أدب الرعب والعام

رسالة من الدكتور (حالة مستعصية)

بقلم : عبّاس مُحَمَّد – الكويتِ
للتواصل : [email protected]

أصابتني الصاعقة من رأسي حتى أخمص قدماي ، ما الذي فعلته ؟؟

مرحباً .. أنا الطبيب ” جان أوليفييه ” ، أعمل طبيباً منذ أكثر من خمسة و عشرون عاماً ، اختصاصي هو علم النفس ، تطورت مع الوقت بعلاج جميع الأمراض النفسية و الجسمانية ( العضوية ) ، حائز على عدد كبير من الجوائز و التذكارات المهنية لعملي ، مواليد عام 1969 و عمري الحالي هو 47 عاماً و أنا حالياً متقاعد ، و لكن هناك أمرٌ مهمٌّ على من يقرأ رسالتي معرفته ..

قبل تقاعدي – ليس بزمنٍ طويلٍ – زارني شخص في عيادتي ، للوهلة الأولى شعرت أنه غريب الأطوار ، لن أذكر اسمه حفاظاً على سرية المريض ، أتى هذا ” المجهول ” زاعماً أنه سيموت قريباً ، و مرض الزهايمر اشتاح ذاكرته المُرهقة ، شخصه بعض الأطبّاء قبل قدومه إلى عيادتي .. في البداية هدّأت من روعه قليلاً ، و بعدها قصّ علي ما يحدث معه بالتفصيل الممل ..

قال أنه يصاب بفقدان ذاكرة تام عند حلول المساء و لا يتذكر أحداً إلا بعد بزوغ الفجر ، يذكر كل شيء في الصباح و لكنه لا يذكر أي شيء حدث معه في المساء ، و هذه الحادثة تتكرر معه بشكل يومي و عند المساء تحديداً .. مصاب بالاضطراب دائماً و تفكيره مشتت ، يحزن لكل شيء و موسوس لحدٍ كبيرٍ ، يعاني من الهذيان المزمن و قال أنه في مخاطبة الناس يسكت فجأة كأنه لا يعرف شيء عن المحادثات التقليدية بين الناس ، لا يعرف الكلام و لا الحبكة و لا التعبير و لا أي شيء ..

و هو مصاب بصداع مستمر ، و ما زاد استغرابي هو انعزاله عن العالم لمدة خمس سنوات عدا الأطباء الذين زارهم و زيارته لي ، ذُهلت لكثرة التشتيت في هذا العقل ، و هذا المجهول عمره لا يتجاوز الثالثة و العشرون عاماً ..

بعد أن طمأنته أنه غير مصاب بمرض ” الزهايمر ” طلبت منه فحوصات شاملة قبل أن أقوم بفحص دماغه ؛ أخشى أن يكون مصاباً بمرضٍ خبيثٍ في جسده و من ثم انتقل هذا المرض إلى دماغه .. و بالفعل قام بعمل التحاليل التي طلبتها منه ” كريات الدم البيضاء و الحمراء ، سيولة الدم في الشرايين ، الهيموجلوبين ، إنزيمات الكبد و القلب و الكلية و البنكرياس ، فحوصات الغدد الدرقية و الكظرية و النخامية و الجلوكاجون – هو المسبب الرئيسي للضغط النفسي و عوامل نفسية أخرى – ، و العديد من الفحوصات الأخرى التي طلبت منه عملها ” ..

هنا كانت الدهشة ( عندما رأيت الفحوصات ) ، إنه معافى تماماً من جميع الأمراض التي كنت أهذي بها ، انتقلت لفحوصات العقل و الخلايا و شرايين الدماغ ، أثبتت التحاليل أنه يعاني من ” انحياز البارانويا ” و تعني مرض الهذيان الدائم و بداية الانفصام ، لكن هذا لا يفسر جميع التداخلات التي حدثت معه فطلبت منه أن يمكث في عيادتي ، من بداية فقدانه للذاكرة – أي عند المساء – لغاية أن ينام ؛ كي أضع عليه جهاز الاستشارات الدماغية ، حتى أتمكن من مراقبة دماغه ليلاً ..

جلست أنا و المجهول نتبادل الأحاديث هنا و هناك و فجأة دون سابق إنذار نظر إلي بطريقة غريبة ثم قال : أين أنا ؟ و من أنت ؟ .. قلت له : أنا الطبيب ( جان أوليفييه ) و أنا هنا لمساعدتك .. ابتسم و تفوه بكلمات لم أفهمها بتاتاً ، قدمت له العشاء ، كانت طريقة أكله غريبةً جداً ؛ لأنه حين يصاب الشخص بفقدان تام للذاكرة لا يعرف استخدام أدوات المائدة  ويأكل بفمه من صحن الطعام ، لكنه وضع الأكل داخل كوب العصير وشرب العصير كاملاً ، نظرت إليه بتعجب من أمره ، و بعد أن انتهى نظر إلي و كرر سؤاله : من أنت ؟؟  أجبته على السؤال و قلت له : أخبرتك سابقاً ألا تذكر ؟؟ نفى ذالك ، و ادعى أنه أول مرة يراني بها ..

 الساعة قاربت العاشرة ، قال لي فجأة أنه حان موعد نومه و يريد أن ينام !! تعجبت كثيراً ، كيف لشخص فاقدٍ للذاكرة أن يعرف متى موعد نومه !! .. و ما إن وضع رأسه على الوسادة حتى غلبه النوم فقمت بوضع الجهاز على رأسه و ذهبت إلى حاسوبي المتواجد داخل مكتبي ؛ حتى أبقي عيناي على الإشارات الدماغية ، و أيضاً وضعت كاميرا ليلية حتى يبقى تحت ناظري طوال فترة نومه ..
الساعة الثانية عشر و عشر دقائق ليلاً ، هناك اهتياج في حالة الأحلام و هذا أمر طبيعي ..

 الساعة الثانية و أربعون دقيقة فجراً ، بدأ يتفوه بكلمات غير مفهومة و ارتفعت اضطرابات النوم ، مثل الحركة القوية و حك الجسم و التقلب باستمرار دائم .. و لوهلة سريعة ارتفعت (التناذرات الهيبفرينية ) و تعني ثوران غير متوقع ، فترى المريض يقفز من فراشه أو مكانه بشكل لا تسبقه مقدمات ، وأحيانا بنحو مخيف ، وتشاهده قطب وجهه و تبدل ملامح النوم بالغضب ويقبض كفيه بقوة غير متوقعة من أية ردت فعل قد تكون عكسية ..

بسرعة نظرت للشاشة الكاميرا حتى أجده منتصب بجانب سريره وهو نائم كلياً ، والجهاز مازال متصل برأسه ، بقيت أراقبه بهدوء ثم جلس وعاد للنوم ..

الساعة الرابعة و عشر دقائق صباحاً .. وجدت ارتفاعات في استشعارات ( الشيزوفرينيا ) ويسمى بـ ( التخشب الجسدي) وهذا يحدث من جرّاء التهابات في الدماغ ، و هي ما تُؤدي لاتصال العقل بالجسد بسرعة فائقة ، مما يسبب تخشب المريض كما لو أنه قطعة خشبية ، و يدوم وقتها من ثانيتين إلى أربع ثواني حتى يعيد العقل الانفصال عن الجسد ..

عند الساعة الثامنة صباحاً كان العمل قد أرهقني بشدة ، و فجأة وجدته قد استفاق ، بسرعة ذهبت إليه فنظر إلي و كرر سؤاله ” من أنت ؟ ”  و كررت له الإجابة مرة أخرى ، و ما بقي إلا دقائق من السكون التام حتى قال لي : صباح الخير يا دكتور .. عرفت أنه قد عاد لذاكرته ، و أخذت أسأله إذا كان يتذكر ليلة أمس ، أجاب بالنفي التام ، أنه لا يتذكر سوى الوقت الذي كان قبل الساعة السابعة مساء أمس ، لم أخبره ما حدث ليلة أمس ؛ خوفاً من أن يعكس هذا تأثير العلاج ، و لكن الآن أنا شبه متأكد بأنه التهاب حاد في المخ .. طلبت منه عمل أشعة المخ الليزرية ، و هذه تكشف إذا كان هناك التهابات قوية أو أوراماً مزمنة وتكشف خلايا المخ تحديداً ، هذا الأمر يحب أن يحدث في أسرع وقت ؛ لأنني بتُّ أشعر أن المُماطلة لهذا المريض تعني فقدانه ..

 أُجريت الأشعة و كانت هنا المفاجئة الكبرى ، وجدت ارتفاعاً قوياً في شرايين ” الفصة الجبهِية ” تحديداً نسميه (البارانويا) و هي فصائل دماغية مسؤولة عن الهذيان المزمن للمريض ، و منها تتشكل الأوهام  الاوعي ، لكن ارتفاع ضغط هذه الشرايين لا يشبه سوابق مرض (البارانويا) فهي تختلف عنها بعدة أشياء ، منها اضطهاد الأذى و هذا لا يأتي إلا بحالة (الزملة البارانوية) ، هل يحمل مرضين في نفس الوقت ؟؟ إنه أمر مريب حقا ، لكن حالته السابقة مع التشخيص قادتني إلى اعتقاد مرض (البارافرينيا) أي أوهام الذاكرة قبل النوم العميق ، هل هي حالة هلوسة ؟؟ لا أعتقد لأنه لا يتذكر إلا عند حلول الليل عليه ، ربما يكون انفصام بين الحالتين (البارانويا) و (البارافرينيا) ، حالات الانفصام كثيرة لكن الآن خانتني الذاكرة بتذكرها كلها .. حالته في تدهور مستمر ، إذا كان انفصام حسب هذا المعتقد ، إنه يتجه نحو الأسوأ ..

هناك نمط آخر من أنماط تدهور الشعور، ذلك هو النقص العقلي ، و هذا المرض ينشأ نتيجة أسباب عدوى فهو حالة من أمراض العدوى ، إنه مرض يتمثل فيه الارتباط، والتشويش، و فيه يفهم المريض ما يعج به محيطه ، و ما تحفل به بيئته من تفصيلات كثيرة ، يبدو أنه يعجز عن تنظيم تلك التفصيلات في وحدة يسودها الواقع ، يضاف إلى ذلك فقدان أي إحساس بـ (الأنا) فهذه الأنا تصبح فاقدة لمعناها .

 يغلب على المريض الارتباك و تظهر عليه ملامح الحيرة ، ويلاحظ عليه أنه يرمق ما حوله بنظرات مخيفة ، و تراه يحدق بوجوه الناس بارتياب ، و عندما يلمح الأشياء من حوله يتلفظها بصوت مسموع و كأنه يعبر بذلك عن قابلية عاجزة ، مصدرها عقل قاصر عن التركيب ، و بعكس زملة الهذاء، فإنَّ النقص العقلي في هذه الحالة يمكن أن يستمر لمدة أسابيع، وربما يدوم أشهراً عدة ، و المريض لا يعلم متى بدأت معه الحالة ..

في تلك الفترة وضعت في حيرة من أمري ، خانتني جميع توقعاتي لم اعلم النتائج الحاصلة رغم خبرتي العالية و الكفاءة التي أتمتع بها ، إلا أن هذا المجهول كان أصعب الحالات التي مرت علي ..
بعدها بدأت أوضاع المريض بالتراجع ، فقدانه لذاكرته بدا أكثر من ذي قبل و لم يعد يتذكر إلا القليل ، لكن شخصت حالته ب (الزهايمر) إلا أنني مدرك تماماً أنه ليس هو ، والاحتمالات باتت تقتلني و أصبحت حالات التوهان للمريض كثيرة ، و بقي تحت مراقبتي لما يقارب أربعة أشهر متواصلة دون انقطاع مني ..

في ذالك اليوم المشؤوم ومن بعده قدمت تقاعدي بتاتاً ، كان المريض نائماً حوالي الساعة الثانية و النصف فجراً ، و بالطبع أنا في غرفة الأجهزة ، أراقبه ، لكني في تلك الليل كنت متعباً من السهر المتأخر و الاستيقاظ باكراً وإذ بي ادخل في غفوة صغيرة من شدة التعب لا تتعدى الخمسة عُشر دقيقة ، حتى استيقظت على أصوات الأجهزة تعلن ارتباكات عالية في الدماغ و مشوشة ، أنظر مباشرةً نحو شاشة الكاميرا حتى أرى ذالك المريض يهتز بشكل هستيري غير معتاد سابقاً ، و ما إن وصلت إِليه حتى وجدته مستيقظاً و كانت عيناه واسعة الحدقات بشكل كبير ، على غير هدى  ناديته حتى أعلم من يكون تحديداً ..

 نظر إلي وقال ” سأقتلك ” و قفز من السرير بشكل مريب وبدأ يلاحقني في الغرفة ، بالطبع انه غير مدرك لما يفعله عقله ، خرجت من الغرفة نحو غرف المشفى ، كنت في الطابق السابع للمشفى و لا يدخله إلا الأطباء والحالات المزمنة ، بدأ يطاردني من غرفة إلى غرفة حتى لبثنا في غرفة التشريح ، أمسك أداة حادة مثل السكين من الخزانة ، ونظر إلي بنظرة حزينة ، و بسرعة رهيبة أدخل الأداة في حنجرته حتى تخترق آخر رقبته ..

أصابتني الصاعقة من رأسي حتى أخمص قدماي ، ما الذي فعلته ؟؟ هذه نتيجتي !! هل أنا السبب في رحيل هذا الشاب عن الحياة ؟؟ ، علامات الاستفهام كثيرة ومتعددة
ما هي حالته بالتحديد؟؟  هل هي ( البارانويا ) ؟؟ أم ( البارافرينيا) ؟؟ أم هو (التخشب النومي) ؟؟
أم يكون (التناذرات الهيبفرينية) ؟؟ أهو (التوهان الامنفصي للانفصام) ؟؟ أم يندرج تحت نوع جديد من (الانفصام النفسي ) ؟؟
من تلك اللحظة إلى ساعة كتابتي هذه الرسالة  و أنا في مجال محير للعقل وغير مفهوم ، حقاً إنها الحالة المستعصية التي لم تمر علي سابقاً !!

تاريخ النشر : 2016-03-29

guest
34 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى