أدب الرعب والعام

ثمن الإختيار (1)

بقلم : أبو عمار – مصر

ثمن الإختيار (1)
كانت تشعر بأن من في جمالها تستحق أن تنال عريساً أفضل ، كأن يكون مديراً لإحدى الشركات ، دبلوماسي في سفارة ما ، أو أن يكون من المشاهير ..

لم يغمض لـ (هالة) في هذه الليلة جفن نهائياً فهي تشعر أن السرير قد أصبح مليئاً بالمسامير ، فجلست على سريرها في حجرتها صامتة تفكر بعمق فهي بصدد اتخاذ قرار مصيري في حياتها ، فهي في الثالثة و العشرين من عمرها ، فتاة تعيش في أسرة متوسطة الحال ، والدها متوفى و قد ترك لها و لأمها مبلغاً بسيطاً من المال استطاعت به أمها بجانب عملها كممرضة في القصر العيني أن تربيها و تعلمها حتى تخرجت من كلية ألسن قسم لغة فرنسية .

كانت هالة جميلة و رقيقة حقاً لكن إحساسها بجمالها كان مبالغاً فيه ، فهي تشعر أن كل الشباب يتمنون أن يلفتوا أنظارها و أن يحصلوا على رضاها ، و أن أي شاب لن يجد أفضل منها لتكون فتاة أحلامه ، فهي اعتادت أن يتعلق بها الشباب و هي ترفضهم ، لذلك لم تكن راضية على خطبتها من ابن عمها (باسم) خصوصاً و أنه قد مر عامان على خطبتهما و لم يستطع أن يوفر ثمن الشقة التي سيسكنان بها .

فبالرغم من أنه شاب وسيم و مكافح و يعمل محاسباً في إحدى شركات المياه الغازية الجديدة في السوق المصري ، و بالرغم من أن هالة في البداية كانت متحمسة له جداً لما وجدت عليه من حسن خلق و طموح و إصرار على تحقيق النجاح ، و أيضاً كانت تعلم أنه يحبها حقاً و مستعد أن يبذل كل ما يملك لكي يسعدها ، و أنه لو كان يملك مالاً لن يتوانى بتحقيق كل أحلامها ، بالإضافة إلى أن كل رؤسائه يتوقعون له مستقبل باهر ، إلا أنها تشعر بأن من في جمالها تستحق أن تنال عريساً أفضل ، كأن يكون مديراً لإحدى الشركات ، دبلوماسي في سفارة ما ، أو أن يكون من المشاهير .. لاعب كرة مثلاً أو ممثل ، خصوصاً بعد أن التحقت بالعمل في إحدى الشركات الاستثمارية الكبرى التي كانت تطلب سكرتيرة حسناء المظهر تجيد اللغة الفرنسية فكان لجمالها و إجادتها اللغة الفرنسية دوراً هاماً في التحاقها بهذه الوظيفة .

و قابلت في ذلك (كمال) ، حدث هذا عندما كان في زيارة لصاحب الشركة ليتفق معه على إحدى الصفقات التجارية بين الشركة التي يملكها و الشركة التي تعمل بها هالة ، و من أول نظرة لاحظت كم هو أنيق و وسيم ، له سمت ممثلي السينما في طريقته في الكلام و ضحكته .

و رغم أنها في ذلك اليوم لم تتبادل معه إلا بعض الكلمات البسيطة إلا أنها و بإحساس الأنثى شعرت بإعجابه بها ، فأقسمت بينها و بين نفسها ألا تضيعه من بين يديها ، خصوصاً بعد أن سألت عنه و علمت انه يملك واحدة من أكبر شركات الاستيراد و التصدير في مصر .

ثم كان اللقاء الثاني في حفل توقيع العقود بين الشركتين ، و كان هناك الحديث بينهما أطول حيث عرف منها كل شيء عن نفسها و أهلها ، و تعددت بعد ذلك لقاءاتهما سواء كان في الشركة التي تعمل بها بحجة إنهاء بعض الأعمال أو يدعوها على عشاء في أكبر المطاعم أو في شركته حيث أطلعها ضخامة شركته و عدد موظفيها و حجم تعاملاتها الذي يمتد مع أكبر رجال الدولة و في نهاية اللقاء قال لها :

– هالة أنا اريد ان أتقدم لك .
– لكنك تعلم أني مخطوبة
– طبعا أعلم ، و لكن لا مقارنة بيني و بينه ، مجرد التفكير في تلك المقارنة أعتبرها إهانة لي .
– لا توجد إهانة مطلقاً ، فمكانتك محفوظة و فوق رأسي و لكن الأمور لا تسير بهذا الشكل بل يجب أن تعالج بهدوء و تروّي لأنه أيضاً تجمعني به صلة قرابة .
– اسمعيني يا هالة ، أنا اٌستطيع ان أسعدك أكتر منه مليون مرة ، أنا سأجعلك أميرة في مملكتي ، الكل سيصبح خدم تحت قدميك ، ستأكلين أفخر الأطعمة ، ملابسك سوف تشترينها من أكبر دور الأزياء في العالم ، سوف نقضي الصيف في فرنسا و الشتاء في دبي ، يكون لك أكثر من فيلا في أكثر من دولة في مختلف أنحاء العالم ، صدقيني مليون فتاة غيرك تتمنى هذا العرض
– أنا اعلم و الله ، و لا يوجد بنت لا تحلم بكل ما تقوله ، لكن فقط أعطني فرصة أنهي موضوعي الأول .
– لن أضغط عليكِ كثيراً ، و لكن كل ما أستطيع أن أقوله لكِ أني لم أعتد أن أنتظر كثيراً ، و أنا عندما أغلق باباً لا أفتحه أبداً .

******
الأم : يا هالة هل هناك شخص يفكر أو يسأل في موضوع مثل هذا ! أنت مخطوبة لإنسان متدين و محترم و مستقبله جيد ، و أنا متأكدة أن ربنا سوف يكرمه كرماً كبيراً
– لكن أنا لم أعد أريده ، أشعر أني لو تزوجته سوف يخنقني بفقره و ضيقة معيشته ، ما الذي يجبرني أن أقبل تلك الزيجة السوداء و أنا عندي فرصة تحلم بها مليون بنت ؟!
– ما الذي تقولينه يا ابنتي ! ألم تقرئي حديث رسول الله صلى الله علية و سلم : ” إذا جاءكم من ترضون دينه و خلقه فزوجوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض و فساد كبير ” يا بنتي اعقلي و اعلمي أنك مع الزوج الصالح ستعيشين في سعادة لا يعوضها أي مال

– أمي الموضوع بالنسبة لي منتهي ، أنا سوف أذهب له غداً و أنهي الموضوع ، يا أمي ” كل فولة و لها كيال ” دعيه يرتبط بإنسانة على قدره ، و أنا آخد من يقدرني و يقدر جمالي .
– من يقدرك هو من يحافظ عليكِ و يصونك و يخاف عليكِ حتي و لو أكلت معه فول و نمت معه على “حصيرة ” .
– بالله عليك يا أمي دعيك من كلام المسلسلات الذي لا يفيد بشيء ، هل نسيتِ أيام ما كنت تقترضي النقود من كل شخص تعرفينه حتى تطعميني ؟ هل نسيتِ كم شخص رفض أن يعطيك و رد عليكِ بشكل سيىء ؟ هذا غير اللذين كانوا يتهربون منك ، كم سنة مرت علينا و نحن لا نجد ثمن جلابية جديدة نلبسها ؟ و لا نغير الحذاء الذي اهترأ في قدمنا
– لكن يا ابنتي ..
– أرجوكِ أمي لا تضغطي علي ، الموضوع منتهي بالنسبة لي
– حسناً ، هذا اختيارك و أنا لن أجبرك على أي شيء ، فقط أتمنى أن تفكري ثانياً حتى لا تندمي في وقت لا ينفع فيه الندم

******
و بالفعل اتصلت هالة على باسم ، و طلبت مقابلته بعد انتهاء عمله ، فتقابلا في كازينو على النيل ، و هناك كانت صارمة و قاسية ، لم تكن على استعداد لسماع أي كلام ، ابتدأت الحدث قائلةً :
– لقد جئت فقط كي أترك لك “دبلتك” و أنهي الموضوع و سنبقى أصدقاء و أقارب فقط ، و صدقني هذا أفضل لك و لي .
تغير وجه باسم ، و ظهرت عليه آثار المفاجأة و الصدمة لكنه حاول أن يتماسك و قال :
– هل من الممكن أن أعرف لماذا ؟ هل ضايقتك بشيء ؟
– أنت لا تكف على بذل الوعود و اختلاق الأعذار ، منذ خطوبتنا و أنا أسمع عن الشقة التي توشك على الظفر بها و موعد الزواج الذي قاربت على تحديده و في النهاية كله كلام في كلام .
– يا هالة أنت ترين بنفسك ، الشقة التي تعجبك لا أقدر على ثمنها و التي أقدر على ثمنها لا تعجبك .
– و هل أنت تريد واحدة مثلي أن تعيش في أي ” عشة فراخ ” ؟
– مبدئياً ليس اسمه “عشة فراخ ” بإمكانك أن تسميه “عش حبنا ” و مع الوقت يصبح بيت جميل ، و من يدري قد يصبح قصراً تعيش فيه أجمل أميرة
– كفى كلاماً و أحلاماً و بيوتاً تبنى من سراب ، عش الواقع ، “حرام تتعب بنات الناس معاك “
– اهدئي قليلاً .

أشار باسم للنادل أن يأتي له بقهوة و لهالة بعصير برتقال ثم قال لها : أنت مختلفة جداً ! هالةصارحيني هل هناك شخصاً آخر في حياتك ؟
– نعم ، شخص قادر على إسعادي و سيقدر على تحقيق كل ما أتمناه .
– غني ؟
– فوق تصورك .
– متأكدة أنك ستصبحين سعيدة معه ؟
– متأكدة بأني لن أصبح سعيدةً معك .
– لماذا ؟ هل أنا سيئ لهذة الدرجة ؟
– أنا لم أقل ذلك و لكن “كل فوله و لها كيال ” ، غداً سيرزقك الله بفتاة تستطيع أن تنتظرك ، لكنك يجب أن تفهم أن شباب البنت و جمالها مثل الزهرة الرقيقة إما أن ترويها بالمال فتزدهر و تزداد جمالاً ، أو ترويها بالفقر فتذبل و تفقد رائحتها إلى الأبد .

– من وضع في ذهنك هذه الفكرة
– الزمن ، المرتب الذي يصرف على ملابسي و مكياجي و متطلبات عملي ، أمي التي أفنت شبابها و جمالها لكي تدبر لي و لها مصاريفنا و لا نحتاج لأحد ، لذلك أنا لست مستعدة أن أضيع عمري مع أحد لا يكف على النجاح في الخيال .
– صدقيني ليس نجاحاً في الخيال ، بالعكس أنا كل يوم وضعي يتحسن سواء المادي أو في العمل ، و سيأتي اليوم الذي سأكون فيه واحداً من أكبر رجال الأعمال في مصر .
أجابت هالة بتهكمٍ واضح :
– حلم جميل ينفع يحدث في الأفلام العربية لكن الواقع مختلف ، يا بني هل تظن أن شركتك هذه سوف تسطيع أن تنافس شركات مثل كوكاكولا و بيبسي ؟ أنت تحلم .. ثم يجب أن تعلم أن كثيراً من صديقاتي تزوجن من أزواج حققوا لهن كل ما يتمنين رغم أنهن لا يساوين واحد على مائة من جمالي .

– يا هالة ، هذا نصيب و حكمة من عند الله ، و لا أحد يعلم أين الخير ، و لا تعلمي أين سعادتك ، الله وحده من يعلم ما ينفعنا و ما يضرنا ، فلو وثقنا فيه سيحقق لنا كل ما نتمناه
– آه ! ” تركنا شغل الأفلام العربية و بدأنا في شغل الدراويش ” و رغم ذلك أنا معك ، هذا كلام ينفع أيام زمان ، أيام جدي و جدك ، عندما يوجد خير في قلوب الناس و الحياة كانت سهلة ووبسيطة ، لكنه الآن لا يساوي شيئاً ، الآن لكل شيءٍ ثمن .
– نحن نتكلم عن زواج أساسه المودة و الرحمة ، ليس سلعة سأبيعها أو سأشتريها
– اسمع أنا قررت ، من يريد أن يتزوجني يجب أن يعيشني في الوضع و المكانة التي تناسبني منذ اليوم الأول ، و إن لم يستطع فليذهب لحال سبيله .
– اسمعيني يا هالة هذا قرارك – و انا بالطبع لن أتوسل لكِ كي نستمر معاً – فان وجدته خيراً فاحمدي الله على اختيارك و قرارك ، و لو وجدته غير ذلك فلا تلومي غير نفسك ، و يجب أن تتأكدي أني لو ذهبت لن أعود مرة أخرى .
ابتسمت هالة في مرارة و خلعت من إصبعها “الدبلة” و وضعتها أمامه على المنضدة ، ثم قامت و قالت :
ربنا يوفقك … عن إذنك
و غادرت المكان مسرعة و هي تشعر بأنها نزعت قيداً كبيراً عن رقبتها

******
شعر باسم بعد أن ذهبت هالة بإختناق و ضعف ، فقد انهارت قواه و دون أن يشعر بدأت الدموع تنزل من عينيه ، فبرغم ثباته أمام هالة وراقتناعه بمعظم ما قاله ، إلا أنه شعر بإهتزاز شديد بثقتة في نفسه بعد أن رحلت ، و بدأ يسأل نفسه هل هو ناجح بالفعل أم فاشل ؟ هل يسير في الطريق الصحيح أو يتوهم ذلك ؟ هل هالة محقة في ما قالته و هو الذي على الخطأ ؟ و هل سيستطيع أن يعيش من غيرها … فما لا تعرفه هي أنه أحبها فعلاً و أنه كان يحلم باليوم الذي سيجمعهم معاً سقف واحد

بدأ يسترجع أحاديثها معه ..

– مابك يا هالة صوتك حزين ؟
– ” خايفة يا باسم عندما يفتحها عليك ربنا تتركني و تنظر لواحدة أخرى “
– لا تقولي ذلك أبداً ، أنا لن أفكر بذلك أبداً ، سنظل معاً إلى الأبد .
ـــــــــــــــ

– عارف يا باسم .. أوقات أشعر أن الله يحبني جداً
– لماذا ؟
– لأنه أعطاني شخصاً طيباً و جميلاً مثلك
ـــــــــــــــ

– هل سوف تنتظريني مها سيحدث ؟
– طبعاً مهما طال الأمر إن شاء الله ، أنت ستكون زوجي الأول و الأخير

******
غادر باسم الكازينو و ظل هائماً على وجه في الشوارع ، معظم هذة الطرق كان له معها فيها ذكريات ..
الله أكبر الله أكبر
صوت آذان العشاء يرتفع ، شعر باسم أنه بحاجة لأن يصلي ، يريد أي طاقة روحانية تدخل قلبه ، و بعد إنتهاء الصلاة شعر ببعض الراحة في قلبه ، فقرر أن يذهب لصديقه (رفعت) فهو صديقه و في نفس الوقت مثل أعلى له ، حيث أن رفعت يكبره بعشر سنين ، و معروف عنه العقل الراجح و الحكمة التي وهبها الله له و الخبرة التي جمعها من الصعوبات التي واجهته مثل الفقر و مرض والديه و أيضا إخفاقه في حبه الأول ، و رغم ذلك استطاع أن يحقق نجاحاً كبيراً و أصبح الأن يشغل مركزاً مرموقاً في أحدى شركات العقارات الكبرى .

قص عليه باسم قصته و أكمل :
– من منا تعتقده على صواب ، أنا أم هي ؟
– المفروض أنك أنت الذي تحدد من منكما على صواب و لست أنا .
– أنا انكسرت و فقدت كل شيء ، أنا أشعر بإني لن أستطيع أن أحدد أي شيء .
– هذه هي المشكلة ، لا يجب مهما حدث لك أن تفقد الثقة في الله و بعد ذلك في نفسك ، و تأكد أنه ستواجهك كثيراً من المعوقات و الصدمات في طريق نجاحك ، كما أن أكثر من حبيب لن يستطيع أن يكمل معك الطريق و سيتركك في نصفه ، فإذا تركك حبيب فلا تبكي كالنساء إذا لم تكن أنت من تركته ، و لا تخفض رأسك و تخجل من ترك الحبيب لك ، تأكد بأنك كنت شهم و أمين بينما قابلك الآخر بعكس ذلك ، و تذكر على الفور أنك فعلت كل ما بيدك لكي تحافظ عليه لكن هو من اختار الرحيل .
– كلام جميل و أعتقد أن معظمه صح ، و لكني أشعر بأني لن أستطيع أن أعيش من غيرها ، أنا ربطت نجاحي بوجودها و بتشجيعها لي ، لست متصور أني ممكن أني أنجح بدون أن تكون بجانبي .

قاطعه رفعت : صديقي ، كن رجلاً و لا تبحث عمن باعك بأبخس الأثمان ، كن شريفاً و لا تقبل بالمذلة و تقبيل الأقدام ، و تذكر أن العيون الجميلة تخون و أن أصحاب الأيدي الدافئة يخدعون ، و أن أولئك الذين يعطونك الكلام الجميل يكذبون ، تذكر أن الله معك و لا تنسى أن حظك من الدنيا هو الإساءة ، و أن من يقابل الإساءة بالإحسان ينل الخير الوفير .

سكت باسم و طأطأ رأسه ، فإبتسم رفعت و قال : هيا يا باسم لنتوضأ و نصلي ركعتين معاً ، و إن شاء الله ستكون تلك الأزمة هي بداية الفرج و النجاح .

يتبع…

تاريخ النشر : 2016-09-26

guest
31 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى