ألغاز تاريخية

سِيرةُ عاشقٍ عَربي

بقلم : قصي النعيمي-سلطنة عُمان

شاعر عربي اصيل

اسمه عبد الرحمن بن اسماعيل، لا بل هو عبد الله، لكن الأكيد الذي لا شك فيه أنه الشاعر اليماني المشهور بوضَّاح اليمن، و لا أحسن من أن نصفه بالروح الجامحة التي لم ترقب مَلاحِظَ السماء
و لا الأرض، و لكنه غدى الآن كغيره من أهل العصور الغابرة سيرةً من السِّيَرٍ أو ترجمة من التَّراجم، إلاَّ أنها ترجمة جرت على غير ما جرت عليه الغالِب، فها هي تتجلى بكساء الغموض الذي لطالما حجب من مفاتنها ما أغرى بها كل قَصَّاصٍ و مؤرخ. و في غمرةٍ من ذلك الغموض و الخفاء، تكشَّفت قصتي هذه كالنجم أو كبارقةٍ من الضِّياء، نعم لقد انكشفت لتحكي سيرة عاشق غَيَّبتهُ الصفحات، و أهملته الكلمات، فمن هو هذا الشاعر و ما حكايته؟.

بداية القصة :

ولد في ضواحي صنعاء، بين أحضان قبيله الحِمْيَرِيّة خَوْلان، و هناك تَفَتَّقَت ثنايا لِسانه بمواهب الشعر و البيان، و كيف لا؟، و هو ابن أرضٍ هي معدن العروبة و مادَّتُها، و عاش في مرحلة
كان الشعر فيها هو زَهْوُها و زَهْرتُها، فكأن حواضر الإسلام ماثلة أمامي الآن , و هي تزدهي بالشعراء كما تزدهي الشمس بشعاعها، أو كالأفلاك بنجومها، فلا تخلوا منهم مجالس الأمراء، و لا
تهدأ مناجزاتهم في المحاضر و الأسواق، حيث يجتمع القاصي و الداني و تضطرب الأهواء و الأذواق، شاعر شامي و آخر نجدي و ذاك عِراقي و هذا راوِيَةُ الأخير و هذه جماعة تنصر الأول
على خصومه. و في لحظة من ذلك الاضطراب المشحون، انطلق موكب حَرَمِ الخليفة يشق عُباب ذاك الزحام، و يقطع طول المسافات إلى البلد الحَرام، إنه موسم الحَجِّ، حين ينشط كل الناس على اختلافهم، افتتاحاً بأصحاب الخانات و الأمراء، و اخْتِتاماً بقُطّاع الطرق و الشعراء!.

سِيرةُ عاشقٍ عَربي
الوليد بن عبد الملك الاموي

اللقاء الأول :


وقف الخليفة الوليد بن عبد الملك الأموي يودِّعُ زوجه أم البنين قبل رحيلها لأداء شعيرة الحج، و ما أن انتهى من توديعها حتى أرسل في تحذير الشعراء من التعرض لها بالنسيب و التشبيب، كما جرت عادتهم على كُلِّ سيدة شريفة من العرب. و سرى ركب أم البنين تحرسه السيوف و الرماح و كلمات الوليد، و الوليد كما قال الإمام السيوطي في كتابه تاريخ الخُلفاء: ” و كان الوليد جبّارا ظالما”، بل ذكره الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز يوما و هو ابن عمه فقال: ” كان الوليد بالشام و الحجاج بالعراق و عثمان بن جبارة بالحجاز و قُرَّة بن شريك بمصر، امتلئت الأرض و الله جورا”. و لكن لم يكن ذلك التجبر لأم البنين برادع، و لا تحذيره و زمجرته بمانع، فها هي تلج الحجاز فتستدعي أشهر شاعرين فيها لينظموا في محاسنها و مناقبها، فأحجم أحدهما و اسمه كُثّيِّرُ عَزَّة- نِسبة إلى محبوبته عزة-، فيما أقبل وَضاحُ اليمنِ مستجيبا لها دون تردد. فتلاقت حينها الأرواح الجامحة و التحمت، و تصافحت طبائعها و اتفقت، و كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ” الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف و ما تناكر منها اختلف”. و الأمر مع غرابته و ما ازداد إلا غرابة، فربما قال قائل: تناست أمر زوجها و التهديد، و ما ألقى من الوعيد، لحبه لها، و مكانتها منه، و لكنه و إن كان كذلك فللأمر علة أخرى، و سبب لا يخفى، فابنة عمتها فاطمة بنت عبدالملك , كان لها حظ هي الأخرى من تشبيب الشعراء و توصيف الأدباء، و أم البنين أرفعُ منها منزلةً، و أجَلُّ منها قدراً، فلا شك أنها رغبت في أن يكون لها ما كان لإبنة عمها أو أكثر، لا أقول رغبة في الغزل، بل هو السعي وراء الاهتمام.

أسرع الوَضَّاحُ ليلبي رغبة أم البنين من غير أن يبدي ما أبداه قرينه كثير عزة، و لابد أن نذكر هنا أن سرعته رسمت لنا ملامح قصة قد بدت تفاصيل بداياتها. اندفاع أحمق، قد أعمى صاحبه عن مراعاة ما سوف تشحذه العبارات فيما يستقبل من أيام، كان شيئاً غير الطاعة لحرم الخليفة، و كان فوق الخوف و الخشية، و أي شيء هو هذا غير الهوى و العشق. و انطلقت سيرة العاشق وضاح مع أبياته يَتَرنَّمُها على أنغام أوتار الوِصالْ.
دَعاكَ مِنْ شَـوْقِـكَ الدَّواعِي

وَ أَنْتَ وَضــَّاحٌ ذُو اتِّبـاعِ

دَعتْكَ مَـــيَّالَةٌ لـَــعوبٌ

أَسِيـلَةُ الخـَـدِّ بِاللِّماعِ

دَلالُكِ الحُلو و المـشـهى

وَ لَيْسَ سِـرُّكِ بِالـمُــضَاعِ

لا أَمْنَعُ النَّفْسَ عَنْ هَوَاهَا

وَكُلُّ شَيْءٍ إِلَى انْقِطـَــاعِ

وفي خِضَمِّ تلكم الأحاسيس و المشاعر، حين كُشِفَت الهَواجِسُ بالنواظر، يبدأ أحدنا في التساؤل عن السبب الذي قاد وضَّاحا من اليمن مفارقا أهله و وطنه إلى الحجاز، ليكون حينها في زُمْرَةِ شعرائها الذين اصطفته منهم أم البنين. و لا يسعنا في هذا بابِ إلا أن نقيس وضاح اليمنِ على غيره من شعراء عصره، و نُبَهَاءِ دهره، فكلهم يجري حثيثا خلف العطايا و الشهرة، و الشهرة تلزم السُّكنى في العواصم و المدن المزدحمة، كما أن القرب من ولاتها يحقق رغباتهم في المال و الترف. و لم يلبث أن خرج من الحجاز إلى دمشق، عاصمة الخلافة الأُموية، و حاضرة الإسلام الجامعة، بل هي مجتمع الرغبات و منية الأماني، لكن الوضاح اليماني لم يقطع الفيافي و القِفار لهذا إلا عندما أرسلت له أم البنين لِيَقْدُمَ عليها و راحت تمنيه و تعده بل أقسمت على حمايته و التَّمهيد له عند زوجها الخليفة.

إلى دمشق :

و بلغ وضاح اليمن دمشقاً، فوجد أبواب القصور الأموية مشروعةً أمامه، و هي قصورٌ لم تَزَلْ بالمعارف و العلوم زاخرة، و بِرِجَالاتَها الأفذاذِ وافرة. شَرَعَ الوضاح في امتداح الوليد و ذكر مآثرهِ و مناقبه، مستفيضا في إطرائه دون أن يرسم لذلك أيَّةَ حدود، أو يشرط على نفسه في ذاك قيود. فأحبه الوليد و أكرمه، و قرَّبَهُ و أجزل عطائه، و أيُّ شيءٍ أحَبُّ إلى العَربيِّ من أبياتٍ تمجدهُ بين العامّة و الخاصة، و لا أعظم من كثرة قَصَصِ العرب الذين أبوا إلا جميل الأُحدوثة بعد الوفاة على التَّنَعُّمِ في الحياة، و هل بغير هذا استعانوا على مطالب النُّبْلِ و المروءة؟!.

و هناك في القمة، حيث بلغ وضَّاح اليمن المرتبة التي لم يكن ليحلم بها من قبل، استطاع أن يدخل على أم بنين في عقر دار الخليفة، و من العجيب حقا كيف استطاع فعل ذلك من غير إذن الوليد، و الأرجح أنه أذن له ليكلمها و يؤنسها بشعره فيكون كل ذلك تحت الأنظار، أو من وراء الحُجُبِ و الأستار. فهي ما جرت عليه عادة العلماء و الأدباء، في مجالسة أزواج الخلفاء و الأمراء. و على أية حال، فقد أَنِسَتْ أم البنين بوضَّاحٍ أيما أُنس، فأكثر وضاحٌ من زيارتها و التردد عليها، حتى بدا ما كان خافيا، و أصبح كل من بالقَصر من الحاشية و الخدم يلاحظون ذاك الانجذاب، إلا أنها الخشية من التهمة دون بَيِّنَة.

سِيرةُ عاشقٍ عَربي
الصندوق الذي لاقي فيه الشاعر مصيره

الصندوق و البئر :

و في ذات يوم أُهديت إلى الوليد مجموعة نفيسة من الجواهر الثمينة، فأحب أن يعطيها لأم البنين كيما تكون سببا في بهجتها. حينها كانت هذه الأخيرة هناك في جِنانِ الوَصْلِ تقطف بدائع القول من أشجارها الوارفة ظِلالها، و أرسل الوليد الجواهر مع خادمٍ له إلى أم البنين، فانطلق كالرَّمِيَّةِ في المعركة بأقصى سرعته. لا زالت أم البنين بين كلمات وضاح اليمن و سحر بيانه الأخاذ، لتجد الخادم فجأةً يستأذنُها في الدخول، أسرعت أم البنين بإخفاء وضاحٍ في أحد الصناديق، و لكن الخادم قد فَطِنَ لفعلها، و تنبَّهَ لأمرها. أعطى الخادم الجواهر لها و لكنه ظل واقفا هناك دون أن يتحرك، نظرت إليه نظرة المستغرب، و قبل أن تقول له شيئا، طلب منها أن تعطيه إحدى تِلْكُمِ الجواهر، و هددها بإخبار الوليد عن وضاح اليمن، لكنها ردته خائبا بعد أمل، و سبته و شتمته، فَأَسَرَّ إخبار الوليد، و انطلق به الغل إليه على عجل. و كان ما عَزمَ عليه الخادم، إلا أن الوليد كان على قدر كبير من الثبات، و فكر في طريقة للتخلص من الريبة و الشبهات، فدخل عليها من حينه و جلس على ذلك الصندوق الذي احتوى الوَضَّاح، ثم أَنهُ كلمها بلكنةٍ توحي بالفرحة و الانشراح، و سألها أن تهديه كما أهداها ليكون تَمام السرور و الأفْراح، فقالت أم البنين: يا مولاي خذ ما بدا لك، فقال: هذا الصندوق الذي تحتي آخذه، فأشارت بأن نعم، فآثر أن يطوي هذه القصة و يثق في زوجه التي لم تظهر أي وَجَلٍ أو خوف ، و أمر بالصندوق فَحُمِلَ إلى مجلسه، حيث أمر بحفر بئرٍ عميق الجوف، و ألقا فيه الصندوق و ما حوى، ثم دفن البئر و سوَّاها، و انتهت هنا سيرة الْوَضَّاح، و اختفى من كلمات المؤرخين حتى اندثار حكم بني أمية و قيام دولة بني العباس. و يرى البعض أن ذلك كان خوفا من سطوة بني أمية و حنقهم من ذكر مثل تلك الأخبار و إفشائها بين الناس.

و ربما قال قائل: و لِما أَخْفَتْهُ في صندوقٍ و قد أذِن لها الوليدُ في الحديث معه؟، و هنا علينا التنبه إلى أنه قد أذِنَ بشرط أن يكون ذاك في مجلسٍ يحضره غيرهما، أو في أحوالٍ أبعد عن الارتياب، و لكن السياق يدلنا على ما هو مع كل ما سبق في خِلاف، و هو أقرب إلى التُّهمة و الإرجاف.

سِيرةُ عاشقٍ عَربي
النهاية البائسة لشاعر اليمن

خِتاماً :

هي سيرة عاشق عربي، بل هي نظرةٌ خاطفة في حواشي الكتب العتيقة من رفوف الأدَب و التراث، تذبذب أهل المعرفة فيها و اضطربوا في أقوالهم عنها، كُلُّ يدلي بدلوه كيما يكشف أستار غموضها، منهم من أكَّد على أنها قصة حقيقية و منهم من أدعى بُطلانها، و آخرون بلغ بهم القول إلى إنكار شخصية الشاعر بالجُمْلَة. و لكنها تظل جزءاً لا يُنسى من منظومة التراث التي لطالما احتفينا بها، و اتخذنها دروسا في الحياة، أو وسيلةً للترويح عن النفس في بعض الأوقات الأخرى.

تاريخ النشر : 2016-03-10

قصي النعيمي

سلطنة عُمان
guest
44 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى