القطة و العصا الخشبية
و احبت ابنتي قطة الشوارع البيضاء |
بهذا حدّث خالد نفسه , ذلك الشاب الثلاثيني ابن العائلة الثريّة ، الذي كانت هوايته السفر ..كما من عادته الهروب من ضغوط الحياة إلى جزيرة بعيدة , حيث يبقى هناك وحده مع الشمس و الشاطئ
و قد ارتدى في هذا اليوم , قميصاً خفيفاً و بنطالاً قصيراً .. ثم ربط حبال حذائه الرياضي و خرج من غرفته .. و مشى حوالي ساعة على الشاطىء القريب من الفندق , قبل ان يتوقف ليأخذ قسطاً من الراحة ..
و هنا !! لفت نظره قارورة بداخلها ورقة , يراقصها الموج يميناً و يسارا
اقترب منها و نزع الغطاء عن الفوهة , ثم سحب الورقة
و شرع في قراءتها .. و كان فيها :
(( اتاني اتصال ذات يوم .. ففتحت جوالي و قلت :
-الو !! .. آه ! أهذه انتِ يا امي ؟! .. كيف حالك ؟
فباغتتني دون أن تُلقي التحية :
-هند !! ألم أقل لك ان لا تُغضبي حفيدتي .. فهي لطالما شكت لي موافقتك لإسلوب والدها الصارم ! لكن ليس إلى حدّ أن يمنعها من شراء قطة ! ..على الأقل , حاولي ان تقنعيه انتِ .. أليست ابنتك هي أيضاً ؟!!
-امي ..انت تضخّمين الموضوع ! فالقصة هي ..
-مقاطعة بعصبية : اسمعي يا هند !! انا لم أتدخل حتى اليوم .. لكني حقاً ضجرت من زوجك المُعقّد ! يعني جُلّ ما تمنته حفيدتي هو قطة صغيرة .. فلماذا يصرّ على رفض طلبها البسيط ؟!
-ليس مُعقّداً امي , هو فقط حريص .. هذا كل شيء
و هنا دخلت صغيرتي المطبخ , و هي ترفع كفّها مع توجيه سبابتها الصغيرة نحوي , واضعةً يدها الأخرى على خصرها .. و قالت لي مهدّدة :
-ماما !! سأسحب منك الهاتف .. الم تقولي انك ستحضرين لي الشوكولا الساخنة , فأين هي ؟!
فقلت و انا ابتسم من تعابير وجهها الغاضبة :
-أوه ! لقد نسيت .. لحظة واحدة … امي !! مضّطرة ان اذهب الآن , سأكلّمك لاحقاً .. سلام
***
مُقدمة لطيفة لمشهدٍ أول من فيلمٍ عائلي , أليس كذلك ؟
بالحقيقة هذا ما شعرت به , و أنا أتذكّر بداية حكايتي الغريبة ..
فأنا هي والدة تلك الطفلة , يا قارئ رسالة القارورة .. لكن رجاءً , أتوسّل إليك .. اقرأ قصتي حتى النهاية
انا أبلغ الخامسة و العشرين من عمري .. و لي فترة طويلة أعاني من ….. اووه ! حقاً لا ادري كيف سأبدأ قصتي ! اظنّ من الأفضل ان اقصّها عليك منذ البداية
أنا هند ..متزوجة و لديّ طفلة جميلة ذات الست سنوات ..كم كُنت أشعر بالإمتنان من حياتي البسيطة و أسرتي الصغيرة , حتى ذلك اليوم الذي بدا لي حديث أمي مُقنعاً : بأن شخصيتي ضعيفة مع زوجي المتسلّط ، علماً بأنني لا أراه مُتسلطاً ..لكنها دائماً تحاول اقناعي بذلك !
المهم .. في عصر ذلك اليوم .. عاد زوجي من العمل , فاستقبلته بملامح مُعتصرة و كأني أعاني من مغصٍ ما ! كم انا سيئة في إظهار غضبي , فلم أعرف مطلقاً كيف اتسخّط عليه !
و بدوره اقترب مني , و قال بصوتٍ قلق : ما بالك عزيزتي , هل تشكين شيئاً ؟!
كم راق لي ذاك الشعور , حين اظهر اهتمامه .. و سرعان ما عادت ملامحي الطفولية , فاخفضت رأسي كالطفل الخجول المُكابر , الذي يُخفي فرحته و قلقه معاً .. و قلت له :
-لا شيء .. لكن ابنتك اتعبتني من الحاحها .. فهل يمكنك اعادة التفكير بشأن القطة ؟
فردّ عليّ : بأنه سيُفكّر بالأمر
***
في اليوم التالي .. ذهب زوجي لزيارة والديه , لكنه عاد سريعاً ! و هو يحمل بين يديه قطة تموء بألم , و قد تلطّخ قميصه بدمائها .. و قال لي بقلق :
-هند !! ساعديني .. لقد دهستها يا هند !
فذهبت مُسرعة و جلبت شنطة الصيدلية
و صار يحاول زوجي وقف نزيفها , و هو يقول :
-المسكينة ..احتمت تحت سيارتي من برد الشتاء , لم تظن أن ملجأها سيكون حتفها ! .. اوووه اللعنة !! لا يمكنني وقف النزيف ..عليّ ان آخذها للبيطري
ثم أخذها للطبيب البيطري .. و بعد عودته , طلب مني أن أعتني بها حتى تتحسّن .. فقبلت , رغم قلقي من تعلّق ابنتي (لتين) بها ..
يعني , هي تظلّ قطة شوارع ! رغم فحص الدكتور لها , و أخذها للقاحات اللازمة .. بالإضافة لكونها جميلة بلونها الأبيض , الذي يكتسي فروها الناعم
و قد صدق حدسي و تعلّقت بها صغيرتي ..
لذلك قرّر زوجي مكوثها بيننا , من دون أخذه لرأيّ !
و مرّ اسبوعان , و عدم ارتياحي لها يزيد .. ربما لشعوري بأنها خطفت ابنتي مني ، فقد اعتدت على سماع حكاياتها الخيالية , بل كنت أنا فضاها الحرّ
***
بعد مرور شهر .. و بعد خروج زوجي للدوام , غلبني النعاس ..لكني قاومته فأنا لا أريد النوم , حتى تنام لتين اولاً , لأحتضنها و يهدأ قلقي من تواجدها الدائم مع قطتها ..
و اذّ بها تأتيني مُسرعة : ماما !! أريد منك أن تشتري لي عصا
فضحكت : هل رأيت إعلان لُعبة في التلفاز ؟
فأجابتني بالنفي , فقد أرادت عصا من نجّار الحيّ .. ايّ مجرّد خشبة !
فسألتها في أيّ حاجة تُريديها ؟
فقالت : بأن القطة (رينا) هي من طلبتها , لتحوّلها لها إلى عصا سحرية !
فضحكت من خيالها و احتضنتها و قبّلتها , و وعدتها بجلبها بعد استيقاظنا و ذهابنا لزيارة امي
***
و في نفس اليوم الذي اشتريت لها العصا و عند الساعة الثانية ليلاً , استيقظنا أنا وزوجي على صوت إنفجار بركان ! .. لا !! لا يوجد بركانٌ هنا.. ربما كان دويّ زلزال !
فذهبنا فزعين , خاصة بعد ان علمنا ان مصدره قادم من غرفة لتين .. و ركضنا إليها , لكن ابعدتني قوّة خفيّة أو شيء يشبه الرياح لكنه بلا صوت و لا غُبار , فأسقطتني اكثر من مرة !
و حاولت النهوض بالصعوبة .. و لاحظت بأن زوجي استطاع دخول الغرفة , الاّ ان الباب انغلق خلفه بقوة !
و هنا !! أُغمي عليّ .. و لا ادري كم مضى من الوقت , قبل ان استيقظ على صراخ زوجي الهستيري القادم من الشارع !
في تلك اللحظة , كان عليّ الإختيار بين اللحاق بزوجي , او الذهاب لإبنتي ! فقد كان صراخ زوجي لا يطمئن بخير , لكن ربما هو في الخارج يطلب لنا المساعدة
لذلك اكملت طريقي نحو غرفة ابنتي , رغم اصطدامي بذلك الفراغ أو الهواء العاصف , أيّاً كان هذا الشيء !
و بالنهاية مررّت من خلاله بسلام , و فُتح لي الباب اخيراً !!
لكني لم أعرف لأيّ مكان دخلت .. فهذه ليست غرفة ابنتي !
فقد تبدّل طلاء غرفتها الوردي بجدار .. لا !! هو ليس جداراً , بل أشبه بفضاءٍ واسع لا حدود له !
دقّقت النظر بعيني , فرأيت نجوماً حمراء مُتناثرة .. و حقاً لا أدري إن كانت نجوماً , ام ماذا بالضبط ! لأني نظارتي كُسرت , حين اسقطتني تلك الرياح الخفيّة !
فاستمريت بالبحث بنظري الضعيف عن ابنتي , فرأيت شيئاً أبيضاً يُنير من بعيد , و تكثر من حوله النجوم الحمراء .. و كنت كلما مشيت في اتجاهه , اسمع صوت ضحكات !
ففرحت و قلت في نفسي : أجل !! الحمد لله .. إنها ضحكة ابنتي
فأخذت أجري و أجري نحو النور , لكن المسافة ظلّت نفسها و لم أقترب منها إنشاً !
لكني لم ايأس و ظللّت أركض ، حتى خارت قوايّ .. فجثوت و أخذت أزحف ..
لا أعرف كم يوماً مضى و أنا أمشي هناك ! كم أشعر بالعطش .. هل يا ترى سأموت هنا ؟ أين هي والدتي الآن ؟ و زوجي (كريم) ؟ و الجيران ؟ الم يتصل احد بالإسعاف بعد ؟!
لا أعرف كم مرة نمت و صحوت , لأُعود و اتابع الزحف نحو المجهول !
يبدو أني سأموت هنا .. لكن لا بأس !! يكفيني سماع ضحكات ابنتي المستمرة .. تبدو خاتمة حسنة لحياتي.
و في هذه الأثناء .. تراءى لي فوجاً من النجوم الحمراء تمشي نحوي , في ترتيبٍ عجيب و عددٍ أعجب !
لكن حين اقتربت مني أكثر , اتضّح لي بأنها عيوناً لمخلوقاتٍ سوداء بأعضاءٍ كثيرة !
فأردّت الصراخ , لكن لم يخرج ايّ صوت من جوفي .. يبدو أنني فقدّت النطق !
لكن فزعي من منظرهم المرعب بثّ الحياة في جسدي الميت ! فاستندت على يديّ , لأهرب ولوّ لمسافة قليلة ..
لكن أوقفتني رؤية يدٍ بيضاء تمتدّ نحوي ! فتجمّدت في مكاني , و كأني مومياء محنّطة !
ثم تجمّعت أيدي تلك المخلوقات و ابعدت اليد البيضاء عني ! ثم تجمّعوا حولها و صاروا يحدثونها بصوتٍ مزعج , و كأنهم يعاتبوها على محاولتها مساعدتي ..
ثم تفرّقوا عنها , لتظهر من جديد تلك اليد الصغيرة البيضاء , فعرفت أنها يد ابنتي ..
فشددّت جسمها و ضممّتها لصدري , فشعرت على الفور !! بنارٍ تدبّ في جسدي , فأبعدتها عنّي تلقائياً ! و تساقط فُتات قميصي المُحترق ..
و في غمرة دهشتي , سمعت صغيرتي تخبرني : بأني لن أستطيع لمسها بعد اليوم , إلا بشرطٍ واحد :
و هو أن أُعيش مع تلك المخلوقات البشعة , و أنضمّ إلى احدى الوظائف في عالمهم !
فأخذت أضرب نفسي كالمجنونة , لأني لم أعتقد أن القرصة كفيلة بإيقاظي من هذا الكابوس !
فشرعت صغيرتي في البكاء , لأنها لا تريد مني أن أضرّ نفسي
لكني لم أُشفق على حالي , بل أصبح نصف شعري بيدي , و قد ضربت صدري حتى يأست ..ثم بكيت و بكيت , ثم شرعت اضحك بهستيريا ..
الى ان هدأت اخيراً , و قلت لها : بأننا نرى الكابوس ذاته , و سيأتي والدك لإيقاظنا قريباً
فقالت لي بنبرة واثقة و حزينة : إبي لن يأتي , يا امي ! فقد أضاع فرصة وجوده معنا , بعد أن عجز عن المشي كل هذه المسافة ليتجاوز الحاجز بين العالمين , لذلك فضّل الرجوع نحو الباب الذي دخل منه .. و لهذا يا امي , حكموا عليه بأن يعيش بقيّة عمره بلا عقل
فقلت بدهشة و غضب : اتركتهم يجعلون والدك مجنوناً ؟!!!
فقالت بلا مبالاة : هذا كان اختياره يا امي , لكنك وصلتي إليّ رغم كل ما عانيتيه
فسألتها بعصبية : و لماذا كل هذا ؟!! أهو بسبب تلك القطة اللعينة ؟ أم بسبب عصا النجار البائس ؟!
فقالت بسعادة : الإثنان !! فقطتي (رينا) استطاعت بتلك العصا أن تجعلني أتحدّ معها , لنهرب الى عالمٍ أجمل .. انظري اليّ جيداً يا ماما , الم تلاحظين ؟!
ثم اقتربت مني اكثر , و دنت يدها من عيوني الضعيفة .. فإذّ بي أرى فرواً أبيضاً يغطي جلدها , و مخالب في رأس أنامل قدميها البشرية الصغيرة !
فنفرت منها ! و كدّت اهرب عائدة من الإتجاه الذي قدمت منه , الاّ انها اوقفتني بصوتها الطفولي النديّ قائلة :
-ماما لا تتركيني !! سأفتقدك ان بقيت هنا لوحدي .. رجاءً امي ابقي معي هنا
فعدّت إليها مرغمة .. و بعد ان فكّرت كثيراً , تشجّعت على الموافقة بانضمامي لعالمهم الغامض ..فكيف لأم أن تهجر ابنتها , ولوّ كانت تحوّلت الى مسخٍ بشع ؟!
و ما ان أخبرتها بموافقتي , حتى صدر منها صوتاً بشعاً قائلاً :
-وظيفتك في عالمنا : هي أن تقومي بتنظيف شوارعنا جيداً !!
فارتجفت من الخوف , و عرفت أن نصفها (القطة) تودّ الإنتقام مني , لنعتي لها سابقاً : (بقطّة الشوارع) ..
لكن كيف تناست بأني انا من اعتنيت بها و أطعمتها .. كم هي قطة حقودة !!
ثم عاد صوت ابنتي من جديد , و قالت لي :
-ماما لا تخافي !!
فقلت بصوتٍ مُرتجف , دون أن أرفع بصري إليها : صغيرتي ..عالمهم مظلم و غامض و أشكالهم المخيفة , و حتى نصف جسمك الغريب , كل هذا يُخيفني جداً
فأشارت إلى مكانٍ بعيد , ابيض و مضيء .. ثم قالت :
-انظري الى هناك امي ..تلك البقعة هي مملكتهم ..إذا أتيت معنا , ستتبدّل أشكالنا المخيفة إلى مخلوقات بجمالٍ ملائكي ..فهذه الأشكال المخيفة التي ترينها الآن , ما هو الا تدبير وقائي لإخافة الغرباء , كيّ لا يجرؤ احد على اقتحام المملكة , هذا ما اخبروني به سابقاً
فاطمأننت لكلامها , و قبلت بعرضهم .. فارتمت ابنتي في حضني .. و هذه المرة لم اشعر بتلك النار , فحضنتها بدوري بقوة و شوق ..
لكن الذي ضايقني ان اشكالهم ازدادت بشاعةً في النور , فقد كذبوا عليّ و على ابنتي !
و كم لاقيت من سوء المعاملة هناك بسبب عنصريتهم المقيتة .. ممّا جعلني بعد مدة , اقبل مُرغمة بأن يحوّلوا شكلي الى نسخة منهم !
و هذه هي نهاية رسالتي لك , ايّها القارىء))
***
شعر خالد بالحُزن بعد انهائه لرسالة القاروة ..
و تساءل في نفسه : إن كانت فعلاً قصة حقيقية ؟!
لكن قبل ان يعود لغرفة الفندق , شعر فجأة بدوارٍ فظيع .. فسقط مغشيّاً عليه !
و بعد ساعات استيقظ , ليجد نفسه أمام مخلوقٍ بشع !!
فأصابته الدهشة ! و تسمّر في مكانه و هو يهمس لنفسه :
-إنه فقط تأثير القصة ! هذا مُجرّد حلم .. حديث نفسي صوّر لي هذا الحلم ..
نعم !! أتذكّر أنني سقطت عند الشاطئ , سيأتي احدهم الآن و يوقظني !!
لكن المخلوق البشع لم يكن سوى هند صاحبة القصة , حيث اقتربت منه ..و قالت له بابتسامة خبيثة :
-شكراً لك ايها الشاب .. يبدو أن اضافتي للمشهد اللطيف في أول القصة , جعل منك صيداً سهل ..
آه !! لا تعلم كم قارورة ألقيتها قُرب الشاطئ , لكن عدم شغف الحمقى الذين سبقوك لإكمال قصتي , منعني من الخلاص من لعنة الوظيفة الشآقّة
لكني ابشّرك !! فأنت منذ هذه اللحظة ستكون , عامل النظافة البديل لي .. فمرحباً بك بعالم الوحوش !!
تاريخ النشر : 2016-03-06