أدب الرعب والعام

تائهة في الظلام

بقلم : نوار – سوريا

تائهة في الظلام
استلقت على سريرها و عادت إلى عالمها الذي ترتاح فيه .. عالم الأحلام

التقيته أول مرةٍ عندما كنا مدعوين لحضور حفلة خطوبة إحدى قريباتي ، أول ما لفت انتباهي إليه هو صوته ، كان صوته قوياً يفرض نفسه بين جموع المتكلمين لكنه بنفس الوقت دافىءٌ و حنون ، عندما دخل إلى القاعة سمعت أصوات الفتيات و هن يتهامسن ..
قالت إحداهن بفرح : ها قد أتى
و قالت الأخرى بلوعة : آه .. كم هو جميل
أما الثالثة فقالت بحسرة : ليتني أحظى برقصةٍ معه ..
و اختلطت بعدها أصوات الفتيات المتيمات به و انطلقت كل واحدةٍ منهن تحاول لفت انتباهه قبل زميلتها ، و بقيت أنا أرقب ما يحصل .

و بينما أنا واقفةٌ بمكاني سمعت صوت خطواتٍ تقترب مني ثم .. يا إلهي إنه هو لقد جاء ليكلمني ، ترك كل الفتيات المتحلقات من حوله و اختارني أنا !!
قال لي : ما لي أراك واقفةً بصمت و لا تشاركين الجميع أحاديثهم و رقصاتهم ؟
أجبته و حمرة الخجل تصبغ وجنتي : لا أحب الأجواء المزدحمة ، لقد جئت إلى الحفلة بعد إلحاحٍ من صاحبة الدعوة .
طلب مني طلباً فاجأني ، قال لي : هل تقبلين مشاركتي الرقص ؟ تلبكت و تاهت الحروف من لساني ، بذلت جهداً مضنياً حتى أجبته : نعم بكل سرور ، و ما إن خرجت الكلمات من فمي حتى أمسك بذراعي و شدني إليه ..

كان الرقص معه عالمٌ آخر ، كما الحلم الذي لا نودُّ الاستيقاظ منه ، يديه حول خصري و يديَّ على كتفيه .
قال لي بأني أمتلك عيوناً جميلةً بلون السماء الصافية ، و شعري أمواجٌ من الليل الغائب قمره ، قال لي بأني مختلفةٌ عن باقي الفتيات ، و قال لي .. و قال لي .. كانت كلماته تخرج كالأنغام ، تجعلني أبحر في أمواج من السعادة التي لا توصف ، و فجأة صمت عن الكلام و أحسست بشفتيه تقترب من شفتي فأغمضت عينَيَّ و استسلمت للحظة المنتظرة و …

لوليتا .. لوليتا .. لماذا لا تردين علي ؟!!
جفلت لوليتا و عادت فجأةً من دنيا الأحلام إلى أرض الواقع
– نعم أمي ، ماذا تريدين ؟ لماذا تصرخين في وجهي ؟ لقد أفزعتني
– لقد كنت أناديك منذ فترةٍ و أنت لا تسمعين ، ما بكِ ؟
تنهدت لوليتا بحسرة و قالت :
– لا شيء ، ما الذي تريدينه مني ؟
– و هل نسيتِ ؟!! لقد حان موعد ذهابنا إلى الخياطة ، سوف أجعلها تصمم لك فستاناً مميزاً تبهرين به الحضور
– و ما نفع ذلك أمي ؟ سواء ذهبت بفستانٍ جديدٍ أو لا ، لن ألفت أنظار أحدٍ إلي ، فلا أحد يود الاقتراب من فتاةٍ ضريرة
– عزيزتي .. ما هذا الكلام ؟
– هذه الحقيقة أمي لا تتجاهليها ، ربما أفضل شيء أفعله هو ألا أذهب ، سترتاحين من الاهتمام بي و تكونين حرةً في الحفل
– لا عزيزتي ، من قال لك أني أتكلف منك ؟ ثم أنه حفل خطوبة ابنة خالتك و لا يجوز أن تغيبي عنه
– حفل خطوبة ابنة خالتي ، و قبلها زواج ابنة عمي ، إلا أنا كتب عليَّ أن أظل وحيدة .
– حبيبتي .. أنت أيضاً سيأتي نصيبك يوماً ما
– كفى أمي مللت هذا الكلام ، من هذا المجنون الذي يربط مصيره بفتاةٍ عمياء !
– لكنكِ جميلة و ..
– و أمتلك عينين زرقاوين و شعرٌ أسود لا مثيل له ، و لي قوامٌ جميل ، لقد حفظت صفاتي التي تتفننين كلَّ مرةٍ بوصفها حتى أكاد أراها ، لكن بالله عليك أمي قولي لي ما نفع هذه الصفات إذا اجتمعت مع صفة العمى ؟؟
و أخذت تبكي بحرقة و تقول ليتني لم أخلق جميلة و خلقت أستطيع الإبصار مثل بقية الناس ، جمالي الذي تتحدثون عنه لا يهمني ، لا أشعر به و لا أعرفه

اقتربت منها أمها و احتضنتها بحنان ، قالت لوليتا من بين دموعها : أرجوك أمي لا أريد أن أذهب ، مللت من الجلوس وحيدةً أستمع لأصوات الحضور و هم يتحدثون و يضحكون و يرقصون ، و كل من يقترب مني يهرب بمجرد إدراكه بأني عمياء ، مللت من ذلك افهميني .
ربتت أمها على ظهرها و قالت لها :
– عزيزتي .. لن أجعلك تعزلين نفسك عن العالم و ستذهبين إلى الحفل شئت أم أبيت ، لكن لا بأس نفسيتك اليوم لا تسمح لك بالذهاب للخياطة ، سأتصل بها و أطلب منها تأجيل الموعد إلى الغد .. أتسمعين ؟
– أسمع .. نعم أسمع و هل أستطيع فعل شيء سوى أني أسمع ؟؟
– سأدعك الآن لترتاحي و لا تنسي موعد الغد .

و خرجت الأم تاركةً لوليتا وسط أحزانها و حسراتها ، كانت تسمع الناس يتحدثون عن شيء اسمه الحب ، و كانت تتمنى أن تجرب هذا الإحساس ، هي صحيح محرومة من النظر لكن لديها قلب ، و من لديه قلب يحق له بأن يحب .

جففت دموعها و استلقت على سريرها و عادت إلى عالمها الذي ترتاح فيه .. عالم الأحلام ، فبهذا العالم تستطيع أن تكون ما تشاء و تلتقي بمن تريد ، في هذا العالم تكون هي بطلة الحكاية ، هي محط الأنظار .
أخذت تتساءل : أين وصلت بأحلامي ؟ آه تذكرت ، و اقترب مني و أغمضت عيني و …

***
وقفت سيارةٌ أمام باب القاعة المخصصة للحفلات ، و نزلت منها لوليتا تقودها أمها ، مشت بحذر ، فهي لم تكن معتادةً على ارتداء حذاءٍ ذو كعب عالٍ إلا في المناسبات ، كانت إطلالتها بهيةً تسحر الناظرين ، لم يكن يبدو عليها أنها عمياء ، كانت تتميز بقوام رشيق يجعل من أي شيء ترتديه مميزاً ..

وما إن دخلت القاعة حتى اجتمعن حولها قريباتها يبدين إعجابهنَّ بها و بفستانها ، و بعد لحظات عندما اكتمل عدد الحضور و بدأت الموسيقا بالعزف ابتعدت عنها صاحباتها واحدةً تلو الأخرى ، و بقيت هي بجانب أمها ، كانت تنصت بحزن إلى أصوات الحضور ، ضحكاتهم و همساتهم ، أصوات أقدامهم و هم يرقصون .

فجأةً سمعت صوت خالتها ينادي أمها فطلبت منها أمها أن تبقى مكانها ريثما تعود .

و هكذا بقيت لوليتا وحيدةً لا تعرف ماذا تفعل ، انتظرت أمها طويلاً لكن أمها لم تعد ، ملت من الوقوف في نفس المكان فأخذت تمشي بحذرٍ معتمدةً على حاسة السمع ، لكنها فجأة أحست بأنها تائهة و أخذت تصطدم بالراقصين ، ابتعدت عنهم معتذرةً فاصطدمت بأحد القائمين على الخدمة في الصالة و أسقطت من يده كأس عصيرٍ كان يحمله ، فلفتت إليها الأنظار بفعلتها هذه و أخذت تعتذر و هي تغالب دموعها ، لقد شعرت بالضياع بابتعاد والدتها عنها .

و بينما هي في موقفها هذا ، تقدم منها شاب و أخذها من يدها إلى مكان منعزلٍ قليلاً عن الضوضاء و قال لها :
ـ لمَ أنتِ وحيدة .. ألم يأتِ أحدٌ معكِ ؟
أجابته بأنها قدمت مع أمها التي انشغلت عنها قليلاً .
لقد شردت لوليتا بصوت ذلك الشاب ، إن له نفس الصوت الذي تخيلته بأحلامها ! ترى هل يكتمل الحلم ؟؟
طلب منها أن ترقص معه ، وافقت بخجل و هي تقول :
– لكني لا أعرف الرقص و سأتعبك معي
– لا بأس ، أنت فقط تمسكي بي و دعي الباقي علي .
و مضى بها إلى حلبة الرقص و هي لا تكاد تميز بين الحقيقة و الأحلام ، فها قد دعاها للرقص مثلما تخيلت ! و بينما هي مستسلمة بين ذراعيه سمعت صوت والدتها ينادي :
لوليتا … لوليتا ابنتي أين أنت ؟!
فقادها ذلك الشاب الذي عرفت أن اسمه ” روي ” إلى أمها التي فرحت جداً عندما رأت ابنتها بصحبة شاب ، فهذه المرة الأولى التي يهتم بها أحدهم .

أمضت باقي الحفل بصحبة روي و عندما بدأ المدعوون بالمغادرة ، أحست بالإختناق ، فلم تكن تريده أن يضيع منها ، فهو أول شخصٍ بقي بجانبها طوال الحفلة على الرغم من كونها عمياء ، لكنها لم تعرف كيف تتصرف و هكذا مضى روي دون أن تعرف عنه شيئاً سوى اسمه ..

***
بعدها بأسبوعٍ ذهبت مع أمها لمنزل أحد معارفهم تلبيةً لدعوة عشاء أقامها ذلك الشخص ، و بعد أن وصلتا و سلمتا على الموجودين ، سمعت لوليتا صوت رجل من خلفها قائلاً :
– أراكِ هنا !! يبدو أن معارفنا مشتركين .
لم تكد تسمع صوته حتى انتفضت كل خليةٍ بجسدها من شدة الفرح ، فلم يكن هذا الرجل سوى .. روي .

انشغلت به عن العشاء و عن المدعوين و عن أي شيءٍ آخر ، كانت مركزةً بشدة على كل حرفٍ ينطق به ، و على كل ضحكةٍ تصدر منه ، تمنت في قرارة نفسها ألا تنتهي هذه الأمسية و ألا تعود لمنزلها ، لكن لكل شيءٍ نهاية فبعد مضيِّ الوقت بدأ المدعوون بالمغادرة الواحد تلو الآخر ، و عندما نهض روي ليغادر بدوره ، أصرت عليه أن يأتي لزيارتها في المنزل ، لم تكن تريد إضاعته ، فالفرصة لا تتكرر و ربما إن لم تتمسك به هذه المرة لن تلتقي به ثانيةً ، و هكذا وعدها روي بتلبية دعوتها و أخذ عنوان منزلها و رقم هاتفها و هذا بالذات ما أرادته هي .

توثقت علاقتها به خلال الأيام التالية ، فقد زارها في المنزل و خرجت معه عدة مرات لقضاء أوقات جميلة في الخارج ، كانت سعيدة بل تكاد تطير من السعادة ، فأحلامها تحققت ، و لم يبقَ سوى أن يعترف لها روي بحبه .

أمها كانت تراقبها بفرحٍ يشوبه الأمل و الرجاء ، فهذه أول مرةٍ ترى فيها ابنتها مقبلةً على الحياة بهذا التفاؤل ، و ليل نهار كانت تدعو الله أن يتم كل شيءٍ كما تتمناه ابنتها .

***
أغلقت لوليتا هاتفها ذات يومٍ و التفتت نحو أمها قائلةً :
سيقيم روي حفلاً بمناسبة ذكرى ميلاده و قد دعاني للحضور ، أمي أريد أن أرتدي أجمل ما عندي من ثياب و أن آخذ هديةً مميزةً له ، أمي أنا سعيدة .. سعيدة
و أنحنت على أمها تقبلها وتحتضنها بسعادة .

جاء روي لأخذ لوليتا إلى الحفل و قد اجتمع فيه أصدقاؤه و أقرباؤه ، بقيت ملاصقة له كظله فهي لم تكن تعرف أحداً من بين الحضور و قد حرص هو على عدم تركها فهي عمياء و لا تستطيع التحرك في القاعة لوحدها ، و عندما حان موعد توزيع الهدايا ، أخرجت هديتها و قدمتها إليه قائلة :
– كل عامٍ وأنت بخير .. ثم تحسست وجهه و طبعت قبلةً على خده ، و ما إن فعلت هذا حتى صرخت إحدى المدعوات قائلةً :
– لا .. إلى هذا الحد و يكفي ، لم أعد أحتمل هذه المهزلة .
ساد السكون القاعة و لم يبقَ سوى صوت تلك الفتاة التي أكملت :
– استيقظي من وهمك أيتها العمياء فروي لا يحبك و من المستحيل أن يتزوج بك ، ما الذي ينقصه حتى يربط مصيره بفتاةٍ عمياء ؟!!
لقد ساعدك في حفلة الخطبة تلك لأنك كنت عمياء تائهة لا تعرف إلى أين تذهب ، و فسرتِ أنت هذه المساعدة على أنها حب ، أَوَكلما اقترب منك رجل بدافع الشفقة ظننتِ بأنه يحبكِ ؟
لقد أشفق عليكِ روي و أنتِ التي بقيت ملتصقةً به و تنتظرين منه الزواج بك ، هه .. روي لي أنا و نحن نحب بعضنا منذ زمن ، حافظي على ما تبقى من كرامتك و ابتعدي عنه ، فهو قد ضاق ذرعاً بك و لا يعرف كيف يخبرك بهذا .

دوى بالمكان صوت صفعةٍ قوية ، فقد ألجمت المفاجأة لسان روي و باقي الحضور عن الكلام و عندما استعاد روي وعيه و استوعب ما حدث ، لم يجد نفسه إلا و قد صفع تلك الفتاة صفعةً شهق لها جميع المدعوين .

صدمت لوليتا مما قالته لها تلك الفتاة ، و عندما تقدم منها روي معتذراً سألته بذهول :
روي .. هل ما قالته حقيقة ؟ هل علاقتك بي قائمةٌ فقط على أساس الشفقة ؟ هل صحيحٌ أنك تحبها و ستتزوجان ؟ أخبرني الحقيقة و لا تكذب .
احنى روي رأسه خجلاً منها مع أنها لا تراه و قال بصوتٍ مخذول .. نعم .
لم يكن يستطيع أن يكذب فهو لم يحبها في يوم من الأيام و كان حائراً من علاقته بها و لا يعرف كيف ينهيها .
ما إن سمعت جوابه حتى انهارت مغشياً عليها ..

***
في غرفتها جلست لوليتا ، كانت قد خرجت للتو من المشفى بعد أن أصيبت بانهيارٍ عصبيٍّ حاد كاد يودي بحياتها ، استعادت كل ما مر معها و اكتشفت أنها كم كانت حمقاء ! لم تصدر من روي أي كلمة أو حركة توحي بأنه يحبها ، لقد فرضت نفسها عليه دون أن تشعر بذلك ، الخطأ منها هي ، هي من كانت مستعدةً أن تمنح قلبها لأول رجلٍ يبدي اهتمامه بها .. ياه كم أحست بالإهانة .

أما روي فقد ندم على ما حدث ، بل أكتشف بأنه كان يحب لوليتا دون أن يشعر و لم يدرك هذه الحقيقة إلا بعد أن خسرها .
جاء عدة مرات إلى البيت ليعتذر منها ، و أراد رؤيتها لكنها أبت ذلك و طلبت من أمها أن تقول له أن ينساها

***
مرت الأيام و لوليتا حبيسة غرفتها ، لا تكلم أحداً و لا تسمح لأحدٍ بالاقتراب منها ، لقد فقدت رغبتها في الحياة ، و لم يعد هنالك ما تنتظره ، كانت مرهفة الحس لم يستطع قلبها الرقيق تحمل صدمتها بحبها الأول و الأخير ، حتى أحلامها التي لطالما آنستها في ظلمة حياتها الأبدية اختفت ، فقدت قدرتها على الخيال و لم تعد تقوى على الأحلام ، استسلمت لحزنها الذي جعلها تغرق بظلمةٍ أشد من الظلمة التي رافقتها منذ مولدها ، و لم تعد تشعر بالأيام و لا بالفصول و لا بالسنين التي أخذت تمر و تأخذ منها شبابها و جمالها و عمرها ، لقد توقف بها الزمن عند تلك اللحظة .. تلك اللحظة التي عرفت بها حقيقة روي و حبها له .

تاريخ النشر : 2016-10-10

نوار

سوريا
guest
34 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى