أدب الرعب والعام

رحلة مع تقاسيم المسنين

بقلم : المستجير بالله – سلطنة عمان

حين قرأت إعلان عن وظيفة سائق حافلة لدار المسنين

بحثت طويلاً عن وظيفة تكون مصدر رزقي ، حتى كاد من الأسى و الإحباط ان ينقطع شقّي .
بحثت و بحثت و ذُقت مرارة الشتائم , و ذُلّ الرفض من ارباب العمل
.. لكن ما تزال نفسي مُقاتلة , و قلبي حصاناً لا تحزنه كثرة السقطات
و العثرات , و وقع الشتائم و اللعنات التي تفوق وقع السيوف البارقات !

و في يومٍ من الأيام ..أشرق بصيص الأمل , حين قرأت إعلان عن وظيفة سائق حافلة لدار المسنين
.. و قد قاتلت للظفر بها أيّما قتال , و جنّدلت المنافسين عن اليمين منّي و الشمال
..فكنت أنا فارس الوظيفة و رافع لوائها !!

و مرّت الشهور ..و بدأت أتعرّف على المرؤوسين و الموظفين و المسنّين , و توطّدت علاقتي بهم
..فكنت المحبوب و المرغوب , و مَن لا يتمنّون لشمسه أن تنّذر بالغروب

* * *
اما اليوم ..فقد اصبحت طاعناً في السن , ارقد على فراش المرض ..و قد قاربت بالعمر امثال من كنت أقلّهم بتلك الحافلة..
حيث كان يجلس المسنّون فيها : شاحبي الوجوه , ذابلي الغصون , و قد أنهكت أجسادهم طول السنون..

* * *
كنت شاباً يافعاً حينما حدثت معي هذه القصّة العجيبة , التي ما ازال الى اليوم لا ادري إن كانت حقيقة محضة , أم كابوساً واهماً عشته لدقائقٍ معدودة !
في ذلك النهار .. طلبت منّي إدارة الدار : أن أقلّ المسنين بالحافلة في رحلةٍ لأرياف المدينة ..
و كان يرافقني في الرحلة زميلٌ آخر , تطوّع كدليلٍ سياحي لمعرفته بالأماكن و الطرقات , و ليساعدني ايضاً على قضاء حوائج الرحلة و الإعتناء بالمسنين

.. و بعد عدّة كيلومترات من نقطة انطلاقنا ..راودتني رغبة غريبة في التمعّن بوجوه المسنين , التي صارت تشابه وجوه الأطفال في براءتها !
كانت يدايّ على المقود , بينما عينايّ تنظران بشرود في المرآة (الكبيرة المعلّقة فوقي) الى العجائز , الذي غفى معظمهم بعد دقائقٍ قليلة من بداية الرحلة ! و صرت اتأمّل تلك التجاعيد التي حُفرت على وجوههم و جلودهم , فتخيّلتها كصحراءٍ شاسعة , نسَجها شقاء السنين الطوال , فنُقشت خطوطها على الأجساد الهُزال ..

ثم رددّتُ بصري الى الطريق , فإذّ بها تتحوّل بثوانيٍ الى طريقٍ صحراوي تمتدّ على مدى البصر .. فهالني ما رأيت !
اما ما حدث بعدها .. فأنا اذكرها الآن , كومضاتٍ سريعة في ذهني :
محاولاتي اليائسة للعودة الى الطريق الإسفلتي … فزع و صراخ الركّاب يرافقه سيلٌ من الشتائم .. فشلي انا و مساعدي في تحريك الحافلة التي غاصت في الرمال .. انهيار اول مسنّ بأزمة قلبية .. ثم توالت الوفيات ! و لا ادري كم من الوقت امضيناه هناك دون طعام او ماء , الى ان مات الجميع ! فيما لفظ مساعدي (الشاب) انفاسه الأخيرة بين ذراعيّ .. لأركض بعدها في الصحراء , و انا أنثر التراب على رأسي كالمجنون , و ابكي كالمرأة الثكلى ..

و اذكر انني في بداية المشكلة كنت خائفاً على خسارة وظيفتي .. لكن بعد موت اول ضحية , صرت مرعوباً من ان يزجّ بي في السجن بتهمة الإهمال .. امّا في اللحظات الأخيرة .. فكنت اخشى فقط على مصيري , بعد ان نحِلَ جسمي من شدّة الجوع , و جفّت عروقي من كثرة العطش ..و اذّ بقوايّ تنهار لأسقط على الأرض .. و بقيت مستلقياً هناك حتى حلّ الظلام .. و صرت اراقب النجوم , و انا ادنّدن اغنية كانت تغنيها لي والدتي قبل النوم , مُتجاهلاً صوت شيءٍ يزحف بالقرب مني !.. و رغم كل ذلك الخوف , الاّ انني شعرت بالسكينة و الهدوء و كأنني استسلمت للقدر .. و اغمضت عينايّ لأستعدّ لرحلة الموت الأبدية

و فجأة !! إنتبهت على يد مساعدي بعد ان وضعها على كتفي
– سامر ! لما انحرفت هكذا عن الطريق ؟! …هل نمت ؟
– ماذا ! لا ابداً !! …كنت .. كنت ابتعد عن حفرة كبيرة كانت…
– رجاءً انتبه .. لقد ارعبتهم يا رجل
و هنا صرت احدّث نفسي :
هل نمت فعلاً و انا اقود ؟! بحياتي لم افعلها ….. افّ ! ياله من حلمٍ مزعج

ثم نظرت من جديد الى المرآة الكبيرة , لأرى مساعدي و هو يحاول تهدأة العجائز ..
و انتبهت الى اعينهم الخائفة من ذلك الإنحراف السريع ..
و على الفور ! غرقت بتأمّلي لهم من جديد ..و صرت انظر الى عيونهم الغائرة , و تخيّلتها بحيراتٍ عميقةٍ جداً , تخفي في عمقها أسرار حياتهم !

و اذكر انني أشحت بنظري عن الطريق للحظة , لأتفاجأ !! ببحيرة كبيرة امامي ! فلم يسعفني الوقت لتفاديها , فنزلنا فيها .. لتبدأ البحيرة بسحبنا لداخلها .. و ماهي إلا دقائق , حتى امتلأت الحافلة بالماء .. و صارت تغرق ! و كلّه بسبب رعونتي في القيادة … و قبل ان يستوعب عقلي ما حصل , رأيت الركاب و هم يغرقون امام عيني ..و بدأت جثثهم تطفو على سطح الماء الواحد تلوّ الآخر …. بينما انا كنت اغرق اكثر و اكثر لقاع البحيرة ..فأغمضت عينيّ مُتقبِّلاً مصيري البائس

و فجأة !! صحوت مجدداً على صرخات العجائز .. و صراخ مساعدي (قاصد) من الخلف :
-أيها السائق الأحمق ! انتبه !!!!!
فصرت اعتذر من الجميع و انا محرجٌ منهم ..
ثم اقترب قاصد مني , و قال بصوتٍ منخفض و متوتّر :
– لو كنت اعرف القيادة , لرميتك في الطريق و اكملنا بدونك !!
ثم صار يهدّدني بإبلاغ الأدارة عن قيادتي المتهوّرة التي ارعبت الجميع ..
و انا بدوري وعدّته بالإنتباه اكثر …… ثم أكملنا الطريق

و لكن الوساوس عاودتني من جديد , و صارت تهمس لي :
(تأمّل يا سامر وجوههم البريئة , كما تتأمّل المناظر الطبيعية)
فعدّت لحركتي الغبية من جديد , و نظرت اليهم .. و هذه المرّة : لفَت نظري شعورهم البيضاء المشيبة
فتخيلها عقلي , كأراضيٍ شاسعة من الثلوج تغطي رؤوسهم ..

ثم إلتفت للطريق ثانيةً , و اذّ بها تتحوّل إلى طريقٍ مُثلج ! و قبل تدارك الموقف , غرِزنا فيها .. ثم نَدَفت السماء الثلج بكثافة , حتى غطّت الحافلة تماماً ..و حوصرنا في داخلها !
و صارت اجسادنا ترتعدّ من شدّة البرد , كما الخوف على مصيرنا

و اذكر ان العجائز في البداية , صاروا يترجّوننا لإنقاذهم .. لكن بعد ان فشلت مع مساعدي في فتح الباب , بدأوا يرموننا بالشتائم و اللعنات من خلف الكراسي المشابهة للثكنات
.. و لا ادري كم مرّ من الوقت قبل ان تهمد حركاتهم , و ألمح فيهم زرقة البرد و الموت ..ثم تساقطوا كأوراق شجرةٍ شاتية.. ثم لحقهم مساعدي (قاصد) ..و بقيت أنتظر وحدي موعد المنيّة , مُحاطاً بجثثهم المُجمّدة ! قبل ان استسلم للنوم الأبدي

و اذّ بي اشعر بصفعة قوية عابرة للقارات تستقر فوق وجنتي !
– أييييي !…قاصد !!!
– نعم قاصد ، أيها المعتوه !! أوقف الحافلة عند اقرب محطة , و سنتصل من هناك بدار المسنين ليرسلوا لنا من يقود مكانك , ايها الغبي !!
– انا لا ادري حقاً ما يحصل معي ..انا بحياتي لم ..
– وفّر تبريراتك للمدير ..لأني بالتأكيد سأقدّم تقريراً للإدارة عن هذه الرحلة السيئة !! و احمد ربك انه لم يمت احدٌ منهم بالسكتة القلبية !

و في المحطّة ..أنتظرنا قرابة ساعة , قبل ان يصل احد موظفي الدار (بسيارة اجرة) الينا ..ثم قاد الحافلة عائداً بنا لدار العجزة ..و بعد ساعة من وصولنا ..تم فصلي من العمل .
و هآقد عدّت عاطلاً عن العمل ..و كأن بؤسي السابق عاد ليحتضنني من جديد .. ليحدّثني عن شوقه لي , و عن مقدار حزنه على فراقي بعد ان وجدت تلك وظيفة , و عن قهره من نسياني لأيامه البائسة البغيضة !
فصار لي من إسمي ( سامر ) نصيب , فأصبحت سامراً لليل و النهار بلا عمل.. أشدو فيهما بحظّي العاثر , و اتحسّر على زماني الغابر..

* * *
و الآن !! أحكي لكم هذه القصة و انا على سرير المرض , في منزلي المتواضع الذي ورثته عن أهلي
..و قد بلغت من الكبر عتيّاً , انتظر وحدي لحظات الوداع الأخير..
و اقول لأرواح اولئك العجائز :
انتظروني !! فقريباً جداً سأدفع ضريبة الرعب الذي سقيته لكم في تلك الرحلة الغريبة
آه يا الهي ! الألم يزداد.. يبدو انه حان موعد وداعنا ايّها القارىء

هل سترافقني في رحلتي الطويلة هذه ؟
لا تخفّ !! فهذه المرّة لن أقود شيئاً
ماذا قلت ؟ لا تريد ! .. لكن انا …آآآآه ! كم الموت مُوجع .. عليّ التوقف عن الكتابة الآن .. فالألم لم يعد يطاق

* * *
و هنا !! سقط القلم من يد العجوز , الذي رفع اصبعه مُتشهّداً ..
قبل ان يصبح سامر جسداً ضامر , في طريقٍ بالغيبيّات عامر
ادعوا له بالرحمة ..و أن لا تكون آخرته حزينة بائسة , كدنياه
كان ذلك مُقتطفات من ((مذكّرات متوَفّى))

تاريخ النشر : 2015-12-22

المستجير بالله

سلطنة عمان
guest
51 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى