سينما ومرئيات

“كيفين” .. الفتى الذّي وُلِد ليَقْتُل

بقلم : صبا – مصر

فيلم بريطاني يندرج ضمن الدراما النفسية

ثنائية الخير و الشرّ لا تفتأ تقض مضاجعنا، و تلح علينا بالسؤال، و تدفعنا إلى التفكير إن كنا أخيار بالسليقة، أم أنّه الخوف ما يبقينا على الصراط المستقيم، الخوف أنى كان مصدره، قانونا سماويا أو أرضيا، أو نفسيا حتى؟

و ماذا عن تلك الأوقات التّي تجتاحنا فيها رغبات مجنونة، قاسية و بشعة تغرينا بأذية الآخرين حتى المقربين منا؟

ما تلك المتعة التي نستشعرها و نحن نشاهد فيلما يعج بالدماء و الأشلاء و أصوات الأنين و ضجيج الأسلحة؟

ما ذلك البريق الشيطاني الذي يلتمع في أعيننا و نحن نلتفت حولنا لنحدد فريسة نطبق عليها ما شاهدناه و لو في مخيلتنا؟؟!!

لماذا؟؟؟؟؟؟

هذه الحيرة المخيفة هي وحدها من دفعتني لمشاهدة فيلم ” We need to talk about Kevin ” بعد أن شاهدت إعلانه الترويجي صدفة، ربما أحسست بأنه سيساعدني على الإجابة عن سؤال أرقني طويلا.

“يجب أن نتحدث عن كيفين” فيلم بريطاني يندرج ضمن الدراما النفسية (النوع المفضل لدي) من باكورة سنة 2011، مقتبس عن رواية بنفس العنوان صدرت سنة 2003 و حققت مبيعات ضخمة.

يتحدث الفيلم عن امرأة تدعى “إيفا” تتمتع بالاستقلالية و التحرر، تقضي أيامها في التنقل بين أرجاء المعمورة و الكتابة. تقع في الحب و تتزوج “فرانكلين” رجل هادئ و بسيط بساطة أحلامه بالاستقرار.

و عكس ما كان متوقعا، فإن حمل “إيفا” لم يدخل البهجة و السعادة على حياتها كما يفعل هذا الحدث السعيد في حياة كل امرأة أخرى.

blank
العلاقة بين الأم وطفلها كانت فاترة منذ لحظة ولادته

تحول الحمل إلى كابوس بعد أن اضطرت “إيفا” إلى التخلي عن حياتها المتحررة و الالتزام بهذا القادم الجديد، الذي لم ترده يوما، فقد بدا ذلك واضحا من كآبتها في فترة الحمل، من ولادتها المتعسرة و كأنها تقاوم قدومه إلى هذه الحياة.. حياتها، و من ضيقها بصراخ الصغير “كيفن” المتواصل و المثير لأعصابها، و غيرها من الإشارات التي تجعل المشاهد يستشعر تلك المسافة الكبيرة بين أم و أبنها!!

كبر “كيفن” و كبرت المسافة بينه و بين والدته، بل و أصبحت علاقتهما تتخذ منحا صداميا و عدائيا في كثير من الأحيان. فـ “كيفن” ذو الست سنوات مازال يرتدي الحفاضات و يرفض الذهاب للحمام نكاية في والدته، بل و يتعمد فعل كل ما يثير أعصابها و يجعلها تنفجر في وجهه كأن يلوث المنزل و يخرب خرائطها التي تجمعها، فترد هي بعنف قد يصل حد كسر ذراعه. فيستغل الصغير الماكر إحساسها بالذنب ليبتزها نفسيا و يلحق بها الأذى الشديد.

blank
كيفين الصغير كان يتلذذ بتعذيب امه 

و لكنه في المقابل لطيف جدا مع كل من حوله عداها، فهو يسرع لأحضان والده و يمطره بالقبل و الأسئلة، يتصرف بأدب مع الجميع عدا من أنجبته إلى هذه الحياة و كأنه يعاقبها على أحاسيسها الرافضة له فيما مضى. يتحداها بنظراته الوقحة بعد كل مصيبة يقوم بها، فيبعث في قلبك الخوف و الحيرة، و لا تتمالك نفسك أن تتمتم في رعب : “كيف لطفل صغير أن يكون بهذا الشر و الحقد و الخبث؟؟!!”.

يرزق الزوجان “إيفا” و “فرانكلين” بإبنتهما الصغرى “سولي”، و تعيش الأم لأول مرة لذة الحمل و ترقب الولادة و سعادة احتضان طفلتها بين ذراعيها، و كأنها تجربتها الأولى؛ مما يثير غيرة “كيفين” فتصبح الأخت عدوته اللدودة و هدفا لمقالبه الخطرة و مضايقاته بالرغم من تعلقها به و محبتها له.

و لكنه يجد لنفسه هواية أخرى لا تقل خطورة و هي رمي السهام، و يلقى دعما من والده الذي يهديه في عيد ميلاده الخامس عشر، قوسا و نشابا للمحترفين.

“كيفين” لم يكن يوما طفلا عاديا و لا مطيعا بل تفنن في تعذيب والدته التي كانت هدفا دائما لمضايقاته، لذلك لا تتوقع عزيزي القارئ أن تكون فترة المراهقة سهلة على هذه الأم التي أصبحت تخشى فلذة كبدها، فتبدو دائما متوترة ما إن يجمعهما مكان واحد، فيما تعلو دائما وجهه ابتسامة متشفية و هو يراقب إضطرابها أمامه. بالرغم من أنها حاولت التقرب منه، إلا أن حادث فقدان “سولي” لعينها اليسرى بسبب “كيفين” جعل أمهما “إيفا” تتهمه علانية بتعمد إيذاء “سولي” و لكن زوجها “فرانكلين” يتعامل مع كلامها بسلبية و يواصل تدليل أبنه البكر و اتهامها بالهذيان. فلا تجد مفرا سوى إبعاد “كيفين” عن شقيقته الصغرى و مراقبته.

blank
اصبح مولعا برياضة القوس والسهم .. وتسبب بالعمى لشقيقته الصغرى 

و لكن المقالب الصغيرة لم تعد ترضي “كيفين” خاصة و قد إعتادتها والدته و فقد بذلك لذة مراقبتها و هي تعاني عواقبها. كان يبحث عن عرض أكثر إبهارا، عن إنجاز يرضي جنونه و ساديته و ينحت صورته و إسمه بالأذهان إلى الأبد و خاصة في ذهن “إيفا” والدته.

و إختار لعمليته يوم عيد ميلاده السادس عشر (و هو كما تعلمون مرتبط في المعتقدات الغربية القديمة بالبلوغ حيث يترك الشخص طفولته وراء ظهره في حفل بهيج و يستقبل حياة البالغين).

و لم ينتظر “كيفين” أن يقام حفل بلوغه، فأقام واحدا بنفسه مستبدلا الألعاب النارية بسهام أطلقها بلا رحمة لتنغرس في صدور زملاء دراسته و أساتذته، بعد أن حبسهم في القاعة الرياضية مخلفا سبع ضحايا و عددا من الجرحى.

هرعت “إيفا” إلى المدرسة كغيرها من أولياء الأمور بعد تفشي الخبر، و لكنها كانت تتلظى بنارين، قلقها أن يكون مكروه قد أصاب إبنها، و هاجسها أن يكون لإبنها يد في ما حصل. و صدق حدسها فقد خرج “كيفين” بعد مباراة الصيد التي أقامها يتبختر و الإبتسامة تعلو وجهه، و إستسلم دون مقاومة.

و لكن منظر إلقاء القبض على إبنها البكر، و ترحيل جثث الضحايا و المصابين لم يكن أبشع ما ستراه “إيفا”، فقد إختتمت اليوم القاسي بإكتشاف جثتي “فرانكلين” و “سولي” في الباحة الخلفية للمنزل و قد علمها “كيفين” بسهامه قبل المغادرة. في مشهد صادم لن تنساه بسهولة أيها القارئ العزيز كما لم تنساه “إيفا” المسكينة.

blank
ينتهي كيفين إلى السجن بعد أن ارتكب مجزرة بحق زملاءه واستاذته ..

رحل الجميع ليتركوا “إيفا” تعاني إحساسا مميتا بالذنب، و تتحول إلى هدف لأحقاد أهالي الضحايا، و إنتقامهم المستمر رغم أنها تعاني الفقد كما يعانون. و تدفع ثمن كونها أما لذلك الوحش الذي أردى قلوبهم جميعا بسهامه، حتى قلب والدته. أو ربما السبب الحقيقي لكره الجميع لـ “إيفا” هو أنها لم تتخلى يوما عن “كيفين” حتى بعد أن أقدم على مذبحته بحق ضحاياه الأبرياء و على رأسهم زوجها و إبنتها.

فتلك الزيارات المتكررة للسجن ستدفعك للسؤال :”ما سبب دفاع “إيفا” عن إبنها القاتل؟… هل هي الأمومة؟..أم هو إحساسها بالذنب نحوه؟؟؟”

شكوك و هواجس و أسئلة كثيرة سيثيرها الفيلم و لكني متأكدة من أنه سيشدكم إلى متابعته، ربما بسبب أسلوبه الغامض الذي لن تفلحوا في حل ألغازه إلا في النهاية، أو ربما لأنكم مثلي تتلهفون شوقا لمعرفة جواب تساؤلكم “لماذا؟؟؟”

“لماذا فعل “كيفين” ما فعل؟؟؟؟”، “ما المغزى؟؟؟” و “ما الهدف؟؟؟”

و لعلكم ستجلسون على حافة كراسيكم في تحفز كما فعلت عندما نطقت “إيفا” أخيرا ذلك السؤال الملّح منذ البداية:”لماذا؟”

و لكنكم ستتفاجئون بالإجابة، و سأدعكم تكتشفونها بأنفسكم عند متابعة فيلم “We need to talk about Kevin”.

تاريخ النشر : 2016-01-17

صبا

مصر
guest
51 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى