أدب الرعب والعام

الحياة ليست عادلة

بقلم : البراء – مصر
للتواصل : [email protected]

الحياة ليست عادلة
وقف أمام الكوخ الصغير.. لابد من أن هذا هو العنوان

إحساس رائع .. لا شيء يضاهيه روعة .. إنه يوم الإجازة .. يوم تشرق الشمس فيه بشكل أروع و يتبدل فيه صياح الديك المزعج ذاك إلى صوت مذهل تستمع له بانبهار و كأنك تستمتع إلى سيمفونية ما .. لكن و كما جميع الأشياء الرائعة تجده قصيراً جداً .. ثم تنساه بسرعة و كأنه لم يمر عليك أبداً .. هذه هي طبيعة الحياة .. محيي كان من محبي يوم الاجازة .. متعصب له بشكل غير مسبوق .. بتلك الشعيرات القليلة المتبقية في رأسه .. و تلك الفجوة الرائعة في منتصف رأسه .. و تلك العين المرهقة تراه يشق طريقه نحو عمله .. هو و رأسه التي تصمم أن تعكس ضوء الشمس في كل مرة يمشي فيها تحت ضوئها .. و كأنها تفعل هذا عمداً كي تعمي من يقابله .. لماذا تساقطت شعيرات رأسه بهذا الشكل الشنيع ..

الجواب هو السن بالطبع .. محيي في عامه الستين .. موظف أهلكته الحياة لم يفهم أبداً طبيعة البشر .. لم يفهم لماذا يصممون على جعل بداية العمل في أبكر وقت يمكن أن يوجد .. و لماذا دائماً يتفق جميع السائقين عليه .. أتراه لأنه نحيل كعصا فلا تتم ملاحظته .. أم لأنه شارد الذهن دوماً … و لماذا يتعثر دائما في كل شيء في طريقه سواء كان ملاحظاً أم لا .. محيي أغمض عينيه و تنهد لأنه يعرف أن كل هذا سينتهي في الساعات القادمة .. إنه المعاش بالطبع .. و بينما هو في وسط نشوته هذه ؛ حدث له أسوأ شيء يمكن أن يحدث لشخص في مثل ظروفه .. لقد طار و مات !! .. نعم طار لمترين أو ثلاثة قبل أن يرتطم بالأرض بقوة .. صدمه ذلك اللعين الموجود في حياة كل شخص منا بسيارته ثم فر .. و لكن بعيداً عن اللعين دعونا نكون واقعيين بعض الشيء هنا.. هذا الرجل.. محيي لم يفته الكثير .. الأمراض نهشت في جسمه نهشاً .. العزاء الوحيد هنا هو أولاده .. جميعهم حمقى بلا استثناء .. و لم يقدّروا والدهم المريض الذي مات بسبب سائق متهور.. إما هذا و إما أن والدهم هو المتهور.. الحياة ليست عادلة .. من قال أنها كذلك ؟!!

***********

 

صوت القارئ يكاد يخترق طبلة أذن طارق ابنه الأصغر و لو شئنا الدقة ابنه الوحيد .. لأنه و منذ أن تزوج الثلاثة الآخرون انقطعوا عن والدهم تماماً و كأنهم لم يعرفوه أبداً .. بعد أن رباهم و علمهم أولئك الجاحدين … مرة أخرى تنتهز الحياة الفرصة لتخبرنا أنها ليست عادلة … لكن لحظة .. هو مات أليس كذلك .. نعم لو لم يمت إذن لمن يقرأ هذا القارئ .. جيد .. إذن لماذا يراه طارق الآن .. طارق آمن بأنه يتوهم لذا اكتفى بفرك عينيه و الجلوس ساكناً متوقعاً أن يختفي والده من أمامه .. و هو مالم يحدث بالطبع .. و رغم هذا هو لم يتحرك من مكانه .. إن ما بداخله من الحزن يكفي أن يجعله يتجاهل هذا .. كان يتخيل وجه والده و هو يقول بوقار ” يا طارق يا بني .. هناك المهم .. و هناك الأهم ” ..

و الأهم هنا هو ذلك العزاء .. يجب عليه ان ينتظر حتى ينتهي الأمر .. وبعدها يمكنه أن يجري وراء شبح والده لو أراد .. لكن المشكلة لم تكن في الانتظار .. المشكلة كانت في والده .. إنه يجلس بجانبه الآن بل و ينظر له بغضب.. لكنه لم يتحدث قط .. فقط ينظر له بعين غاضبة .. المهم و الأهم يا طارق .. المهم و الأهم .. طارق لم يعرف متى قرر أن شبح والده هو الأهم و لم يعرف متى وقف و هو ينظر للكرسي الذي بجانبه و هو يقول ” ماذا تريد ؟!!” .. الكرسي كان فارغاً بالطبع .. لابد له من أن يكون كذلك .. بعضهم ظن أن طارق يتخيل من آثار الصدمة و بعضهم لم يستوعب ما قاله .. لكن كلهم اتفقوا على انه لا شيء على ذلك الكرسي .. مجرد رؤية هذه الوجوه تنظر له بهذه النظرة الواضحة جعلته يدرك أنه يجب عليه الجلوس حالاً .. و طبعاً الشبح سبب كل هذا كان قد اختفى بالفعل ..و لما لا يختفي .. لقد أدى عمله ذلك الوغد .. سحب الكرسي و جلس عليه في حرج و هو يلعن الأشباح في سره .. كان العزاء طويلاً بحق .. حتى أنه قد ظن أن هناك أكثر من شخص قد مات و ليس شخص واحد .. فقط متى ينتهي الأمر.

***********

 

لقد ظهر الأوغاد أخيراً .. من ؟ .. و هل يوجد أوغاد غيرهم إنهم أولاد محيي بالطبع .. جميعهم كانوا مختبئين في مكان ما و لا يريدون الخروج منه .. حاول طارق الوصول لهم بشتى الطرق .. و لكنهم كانوا قد اختفوا كالأشباح .. و الآن ظهروا بعد أسبوع أخيراً .. بعد انتهاء العزاء .. كل ما كان على طارق فعله هو قول كلمة ورث بصوت عالي متظاهراً بأنه يتكلم في هاتفه في منتصف الشارع الذي يسكنه حتى يقرروا الظهور من العدم .. لقد كانوا يعرفون بالأمر .. لكنهم لم يأتوا إلا للورث .. يا لهم من أوغاد ..

لقد ظنوا أن والدهم يملك شيئاً غير ملابسه ليرثوه منه .. حاول المحامي تهدئة الوضع بينهم .. لكنهم كانوا مصممين بالفعل .. هم سيقتلون طارق لا محالة .. كيف لذلك الوغد أن يكذب عليهم .. و لكي لا نكذب نحن أيضاً فيجب أن نقر بأن محيي ترك ورقة للمحامي .. و أخبره ألا يعطيها إلا لطارق .. المحامي كان صديق جيد لمحيي و قرر تنفيذ وصيته الأخيرة .. تأكد من أن الورقة لن تصل إلا ليد طارق بشحمه و لحمه .. آخر كلمات المرحوم للمحامي .. المحامي و بعد أن ذهبوا كلهم أعطاه الورقة ثم ذهب هو الآخر .. الورقة كان عليها عنوان مكان .. ظن طارق أن والده يمزح .. كان يعلم أن مزاح والده سخيف حقاً .. و لكن لسبب ما هو حتى لا يعرفه قرر أن الوقت قد حان لإحداث بعض التغييرات في آلية تفكيره .. الأمر الذي جعله يؤمن بأن الورقة ليست فقط مجرد مزاح سخيف .. و قرر أيضاً أنه سوف يبحث عن العنوان و يجد ما أراد له والده أن يجده.

*****************

 

هكذا بدأ طارق رحلته في البحث عن العنوان .. و لكن الأمر لم يكن بهذه السهولة .. لا يمكنه فقط إيقاف سيارة أجرة و إعطاء سائقها العنوان .. كان مكتوباً في الورقة شارع الطيب بالإضافة إلى رقم طويل مكون سبع أرقام .. أولاً أرقام المنازل ليست بهذا الطول و ثانياً أين على الكرة الأرضية يمكن أن يكون شارع الطيب هذا .. و بغض النظر عن الاسم لماذا لم يكلف والده نفسه و يكتب على الأقل اسم المدينة أو حتى الدولة .. لماذا هو بخيل هكذا..

“اذكروا محاسن موتاكم” هكذا تمتم بها و هو يوقف سيارة الأجرة مجازفا بتلقي وابلاً من الشتائم.. سائقين الأجرة هم الأسوأ فيما يتعلق بالشتائم.. لدى عقلهم خاصية إبداعية لا تقاوم في ابتكار الشتائم الجديدة.. إن المدينة كبيرة جداً و من الصعب على أي أحد أن يعرف جميع شوارعها .. ماعدا سائقي الأجرة فهذا هو عملهم بالطبع.. الأمر لم يكن صعباً .. كل ما كان على طارق فعله هو سؤال صاحبها بصوت منخفض يشوبه القلق عن شارع الطيب هذا .. و آخر ما كان طارق يتوقعه هو ذلك الصوت الأجش الغليظ الخارج من السائق .. فلتركب يا سيدي .. طارق وقف مندهشا للحظات و عقله يقول له فلتترك هذا الرجل .. لابد من أنه يمزح .. قاطعه ذلك الصوت الغليظ مجدداً .. فلتتفضل يا أستاذ .. كيف يمكن لمثل هكذا صوت أن يمزح .. إنه لا يمزح .. بالتأكيد لا يمزح .. و هكذا مد طارق يده و فتح الباب بريبة و حذر ثم ركب مع السائق .. اتّضح في النهاية أنه يمكنه فقط إيقاف سيارة أجرة و إعطاء صاحبها العنوان .. كان هذا مثيراً للغيظ تماماً كما هو مثيراً للدهشة .. كيف يمكن أن يكون الأمر بهذه السهولة .. و لكن الأمر لم ينتهي بعد .. السائق أنزله في شارع يكتظ بالناس بعد أن أخذ منه أموالاً طائلة جراء هذه الرحلة القصيرة .. و من جديد عاد يلعن هذه الورقة في سره .. لماذا لم يفكر في هذا .. ما الفائدة الأن بعد وصل إلى شارع الطيب ..

مازال واقفاً مثل الغبي في وسط الشارع .. لم يجد حل أفضل من أن ينظر حوله باحثاً عن أي شيء أو أي شخص يمكنه أن يساعده معرفة معنى هذه الأرقام .. وقعت عيناه على ذلك البنك .. فلمعت عيناه ثم فجأة تحركت قدماه نحو ذلك البنك و هو يفكر في مدى منطقية وجود البنك هنا و في هذا الشارع بالذات .. هذه الأرقام بالطبع لن تكون إلا رقم حساب ما في البنك .. و خطر له أن والده ربما ترك له بعض المال في ذلك الحساب .. مجرد التفكير في هذا فقط جعله يدرك مدى احتياجه للمال حقاً .. و بعد كثير من الانتظار و كثير من الأسئلة أدرك طارق أن هذا الرقم ليس رقم حساب .. إنه رقم مخصص لقسم الأمانات .. هو لن يخسر شيئاً .. فليجرب حظه إذن .. كانوا يحتاجون لشيئين .. الرقم و إثبات الهوية .. الرقم معه و لكن إثبات الهوية كان يعمل بالبصمة .. و المصيبة هو أنه لم يدرك هذا إلا في منتصف العملية .. أيمكنه أن ينبش قبر والده كي يحصل على بصمته .. قرر أن يذهب و لكنه أدرك أنهم ينتظرونه بقارئ البصمة .. سيكون من السخف تركهم بعد كل هذا و الذهاب .. لذا قرر الذهاب بلطف و هو يلعن اليوم الذي رأى فيه ذلك المحامي ..

ظن أن بصمته لن تكون الصحيحة .. و لكن ما قاله الرجل خيب ظنه ” هذا جيد .. فلتتفضل معي سيد طارق ” .. لحظة لحظة .. هو لم يخبرهم باسمه … كيف عرفوه .. ماذا ؟!! كيف أخذ والده بصمته .. بعد أن توقف عقله لثانيتين .. عاد للعمل ليخبره بأن هذا سهل .. ربما و هو نائم .. ربما من كوب ما هو قد أمسكه .. الحلول كثيرة .. هذا منطقي .. انتبه أخيراً للرجل الذي كان يبتسم ابتسامة سمجة… ابتسامة من النوع الذي يجعلك تكاد تضرب صاحبها إذا فاجأك بها بدون مقدمات … تماماً كما فعل هذا الرجل .. أخرج له ذلك المغلف الصغير من الخزنة بنفس الابتسامة الملعونة .. و عندما أخبره بأن هذا المغلف هو ما تم تركه هنا من قبل كاد رأس طارق أن ينفجر من شدة الغيظ .. بعد كل هذا .. مغلف صغير من المستحيل أن يحوي مالاً.. نظر مرة أخرى لوجه الرجل كي يتأكد منه .. و لكنه لم يجد الجديد .. إنها نفس الابتسامة مرة أخرى.. أصيب طارق بإحباط شديد.

*************

 

قرر طارق أنه لن يفتح المغلف .. بدلاً من ذلك سيذهب للمنزل كي يمحي خيبة الأمل العظيمة التي داهمته .. أين المفاجأة .. أين ما جاء من أجله .. بعد التفكير ما الذي جاء من أجله حقاً .. أتوقع حقاً أن يكون والده العجوز يخبئ له بعض المال ؟!! .. لماذا جاء إلى هنا .. لماذا .. مد يده في جيبه يتحسس الاجابة في ضيق .. ثم قبضت يده على المغلف و أخرجته .. هو لن يصبر حتى يذهب للمنزل .. حسنا ها نحن ذا .. من جديد عاوده ذلك الشعور بأن والده ترك له بعضاً من الذهب .. و ربما ماسة أو اثنتين لما لا؟.. فتحه و أفرغه في يده .. مفتاح و ورقة .. شعر بأنه سوف يحتاج المغلف الفارغ فوضعه في جيبه .. ثم بدأ يتفحص المفتاح بعين غاضبة .. وضعه هو الآخر في جيبه ثم فتح الورقة .. نعم بالتأكيد عنوان آخر .. لكنه هذه المرة دقيق .. هذا أفضل.

***********

 

وقف أمام الكوخ الصغير و هو ينظر في الورقة .. نعم لابد من أن هذا هو العنوان … نظر حوله و هو يتساءل عن مدى قابلية الحياة هنا .. لابد من أنها مستحيلة .. إن هذه المنطقة من المدينة تقريباً مهجورة .. ماذا عن ذلك الباب المتهالك .. يمكنه أنه يدفعه بقدمه كي يفتح .. مد يده في جيبه و أخرج المفتاح .. لكن لماذا .. لابد من أن هذا المفتاح هو الاجابة لباب الكوخ .. أولج المفتاح داخل الحلقة و أداره ببطء و هو يفكر في الشيء الذي يوجد داخل هذا الكوخ المهجور في هذا المنطقة المهجورة .. ثعبان كوبرا .. أطنان من المال .. شيطان شرير من الجحيم .. جثة متحللة .. كليك !!! … إن الباب يستجيب .. رماد مخلوق فضائي .. شخص مشنوق .. رأس نووي .. فتح الباب و دفعه ببطء ..

أول ما لاحظه كانت رائحة كريهة قوية منبعث من الداخل .. كانت الشمس على وشك الغروب .. أخرج هاتفه و بعث بنوره داخل المنزل كي يرى و بدأ يتقدم بخطوات بطيئة .. داس على كومة من التراب و دخل .. و على ضوء الهاتف الضعيف بدأ يرى صندوق غريب الشكل .. تقدم أكثر .. شيء متدلي من السقف و تحت هذا الشيء يوجد كومة ما .. بدأ يقترب أكثر كي تتضح الرؤية .. شيء ما يجلس على الكومة .. شخص ما .. بيده شيء يتلوى .. أقترب أكثر و أكثر .. إنه يمسك بثعبان .. يبدو مثل ثعبان الكوبرا .. لحظة !!! … بدأ طارق يدرك الأمر .. نظر للسقف أو بالأحرى للشخص المشنوق .. نظر ورائه .. نحو ما داس عليه منذ قليل .. هذا لم يكن تراباً عادياً .. إنه رماد .. الصندوق هذا ليس طبيعياً .. لابد من أنه يحتوي على رأس نووي أو شيء من هذا القبيل .. هذه الكومة أيضاً .. هذا بالتأكيد مال .. إذن لابد من أن صاحبنا الذي يجلس عليه هو شيطان .. نعم بالطبع .. و من غيره يستطيع أن يمسكها بهذا الشكل .. أغمض طارق عينيه لثانية ثم فتحهما بسرعة .. هذه الثانية كانت كافية لتختفي تلك الأشياء الغريبة .. لابد من أنه كان يتخيل كل هذا .. على ضوء الهاتف بدأ يرى .. لا شيء .. الكوخ فارغ .. ليس تماماً .. هناك كرسي يقف بشموخ في المنتصف .. أفضل من لا شيء !!.

****************

 

تقدم طارق بخطوات ثقيلة نحو الكرسي .. وقف أمامه ثم بدأ يتفحصه بعناية .. عن ماذا يبحث؟! .. لا يعرف .. هو فقط مندهش بشدة من وجود هذا الكرسي هنا بالذات .. أخذ يدور حوله و هو ينظر له بتركيز شديد تحت ضوء هاتفه .. ثم توقف لثانية قبل أن يجلس عليه .. طراخ .. باب الكوخ .. ربما هو الهواء .. أو ربما هناك من أغلقه .. هب واقفاً ثم توجه نحو الباب بسرعة ثم بدأ في محاولة فتحه . الباب الذي كان متهالكاً منذ قليل بدا قوياً حقاً الآن .. ربما لم يكن متهالكاً بهذا الشكل .. أخذه الأمر ثانية كي يدرك أنه في منطقة نائية و مجهولة .. و بمعني آخر بعيد عن البشر و عن المساعدة .. ثم ثانية أخرى كي يدرك أن هذا أسوأ مكان يمكن أن يظل محبوساً فيه .. و لكي يكتمل نحسه فلابد من أن شبكة الهاتف المحمول هنا هي أسوأ من أي منطقة أخرى في هذا العالم الواسع .. هذا هو المكان .. نعم لابد من أنه هو المكان .. المكان الذي يمكنك أن تموت و تتحلل فيه كالوغد بدون أن يلاحظك مخلوق.

بالطبع يمكنه الخروج من النافذة.. لولا العبقري المجهول الهوية الذي وضع قضبان الحديد عليه.. بعد التفكير، يبدو جلياً أن من صنع هذا المكان أراده أن يكون قبراً لشخص أحمق مثل طارق.. بدأ طارق يضرب الباب بكلتا يديه كالمجنون على أمل أن يسمعه شخصه ما.. و لو أنه يعرف في داخله أن الأمر مستحيل.. لم تأته أي إجابة كما هو متوقع فبدأ في تنفيذ ” ب ” تحطيم الباب.. أدرك طارق شيئين بعد عدة جولات من العراك مع الباب.. أدرك أن جسده هزيل و ضعيف جداً.. كما أدرك أنه لو ظل طوال الليل يحاول معه فلن ينكسر.. لم يكن يعرف أن الخشب بهذه القوة.. الخطة “ج” إذن.. النوم الآن و غداً سنعرف ماذا سيحدث.. و مشكلته الحقيقية كانت في الأرضية.. إنها صلبة كالفولاذ لكنه نام على الكرسي بأي حال

**************

 

هناك ظاهرة غريبة لا نجد لها تفسيراً نحن البشر.. إنها تلك الظاهرة حينما يشعر المرء أنه مراقب.. لكم من مرة شعر فيها طارق بأنه مراقب.. و لكم من مرة استدار في اتجاه معين بغريزته ليجد عيناً فضولية تراقبه بهدوء.. هذه كانت مرة من المرات.. لكنها كانت مختلفة قليلاً لأنه كان نائماً و أستيقظ على هذا الشعور.. نظر بسرعة نحو تلك العين.. نحو النافذة.. في الناحية الأخرى كان يقف فتى ينظر له بخوف عبر الزجاج.. الطفل كان يراقبه منذ فترة لابأس بها.. و ذلك الاستيقاظ الغير متوقع مع تلك النظرة المفاجئة جعلا الفتى يقفز مترين للوراء قبل أن يقرر النفاذ بجلده من هذا المكان صارخاً بكلمات من نوع “شبح و عاد الشبح.. الشبح.. النجدة”… طارق لم يستوعب ما يحدث لذا أغمض عينيه بهدوء مقرراً إكمال نومه.. لكنه حينما أدرك أن من كان يقف هناك منذ قليل كان بشرياً يمكنه أنه يساعده على الخروج من هنا.. انتفض واقفاً و هو ينادي على الفتى.. لكن الفتى كان سريعاً بحق !!

 

جلس طارق على الكرسي يندب حظه و في نفس الوقت يواسي نفسه.. أكيد سيعود الفتى عاجلاً أم آجلاً ..تباً لشعور الوحدة المؤلم هذا.. لا شبكة في الهاتف مرة أخرى.. لا جدال هنا.. إن ذلك البائس ذو الحظ تعس هنا هالك لا محالة لو لم يأتي الفتى بمساعدة.. الشمس قد أشرقت بالفعل.. و لكن ما الذي كان يفعله هذا الفتى هنا و في هذا الوقت ؟

 

لقد أتى الفتى.. و لم يكن وحده هذه المرة.. كان معه فريقاً رائعا من الرجال.. فرح طارق كثيراً لأنه ظن أنهم هنا لإنقاذه.. لم يكن يعلم أنهم هنا لفعل شيء آخر.. وقف طارق على النافذة و هو يشكر الصبي على ما فعله بابتسامة.. و لكنه لاحظ أنهم لا يفعلون شيئاً.. لا شيء على الإطلاق.. فقط ينظرون له بعين خائفة.. حاول طارق التكلم لكنه أدرك أنهم لا يسمعونه.. لأنه هو نفسه لا يسمعهم.. مجدداً يظهر العبقري صاحب القضبان التي على النافذة بفكرة رائعة أخرى تتمثل في وضع بعضاً من الزجاج الذي لا يمكنك فتحه على النافذة.. ما فائدة الزجاج إذا كانت توجد هناك قضبان.. و هل توجد نافذة لا يمكن فتح زجاجها.. اي مغفل فعل هذا.. مرت لحظات طويلة من الصمت الثقيل قبل أن يقول شخص يبدو بشكل أو بآخر أنه القائد هنا – شيئاً.. حاول طارق قراءة شفتيه لكن كل ما خرج به كان “ووه” ما هي “ووه” هذه.. لم يلبث طويلاً قبل أن يراهم يسكبون الماء على جدران المنزل..

كاد أن يصرخ فيهم يا حمقى أنقذوني لكنه أدرك أنهم لن يسمعوه فقرر الصمت.. بعد أن انتهوا من إغراق الكوخ كاملاً بالماء وقف زعيمهم و هو يقبض على شيئاً ما في يده و يتمتم ببعض الكلمات الغامضة التي لم يسمعها طارق.. كلمات “فلتحترقي أيتها الروح الشريرة”.. ثم عدل من وضعية يده ليتبين لطارق الشيء الموجود في يده.. إنها “ولاعة”.. بعدها بدأ طارق يفطن إلى الحقيقة الغائبة.. ما سكبوه لم يكن ماءاً.. و الآن هو سيحترق إن لم يتصرف.. و في اللحظة التي بدأ فيها التحرك كانت الولاعة تطير نحو الكوخ و هي مشتعلة.. أمسك بالكرسي و توجه بسرعة نحو النافذة.. صوب قدم الكرسي نحو الزجاج ثم دفع به بقوة على أمل أن تمر القدم من بين القضبان و ينكسر الزجاج.. لكن المفاجأة هنا.. قدم الكرسي كانت هي من انكسرت.. طارق لم يكن يتوقع هذا.. أخذ ينقل نظره بغباء بين القدم المكسورة و بين الكرسي.. حقاً ؟!!! لقد كان يتحمله طوال الليل و ينكسر الآن !!…. تسلل الدخان إلى الكوخ فانتبه للأمر و نزع نفسه من وسط دهشته مقرراً المحاولة مرة أخرى.. لا شيء… إن الحرارة تزداد عليك أن تسرع.. مرة أخرى.. إنه يسمع صوتاً ماً.. هذه هي الأخيرة.. لا مرة أخرى إذن.. من الحمار صاحب فكرة الزجاج هذه.. حسناً هيا بنا.. كان هذا وشيكاً.. لابد من أن تكون هذه هي.. كراااش.. انكسر الزجاج أخيراً.. الرجال بالخارج كان يشاهدون كل شيء بدهشة تعلو وجوههم.. و استفاقوا منها على صوت الزجاج و هو يتحطم و صوته و هو يصرخ” يا حمقى أنقذوني.. أنا سأموت !!!”.. تحرك واحد منهم نحو الباب بسرعة و بركلة واحدة منه طار الباب.. طارق بدا مندهشاً.. هو كان يحاول أن يكسره منذ فترة طويلة.. و بروس لي هذا بركلة واحدة أطاح به و كأنه يركل لعبة بلاستيكية.

************

جالساً على الأرض يلهث بشدة من فرط المجهود النفسي و البدني الذي فعله لا يعرف ماذا يفعل، هل يشكرهم على إنقاذه أم يتهمهم بمحاولة قتله، قرر الصمت و تركهم يتحدثون عن الروح أو الشبح أيا كان اسمه ذلك اللعين الذي كاد أن يتسبب في قتله، بعد الإنصات قليلاً لهم أدرك أنهم قد اعتقدوا أنه شبح هذا الكوخ و لهذا قرروا إحراقه، لم يبالوا لوجوده قط، لم يسألوه حتى ما الذي أتى به إلى هنا، لكن من هو هذا الشبح على أي حال، وقف فجأة و قاطع حديثهم المشوق:

– من أنتم؟!

نظروا له و قالوا:

– من أنت؟!

رد و هو يحاول أن يبدو هادئاً:

– طارق.. محيي.

نظروا الى الناحية الأخرى ثم أكملوا حديثهم متجاهلين، تجمعت الدماء في رأس طارق و أردف:

– و أنتم؟!

نظروا له مجدداً و هذه المرة قرروا الإجابة:

– نحن سكان القرية المجاورة.. أخبرنا علاء هنا بأن هناك شبح في الكوخ.. و نحن قررنا أننا لن نسكت على هذا.

قال طارق بتردد:

– و لماذا.. قررتم إحراقه ؟!

نظروا له نظرة بلهاء.. بدا له أن هذا السؤال هو أصعب سؤال في الكون و ربما هو سؤال المليون أو شيء من هذا القبيل، أدرك بعد صمتهم هذا أنهم حمقى و لا يعرفون عن ماذا يتحدثون أو ماذا يفعلون فقرر تركهم نادماً على تضييعه وقته في الكوخ.. و قبل أن يرحل قرر أن ينظر نظرة أخيرة نحو الكوخ الذي تأكله النيران، تهيأ له أن هناك شخصاً وسط النيران بداخل الكوخ ينظر له.

************

 

عندما نتحدث عن الإحباط فهناك طريقتين له.. طريقة بأمل و طريقة بغضب.. طارق كان محبط و بغضب.. ليس معه المال الكافي كي يركب تاكسي و يذهب لبيته.. الآن عليه المشي من أول المدينة لآخرها.. و عليه أن يسأل عن مكان شارعه.. و لا ننسى بدون طعام أو ماء.. يمشي و يمشي و يمشي منذ ساعتين.. تحت أشعة الشمس الحارقة.. عقله يغني أغنية أم كلثوم الشهيرة “و صبحت بين روحي و قلبي.. تايه حيران.. أقول لروحي من غلبي.. أنسى النسيان”..

انتهت الاغنية و لكن عقله لم يتوقف بالرغم من هذا.. بل ظل يغني واحدة أخرى.. و هذه المرة لعبد الحليم.. ” ضي القناديل و الشارع الطويل.. فكرني يا حبيبي بالموعد الجميل “..

لكم كان الشارع طويلاً حقاً.. و لكم كان موعد لقائه مع بيته جميلاً حقاً.. يمكننا أن نقول أن طارق وجد أخيراً السلام الداخلي.. أو وجد السرير لينام كالقتيل.. أيهما أفضل ؟!..

و لم تمر سوى ساعة من عودته حتى وجد إخوته على الباب.. يبدو أنهم تمكنوا من معرفة عن ما أعطاه له المحامي بطريقة ما.. و يبدو أنهم يريدون أن يعرفوا عن ما وجده… و لهذا وجدوه قد دخل في نوبة هيستيرية من الضحك حينما سألوه.. و لهذا أيضا دلهم على عنوان الكوخ و هو يكاد لا يقول كلمة واحدة بوضوح بسبب ضحكه.. فلتبحثوا عنه و ستجدون ما وجدته.. و تركهم و هو يحاول ألا يصاب بنوبة قلبية من كثرة الضحك.. بالطبع الإخوة أرادوا معرفة لماذا يضحك هكذا.. و من معرفتهم بأنهم لو سألوه فسوف لن يخبرهم ذهبوا إلى العنوان بلهفة و دهشة.. توقعوا أن يجدوا شيئاً أو شيئين مثيرين للاهتمام.. كل ما وجدوه هو كومة الرماد التي خلفها الحريق.. لم يتوقفوا عند هذه النقطة بالطبع… أزالوا الأنقاض و حفروا تحتها.. حفروا تحت الكوخ..

وجدوا بعض الأشياء.. بعض الأشياء التي كان من المفترض أن يأخذها طارق.. لأن والدهم يحيي تركها له.. و له فقط.. هذه الأشياء لم تكن إلا بعض المال.. تحويشة عمر الرجل كما يقولون.. يحيي عرف مبكراً أن أولاده سوف يكونون أوغاداً.. لكنه عرف أيضاً أن أقل وغد فيهم سيكون هو طارق.. أطيبهم بالتأكيد.. و يستحق الإرث أكثر.. و قد كان محقاً بالفعل.. نظرة واحدة على العزاء ستخبرك بمدى صحة ظنون يحيي.. لم يحضر ولا واحد منهم عزاءه أصلاً..

لكن المفاجأة لم تكن في هذا.. كانت المفاجأة هي أنهم لم يعطوه ثمن ذلك المال حتى.. واحد لا يعرف.. إذن واحد لا يسأل.. إذن واحد لا يأخذ.. إذن المزيد من المال لهم.. لم يخبروه.. لربما لو كانوا أخبروه لكان قد جُن أو انتحر ربما..

الحياة ليست عادلة.. من قال إنها كذلك.

تمت

تاريخ النشر : 2016-09-04

البراء

مصر - للتواصل: [email protected]
guest
29 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى