تجارب من واقع الحياة

احتضار هريرة

بقلم : أحدهم – كوكب الأرض

المسكينة كانت يتيمة فقد ماتت أمها منذ فترة قصيرة

كان أبي الكبير يهب للذهاب لصلاة العشاء.. وأبي يعاني من ضعف حاد للرؤية ولم يكن يرتدى نظارة، إذ أنه لا يحبذ إرتداء نظارة عدساتها بسمك زجاج مضاد للرصاص لتبدوا عيني الغالي أبي كما لو أنها لأحد شخصيات الكرتون اليابانية.. المهم أن أبي كان ينزل من درج البيت الخارجي في تلك الليلة.. والقطط الأليفة كانت كالمعتاد بانتظار بقايا طعام العشاء الذي لم نتناوله بعد.. وعند الدرجة الأخيرة دعست قدمي الغالي أبي على هريرة صغيرة كانت مضطجعة في سكون.. كانت دعسة قوية غير مقصودة من قدم مستعجلة.. أطلقت المسكينة صرخة سنورية قطعّت نياط القلوب.. فما كان من أبي المذهول إلا أن حاول أن يتفادى الذي يحصل مخففا من أثر الدعسة فسقط أمام الدرج متفاجأ ومتحسرا.. كان أخي بالقرب من الحدث.. وليهون على أبي المكلوم قال (لم يحصل شيء .. أبتاه.. القط حي.. اذهب للصلاة).. أبي بنظره الضعيف لم يكن ليرى الحركات المتشنجة لتلك الهريرة المسكينة وذيلها الصغير الذي أخذ يرتعش ويتلوى من شدة الألم.. ألم الموت.. وبين أخذ ورد وتأكيد من أخي.. ذهب أبي وفي ظنه بأن ليس هناك ما يدعوا للقلق والندم عليه..

لم أكن بعيدا عن الحدث، ولكني لم أكن قريباً لأتبين ما يجري في الخارج.. ومن ثم أتاني أخي ليخبرني بشأن الهريرة الصغيرة.. في الخارج رأيت المسكينة فاغرة الفم وعينانها الصغيرتان مفتوحتان في سكون كعيون الموتى وقد أُفرغ ما في بطنها من قذى للخارج أثر الدعسة.. جثة هامدة كانت.. المسكينة كانت يتيمة فقد ماتت أمها منذ فترة قصيرة بعيّد فطامها بأيام قليلة.. وكانت تحظى بمزيد من الإهتمام نتيجة تنمر القطط الأكبر على الصغار أثناء أكلها لبقايا الطعام..

فحاولتُ أن أفعل شيئاً.. أخذت أضغط على صدرها الصغير ضغطات خفيفة متواصلة في محاولة إنعاش ربما تنجح.. لم أملك أي مهارة في الإسعافات الأولية لكنه كان شعور قوي بأن هذا سينجح.. الغالية أمي وأخي كانا جالسان أعلى الدرج يرقبان ويهمهمان بأن لا فائدة.. وما هي إلا دقيقة أو أثنتان وأخذت الهريرة ترتعش وتنكمش وتمد قوائمها الأماميتان نحو الخلف بشدة.. ظننا أنها سكرات الموت.. ظننا أنها تلفظ أنفاسها الأخيرة.. ولكنها أخذت تتنفس أنفاس صغيرة وسريعة متلاحقة وقلبها أخذ يخفق بقوة.. كنت أشعر بالخفقان عند أطراف أصابعي.. ومن ثم أفاقت المسكينة ببطء وبترنح ..

كان ذلك الشعور غامرا.. شعور لا يوصف.. أدركت حينها بعمق كم هي معطاءة مهنة الطب البشري والطب البيطري والمهن التي ترتبط بهما بشكل أو بآخر.. تذكرت حينها المعنى “الشعوري” لقوله تعالى ((من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا)) .. شعور مفعم بالخير والبهجة.. الهريرة أخذت تنظر بترنح عن يمينها وشمالها، ولم أكن متأكدا من سلامتها إلا بعد دقائق.. فقد كانت متعبة وأخذت تمشي في ترنح.. وكان شعورا جيدا أن ترها تأكل مع أقرانها بقايا الطعام بعد قليل..

الفرحة لم تتم .. كانت حالتها أكثر من مستقرة حتى ظهر اليوم التالي.. لكن عند الظهر لم تعد تأكل وكان من الواضح أن بها خطبٌ ما .. ثم لم نرها بعد ذلك.. أختفت في المزرعة.. حيث أن بيتنا في مزرعة .. بحثنا عليها طويلا ولم نجدها.. .. لا أدري .. .. قبيل إختفائها كان الغالي أبي يشك في أمر سلامة الهريرة فأخذ يسأل ويبحث في فضول عنها وعن حالتها.. عند الظهر وقبل أن تختفى القطة كنت قد أخبرته بأنها بخير وأخذ يتلمسها بيده ليتأكد بنفسه رغم أنه لا يطيق ملامسة القطط إطلاقا ولا يرغب أن تلاطفه القطط .. لكنها إختفت بعد ذلك.. نعلم بأنها ماتت في مكان ما في المزرعة..

شعور فقدان تلك الهريرة الصغيرة على هذه الصورة كان له أثر على الجميع.. وأولهم كان الغالي أبي.. لم يكن يعبّر عن ذلك صراحة، لكنه كان جليا عبر ملامحه الصامتة.. وقد كانت علامات الأسف تبدوا كلما تساءلت البقية عن الهريرة الصغيرة واللذين لم يكونوا على دراية بحقيقة ما جرى.. الصمت والوجوم كان كل ما تحكي لنا ملامح الغالي أبي كلما ذكرت سيرة تلك الهريرة عن غير قصد .. أعلم بأنه شعور مؤلم لمحبي القطط .. سامحوني

تاريخ النشر : 2015-12-28

guest
204 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى