أدب الرعب والعام

نادية و الذئاب

بقلم : محمد القصري – المغرب
للتواصل : [email protected]

نادية و الذئاب
أربعة ذئاب فتكوا بها وتركوها مكسورة جسديا ونفسيا

كم ترددت قبل أن أكتب قصتها خشية أن يساء فهمها أو تفهم على نحو مغاير عن الغرض الذي دفعني إلى كتابة قصتها ومشاركتها مع القراء ، لأن نظرتي إلى بطلة هذه القصة (والتي يمكن أن نطلق عليها اسما مستعارا ، نادية) قد تكون مختلفة تمام الاختلاف إلى درجة التناقض عن نظرة أغلب ممن سمع أو قرأ عن قصتها واعتبروها مجرمة ، في حين أنني اعتبرتها مظلومة أرادت أن تسترجع حقها وكرامتها المغصوبة .

بعد تجاوز مرحلة التردد والعزم على كتابة هذه القصة ومشاركتها مع عموم القراء تشابكت علي خيوطها وإن كان من المفروض أن أنطلق كما ينطلق أغلب القصاصين من رأس الخيط (بداية القصة) لكي أجعل من مسار هذه القصة خيطًا ناظمًا يسهّل على القراء عملية تتبع أطوارها من البداية إلى النهاية ، فقد قررت أن أبدأ أطوار هذه القصة من وسطها الذي جاءت أحداثه أن بطلتنا ذهبت لتضع شكاية لدى مصلحة الجمارك (لأن الأحداث القصة وقعت في أحد القرى المجاورة لمدينة الدار البيضاء بالمغرب) في ساعة متأخرة من الليل بتهمة تعرضها لاغتصاب من طرف أربعة أفراد خطفوها من الشارع العام مستخدمين في عملية خطفها سيارة رباعية الدفع …. ، وبعد سردها لأطوار مآساتها التي تزامنت مع نحيب البكاء والدموع التي لم تفارق مقلتيها طيلة عملية السرد ، أجابها الدركي بأنه سوف يسجل محضر شكايتها ضد أربعة أشخاص مجهولي الهوية ، نظرا لعدم تعرف المشتكية على وجوه الجناة وبالتالي عدم التعرف على هويتهم . 

ترك جواب الدركي أثرا بليغا في نفس نادية زاد على مجموع الآثار التي خلفتها مأساة اختطافها واغتصابها الشنيع الذي تعرضت له من طرف أربعة ذئاب بشرية حجزوها في غرفة في أحد الضيعات المحاذية للمدينة التي تقطن بها نادية ، ثم تناوبوا على اغتصابها وتفننوا في إشباع رغباتهم وشهواتهم الجنسية المكبوتة رغم توسل نادية إليهم عسى أن يؤثر توسل فتاة ضعيفة منهمكة القوى مكبلة اليدين والرِّجلين في قلوب أربعة ذئاب بشرية استجابة تذكر . 

تمالكت نادية نفسها وقررت العودة إلى منزلها دون أن تزف خبر اختطافها واغتصابها لأي شخص من قريب كان أو بعيد لكي لا تشير إليها الأصابع و ترمقها أعين المجتمع التي لا ترحم ولا تميز بين الفعل الصائب والخاطئ وإن كان مُجبرًا ومكرهًا ، لتقرر خوض عملية استرداد حقها المسلوب بعد ليلة قضتها تتقلب على فراشها وتسترجع شريط ما وقع لها في ذلك اليوم الأسود المشئوم. ومع طلوع الشمس عزمت القرار في البحث عن طريقة لا يشاركها فيها أحد في محاولة رد ما انتزع وسلب من حق و كرامة 
فهل ستنجح نادية في استرداد حقها بيدها بعد أن فقدت كل أمل في قوات الأمن ورجال الدرك ؟
وما هي الطريقة التي ستسلكها بطلتنا للوصول إلى الجناة ؟
وهل ستنجح حقا في الوصول إلى الجناة استرجاع حقها بيدها ؟ 

***

استيقظت نادية بعد نومها لساعات قلائل لا تتجاوز الثلاث ساعات بقيت بعدها مستلقية على فراشها تحاول أن تتذكر جميع تفاصيل الحادثة التي فتكت بها وبعذريتها ، منتبهة إلى أقصى حد في أن لا تغفل أي حركة أو فعل أو كلمة…. أو حتى فترات الصمت التي تلت تلك الكلمات والأفعال والحركات التي صدرت من الذئاب، حاولت أن تتذكر كل شيء كبيرا كان أم صغيرا ، مهما كان أم تافها عسى أن تكون تفاهة أو أهمية صغر أو كبر الأحداث التي دارت من حولها منطلقا ومدخلا وطريقا تهديها إلى الجناة الأربعة .

تذكرت أول ما تذكرت أنها أنهت دوامها في أحد المصحات الراقية التي تعمل بها في حدود الساعة السادسة مساءا ..

تذكرت أنها استغرقت في تغيير ملابسها ووضع اللمسات الأخيرة على هيأتها (من إطلالة على المرآة وتعديل شعرها…) مدة لم تتجاوز العشر دقائق . 
خرجت بعد ذلك من المصحة في حوالي 18:20 بعدما ودعت زميلاتها اللاتي يشتغلن معها في المصحة ، وصلت إلى منعطف الشارع الذي توجد به المصحة قبل أن تنعطف يسارا في أحد الأزقة قليل الإضاءة مقارنة بإضاءة الشارع في حدود 18:30 تقريبا إن لم يخنها تقديرها الزمن .

تفاجأت وهي تنعطف على سماع وقع مكابح وفرملة سيارة رباعية الدفع من الحجم الكبير كانت تتوجه نحوها بسرعة جنونية، تلتها بعد ذلك فتحُ أبواب السيارة ونزول ثلاثة أشخاص بقي رابعهم جالسا خلف مقود السيارة ، كان أول من وصل إليها أضخمهم بنية يحمل في يده سكينا من الحجم الكبير وجهه مباشرة إلى عنقها الذي استشعر برودة وألم الآلة الحادة التي وضعت على الجانب الأيسر من عنقها .

تكلف الاثنان الأخريان بمسكها من يديها وإدخالها إلى المقعد الخلفي للسيارة لتحتل بعد ذلك موقعا وسطا بينهما قبل أن يُشرعا في تكبيل يديها الصغيرتين ووضع ضمادة على عينيها لكي تحجب عنها رؤية الطريق الذي سوف تسلكه السيارة ، قبل أن يهدداها بقطع أوردت عنقها وإطعام جثثها إلى الكلاب إذا ما لبتت ببنت شفة ، مما زاد هذا التهديد هلعا فتزايدت معه دقات قلبها وانحباس الريق في حلقها لتسلم قضائها و أمرها إلى ربها بعد أن أيقنت أنها تعرضت لعملية اختطاف من طرف أربعة ذئاب بشرية .

في الطريق المؤدية إلى المجهول كانت نادية تناجي ربها بأن تنتهي مأساتها هذه بأقل الأضرار الجسدية رغم أن مصيرها بات بين يدي ذئاب لا رحمة ولا شفقة في قلوبهم بحيث لعبت جميع أنواع المخدرات الصلبة في عقولهم حتى صاروا ذئاب بشرية لا رحمة في قلوبهم ولا وعي يعقلون به ، بل كانت الغريزة هي التي تتحكم في توجيه أفعالهم ومقاصدهم ومجمل سلوكياتهم .

كانت دقات قلبها تتزايد تعبيرا عن الحالة السيكولوجية التي كانت تعيشها بطلتنا في الآن والمآل الذي سوف تِؤُول إليه بعد ساعة أو ساعتين ، بعد يوم أو يومين ، وقد تزايدت الأسئلة التي باتت تدور في رأسها حول مصيرها الذي سوف تلقاه بعد وصولها إلى نهاية المحطة التي يريد أن يصل إليها الجناة ، إنه مصير مأساوي بدأ أولا في مِخيلتها قبل أن يبدأ في واقعها ، هل سيكون مصيرا مأساويا خاتمته الموت والعدم ؟، هذا ما كانت تخشاه ، من ذا الذي يريد أن يكون مصيره وخاتمته على هذه الشكل المأساوي . 

وهي في غمرت الأسئلة المصيرية التي باتت تدور في فلك تفكيرها ـ انعطفت السيارة ، كان اندفاع أحد الجناة على كتفيها الأيمن أكبر دليل على أن السيارة قد أخذت منعطفا على الشمال بعد أن سلكت السيارة طريقا رئيسيا مؤدي إلى مخرج المدينة من الجهة الشمالية . 

كان الطريق الذي انعطفت نحو السيارة غير معبد كثير الحجارة والحصى ما جعل من السيارة كثيرةَ الاهتزاز قبل أن تتوقف لينزل أحد الأفراد محاولا فتح باب تبين من الصوت الذي خلفه وقع فتحه مدى حجمه الكبير ، لتدخل بعد ذلك السيارة ، وتسمع نادية وقع إغلاق ، ثم محاولة إنزالها من السيارة تحت وابل من التهديد طغى عليه السب والشتم إذا ما حاولت نادية لفت الانتباه بأي صوت أو حركة. 

مسكها اثنان من يديها وساعداها على صعود عتبات الدرج المؤدية إلى إحدى الغرف المؤثِثة للمنزل الذي سيحتضن مأساة نادية ، أجلسوها على أحد الكراسي ، فكوا الضمادات التي كانت تحجُب عنها الرؤية لتبصر ضوءا وهاجا كان فوق رأسها مباشرة ولتبصر بعدها أربعة ذئاب يخلعون ملابسهم متوجهين نحوها قاصدين نزع ملابسها رغم الدموع وما استحضرته من كلمات الاستعطاف ثم الاستعطاف … والترجي ثم الترجي … (في التفاصيل تكمن المأساة).
هذا مجمل ما تذكرته نادية وهي تسترجع شريط الأحداث التي بقيت راسخة في ذاكرتها عن الحدث المأساوي الذي وقع لها تلك الليلة على يد أربعة وحوش آدمية ، وما زاد مأساة على مأساتها هو جواب الدركي الذي خرج من لسانه بكل برودة بأن شكايتها أو بالأحرى مأساتها سوف يكون أبطالها مجهولي الهوية ، وهذا ما لم تتقبله نادية التي عزمت في قرارات نفسها أن تأخذ ثأرها بيدها من الذئاب البشرية .

***

نهضت نادية من الفراش مباشرة إلى الحمام لتغسل وجهها وتبصره في مرآة عكست وجها ذُبل وعينين مُلئت حمرة من جراء ليلتها الطويلة التي عانقت فيها ذكريات المأساة التي حلت بها . 

لما كان ذلك صباح الأحد، فقد كان يوم عطلة لها، مما جعل هذا اليوم مناسبا في تطبيق الخطة التي باتت ليلةً بطولها ترسمُها في ذهنا والتي أعدتها وقررت خوض أول خطوة من خطواتها وهي التوجه إلى نفس المكان الذي خطفت منه ، ذلك ما فعلت .

وبعد فترة تأمل للمكان الذي انطلق منه مأساتها لوحت إلى سيارة أجرة ، طلبت من سائقها أن يأخذها إلى مخرج المدينة الجنوبي ، بعد مدة زمنية ليست بالقليلة خاطبها حدسها بعد مسافة تساوي نفس المسافة التي قطعتها السيارة التي كانت تقلها وهي مكبلة اليدين ومغمضة العينين ، بحيث وقع تحت بصرها على منعطف كان بمثابة مدخل لأحد القرى ، ولكونه المنعطف الوحيد في تلك الطريق ، طلبت من سائق الأجرة أن ينعطف نحوه ، لتبدأ بعد ذلك بعد دقات قلبها حتى وصلت إلى العدد 387 ، كان هو نفس العدد بعدما أحست نادية بواقع السيارة تنعطف بها اتخذت طريقا مكسوة بالحجارة وهي تجلس وسط الذئبين .

قبل أن تتوقف سيارة الأجرة أمام باب كبيرة كانت مدخلا لمزرعة تتكون من طابقين ، كان يعلوا المزرعة صمت رهيب شبيه بصمت ليلة أمس ، وهي تحوم بين جنبات المزرعة وقعت عينيها على قارئ عداد للكهرباء ، خطر في ذهنها فكرة تدوين رقمه التسلسلي في ورقة عسى أن يكون منطلقا يقودها إلى معرفة أسماء الجناة ، مدت يدها إلى حقيبتها وأخرجت منها قلما ومذكرة ، دونت الرقم التسلسلي لعداد الكهرباء ، وعادت أدراجها نحو سيارة الأجرة .

ولما كانت أطوار هذه الأحداث تجري في يوم أحد فقد كان يوم عطلة نهاية الأسبوع بالنسبة لموظفي مكاتب الماء والكهرباء ، انتظرت معه نادية قدوم غذ الاثنين بفارغ الصبر .

ومع حلول صباح يوم غد (الإثنين) وفي حدود الساعة العاشرة صباحا ، مر الموظف المكلف بمراقبة عدادات الكهرباء كما توقعت نادية (لأنه غالبا ما يمر من الحي الذي تقطنه نادية في صبيحة أول يوم الاثنين من كل شهر ) ، ونظرا لكون ما يجمع نادية بقارئ العدادات هذا هي حجرات الدراسة في السلك الثانوي ، ونظرا لقدم العلاقة التي تجمعها بهذا الأخير التي امتدت منذ سنوات الدراسة في الثانوية ، لم تجد أي مانع أو حرج في أن تطلب منه خدمة طالما كانت تخشى أن ترد في وجهها . 

لم يكن الطلب سوى تكليف زميل الدراسة السابق بالبحث عن اسم سُجل به رقم التسلسلي لعداد كهرباء ، وقد بررت نادية طلبها هذا في أنها تريد أن تسأل عن أحد الأشخاص الذين تقدموا لخطبتها لا أقل ولا أكثر حتى لا تثير شكوك زميل الدراسة الذي أصبح اليوم موظف في مكتب الماء والكهرباء في الجهة التي تقطنها نادية . 

لم تتلقى نادية أي رفض لطلبها بل وقد حدد صاحبنا يوم الإثنين المقبل كحد أقصى في إتيان نادية بكل المعلومات المتعلقة بصاحب هذا الرقم التسلسلي .

ورغم أن المدة قد تطول لقرابة أسبوع أو أكثر لم تعارض نادية ـ وجاء اليوم المتفق عليه وجاء معه قارئ العدادات بمعلومات لم تكن تتوقعها نادية ، فمع الإسم الكامل لمالك ذالك المنزل ، اكتشف صاحبنا أن هذا الإسم قد سجل به رقم عداد أخر موجود في نفس المدينة التي تقطن فيها نادية ، انشرحت أسارير نادية مع هذه المعلومة التي جاء بها صاحبنا مقدمةً له شكرها وامتنانها على المجهود الذي بذله معها .

لم تستغرق نادية أكثر من نصف ساعة حتى وجدت نفسها أمام العنوان الذي زودها إياه قارئ العدادات لتتفاجئ بوجود نفس السيارة التي استعملها الذئاب مركونة أمام عنوان المنزل ، حاولت أن تتمالك نفسها لكي لا تثير شبهات المارة أو بالأحرى الذئاب إن هم وُجدوا بالجوار منها ، لكن عندما أحست نادية بأنها تعد قادرة على التحكم في أفعالها وبأن سلوكياتها قد خرجت سيطرتها قررت العودة فيما بعد، وفي داخلها شيء يهمس ويقول “لقد أحرزت تقدما نحو الوصول إلى الذئاب .”
ظل ذلك الشيء يهمس في داخلها في فترات متباعدة كأنما يريد أن يذكرها بمدى التقدم الذي أحرزته ، تقدم جعلها تقترب من مسعاها الذي طالما حلمت به منذ أولى الجرعات التي تجرعتها والذئاب ينهشون جسدها ويمزقون شيء اسمه العذرية المقابلة للشرف والكرامة الأنثوية في المجتمعات العربية. كانت الخلاصة التي خرجت بها نادية بعد تحليل وتخطيط وحوار مونولوجي مع نفسها بمعية الشيء الذي يهمس في داخلها كأنما الأستاذ يشجع تلميذته على نجاحها وتفوقها، أن لا خطوة تخطوها من دون سابق تخطيط دقيق ، مضبوط ، دقيق . 

قررت نادية التنكر أقصى ما يمكن عندما تعود إلى نفس العنوان لكي لا ينكشف وجهها وينكشف معه هدفها وحلمها ويصمت ذلك الشيء الذي يهمس في داخلها ، ذهبت ثم رجعت بكل تأن أمام المنزل المعلوم تسرق النظرات داخل السيارة المعلومة ولم تجد أي أثر يمكن أن يدل على الذهاب ، ثم قررت بعد ذلك أن تعود في وقت لاحق . 

عند عودتها ترامى إلى بصرها أحذ الذئاب الذي كان يلبس قبعته الرياضية الحمراء خلف مقود السيارة التي أغلقها بمفتاحه قاطعا الشارع متوجها إلى أحد المقاهي المقابلة لمنزلهم (كما اعتقدت) ، لم تفارقه أعين نادية حتى تيقنت أنه أخذ كرسيا وجلس ، ثم اقتربت منه لتقطع شكها باليقين لكي لا تنخدع بالحواس كما أوصانا “ديكارت”، إنه هو بلحمه الذي تمنت نادية أن تنهشه وبدمه الذي كم تمنت أن تسفكه ، تأملته للحظات وذهبت ، وقالت في نفسها لك ذلك ، لكن بعد تخطيط ثم تطبيق .

***

احتشد نفر من الفضوليين أمام المقهى يتابعون تحركات الشرطة وهي تقوم بمهمة مشط مسرح الجريمة الذي لم يكن سوى مائدة في المقهى المقابل للمنزل الذي ذهبت ورجعته من أمامه نادية مرات عدة . 

لو لم ينادي نادل المقهى مرات عدة ونظرا لطول المدة التي بقي فيها (خالد) متوسدا يده في وضعية ظهر فيها شبه نائم فوق الطاولة لحسبه النادل نائما يريد بعض الراحة من يوم مشمس من أيام شهر يوليو الحارقة ، إذا لما تيقن النادل أن المسألة أكثر من أخذ قسط للراحة فوق المائدة ـ ذهب مسرعا إلى رب عمله يطلب مشورته قبل أن يتصل بالشرطة التي طوقت المكان إعلانا عن حالة وفاة تستلزم تقديم تفسير مفصل عن سببها ، هل وافته المنية استجابة للقدر أم كان وراء موته شخصا ما عجل من وفاته ؟

صدر التقرير الأولي على لسان رئيس الشرطة العلمية بأن لون ورائحة الشاي الذي كان يحتسيه الضحية مشكوك في أمرهما ، وقدّم بذلك فرضية أن يكون الضحية قد مات مقتولا عن طريق تجرعه لكمية من الشاي الذي من المفترض أن يكون القاتل قد دس فيه بعضا من السم القاتل ، ليطرح بعدها السؤال الكلاسيكي إبان كل عملية قتل .

من القاتل ؟ 

لا يعرف من القاتل سوى عالم الغيب والقاتل نفسه الذي لم يكن سوى فتاة أحست بنشوة سعيدة وهي تراقب من بعيد تجمهر الفضوليين وأفراد من الشرطة حول جثة كانت في أحد الأيام جسدا يفرغ شهواته الجنسية المكبوتة في جسدها المكبل اليدين والرجلين . 

لو أعدنا شريط الأحداث لقرابة ساعة من هذه اللحظة لوجدنا تحمل في يدها بعض المنتوجات التي يتم عرضها على مرتادي المقاهي من “اكسسوارات وساعات يدوية…الخ.” ـ إلا أن نادية كانت تحمل بالإضافة إلى هذه المنتوجات قرصا صغيرا أصفر اللون وجد طريقه إلى كأس الشاي الذي كان يحتسي منه خالد ، بعدما عرضت عليه نادية مجموع منتوجاتها التي لم يخسر خالد عناء ملاحظتها نظرا لانشغاله في هاتفه الذكي . 

خرجت نادية من نشوتها متوجهة إلى مرحاض المقهى الذي نفذت فيه أولى جولات انتقامها وتوجهت نحو المرآة المعلقة على جدار المرحاض ، بعدما أغلقت الباب أدخلت يدها في حقيبتها وأخرجت أحمر شفاه كتبت به على المرآة المعلق على حائط المرحاض عبارة “الذئب رقم واحد من أصل أربعة . “

***

من وسط الجموع المتحلقة حول الجثة ، رمقت نادية أحد الذئاب المقربين جدا للشخص الذي مات منذ لحظات ، كانت مظاهر الحزن والأسى الممتزجة بالخوف بادية على ملامحه ، شعر بأن وفاة صديقه المقرب لم تكن عادية بالمرة نظرا للطابع الدرامي الذي رافق حيثيات الوفاة . 

لما انسل من الدائرة البشرية المضروبة على الجثة ، سلك طريقا مفضي إلى أحد الأزقة قبل تراه نادية يدخل إلى أحد المنازل خمنت معه أنه المنزل الذي يقطن فيه ذئبها الذي يجب أن تحبك له خطة محكمة للايقاع به .

أحست نادية أنها ضربت عصفورين بحجر واحد ، كانت جد متيقنة أن وقوفها بعيدا وراء الجموع البشرية سوف يؤتي أكله ، رجحت ظهور ذئب من الذئاب الثلاث المتبقية لمشاهدته بأم عين مصير شريكه السابق الذي أضحى اليوم جثة هامدة . 

بعد تتبعه خطواته ملاحظته من بعيد اكتشفت نادية أن المدعو (سعيد) الذي كانت تتابع حركاته من بعيد لمدة يومين له برنامج يومي شبه روتيني ، فبعد ساعات العمل الصباحية وما يتخللها من فترة استراحة قد تمتد لمدة ساعتين يعود هذا الأخير إلى العمل الذي لا ينتهي منه إلا في حدود الساعة السادسة مساءا ، حاله مثل حال موظف حكومي عادي . 

قبل الذهاب إلى البيت الذي يقطن فيه يقصد صاحبنا أحد الحانات المرصوصة بجانب البحر المتوسطي (الكورنيش) ، يتخذ له مقعدا بجانب الطاولة التي يداوم الجلوس بقربها نظرا لموقعها الاستراتيجي المقابل لأركان الحانة الأربعة .

بعدما تجرع ما يكفيه من ماء الحياة (النبيذ) وما يجاوره ، ويحس بأنه بدأ يسترجع بعضا من نشاطه وحيويته التي أخذتها ساعات العمل الطويلة يتوجه بعدها إلى المنزل طلبا للراحة الجسدية الموازية للنوم . إلا أنه في الآونة لأخيرة بدأ يتجاوز تلك الجرعات التي حددها بنفسه ولنفسه إلى حدود الإفراط ، كان هذا ما لاحظه أغلب مرتادي تلك الحانة الأوفياء الذين رجحوا أن سبب كل ذلك هو محاولة نسيان ذكرى من الماضي أو تجاوز لحظة في الحاضر .

وفي إحدى جلساته المعتادة التي تبدأ أولا بفحص شامل للوجوه المعمرة للحانة والتي يكون أغلبها وجوه قد اعتاد سعيد على رؤيتها والاضطلاع على أسرارها وخباياها ، رمق وجها أنثويا له نصيب من الجمال يحمله جسد يفيض بدوره جمالا وأنوثة قد يشتهيه كل رجل منذ اللحظة الأولى .

رفع كأسه تحية لهذا الوجه والجسد الجديد الذي تمنى أن يضعه ضمن لائحة الحمراء .

حسب أنه قريب مما يتمنى عندما قام بأول محاولة لاستقطاب هذه الفريسة إلى مائدته أو بالأحرى إلى لائحة الذي يضع لها إسما و عنوانا (اللائحة الحمراء).
لما اقتربت ، وجلست قبالته ، تأمل هذا الوجه الجديد الذي بدا له أنه قد رآه في السابق ومن دوامة البحث عن المكان والزمان الذي شاهد فيه هذا الوجه، مدت يدها التي استقبلها بقبلة طالبا منها أن تشاركه جلسته ولما لا ليلته بعد حين .

بعد تبادل أطراف الحديث الذي حاول سعيد أن يسرع مجراه للوصول إلى اتفاق يقضي بطلب الفريسة التي اعتبرها فريسة سهلة المراس بالذهاب معه لتتمة ما تبقى من الليل في أحد المنازل التي لا تبعد كثيرا عن الحانة . 

لما أدخل المفتاح وأداره ، فتح سعيد باب الشقة ورحب بالضيفة الجديدة التي شكرته على حسن استقباله وضيافته ، شعل مصابيح البيت وجهز الطاولة التي لم تختلف كثيرا عن الطاولة التي كانا يجلسان عليها في الحانة من حيث المحتوى ، أفرغ قليلا من النبيذ في كأس ضيفته بالمقدار الذي أفرغه في كأسه .

مرت الدقائق والساعات والكؤوس تمتلئ ومواضيع الحديث المختلفة التي لم تغادر دائرة الحياة والحب واللذة والجنس … الخ ، وبعدما قرر القائد الانتقال من المستوى الشفهي إإلى المستوى التطبيقي ، مسك بيد فريسته التي لم تعارض في الذهاب معه إلى أرض المعركة .

عندما شرع في نزع ملابسه أحس بدوار شديد تزامن مع ضباب بدأ يجثم على عينيه ، ثم استلقى على ظهره وكان آخر شيء لمحه ضوء وهاج فوقه مباشرة ثم تلته بعد ذلك عتمة شديدة وظلام دامس . 

لما أشرقت الشمس ، وأثناء قيام حارس العمارة التي كانت تحتضن ليلة أمس الحمراء اكتشف في الطابق الرابع وخاصة في المنزل الذي يحمل رقم 19 جثة رجل مستلقي على ظهره مذبوح من الوريد إلى الوريد ومكتوب على جسده بأحمر شفاه (الذئب رقم اثنان من أصل أربعة) . وبعد قدوم الشرطة بعد عشرين دقيقة من اتصال حارس العمارة ، وبعد تحريات أولية وانطلاقا من تلك الرسالة المكتوبة بأحمر شفاه أحمر علمت الشرطة أنها في مواجهة قاتل متسلسل . 

بعدما أصبحت قضية القاتل المتسلسل الذي يتخذ من أحمر شفاه أحمر قلما يخط به رسائله المشفرة تتصدر عناوين الجرائد والصحف التي تجعل من مثل هذه القضايا والحوادث مادة دسمة تنشر على الملحق المخصص للحوادث والجرائم ، قررت نادية أن تتريث قليلا في إكمال مشروعها وخطتها الانتقامية إلى حين .

***

وكأي قاتل متسلسل محترف ، لما أحست نادية أن اللغط حول القاتل المتسلسل الذي لم يكن إلا هي قد قلّ ، وبعدما كان لها الوقت الكافي لتتبع تحركات أحذ الذئاب الذي لم يكن سوى شقيق صاحب السيارة التي استعملها الذئاب لاختطاف نادية .

طوال هذه المدة ، التي كانت مدة كافية بالنسبة لنادية لرسم وبناء خطة محكمة التفاصيل للإيقاع بالذئب الثالث التي ستعمل جاهدة من أجل إسقاطه من لائحتها الانتقامية ليتبقى لها ذئب واحد وأخير وتكون بذلك قد أتمت مهمتها الانتقامية التي لم تكن تريد منها سوى استرجاع حقها المسلوب .

لما كان القاسم المشترك هو تحقيق وإشباع اللذة الجنسية هو ما يجمع هؤلاء الذئاب الأربعة ، فقد لعبت نادية على هذا الوتر الشهواني الغرائزي ، وقررت أن تلعب دور العاهرة المومس التي تتسكع في الشوارع للإطاحة بأحد الباحثين على جسد أنثوي ، لكن ما يميز نادية عن باقي العاهرات أنها كانت تنتظر زبونا خاصا . 

بعدما عرفت نادية خطة الطريق التي يسلكها دائما (طارق) بسيارته التي كانت في الأصل سيارة أخيه قررت نادية ان تلعب دور فتاة تبيع الهوى على امتداد الشوارع التي يسلكها طارق بسيارته عسى أن يسقط في شباكها في أي لحظة .

ومن حسن حظها لم يتأخر مسعاها. 

عندما كانت تسير فوق رصيف أحد الشوارع التفتت ورائها ورمقت سيارة رمادية اللون من نفس موديل السيارة التي كانت تنتظرها بأحر من الجمر ، عدلت مشيتها لتتناسب ومشية المومسات المحترفات ، وما إن اقتربت منها السيارة التي بدأت تقلل سرعتها كلما اقتربت منها ، شاهدت نادية أول ما شاهدت ترقيم لوحة السيارة التي تبتدأ … 138/ب/ 65 لتتأكد أنها نفس الرقم ويزيد تيقنها بأنها نفس السيارة التي كانت تنتظر قدومها .

بعدما ضغط طارق على مكبر صوت السيارة مرتين متتاليتين وكانت نادية تمشي فوق الرصيف قبالة السيارة لم تتأخر في الذهاب نحوه ، طلب منها الصعود إلى السيارة لإيصالها إلى وجهتها ، لم تمانع وركبت على الفور . 

في إطار الحديث الأولي الذي جمع كل من نادية بطارق حاولت الأخيرة أن تكون نبرتها الصوتية قريبة من نبرة فتيات الليل لكي لا تثير شكوكه في كونها فتاة تبيع اللذة المفعم بالهوى الذي كان يبحث عنه .

طلب منها أن ترافقه إلى أحد المنازل لإتمام ما تبقى من نهار اليوم الذي بدأ ينزل ستاره مع غروب الشمس ، لكن نادية رفضت طلبه بطلب آخر بالذهاب إلى مكان خال قصد التعرف أكثر على بعضهما البعض ، فكان لها ما أرادت .

أوقف طارق السيارة في مدخل غابة لم تكن بعيدة ، نزل من السيارة وفتح درج السيارة الخلفي وأخرج علبتي بيرة ، فتح واحدة قدمها لنادية ، ثم فتح الأخرى لنفسه .

وبعد دردشة لم تدم طويلا ترجل طارق من السارة قاصدا جذع شجرة لإفراغ مثانته ، فاستغلت نادية هذه الفرصة الثمينة لوضع قرص أزق اللون في علبة البيرة الخاصة به .

بعد مدة لم تتجاوز العشر دقائق بدأ القرص يعطي مفعوله خارت معه قوى طارق وأغمض عينيه ودخل في غيبوبة لن يفيق منها أبدا كما قررت نادية التي أخرجت بعض البنزين الموجود في جوف السيارة ، سكبت قليلا منه على المقاعد الخلفية للسيارة وسكبت الباقي على الذئب الذي تمنت نادية أن تشتم لائحة لحمة وهي تحترق لكن هذه الخطوة لمن تكون في صالحها.

وقبل أن تشعل النار وتفر هاربة بكل ما أوتيت من قوة ، أخرجت احمر شفاه من جيب سروالها الجينز وكتبت على باب السيارة الخلفي (الذئب رقم ثلاثة من أصل أربعة).

***

لما علمت نادية أن الذئب الأخير المتبقي في لائحتها الانتقامية قد فقد عقله لما اكتشف أنه الباقي الوحيد وأن الدور دوره لا محالة في لانتقام منه ، كتبت نادية بأحمر شفاه في مرآة مرحاض الطائرة المتوجهة إلى باريس التي كانت قد حجزت أحد مقاعدها بعد مدة ليس بالطويلة (الذئب رقم أربعة من أصل أربعة) وتكون بذلك قد أنهت رحلتها الانتقامية وتبدأ معها رحلة جديدة في بلد جديد .

تاريخ النشر : 2016-05-29

guest
34 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى