أدب الرعب والعام

و من الحب ما ظلم !

بقلم : سيبا – سوريا

كنت اختفى أمام بريق عيني استاذي السوداوين و سحر إبتسامته الهادئة

(( إنّه لمن الصعب جدّا أن يهزم الإنسان عاداته القديمة .. إنّها تستوطنك ، تتمسّك بك و تتماشى معك فيعود من المستحيل هجرها..
بل في بعض الأحيان .. يعدو من المستحيل حتى كرهها , و إن قادتك إلى حتفك !
و في النهاية .. كلّ ما يمكنك فعله هو تقبّلها و التعايش معها و إكتساب مهارة ترويضها ، و النجاح في إيجاد المسكّن المناسب للآلام التّي ستسببها لك عاداتك السيئة .

قد تكون عادات بسيطة : كقضم الأظافر . أو طريفة : كالمشي أثناء النوم .
أو حتى محببّة : كحمرة الخجل .
قد تكون خطرة : كالتدخين و شرب الكحول أو تعاطي المخدّرات .
و في بعض الأحيان .. تكون العادات قاتلة , لا تمنحك الحياة فرصة ثانية للإقلاع عنها :
كالحبّ من طرفٍ واحد .
..إنّه بحقّ أسوء العادات و أكثرها فتكاً بالإنسان..

أليست مُفارقة غريبة ؟!
أن يكون الحبّ أخطر من الكحول و التدخين و المخدّرات ؟!
أن يكون أشدّ فتكاً من الحرب ؟
و أكثر ضراوة من أنياب الموت و مخالبه المُسلّطة على الرّقاب ؟

تلك هي عادتي التّي أدمنت عليها .. أن أحبّ دوماً من لا يحبّني !
أن أسعى وراء من يتركني خلفه عمداً ..
و أن أتعلّق بما ليس لي , و لن يكون لي يوماً !
أحيانا أتساءل : هل أسأت فهم الحبّ , أم هو من يعبث بي ؟!
لذلك يتعمّد تعذيبي بالرجل الخاطىء كلّ مرّة ! ))

رفعت “جُمانة” رأسها بتثاقل و مرّرت يدها تفرك عنقها , و أشاحت بوجهها عن دفترها الصغير ..و أخذت تتفحّص من خلال زجاج نافذتها المُتربة , مجموعة من أبناء الجيران و هم يلعبون في سعادة .. أعادتها ضحكاتهم البريئة إلى سنين صباها , فإبتسمت للذكرى التّي داعبت عقلها ..
و عادت و أمسكت قلمها من جديد , و إنكبّت على دفترها لتكتب :

(( كان ظهور “عمر” في حياتي , بمثابة شعاع الأمل الخافت الذّي يشق طريقه بعناء ..لكن بإصرار , بين الغيوم الداكنة المُلبّدة في سماء حياتي .. و ذلك بعد إنفصال والديّ , و إنتقالي للعيش مع جدّتي في المدينة الضخمة , التي سمعت عنها الكثير من صديقاتي في قريتنا الصغيرة… لكنني لم أحبّ حياة المدن , بل كرهت العيش فيها ..كيف لا ؟! و هي مهد إحتضاري و بداية مأساتي !
كنت فتاةٌ بسيطة في السابعة عشر من عمري ..
بمظهرٍ ريفيّ ساذج , نفرَ منه أقراني من طلاّب المدينة المتأنّقين ..
كما ان لهجتي الغريبة عنهم , جعلتهم يزدرونني منذ لقائي الأول بهم , ليعرضوا عنّي ساخرين !

و لذلك لم أجد من أنيس لي سوى الكتب و الروايات , التي كنت أستعيرها بشكلٍ متواصل من المكتبة ..
و التي غذّت أفكارها الرومنسية , أحلامي الورديّة .. لأبتعد شيئاً فشيئاً عن الواقع بكلّ خيباته..
و اذّ بي اسبح في عالم الخيال .. و ما حملته الكتب بين طيات اوراقها من مواساةٍ لي و سعادة , و إن كانت ظرفيّة ..

و فجأة ! وجدت كلّ أحلامي التي ظننتها مستحيلة , مُجسّدة أمامي في شابٍ غريب , كان يذرع الرواق ..
حين وقف امامي ليسألني , بصوته الملائكيّ :
– عفواً يا آنسة .. أين تقع غرفة المدرّسين ؟
فأشرت بإصبعي إلى إحدى القاعات , دون أن تفارق عيني وجهه , الذي كنت أتأمّله بذهول !
فإلتفت هو إلى الوجهة التي أشرت إليها , ثم إبتسم قائلاً :
– شكراً لكِ
فأحسسّت بوهج إبتسامته الدافئة تنسل اليّ , لتذيب صقيع قلبي المتعب !

و لم أفق من خيالاتي ، إلاّ على صوت ضحكات بعض الفتيات , و هن تسخرنّ من وقوفي الغريب وسط الرواق ..لكني لم أهتم لهنّ هذه المرّة !
فكلّ شيءٍ حولي بدا يصغر و يصغر , إلى أن إختفى أمام بريق عينيه السوداوين و سحر إبتسامته الهادئة !

و لا أعرف إن كان هذا من حسن حظي , أم من سوءه ؟ أن عيّنت الأدارة هذا الشاب , كمدرسّ مؤقت لفصلي
..كلّ ما أعرفه , أنني شعرت حين رأيته مجدداً في فصلي : بأنّ السعادة قد تتجسّد في بعض الأحيان في
شخصٍ غريب تلتقيه صدفة , فيعصف بك و يقلب عالمك رأساً على عقب !
شخص من عينيه تبدأ كلّ تفاصيل يومك , و إليها تنتهي كلّ طموحاتك..
فلا يعود للوجود معنى في غيابه , و لا تهتم إن إنتهى العالم ما دُمت بقربه !

لقد كان “عمر” ذلك الشخص الذّي إرتقبت ظهوره في حياتي , بلهفة الأمّ التّي تنتظر مولودها الأوّل..
و تحوَّلَت تلك الفتاة الساذجة الهادئة (التي كنتها) إلى عاشقة هائمة ..
تحمرّ خجلاً من كلّ كلمة يُثني بها عليها , مدرّسها الشّاب..
و تهتزّ فرحاً لكلّ نظرة يختصّها بها..
و ترتعش من كلّ لمسة عرضيّة من يده , و هو يساعدها لحلّ مسألة ما ..
و تنتفضّ غيرة كلمّا إبتسم , تحدّث أو حتى نظرَ إلى إحداهن !

و بالرغم من كل هذا ! لم أمتلك يوماً الشجاعة لمصارحته..
أو ربما كنت أنتظره أن ينتبه لي ..
و أن يشعر بما أكنّه له من حبّ .. لكنّه لم يفعل !
بالرغم من كلّ ما تبوح به عينايّ , و هما تطاردانه من مكانٍ إلى آخر..
بالرغم من حماستي و أنا أتحدّث إليه ..
و كلّ الإشارات التّي أرسلها له , علّه يهتدي أخيراً إليّ..
…… الاّ إنّه لم يفعل !
كلّ ما إستطعته فعله , هو تحيّته في لقاءاتنا المتكرّرة..
و مراقبته من بعيد في يأس ، و هو لا يدري من أمري شيئا !

و مع الأيام .. تحوّل هذا الحبّ : الذّي كان بالأمس شعلة تدفئ قلبي ,
إلى نارٍ تُضطرم بداخلي تأكل الأخضر و اليابس
, و تعذّب ما تبقى من روحي !
فما كان مني إلاّ أن قرّرت !! ….نعم قرّرت ان أصارحه..
و لينتهي الأمر !! إمّا بالخلود في نعيمه …. أو بالعذاب الأبدي في جحيمه !

و في صباح خريفيّ تعيس , لن أنسى تفاصيله ما حييت..
و لا أظنه أيضاً سيقدر على محوه من ذاكرته !
قصدت مكتبه ، و قلت له في وجل :
– عفواً أستاذ عمر ……لديّ ما أخبرك به
فقطع حديثه مع أحد المدرسين ، و إلتفت إليّ في قلق ! و كأنّه إطّلع عمّا أخفيه..
و أشار إليّ بالجلوس .. لكنني أدرت عيني في المكان , أطلب بعض الخصوصيّة..
ففهم قصدي ..و نهض يلمّلم أوراقه على عجل ، فسقطت منه بعض الظروف..
فانحنيت على الفور لألتقطها..
كانت غريبة الشكل ! ….لا لم تكن كذلك..
كانت ظروفاً بيضاء عاجيّة لطيفة , تفوح منها رائحة البنفسج المنعشة ..
مزركشة بعناية و دقّة , و قد حُفر عليها نقش لحلقتين ذهبيتين مُتداخلتين !
سلّمتها له , و أنا أراوح نظري بين الظروف و وجهه ..
فابتسم بوداعة و قال (و هو يأخذها مني) :
– شكراً لكِ
و أخذ يمسحها في حركةٍ آليّة , و هو يجيب سؤالاً لم أطرحه :
– إنّها دعوات حفل زفافي

و أشار بيده لأرافقه إلى الخارج (كما أردتُ) ..لكننيّ تجمدّت في مكاني !
فيما سبقني هو إلى الباب .. و لمّا إنتبه إلى تخلّفي عنه , سألني (من بعيد) :
– هل أنت بخير ؟!
طالعته , فوجدته يتفحّصني في فضول .. بينما إحتضنت يده , الظروف اللعينة بحرص !
فعاد و اقترب مني .. بينما تعلّقت عينايّ بعينيه , ممّا جعله يُبعدهما سريعاً ..
و يسألني مُستفسراً :
– جمانة ! ماذا يحصل معك بالظبط ؟!

إنتابني شعورٌ غريب ! و فقدت شيئاً فشيئاً القدرة على التركيز , و أصبحت رؤيتي مشوشة ..
لكنّ فجأة !! برقت أمامي فكرةٌ مجنونة..
فتشبّثت بتنورتي بقوّة ..ثم أطلقت صرخةً هستيريّة !!! و وقعت على الأرض قرب قدميه
..فإنحنى مُرتعباً يسألني عمّا جرى !

فيما تجمّع المدرسون من حولنا , مكوّنين حلقة مُحكمة..
فنظرت حولي بعينين دامعتين ..
و قلت صارخة بكلّ ما أملك من قوّة , و أنا أشير إلى “عمر” :
– إنّ … الأستاذ “عمر”… تحرّش بي مراًراً !!!!
فتبادل الحاضرون نظراتً مُرتاعة ، غير مصدّقين ما سمعوه !
ثمّ نظروا إليّ , و كأنّهم يسألونني مزيداً من تفاصيل الكارثة التّي فجّرتها دون سابق إنذار !
كانت نظراتهم تائهة و عاجزة عن التصديق ..
فإستشعرت الهلاك , و إنتبهت لخطورة ما أقدمت عليه..
لكن لم يعد بإمكاني التراجع الآن .. لذا اكملت ما بدأته..
فعدّت أصرخ مجدّداً بهستيريّا !! مكرّرة ذات الكلمات :
– الأستاذ “عمر” …تحرّش بي مراراً !!!

فتوجّهت العيون إلى “عمر” الذّي ظلّ يطالعني في صدمة ! و قد عجز على إدراك الموقف..
و تحوّل الصمت الذّي خيّم على الغرفة طوال الوقت , إلى همّهمة و تملّمل..
فيما سقطت ظروف الدعوات من يده , و تناثرت في المكان..
و داستها أقدام المدرّسين و المشرفين الذين غصّت بهم القاعة…
ثمّ سادت الفوضى …))

رسمت “جمانة” ثلاث نقاط متواصلة ..و وضعت القلم جانباً , و أغلقت دفترها .

تاريخ النشر : 2015-12-22

سيبا

سوريا
guest
59 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى