أدب الرعب والعام

الجسد المنشطر

بقلم : رائد قاسم – السعودية
للتواصل : [email protected]

يجد نفسه في الغابة مرة أخرى..

يسير في نفق مظلم .. يسمع صوت أنثوي ساحر يحثه على مواصلة خطاه من دون توقف…يستنهض همته فيواصل المسير حتى يظهر له الضوء … يهرول إليه ليخرج من النفق المظلم إلى وسط غابة غناء من الأشجار والأعشاب الخضراء والورود والأزهار…. يشاهد في أطرافها فتاة غاية في الجمال….تبتسم له وتخاطبه بلسانها العذب الأخاذ…

– تعال يا سامي، أنت منذ اليوم زوجي وحبيبي وخليلي.

– أنتِ أصبحت زوجتي؟

– طبعا.

– هل ما أنا فيه حقيقي؟.

– بالتأكيد، ألا تشعر بذلك؟

– ولكن!!

تقترب منه وتحتضنه …

– أنا حقيقة وكل ما تراه حقيقة، تيقن من ذلك…

… يستيقظ على وقع توبيخ من مأمور السجن…

– ويلك يا سامي!! الم تستيقظ بعد ؟

– أين أنا؟

يضحك عليه الجميع…

– أنت في الهلتون يا سيد سامي!!

… يقف فورا وهو في غاية الاندهاش وينظر للجميع بتعجب!!

– اذهب لغسل وجهك واستعد للخروج مع زملائك، اليوم ستقضون ساعات إضافية في الساحة.

… يخرج السجناء للساحة ويشكلوا جماعات، كل جماعة تحتل زاوية وتنشغل بأمر ما…. سامي مع صديقه محسن فضلا الجلوس أمام أشجار النخيل والأعشاب الخضراء المحيطة بها….

– إن ما رأيته بالأمس لا يقل وضوحا ووعيا عن حياة اليقظة التي أعيشها الآن ، ولكن كيف ؟ لا يمكن ! أنا هنا سجين وسأظل لثلاث سنوات قادمة في هذا المكان.

… لا يرى بدا من مفاتحة صديقه وزميله محسن بالأمر …

محسن- لا تبالي بهذا الحلم ، كل ما رأيته هو رغبة عميقة في الانعتاق من الحبس ، جاءت على شكل حلم واضح المعالم ليعوضك عقلك الباطن عن حرمانك من الحرية التي تفتقدها لتتوازن حالتك النفسية ويستقر حالك.

… يحل الليل سريعا، يحاول سامي النوم ولكنه لا يستطيع، يتجول قليلا في أرجاء العنبر، إلا انه يتعرض لنهر بعض الحرس الذين يأمرونه بالنوم.. يستلقي على فراشه ويغمض عينيه وبعد محاولات عسيرة يبدأ بالانعتاق من جسده… يجد نفسه في الغابة مرة أخرى… يتلمس يديه في محاولة منه للتأكد من أنه موجود فعلا ولا يحلم، وإنه يرى كل شي كما يراه في اليقظة تماما… يمسك بالأشجار ويقتطف بعض الورود ويضعها في جيبه … يرى طيف زوجته يتشكل شيئا فشيئا…

– أنتِ مرة أخرى.

– أنا زوجتك يا سامي.

– ما اسمك؟

– سمر.

-اسم جميل ولكن أنا لا افهم.

…تضع يدها على فمه …

– لا تسأل الآن فقط تعال معي .

تمضي به في رحلة في أرجاء الغابة … يقضيان معنا وقتا ممتعا، يسبحان في احد الأنهار ويتسلقان جذع شجرة ضخمة ويلعبان مع بعض الحيوانات…. تغيب الشمس فتذهب به إلى بيت محاط بالأشجار الباسقة والأعشاب الخضراء ….

– مستحيل، أنا لا احلم أنا في كامل وعيي ووجودي!

تضحك سمر من كلامه ….تمسك بيده وتأخذه إلى مائدة الطعام.. يرى أصناف متعددة من الأطعمة فيبدأ بتناول بعضها…

– هل هذا حقيقي؟ لا يمكن!

…تبتسم وتطلب منه إكمال طعامه ، ثم تأخذه إلى غرفة النوم…

-لا اصدق أن هذه غرفة نومي!! مستحيل!!

– سننام الآن يا سامي.

… يخلع ملابسه ويرتدي ملابس النوم..

تحتضنه قائلة:

– ما رأيك الآن أكل شي حقيقي أم ما زلت تظن انك في حلم؟

– أنا في قمة وعيي وكل شي حقيقيا تماما.

– ما هي الحقيقة يا سامي يجب أن نعرفها أولا؟

يرتبك..

– (بابتسامة) اعرف أن توضيح الواضحات أصعب بكثير من توضيح الغوامض.

… تطفأ مصابيح الغرفة ليناما نوما هانئا …

… يستيقظ على ضوء الشمس…

– يا الهي أنا هنا حتى الآن! إذن ما أعيشه حقيقة دامغة ولا بد أن اعرف السر.

… يمضي في أرجاء البيت وينادي على سمر …. يشاهد فتاة تقوم بأعمال التنظيف..

– من أنت؟

– أنا الخادمة يا سيدي.

– أين أنا؟

… لا ترد عليه

– هل أنت من البشر؟

…تبتسم ولا ترد جوابا

– لما لا تجيبين؟

تنظر له ببعض التجهم..

– أسالك إذن عن زوجتي سمر أين هي؟

– أنها بانتظارك في بحيرة الأسماك الملونة.

– وأين تكون؟.

– سر بضع دقائق باتجاه الشمال وسوف تصل إليها.

يمشي بهدوء وسط حدائق غناء وأنغام الطيور والعصافير والبلابل…

-لا يمكن أن يكون عقلي قد انشأ كل هذا، ما يقول محسن مستحيل، أنا أعيش حياتي بوعي وإدراك تامين، لقد نمت واستيقظت من نومي كأي شخص سوي، وهذه يدي وهذه ملابسي وتلك هي الشمس بدأت تضرب بقوة على بعض جوانب الطريق.

يصل للبحيرة، يشاهد زوجته وهي تستقل قارب صغير…يقفز إلى البحيرة محاولا الوصول إليها سباحة…

– ماذا تفعل يا مجنون؟! ستغرق فالبحيرة عميقة!

… يتوقف فقد كان يحاول التيقن من أمره ليس إلا…

… تقله في القارب وتحتضنه بعمق…

– اعلم انك تريد أن تعرف وهذا من حقك، ولكن تأكد لو انك غرقت فسوف تموت.

-حقا!!

– أنت تعيش حياتك يا حبيبي ولحياتك نهاية سواء هنا أو هناك.

– لم افهم ماذا تعنين بهنا أو هناك؟

– لا تشغل بالك الآن، فلنستمتع برؤية هذه الأسماك الملونة وجمال هذه الغابة.

…. يقضيان وقتا رائعا بين الماعز والأبقار والنباتات مختلفة الألوان ثم يعودان للبيت لتناول طعام الغداء ويأخذان قسطا من الراحة حتى غروب الشمس، في الليل يتجولان بين الأشجار المحيطة بالبيت على ضوء القمر والنجوم المتلألئة حوله…يحتضنان بعضهما…

– حبيبتي كم احبك.

– وأنا كذلك.

– انظري لسواد الليل كم هو جميل عندما تزينه نجوم السماء.

– انه كذلك يا سامي ، ولكن مضى الآن يومان ونحن مع بعضنا ، يجب عليك العودة الآن.

– العودة!

– نعم عليك أن تعود إليه.

– أعود لمن؟

– إلى جسدك يا حبيبي وسوف التقي بك مجددا.

يفقد قدرته على الحراك… تبتعد عنه شيئا فشيئا…

– انتظري يا سمر إلى أين تذهبين؟

… تشير له بقبلة حانية وتختفي… يتحول الوجود من حوله إلى لون اسود قاتم، يشعر بدوار شديد….يرى نفق اسود سرعان ما ينجذب إليه بسرعة …. يجد نفسه بداخله …يغمره النور فيغمض عينيه ثم يفتحهما ليرى نفسه في سجنه…

محسن – صباح الخير يا سامي، الجميع استيقظوا إلا أنت.

… ينظر للناس من حوله فيرى كل شي طبيعيا تماما وإنه في السجن…

-كم الساعة الآن؟

– التاسعة، والأمر الذي يحيرني انه بالرغم من الضجيج والإزعاج لم تستيقظ على جري عادتك، على فكره فطورك جاهز لقد خبأته لك كالعادة.

يتناول إفطاره بنهم ، ثم يخرج للساحة برفقة محسن ، الذي لا يرى بدا من التحدث إليه في الأمر مرة أخرى…

– مثلما قلت لك يا عزيزي كلها أحلام.

– ولكنني عشت يومين بكامل تفاصيلهما ليلة البارحة.

– التفاوت في الزمن بين عالمي الحلم واليقظة طبيعي جدا، ولكنه يبقى وهما، لان الحلم وهما في ذاته، أحلامك جميلة ومفيدة لأنها تساعدك على تحمل أيام السجن الطويلة.

… يتذكر انه أخد شيئا من الأزهار، يبحث في مخابئه فيجد فتاتها ويقدمها لمحسن كإثبات

على أن ما يقوله له حقيقة لا وهم..

– فعلا بقايا أزهار لا تزال محتفظة برائحة فواحة ، ولكنك قطعا أخذتها من حديقة السجن في وقت سابق!!

… لا يقتنع بكلام صديقه ويستمر في تساؤلاته …

-كيف يختلف الزمن هكذا وكيف أعيش حياتين؟ هل يعقل أن ما عشته مجرد وهم؟ مستحيل ، كل ما جرى لي كان حقيقة مطلقة وهذه الزهور شاهد على صحة كلامي ، أين أنتِ الآن يا سمر؟.

يأتي الليل مسرعا ، يشعر بحاجة للنوم فيخلد له مبكرا…..تنتابه رعشة غريبة .. وكأن أحدا يصرعه … يصرخ صراخا رهيبا… يمسك به زملائه..

– يبدوا انه مصروع.

– يا الهي إن وضعه خطير، لا بد من طبيب على الفور.

…. يهيج بشدة ثم يسترخي… يستعيد وعيه مجددا .

– سامي أنا صديقك محسن.

يتحدث له بكلام غير مفهوم . يقف على رجليه وينظر لزملائه بشرود ثم يتحدث بكلام لا قيمة له..

– يا الهي لقد جن سامي!!

… يمسك به صديقه محسن..

– سامي استعد وعيك يا عزيزي.

… ينظر له ببلاهة ثم يضحك ويقفز ويهرول في أنحاء العنبر ..

– لقد جن سامي يا جماعة !!

يستمر سامي في جنونه حتى يهدأ قليلا … يسقط متعبا وهو يتطلع في وجوه زملائه الذين أحاطوا به مشفقين … سرعان ما يغمر الوجود من حوله سواد يطمس كل شي… يشاهد النفق المظلم مرة أخرى … ينهض ويسير فيه بهدوء وثبات … يضرب عينيه نور دافق فيسقط مغميا عليه… يستيقظ ليرى نفسه ملقى وسط واحة خضراء…يشعر بالسعادة الغامرة…يتجول في أنحائها حتى يصل إلى حديقة غناء مليئة بالإزهار والورود والرياحين… يستلقي فيها بسرور وبهجة ثم يشعر بيد بيضاء حانية تلمس كتفه …

– أنتِ.

– أنا زوجتك سمر أنسيت ذلك يا سامي؟.

– اقسم عليك أن تخبريني ماذا يحدث لي ولماذا أنا هنا ؟

– سامي أنا احبك وأنت زوجي وأنا زوجتك ألا يكفيك ذلك؟

– ( بنبرة غاضبة) كلا يجب أن تخبريني ماذا يحدث لي والى أين سينتهي أمري؟

.. تحتضنه ثم تمسك ذراعيه بحنان….

– سامي أنت الآن منشطر بين عالمين حقيقيين!!

– لم افهم ، كيف يكون ذلك؟

– جسدك الفيزيائي هناك في السجن بينما جسدك الأثيري هنا.

– كلام لا استطيع تصديقه.

– هذه هي الحقيقة ، وعقلك يا حبيبي هنا بصحبة جسدك الشفاف هذا!!

– هل هذا يعني أنني هناك بلا عقل؟!

– نعم ، وكل من معك الآن يظن انك مجنون!!!

– والزمن بين العالمين ؟

– الزمن مختلفا أيضا يا حبيبي.

– والآن ماذا سأفعل؟

– لك الخيار يا زوجي، إما أن تبقى معي هنا، وإما أن تعود.

فجأة تهتز الأرض بهما وتهب عليهما ريح شديدة وتحجب السحب أشعة الشمس…

– ما الذي يحدث يا سمر؟

– عليك الآن أن تقرر إما المكوث في هذا العالم أو العودة إلى عالمك وحينها قد لا تراني أبدا ، فالاتصال بين العالمين أصبح محظورا علي بعد اليوم.

.. يمسك بيدها ودموعه منهمرة…

– احبك يا سمر مهما كنت وكيفما كنت ولكن….

– ولكن ماذا؟

– لا أريد أن أكون بلا عقل في عالم وبعقل في عالم آخر، لا يمكنني أن اسلم جسدي الترابي لهذا المصير ، إنها أنانية لا اقبلها على نفسي، ولكني اقسم لك باني سوف أعود لك ، سأتجاوز كثافة بدني وسأخترق دفاعاته حتى ألقاك ، عالمك ليس ببعيد عن عالمي لا يفصله سوى أبعاد سأتمكن من تجاوزها.

…. يتلاشى كل شي بالتدريج… تختفي سمر شيئا فشيئا ودموع كل منهما تنهمر بغزارة… يجد نفسه وسط ظلمة مطبقة… يرى نفقه مرة أخرى …يسير فيه حتى يصل إلى آخره ..يشاهد جسده الفيزيائي ملقا على السرير في المستشفى…. يقترب منه بحذر فينجذب له ليدخل فيه…يستيقظ فيرى أن مدة محكومتيه قد انتهت!! وإنه مغمى عليه منذ ثلاث سنوات !!!… يخرج من المستشفى ليبدأ حياة جديدة وباحثا عن طريقة ما توصله إلى النفق ومنه إلى سمر وعالمها النوراني البهيج….

– لعل لي جسدين وعشت في عالمين ولكني امتلك قلبا واحد وعقلا واحدا، سأظل ابحث عنك يا سمر حتى آخر يوم من حياتي.

تاريخ النشر : 2016-06-01

رائد قاسم

السعودية
guest
18 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى