أدب الرعب والعام

حياتي كساحر (الجزء الأول)

بقلم : علي النفيسة – السعودية
للتواصل : [email protected]

حياتي كساحر (الجزء الأول)
كتاب من الكتب العتيقة جداً  مليء بالأوراق الصفراء القديمة والمغبرة

منذ صغري كنت مولعاً بأعمال السيرك وألعاب الخفة خصوصاً عندما تأتي فقرة الساحر الذي يلوح بعصاه السحرية ويضرب بها قبعته السوداء ليخرج منها أرنباً أمهق اللون ، وحركته الأخرى تلك عندما يخرج من جيبه قطعة من القماش ذات اللون الأحمر ويمسك بها بيده اليسرى ويلوح بيده اليمنى عليها بطريقة غريبة وغير مفهومة  وبحركة مباغته يخلع القماش ليظهر لنا حمامة بيضاء ممسكاً بها ثم يتركها لتحلق بالجو لتقف في زاوية السيرك أمام ذهول الجمهور، كنت مبهوراً بمشاهدة تلك المشاهد أمام شاشة التلفاز، وخصوصاً وأنا بحضن جدي الدافئ ، أذكر حينها كان عمري خمس سنوات تقريباً ، وأذكر حينها عندما يشير جدي بإصبعه إلى أفراد السيرك في التلفاز قائلاً : أيعجبك هؤلاء ؟ وأجبته وأنا أومئ برأسي ببراءة طفولتي : نعم .

إلا أن أبي فاجأنا بدخوله علينا قائلاً:

سامي حان وقت النوم ، وأمسك بيدي وأخذني عنوةً من حضن جدي  الذي أبدى اعتراضه على تصرف والدي الهجومي : ما خطبك ، لماذا لا تتركه يشاهد التلفاز ؟ نحن مستمتعون بذلك .

– أبي : إنك تفسد تربيتي لابني ،  يجب أن ينام الطفل  فالساعة تشير إلى الحادية عشرة .

نسيت أن أقدم لكم نفسي، أنا أدعى سامي ، عمري 20 سنة ، أعيش في كنف أسرة متوسطة الدخل يغلب عليها الطابع الديني ، ليس لدي أخوة للأسف فقد أجهضت والدتي ثلاث مرات ، سأحكي لكم قصتي محاولاً جاهداً اختصارها:

كان أبي يعمل معلماً للعلوم الشرعية (مدرس دين) ، وكانت أمي ربة منزل ، أما جدي لا أعلم عن ماضيه إلا القليل فقد كان يعمل مزارعاً في شبابه.

كان جدي يمكث معنا في المنزل في إحدى الغرف، وكان هو أقرب الناس لي، وكنت أقضي معظم الوقت معه ، فقد كان يعاملني بلطف ومحبه وعلمني الكثير في صغري من الخدع السحرية البدائية ، وكان يحكي بعض القصص والمواقف التي تعرض لها في شبابه ، كان جدي يمتلك ثقافة عامة عالية خاصةً في التاريخ والفلسفة وما وراء الطبيعة وبعض الأمور عن الطب الشعبي، وقد كان يشجعني بشكل كبير على التعلم وكثرة القراءة ، لا أخفيكم فقد تعلقت به بشدة في صغري أكثر من أبي الصارم الذي يعاملني بجدية وصرامة ، لاسيما عندما بلغت سن السابعة ، وأصبح يصحبني للمسجد لأداء الصلاة ، وكان يوبخني في العديد من الأمور مثل : في حالة تأخري في الصلاة، وفي حالة عدم التزامي بآداب الطعام أمام الضيوف، وعندما لا أنهي فروضي المدرسية الخ…، باختصار كان يريد مني أن أكون ولداً مثالياً ، إلا أن أبي أحياناً يعاملني بلطف، فأنا في الأول والنهاية ابنه فلذة كبده ، لكن لطفه هذا لا يقارن بلطف جدي الذي أحببته واستمتع بقضاء الوقت معه .

لم يكن أبي وجدي على وئام دائماً  فكانا يتشاجران ويتجادلان كثيراً ، لم أفهم سبب الجدال بينهما بالضبط لكن اعتقد أن أغلبها تتعلق بالأمور الشرعية والدينية.

مضت السنين على هذه الحال ، وأصبح عمري 20 سنة ، وانتقل جدي إلى المسكن في أحد الغرف في الطابق الثالث (السطح) ، لاحظت حينها تغيراً على جدي في تلك الفترة ، وأصبح منعزلاً في غرفته تلك يمكث فيها بالساعات ، لم أعد أشاهده كثيراً ، وبمرور الوقت ضعفت علاقتي معه.

في أحد الأيام و تحديداً الساعة التاسعة مساءً، دفعني الفضول لأدخل عليه في غرفته تلك لأني لم أشاهده منذ مدة فقد اشتقت إليه، فطرقت الباب في المرة الأولى ولم يفتح لي، ثم طرقت في المرة الثانية والثالثة ونفس الشيء، لم أسمع شيئاً، فقد كان الهدوء يسود من الداخل ، فاضطررتُ إلى فتح الباب.

وعند دخولي للغرفة شعرت بامتعاض ، فأول شيء لاحظته هي رائحتها النتنة ، اعتقد أنها أقرب إلى اللحم النيئ ، ووجدتها شبه مظلمة يتخللها بصيص من الضوء عليها ، ربما يرجع ذلك إلى بعض الشموع المنتشرة بين أرجاء الغرفة.

كانت الغرفة أشبه بمكتبة قديمة صغيرة ، ولكنها غير مرتبة ، والكتب متناثرة في كل أرجائها ، إلى أن أتاني ذلك الصوت:

– لماذا دخلت ؟

فالتفت في الجهة اليمنى من الغرفة، فوجدت جدي مستلقياً على سريره ممسكاً بكتاب يقرأه وأربع شموع تحيطه من كل الجهات.

– مساء الخير جدي .

 لا يوجد رد !!

لم يرد علي جدي، فقد وجدته منشغلاً بقراءة كتابه الذي كان يقرأه بصوت منخفض كأنه يهمس أو يتمتم.

– مساء الخير جدي ، كيف حالك ؟

قاطعني فجأة :

– عندما لا أذنُ لك بالدخول  يتوجب عليك أن لا تدخل .

قال جدي تلك العبارة وعيناه لم تفارقان الكتاب ، قالها بنبرة توحي بأنه في امتعاض شديد ، ثم التفت موجهاً لي سكاكين نظراته الحانقة  والغضب يظهر على تقاسيم وجهه.

أحمر وجهي ، فقد شعرت بحرج شديد من جراء هذا الموقف، فأنا لا أذكر أن جدي سبق وأن خاطبني بهذا الأسلوب ، فهل فعلاً أخطأت بحقه في دخولي عليه دون استئذان ؟

على كل حال خرجت من الغرفة نادماً على ذلك التصرف ثم أصبح جدي يتغير أكثر فأكثر مع مرور الأيام، لم أعد أقابله إلا مرة أو مرتان في الأسبوع تقريباً ، يختلف الحال عن ما عشت معه في طفولتي، وعلاوةً على انعزاله عنّا أنا وأبي أصبح جدي لا يهتم بمظهره ونظافته فاللباس الواحد يستمر معه عدة أشهر، ورائحته أصبحت كريهة أشبه برائحة عرق جسم الإنسان ، لا أخفي عليكم أشعر بضيق واشمئزاز أثناء سلامي عليه وتقبيلي رأسه ، كما أن هناك تغيرات أخرى في تصرفاته  فقد أصبح يدخن بشراهة ويلبس العديد من الخواتم ، كما أني لا أره يصلي معنا في المسجد كثيراً .

بعد بضعة أيام أتاني جدي إلى غرفتي ليلاً  وكان مبتسماً  وقد اعتذر مني عما بدر منه في تلك الليلة التي دخلت عليه في غرفته ، ثم ألقى إلي كومة من الكتب و قال :

– إن هذه الكتب هدية مني ، أنصحك بأن تقرأها .

فاندهشت وفرحتُ في نفس الوقت ، اندهشت من مجموعة الكتب ، وفرحت بعودة جدي واعتذاره لي.

كانت الكتب التي أعطاها لي جدي معظمها عن التاريخ والطب الشعبي ، ولكن لفت انتباهي كتاب واحد كان في مقدمة تلك الكتب لأنه كان مميزاً بلونه فأخذتها وتصفحته ، فوجدته كتاب من الكتب العتيقة جداً ، مليء بالأوراق الصفراء القديمة والمغبرة التي تكاد أن تتمزق وهي في يدي من شدة قدمها ، فلما نظرت إلى عنوان الكتاب قلت :

– ما هذا ؟ دليل التعاويذ السحرية للمبتدئين ؟!

– نعم .

فتبسمت لجدي كنوع من المجاملة والعتاب الخفيف ، وقلت له : تهديني كتاب عن السحر! فضحك جدي بصوت عال تكاد أن تتقطع أنفاسه ، ومن ثم قال : هناك مثل أمريكي يقول تعلم السحر ولا تعمل به.

قالها ثم انصرف جدي.

في البداية استنكرت الأمر وقلت في نفسي : هل أصبح جدي مجنون ؟ هل ولعه بالقراءة أدى إلى انحرافه ؟ وأصبح يقرأ كتب عن السحر ، هل جدي فعلاً ساحر ونحن لا نعلم ؟..الخ ، عدة تساؤلات طرأت في ذهني لم أجد لها إجابة  فالأمر فيه شبهة قوية ، لكن تعاطفي مع جدي و تعلقي به استبعدت تلك الأفكار وتلك التساؤلات ، فلم أتوقع يوماً بأنه سيصبح ساحراً ، فهو ملهمي منذ كنت صغيراً ، فقلت في نفسي لماذا لا أقرأ هذا الكتاب وأتصفحه ؟  فوجدته ليس بالكتاب الضخم جداً فهو يتكون من حوالي 300 صفحة.

في البداية لم أفهم منه شيء لأني وجدت صعوبة في فهمه ويحتاج الكثير من التركيز، فهو خليط بين المعلومات المفهومة والغير مفهومة عن العالم الآخر، و تحوي بعض صفحاته على رسومات ومثلثات وأشكال هندسية وأرقام وأحرف ونحو ذلك ، كان أشبه بكتاب رياضيات للمدارس وقد استمريت في قراءة الكتاب قرابة يوم ونصف إلى أن بدأت تتضح لي المعلومات التي فيه بشكل تدريجي.

حسب ما فهمته من الكتاب أنه يحكي بداية ظهور السحر الأسود في الجزيرة العربية حيث كانت توجد قبيلة ضخمة من عالم الجن كانت تسكن الجزيرة العربية منذ قرون، تسمى بقبيلة الغرمان ، وهي قبيلة ليست مسلمة  تندرج سلالتها من سلالة قبيلة الأبالسة يزعم هذه القبيلة مارد سلطوي دكتاتوري لا يعرف الرحمة يدعى محار، وكانت هذه القبيلة بزعيمها للأسف تمارس السحر الأسود ، وكان المارد محار هو الأب الروحي لهذا النوع من السحر في الجزيرة العربية.

سيطر على هذه القبيلة الطمع والجشع وحب التوسع والإغارة على القبائل الأخرى من الجن، فكانت تشن حروب على القبائل و تبيدهم بسحرها الأسود أو تأسر بعضهم ، أو تجعلهم يستسلمون وتضمهم حلفاء لهم .

استمرت هذه القبيلة على هذا النهج على مر السنين ، وبدت تتوسع أكثر فأكثر، وأصبحت تنتصر على القبائل تلو الأخرى بفضل سحرها الأسود، حتى جاء ذلك اليوم الذي صادفت فيه قبيلة أخرى ضخمة جداً من حيث العدد تسمى بقبيلة بني مالك ، وهي قبيلة أيضاً معروفة كانت تسكن الجزيرة العربية منذ مئات السنين، وكانت هذه القبيلة مسلمة ومحافظة وبنفس الوقت مسالمة.

اضطرت قبيلة بني مالك للدفاع عن نفسها ، فدب صراع دموي بين القبيلتين، قبيلة الغرمان وقبيلة بني مالك ، سقط على إثرها العديد من الضحايا لكن بفضل تحصين قبيلة بني مالك ضد السحر الأسود أضعف قبيلة الغرمان أمامها، و زاد عدد القتلى من أفرادها بشكل مهول مما جعل الزعيم محار يصاب بالذعر ويخشى على حياته مضطراً إلى الهرب مع بعض خدمه ومعاونيه.

وعندما خشي محار على نفسه من الهلاك، و خشي على تراث قبيلة الغرمان في الجزيرة العربية و هو السحر الأسود ، وعندما أحس بأنه بأي لحظه سيتم القبض عليه من قبيلة بني مالك، تعاقد هذا الشيطان المارد مع أحد السحرة من الإنس في منطقة صحراوية بضواحي المدينة التي اسكنها ، واتفق محار مع الساحر على أن يزود الأول للثاني علوم وأسرار السحر الأسود بشرط أن يقوم الثاني بتدوين ما يتلقاه من الأول في كتب يحتفظ بها، وكان هذا الكتاب الذي أقرأه والذي أهداه إلي جدي من ضمن تلك الكتب، وأن هذا الكتاب أيضاً ما هو إلا بوابة للعديد من الكتب في عالم السحر الأسود ، ثم انقطعت أخبار محار ، واستنتجت أنه تم اغتياله.

الكتاب يضم حوالي (13) تعويذة، يتحدث عن آليتها وتاريخ كل تعويذة والشيطان الذي يتولاها ، بعض هذه التعاويذ لا تحتاج إلى عمل معين أو قربان للشيطان للقيام بها حتى تنجح التعويذة، بل يكتفي بتلاوتها فقط ، مثل : تعويذة الضحك وتعويذة التجميد وتعويذة الحيوان ، فحفظتها لأنها بكلمات ليست طويلة ، كانت كلمات متناغمة ومتناسقة أشبه بخاطرة أو نثر أو بيت شعر إلى حد ما ، أما التعاويذ الأخرى مثل تعويذة المرض وتعويذة الجنون وتعويذة الانتحار فهي أصعب وأعلى في مستوى السحر تحتاج بعض الأعمال والقربان والنجاسات والشركيات.

يتبع …

تاريخ النشر : 2016-11-06

علي النفيسة

السعودية
guest
16 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى