نجحوا بعد ساعة و نصف من بدء المشاجرة ! و عاد الجميع الى مكانه ..و منهم صالح , الذي عاد و نظرة الإنتقام ظاهرة في عينيه !

فيالها من رحلة مشوقة !

.. لكن الحمد الله , لم يعد لهذه المشكلة من اثر بعد ان توقفنا عند أول استراحة..

و بعد ساعة .. عدنا جميعنا الى الحافلة بعد ان سمعنا صافرتها العالية .. و قبل ان نكمل المسير , انتبهت لعدم وجود المرأة العجوز و اسمها : سلمى .. فطلبت من السائق التوقف حالاً !! لكن سرعان ما صبّ سلّوم غضبه عليها (و هي تصعد للحافلة) و لم يرحم كبر عمرها .. و قد لاحظت انهما تبادلا نظراتٍ قاسية و غريبة في نفس الوقت !

و بالرغم انها عجوز , الا انني كنت رأيتها (في بداية الرحلة) و هي تحمل حقيبتها (المتوسطة الحجم) لوحدها , مما يدل على قوتها و هي بهذه السن ! 

لكن ما ادهشني هي تلك النظرات الغريبة بينهما , فقد أحسست بأن ورائها سراً (او هكذا تهيأ لي) .. فأنا اذكر انني سمعتها (سابقاً) و هي تطلب من مسؤول السفريات : تغير الحافلة .. ربما بسبب رؤيتها لإحدى الركاب , او بسبب السائق نفسه ..من يدري ؟! لكن كما توقعت .. فسلّوم وراء كل مشكلة

و بحلول الظلام , كان الجميع نائماً .. و قد حان الدور على جمال ليستلم القيادة .. و لأن الأضواء خافتة , فلم يرى سلّوم قدم الرجل المكسورة (لسعيد) و الممدودة خارج كرسيه , مما جعله يقع ارضاً .. و قد استيقظ الجميع على صرخة سعيد (المتألّم) ! و رغم إنه خطأ سلوم , الا أنه انهال بالسبّ على سعيد دون ان يراعي مشاعر عائلته .. و قد حاولت زوجة سعيد تهدئته (لزوجها) بصعوبة .. لكن هذه الواقعة كان لها اثرٌ كبير على اولاده الثلاثة , حيث خيّم على وجوههم الحزن الشديد !                                         اما سلوم فيبدو ان ارهاقه الشديد لم يسمح له بالتمادي اكثر , فلمّلم أغراضه و هو يتمتم و يشتم الحافلة بمن فيها ..

ثم تمددَّ على المقاعد الخلفية (خلف الشباب) و غطى وجهه باللحاف السميك , و سرعان ما غطّ في نومٍ عميق… و رغم ان شخيره كان عالياً و مزعجاً الا أن الجميع تنفس الصعداء , و حمدنا ربنا على اننا اخيراً سننام بهدوء .

نعم .. لقد كانت الرحلة بفضل سلوم مليئة بالمشاكل , مما جعل الرجل المتوسط في العمر(احمد) يتقدّم نحو جمال ليسأله :

– بالله عليك !! كيف تعمل مع هذا الرجل العصبي ؟!

 فقال جمال :

– هو لم يصبح هكذا , الا بعد حادثة قديمة حصلت له .. لكن اطمأن !! هذه آخر رحلة له , فقد كبر بالعمر .. (يتنهد) .. ليعيننا الله !

– يا لحظنا الجميل .. الم نذهب الا برفقته ؟!

– و ماذا أقول انا ؟

– ماذا تقصد ؟

– لا .. لا شيء .. اذهب و ارتح قليلاً , قبل أن يستيقظ سلوم

– معك حق

 

لكن احمد عاد الى مكانه ليأكل تفاحة , قام بتقشيرها بسكينته الكبيرة .. و بعد أن أكلها , نام ثانيةً

أما عن نفسي .. فقد أخذ التعب مني كل مأخذ , مما جعلني اعود للنوم ..  لكن رغم تعبي , إلا إنني احسست (بعد ساعة او ساعتين) بأن الحافلة توقفت ! فحاولت فتح عينايّ بصعوبة , و قد لاحظت عدة أشياء : كخيال يمرّ من قربي ببطء .. كما تناهى الى سمعي لحن اللعبة الإكترونية للولد (المعاق ذهنياً) .. و ايضاً سعال المرأة العجوز ..               

و قد حاولت مشاهدة الفيلم (في التلفاز المعلّق فوق السائق) و انتبهت على مشهدٍ واحد : كان فيه ولدٌ صغير يقتل رجلاً , و يصرخ غاضباً :

-هذا من اجل والدي !!

لكن التعب لم يجعلني أكمل الفيلم .. كما ان البرد كان شديداً , مما جعلني ارتدي القفازات .. واعود للنوم ثانيةً..

الا أنه لم يمرّ وقتٌ طويل , قبل ان تتعالى صيحات الركاب الواحد تلوّ الآخر .. و قد جاء دوري لأصرخ , بعد أن رأيت سلوم ساقطاً على الأرض , و السكينة الكبيرة مغروزة في ظهره !

(يا الهي !! لقد قُتل سلوم… ماهذه الرحلة المشؤومة !).

و بدأت خيوط الفجر بالظهور , بينما الخوف و الحزن يهيّمان على كل من في الحافلة .. اما الشاب صالح فكان أشدنا فزعاً , فوجهه مصّفر من الرعب ..مما جعلني أقول في نفسي :

(اما ان تكون بريئاً , او انك ممثلٌ بارع !)

لكن الإرتباك كان واضحاً ايضاً على سعيد و على احمد ! اما المرأة العجوز فلم يبدي وجهها الا بعض الإستغراب ليس الا .

و في هذا الظرف الصعب ..كان اسامة اخو ريم (البسيط ذهنياً) يلعب بلعبته و هو يضحك ! مما جعلنا نحسده , و نقول في أنفسنا :

(انك في عالمٍ آخر !)

و بعد فترة من الصمت القاتل .. ركض جمال نحو المقود , و سار بنا بسرعة نحو شرطة المدينة (التي كنا نمرّ بها)..

و كان هناك خارج المركز : مجموعة من الشرطة و من بينهم محقق جنائي يتسامرون و يشربون القهوة , فأوقف الحافلة ليركض اليهم .

و بعد عشر دقائق .. دخل علينا رجال الشرطة , و على وجههم علامات عدم التصديق , الا أنهم فوجئوا بالجثة مغطاة باللحاف (الذي تحول لونه الأبيض الى الأحمر) و السكينة بظهر سلوم !

 ثم بدأ التحقيق المزعج ..فقد سألني المحقق الكثير من الأسئلة : اجبت عليها , كما أجاب عليها بقية الركاب .. كما اخذوا بصماتنا و البصمات التي على السكين .. و كنت قد اخبرت المحقق بما رأيته : كخيال الشخص الذي مرّ امامي ليلاً .. لكن لم أخبره عن الباقي , لأني لم اظنه مهماً .

و بعد ساعة , امر المحقق بإنزال الجثة الى المركز ..لكن منظر الدم جعلني اشعر بالغثيان , فنزلت من الحافلة و ابتعدت عنها مسافة .. و بعد أن انتهيت , و قبل ان اصعد اليها .. و جدت المحقق يتحدث مع جمال .. فأقتربت منهما بحذر , و اختبأت خلف الشجرة ..و سمعتهما يقولان :

– المحقق : و اين كنت وقت ارتكاب الجريمة ؟

– جمال : كما قلت لك .. فبعد ساعتين من نوم سلوم , شعرت بإن إحدى العجلات تحتاج لشدّ البراغي .. فأوقفت الحافلة على جانب الطريق , و نزلت لأتفحّصها .. و بعد ربع ساعة تقريباً , عدت للداخل و جلست بمقعدي .. و قبل ان اسير , عدّلت المرآة الكبيرة لأنتبه على سلوم واقعاً على الأرض ! فمشيت اليه .. و كان تماماً كما وجدتموه , فأنا لم احركه .. بل اكتفيت بالصراخ , فاستيقظ الجميع .. ثم اتيت اليكم ..و هذا كل ما حصل .

و بعد ان سمعت هذا الحوار , دخلت الحافلة من بابها الخلفي (كي لا يراني المحقق) .. و عندما دخلت , سمعت المرأة العجوز تسعل .. و تقول بعصبية :

– لا تفتحوا البابين معاً !! فالجو بارد !

فاعتذرت منها , ثم اغلقته (بالضغط على زر موجود بإسفل الباب)..  ثم اقتربت منها..و سألتها :

– هل انت بخير , يا خالة ؟

فأجابت بتعب :

–  ما ان يفتح الباب الخلفي , حتى ابدأ بالسعال .. ليتني اخترت مكاناً بعيداً عنه .. على كلٍ .. انا بخير , لا تقلقي

فعدت الى مكاني , و صرت افكر :

(طالما انّي سمعت سعال العجوز ليلاً , فهذا يعني ان وقت ارتكاب الجريمة , كان بنفس التوقيت الذي خرج به جمال لتفقد العجلات .. لكن لماذا خرج من الباب الخلفي (القريب من العجوز) ؟… او ربما القاتل استغل غياب جمال و نوم الجميع ليقتل سلوم .. أمعقول ان يكون هو نفسه الخيال الذي مرّ بجانبي (ليلاً) ؟! اذا كان هذا صحيحاً .. فالقاتل يجلس امامي , و ليس بالمقاعد التي خلفي ! و بذلك اكون حصرت المشتبه بهم الى ثلاثة : الرجل المصاب و احمد و صديقه !)

و شعرت وقتها بأنني اهتديت الى شيء .. فخرجت (من الباب الأمامي) لأخبر المحقق بما استنتجته …

و هذا ما جعل المحقق يُعيد التحقيق مع هؤلاء الأشخاص , كما انه طلب العجوز مجدداً .. فخرجت سلمى (و هي تستند الى عكازها) بعد ان رمقتني بنظرة : احسست من ورائها بأنها عرفت : من انني اخبرت المحقق بكل ما قالته لي ..

آه نسيت ان اخبركم ببقية الحديث الذي دار بيني و بين العجوز : فبعد ان اخبرتني انها بخير , استأذنت بالجلوس امامها .. ثم سألتها : ان كانت تعرف سلوم سابقاً ؟

..فتعجبت من سؤالي , و قالت :

– و لما هذا السؤال ؟!

– لا ادري .. ربما نظراتكم القاسية لبعض ! او ربما لأني رأيتك ترغبين بشدّة تغير الحافلة … فما القصة ؟

– انت ذكية…. نعم .. انا أعرفه جيداً

فتجمّدت في مكاني , و سألتها :

– تقصدين .. انه قريبٌ لك , يا خالة ؟!

فأشارت لي بأن اخفض صوتي ..و دنت مني و قالت بصوتٍ منخفض :

– هو طليق ابنتي

– آه …انت حماته ! الهذا كنت تريدين تغير الحافلة , بعد أن رأيته ؟

– نعم.. لأني كنت السبب وراء طلاقه من ابنتي .. لهذا عرفت بأنه سيشتمي بأول فرصة سانحة له

– بصراحة لا الومك على تطليق ابنتك منه , فهو رجلٌ عصبي و اخلاقه سيئة !

– عندما تزوج إبنتي , كان رجلاً خلوقاً

– سلوم خلوق ؟!

– نعم .. لكنه تغير تماماً بعد الحادثة

– ما الذي حصل ؟

– بعد سنتين من زواجهما , و في احدى سفرياته .. قام سلوم بتحدي اصدقائه (سائقي الحافلات) : بأنه يستطيع تولي امر سفرية لوحده دون مساعد … و قد حدث كما اراد , رغم معارضة إبنتي للموضوع لأن السفرية كانت طويلة .. و بعد خمسة عشر ساعة من القيادة المتواصلة , احس بالتعب و النعاس .. لكن كبريائه منعه من أن يُوقف الحافلة لينام , فأكمل المسير لساعةٍ أخرى ..الى أن غفى للحظات … فانحرفت الحافلة و اصطدمت بالرصيف ثم انقلبت .. و قد مات اربعة من اصل ثلاثين راكباً و اصيب الباقون… اما هو , فكان أشدّهم إصابة .. فقد تكسّرت اضلاعه و تأذى سمعه , كما حصلت له بعض التشوّهات .. و لكثرة العمليات و الأدوية و المنشطات , زاد وزنه .. و الأسوأ ان اخلاقه تغيرت تماماً , و اصبح لئيماً و ناقماً على الجميع … و صار يضرب ابنتي كثيراً .. و ظلت المسكينة صابرة الى أن قبلت نصيحتي اخيراً , و طلبت الطلاق منه.. و بعد شهور في المحاكم , قبِل مُرغماً .. و تخلّصنا منه و من شرّه !! لكن هاهو القدر يجمعني به مرّة اخرى ! و لو لم اكن مستعجلة , لألغيت الرحلة .. لكن ابنتي على وشك الولادة , بعد أن تزوجت من رجلٍ آخر في تلك البلدة (المسافرين اليها) .

– قصة غريبة ! على كلٍ ..شكراً لأنك شاركتني همومك , يا خالة .

و من ثم نقلت هذه المحادثة الى المحقق .. و الذي تبعاً له , اخذ الخالة للإستجواب من جديد ..

لكن الآن بعد ان اربكتني نظرة العجوز , فقد جلست بالمقعد الخطأ ! (خلف الصبيتين) و بدل ان اعود لمقعدي فضّلت ان أستمع لكلامهما , لأني رأيت احدى الفتاتين تتحدّث مع جمال (عندما توقفنا في احدى الإستراحات) ..فأرهفت السمع , لأسمع هذا الحوار :

– سامية .. اجيبيني بصراحة .. هل تعرفين السائق جمال ؟

– نعم ..هو صديق اخي

– و اين تعرّف اخوك على هذا السائق ؟

– لم يكن سائقاً , بل كان اذكى طالب في جامعة أخي .. و كان يتبقى له سنة واحدة ليتخرّج و يصبح مهندساً ..

– و ماذا حصل ؟!

– لم يعد ابوه قادراً على دفع أقساطه الجامعية , بعد أن أصيب بأزمة قلبية اتركته العمل.. فأبوه كان سائق سفريات أيضاً , و كان صديق سلوم الذي نصحه الأخير بأن يدع جمال يعمل معه , خاصة بعد الحادث الذي أصيب فيه سلوم .. و قد قبل جمال مُكرهاً بعد الحاح ابوه و امه عليه , فهو إبنهما الوحيد … لكنه اخبر اخي بأنه سيكمل دراسته عند أول فرصة سانحة له , فحلمه الكبير أن يكون مهندساً .. لكن المسكين الى الآن لم يتسنى له الوقت للدراسة , فمنذ ان ترك الجامعة و هو يعمل مساعداً لسلوم

– و ما الذي حصل في الإستراحة , جعله يغضب منك هكذا ؟َ!

– ربما مباركتي له على الترقية ازعجته , لأن اخي اخبرني : بأن جمال سيتسلّم قيادة السفريات عن سلّوم , الذي سيتقاعد بعد هذه السفرية .. و بالفعل ! كانت الأخيرة له

(فقلت في نفسي) آه ..إذاً هذا كان معنى الحوار الذي سمعته في بداية الرحلة بين سلوم وجمال..ثم دنوت أكثر الى الأمام (خلف مقعدهما) لأسمع بقية المحادثة ..فسمعت :

– و لماذا غضب إذاً ؟!

– لأن معنى هذه الترقية : بأنه سيتكفّل بكل السفريات .. و هناك سفرية كل ثلاثة ايام , اي لن يتبقى له وقت للدراسة

– و مالذي تغير عليه , فذات الشيء …

– (مقاطعة) لا .. فمساعد السائق لديه سفرية واحدة كل الأسبوع

– الم تقولي انه مساعد سلوم ؟

– ليس في كل السفريات ..فهناك شابان آخران يساعدانه (سلوم) … و المسكين كان يجمع قسط جامعته ليبدأ اول هذه السنه

– إذاً فليترك العمل , ما الذي يمنعه ؟!

– لا يستطيع ..صحيح ان والده توفي .. لكن تبقى امه المريضة .. كما إن أهل خطيبته فرحوا جداً بهذه الترقية , لذا لم يستطع رفضها !

– الحق عليه ..كان عليه ان يركّز على التخرّج قبل ان يخطب

– قلت له هذا.. لكنه قال : انه احبها !

(و لم استطع سماع بقية المحادثة ..لأني شعرت بأن الفتاتين إنتبهتا عليّ .. فعدّلت جلستي للوراء , لأتسمّع على حديث الشباب (في الخلف) ..  و من بين ما سمعت :

– اخبرنا صدقاً .. هل انت يا صالح من ..

(يقاطع صالح صديقه بغضب و خوف)

– لا صدقوني !! كنت نائماً.. و لماذا اقتله أصلاً ؟!

– (صديقه الثاني) : لأنك تشاجرت معه

– هذا من سوء حظي !

و قبل أن يُكمل ناداه الشرطي للتحقيق , فقد كنت أخبرت المحقق بالمشاجرة سابقاً… فخرج صالح و هو يرمق اصحابه بنظرة لا تخلو من الحزن و الخوف …و بعد ان خرج جلست في مقعدي .. و مضت ساعة كاملة خيم فيها الهدوء المتوتر على كل من في الحافلة , و من بينهم سعيد الذي كان يتحدث مع زوجته بخوف و قلق واضحين ..ثم جاء الشرطي ليعيد صالح , و يطلب من سعيد النزول للتحقيق …فنزل و هو يستند على عكازه الطبي

و يبدو انني الوحيدة التي اخبرت المحققّ بموضوع المشاجرات التي حصلت بين الركاب و بين المجني عليه سلوم !

لكن هناك أمراً آخر ادهشني ..فأحمد خائفٌ أيضاً , لكن لماذا ؟!

و قبل أن أفكر بالسبب… كانت ريم الصغيرة تطلب مني ان اقترب منها لتهمس في اذني : بأن القاتل امامنا ! 

فقلت لها :

– لم أفهم .. ماذا تقصدين ؟!

– الا تذكرين عندما ضحكت على العم أحمد , لأنه يقشر تفاحة صغيرة بسكينة كبيرة .. اليست هي نفسها السكينة التي قُتل بها السائق ؟

– فقلت بدهشة : يا الهي !! كم إنتِ ذكية ! نعم ..هي نفس السكين !

و صرت افكر :

(طيب لماذا قتله ؟ فلم تحدث ايّ مشادة بينهما !)

فطلبت من ريم ان تنزل معي لتخبر المحقق بأمر السكين , لكنها خافت ..فنزلت وحدي ..

و بعد أن اخبرته …طلب المحقق من الشرطي إحضار أحمد للتحقيق معه مجدداً , بسبب المعلومة الجديدة ..

لكن سرعان ما انهار أحمد امام الجميع , و صار يصرخ بهستيريا : بأنه ليس القاتل !!! و يحلف بأنه لا يدري كيف وصلت سكينته لظهر سلوم  … لكن الشرطي امسك بذراعه (بقسوة) و ارغمه على النزول ..

و مرّت عشر ساعات على الحادثة , و لم نعد بإستطاعتنا التحمّل اكثر.. فطلبنا من المحقق ان يدعنا ننزل عند اقرب إستراحة , فقد جعنا كثيراً ..  لكنه رفض و امرنا بالهدوء ..

و بعد ساعة , قدموا لنا اطباقاً من البطاطا و اللحم من مطبخ المخفر .. وقد اضطررنا لأكلها , رغم ان الطعام لم يكن شهياً !

و بعد أن انتهيت من الطعام , أحسست ببعض الملل ..فوجدت نفسي أقف قرب مقعد اسامة (البسيط عقلياً) .. (و كانت امه قد نزلت مع ريم الى الحمام الوحيد الموجود في المخفر) .. فسألته :

– كيف كان فيلم الأمس , يا اسامة ؟

– كان جميلاً !! فالبطل طفلٌ صغير , قتل رجلاً لأنه شتم والده ..

– بطل يا أسامة ؟!

فقال بحماس :

– نعم , بطل !!

(فأحسست إن وراء كلامه شيئاً مخيفاً) فجلست بجانبه و سألته :

– ليلة الامس .. اقصد وقت عرض الفيلم .. هل كان هناك من يمشي في الممرّ , بعد أن توقفت الحافلة ؟

– لا ادري… لكني صرت اسمع التلفاز بوضوح , بعد ان توقف شخير عمو سلّوم المزعج !

– طيب هل سمعت اي شيء , قبل أن يتوقف الشخير ؟… ارجوك اسامة حاول ان تتذكّر 

– سمعت بعض الأصوات الغريبة

– (فسألته بإهتمام) مثل ماذا؟

– كأنه انين !

و صار يقلّد لي الصوت (امممممممّ)

ثم سكت , و انشغل ثانيةً بلعبته الكترونية

فبدأت أفكر :

(..سماعه لهذا الصوت يعني : بأن القاتل كان يقتل سلوم , بنفس الوقت الذي كان فيه جمال خارج الحافلة .. مما يعني ان جمال لم يقتله .. الا إذا كان يكذب , و اوقف الحافلة لكي يطعنه .. و ربما انتبه لإستيقاظ احد الركاب ففتح الباب الخلفي و نزل , ليقول لاحقاً : بأنه كان يصلح العجلة !

…لكني لا ارى بعد دافعاً قوياً لكي يقتله ! فهو سيستلم العمل عنه , بعد هذه الرحلة .. يعني بهذه السفرية ستنتهي علاقته بسلوم و يرتاح منه .. أيعقل انه اراد الإنتقام منه , لأن سلوم هو من ضغط على والده ليعمل معه , و بذلك اضاع مستقبله العلمي ؟!..الله أعلم , لكنها تبقى معلومات مهمة , و عليّ ان اخبرها للمحقق) 

 لكن قبل ان اقوم من جانب أسامة , فاجئني (و هو مازال يلعب بلعبته , دون أن ينظر الي) بقوله :

– عمو سلوم رجلٌ شرير , و كان يجب ان يموت !!

فتذكّرت الفيلم و سألته :

– لو كنت مكان الطفل البطل (الذي كان بالفيلم) هل كنت فعلت مثله ؟

فلم يجبني لكنه اكتفى بالإبتسامة .. و قبل ان استفسر اكثر , كانت امه و اخته قد صعدتا الى الحافلة .. فقالت والدته :

–  اشكرك ابنتي لأنك انتبهت عليه , فأبوه و اخوه مازالا نائمين

–  (بإرتباك) العفو !

ثم نزلت بسرعة لأخبر المحقق بالمعلومات الجديدة .. و ماهي الا لحظات , حتى تفاجىء الجميع بالمحقق يأخذ الصبي (أسامة) للتحقيق !

– فقالت أمه : لكنه …أقصد الا ترى إنه.. (فهي لا تريد أن تقول عنه : معاق , خوفاً على مشاعره)

لكن المحقق اصرّ على أخذه .. و بسرعة ايقظت الأم الأب لينزل مع إبنه , فرافقهما الوالد الذي كان مندهشاً من طلب المحقق !

و مرّت نصف ساعة .. كنت اراقب فيها الأم و اخوه و ريم و هم قلقين جداً على اسامة , فأحسست بالكثير من الندم لما فعلت ! لكن لا أحد يعرف بأنني أنا من انقل المعلومات من داخل الحافلة للمحقق .. و ربما كان هذا بسبب حشريتي الزائدة , او عشقي للقصص البوليسية ..او بالأصح : لأني اريد لهذه القضية أن تنتهي بسرعة و يقبضوا على الجاني , لنعود جميعاً الى الوطن بعد أن اتعبنا التحقيق !

و بعد قليل , عاد الرجل مع ابنه أسامة (و الذي إحتضنته أمه بقوة) ..لكن الغريب إن الأب عاد و على وجهه علامات التعجب و القلق !

و بعد أن إنشغل أسامة باللعب مع أخوته , اقترب ابوه من زوجته .. و بدأ يهمس في أذنها عن ما قاله أسامة بالتحقيق ..و على الفور , اصفر وجهها قلقاً ! و مع إني حاولت أن أرهف السمع , الا إنني لم أسمع شيئاً !

فهل اخبر أسامة المحقق بنفس الأشياء التي أخبرني بها ؟ ام قال شيئاً  أخطر , مما جعل والداه مرتبكان هكذا !

أمعقول لولد في مثل عمره ان .. لا !! غير معقول .. اصلاً ليست لديه القوة الجسدية لذلك , فمازال صغيراً .. ولوّ كان هناك احتمال بسيط بذلك , لما أعادوه الى الحافلة !

أفّ !! ما أدراني.. ربما ينتظر المحقق ظهور نتيجة البصمات التي اُخذت من على السكين , و التي أرسلها مع الشرطي للمدينة المجاورة … و أظن ان النتيجة قاربت على الوصول , بعد مرور كل هذا الوقت !

و في المساء .. حاولت ان اريح رأسي من تلاعب الأفكار … و كنت على وشك النوم الاّ أن صوت المحقق (بالميكرفون) إيقظني : و كان يطلب من الجميع العودة لمقاعدهم , لأنه وصل اخيراً تقرير البصمات

فجلس الجميع , و هم يترقبون المحقق و هو يفتح الظرف

فبدأ يتمتم ثم قال :

– للأسف !! لم يتواجد ايّ بصمات على السكين ! يبدو إن القاتل ذكي 

و ما أن قال ذلك , حتى اصيب الركاب بخيبة أمل .. فقد كنا جميعاً نرغب في معرفة القاتل , و الإنتهاء من هذه المشكلة

و فجأة !! دخل شرطياً الى الحافلة و وجهه مصفّر .. و صار يتلعّثم بكلامه , و لم نفهم منه حرفاً !

فصرخ في وجهه المحقق , كي يفهمه القصة !!

الاّ أن القصة أتت بنفسها !

فقد دخل علينا رجلاً بالكاد يستطيع الوقوف… و الظلام لم يجعلنا نتبين من هو؟ …الا أنه مع تقدمه خطوة بخطوة , أبان الضوء الخافت (في الحافلة) وجهه , فإذا هو سلوم !!

صُدم الجميع ! و كان بعضنا على وشك الأغماء , فسلوم لم يمت بعد ! و رغم تعجّب المحقق الا أنه تمالك نفسه , و ساعد سلوم الجريح على الوقوف .. فنظر الينا (سلوم) بعينيه الغائرتين , و كأنه خارجاً من مقبرة .. و قال بصوتٍ مرهق :

– القاتل الجبان !! لم يجرأ على كشف اللحاف .. و يبدو ان سماكة الغطاء خفّفت من قوة الطعنة …. لكن الحقير لا يعلم بأنّي رأيته..  آخ !!! كم الألم شديد !

و قبل أن يسقط مغشياً عليه , طلب المحقق منه أن يشير الى قاتله …فأشار بإصبعه… و التفت الجميع نحو الشخص المشار إليه … فإذا هو أنا !

فوقفت و انا اضحك بهستيريا , و قلت له :

– ألم تمت بعد أيها العجوز المشئوم !!

و صعق المحقق قائلاً :

– أنتي ؟!

– فقلت : (( نعم , انا !! فغرور هذا اللعين و عناده على قيادة السفرية لوحده , حرمني من امي و ابي !! لكني احفظ اسمك جيداً يا ((سلوم عيسى)) !! و قد حاولت جاهدة أن اعثر عليك طوال السنوات الماضية .. و قبل ان ايأس , جمعني القدر مع قاتل والدايّ ! و ما ان عَرّفْتَ عن نفسك في بداية الرحلة , حتى بدأت اخطط للإنتقام !!

و انتظرت المساء الى ان نام الجميع , و ارتديت القفازين .. و من حسن حظي إن جمال نزل من الحافلة .. فمشيت بخفّة كي لا يلاحظ اسامة وجودي (الوحيد المستيقظ) , و أخذت السكين التي نبهتني عليها ريم من حقيبة أحمد , و مشيت حتى وصلت للمقاعد الخلفية …

لكن الخوف تملّكني و اصابني الذعر , فلم اكشف اللحاف عنك , و طعنتك بكل قوتي .. و قد اربكني الموقف لدرجة انني فتحت الباب الخلفي لأهرب من هذه الرحلة , خاصة اننا دخلنا هذه المدينة .. لكني لمحت جمال يعود , فأسرعت الى مقعدي .. و نسيت اغلاق الباب من جديد ! ثم ازلت قفازاتي و تظاهرت بالنوم ..

و بعد أن بدأت التحقيقات .. سارعت في تشكيك أيها المحقق بكل شخص هنا , كي أبعد التهمة عن نفسي… و كنت على وشك الإفلات من العقاب لولا هذا اللعين !!!))

و صرت أضحك بهستيريا و بصوتٍ عالي …فأمسكني المحقق من يدي بغضب , و انزلني من الحافلة

وها أنا ذا أكتب قصتي في زنزانتي المقرفة , التي سأمضي فيها عشر سنوات بتهمة الشروع في القتل و تضليل العدالة… و قد كلفتني اتعاب المحامي الكثير لأحصل على هذا الحكم المخففّ .. اتمنى أن استردّ بعضاً من هذا المبلغ , بعد نشر قصتي هذه !

 

تاريخ النشر : 2015-10-17

guest
62 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى