تجارب ومواقف غريبة

مذكرات زول ساي – البيت المسكون

بقلم : فيصل الدابي المحامي – قطر
للتواصل : [email protected]

مذكرات زول ساي - البيت المسكون
سكنت لوحدي في منزل كبير يقع بالقرب من المحكمة .. كانت تحدث فيه أمور غريبة
عندما قمت بفتح مكتب محاماة صغير بغرب النيل في شمال السودان ، اندهش جميع المحامين بمنطقة أرقو بشرق النيل و اندهش جميع سكان غرب النيل ، فمنذ أن خلق الله الأرض و من عليها و ما عليها لم يقم أي محامٍ بفتح مكتب في منطقة غرب النيل ! تلك المنطقة القديمة التي تفوح منها روائح التاريخ النوبي الغابر ..

استغرب الكثيرون من سكان منطقة غرب النيل البسطاء و راحوا يتساءلون في دهشة بالغة عن هوية ذلك الشخص الدخيل غريب الأطوار و ما هي طبيعة عمله على وجه التحديد !

سكنت لوحدي في منزل كبير يقع بالقرب من المحكمة بعد أن استأجرته بمبلغٍ زهيد ، كان المنزل ضخماً بمعنى الكلمة ، كانت به أكثر من ثماني غرف وعدة صالات و مخازن و فناء أو حوش شديد الاتساع ، ملحقة به حديقة شاسعة تحتوي على أكثر من خمسين نخلة و فيها مطبخ كبير ، شعرت بالأسف الشديد لأنني أصبحت أسكن كرجل أعزب في غرفة واحدة فقط في ذلك المنزل الكبير و عجزت عن استغلال بقية الغرف الكثيرة و تأجيرها من الباطن لأي مستأجرين آخرين ، فالبيوت الخالية في منطقة غرب النيل كانت أكثر بكثير من البيوت المسكونة ، أعني المسكونة بالبشر و ليس بالشياطين !

لم تكن هناك كهرباء في منزلي الضخم و لم أكن افتقدها و لم أكن استخدم أي نوع من المصابيح اليدوية ، فقد كنت و ما زلت من عشاق الظلام الدامس ..
و ذات ليلة مظلمة كنت مستلقياً على سريري في وسط الحوش الواسع و أنا أسترجع بعض الذكريات الغرامية الحالمة ، فجأة شعرت بخوف شديد مفاجىء ، فقد سمعت صوت خشخشة شديدة صادرة من تحت شجرة العنابة الشابة التي كانت تنتصب برشاقة في ركن المنزل ، لم يراودني أي شك في أن صوت الخشخشة الشديدة قد صدر من تحرك أصلة ضخمة عبر الأوراق الجافة الكثيرة المتساقطة تحت الشجرة ، تغلبت على خوفي بسرعة ثم خطفت عصاة ضخمة من على الأرض و أندفعت بتهور إلى مصدر الصوت تحت الشجرة موجهاً ضربات سريعة في كل الاتجاهات المظلمة ، لكنني لم أعثر على أي مخلوق تحت شجرة العنابة ، ليس هناك أصلة و لا حتى ضب أو سحلية ، و رحت أتساءل في حيرة :
هل كان ذلك الصوت خيالياً أم حقيقياً ؟! هل كان ذلك الصوت المريب يعكس واقعاً ملموساً أم وهماً زائفاً ؟!

ذات ليلة هادئة كنت مستلقياً على سريري بالقرب من مخزن صغير و أنا أحلم بزوجة المستقبل ، فجأة شعرت بالخوف فقد تناهى إلى سمعي وقع أقدامٍ صادرة من داخل المخزن الصغير ، كان صوت وقع الأقدام يعلو بشدة كلما اقترب السائر الخفي ثم ينخفض انخفاضاً تدريجياً كلما ابتعد ، مرة أخرى شعرت بالخوف الشديد المفاجىء الممزوج بدهشة مركبة لكنني تمالكت أعصابي بسرعة و طغى فضولي على خوفي ، و أحسست بشجاعة غير عادية ممزوجة بقدر كبير من التهور و الرغبة العارمة في المواجهة الحاسمة و اكتشاف الحقيقة ..

قمت على عجل بفتح باب المخزن فاصطدمت يداي و قدماي بأثاثات قديمة كثيرة مكدسة في المخزن الصغيرة تحسست الأثاثات في الظلام فاكتشفت أنها تحتل المخزن بالكامل من أعلى سقفه إلى أسفل أرضيته بحيث تعجز أي نملة على السير فيه ، و رحت أتساءل في دهشة : إذاً كيف يتمكن أي مخلوق من المشي داخل المخزن المكدس تماماً بالأثاثات ؟! أغلقت باب المخزن القديم ثم أرهفت أذناي ، سمعت صوت وقع الأقدام يأتي بوضوح شديد من خلف باب المخزن المقفول مباشرةً عندها شعرت بدبيب الخوف الممزوج بالدهشة يسري في كل ذرة من الخلايا الرمادية الهشة القابعة داخل جمجمتي الصلبة !

ثم تتابعت الليالي المظلمة و توالت الظواهر الغريبة في منزلي المريب .. و ذات ليلة شتوية مظلمة ، سطع ضوء دائري ضخم داخل الغرفة التي كنت أختبىء فيها من برد الشتاء ، كان ذلك الضوء شديد البياض شديد السطوع إلى درجة غريبة ، استعذت بالله من الشيطان الرجيم و قهرت خوفي و جلست على سريري ثم قرأت المعوذتين ، لكن الضوء الدائري الضخم ظل متشبثاً بالحائط بعناد و كأنه أصبح محفوراً فيه ، توقفت عن القراءة بعد أن تعب لساني من التمتمة و رحت أحدق في حيرة شديدة بذلك الضوء الدائري الغريب ، ثم فجأة انطفأ ذلك الضوء و قد حدث الانطفاء المفاجىء مصحوباً بصوت خافت ! بعدها استلقيت على سريري و رحت أحاول العثور على أي تفسير مادي لذلك الضوء لكن دون جدوى !

ذات ليلة صيفية مقمرة جعلتني أشعر بقليل من الرومانسية رغم أنف الوحدة الشديدة التي كنت أشعر بها ، كان الهواء ساكناً إلى أقصى درجة ، لم تكن هناك نسمة واحدة تتحرك في أي اتجاه ، كان السكون الشامل مخيماً على كل الأشياء بحيث إنه إذا قام إنسان بنفث دخان سيجارة فسيقف الدخان في الهواء في شكل الرقم واحد ، اتجهت أنظاري بصورة عفوية إلى جهة حديقة النخل ، و عندها رأيت منظراً شديد الغرابة لا يمكن أن يسقط من ذاكرتي بأي حال من الأحوال ، كان رأس نخلة متوسطة القامة يهتز و يرقص ويتمايل بشدة و سرعة في جميع الاتجاهات رغم انعدام الهواء ، أما رؤوس كل أشجار النخيل الطويلة المنتصبة حول النخلة الراقصة فقد كانت ساكنة و صامتة تماماً و كأنها مرسومة في لوحة فنية عتيقة معلقة في جدار قديم ، ولم أستطع أن أفهم أبداً سر تلك الرقصة السريالية المدهشة لتلك النخلة المريبة التي حطمت جميع قوانين الحركة !

في نهار أحد أيام العطلات ، دارت في ذهني فكرة مفاجئة و طرحت على نفسي سؤالاً فضولياً جاء على النحو الآتي : هناك صالة بعيدة من الراكوبة أو التعريشة التي أقضي قيلولتي تحتها كل يوم فماذا يُوجد داخل تلك الصالة البعيدة التي لم أقم بفتحها أبداً منذ سكني في ذلك المنزل المسكون ؟! لنذهب و نرى ماذا يُوجد بداخلها ! فتحت باب الصالة بفضول شديد فشاهدت منظراً غريباً ، كانت هناك ثلاث علب لبن ضخمة فارغة ملقاة على الأرض في أحد أركان الصالة و حولها كانت هناك ثلاثة حبال ملقاة على الأرض أيضاً! تساءلت في سري بدهشة : هل هذه مشنقة أرضية أم ماذا ؟!

قمت بجمع علب اللبن الفارغة و الحبال و وضعتها في جوال و وضعت الجوال في ركن الصالة ثم غادرتها بعد أن أغلقت بابها ، بعد مرور عدة أيام عدت إلى منزلي المسكون في ليلة مظلمة بعد أن قضيت بعض الوقت في مركز الشرطة و قابلت أحد المتهمين القابعين في حراسة الشرطة و الذي وكلني للدفاع عنه ، استلقيت على سريري و رحت أفكر في كيفية إعداد دفع قانوني يؤدي إلى إطلاق سراح المتهم إياه ، فجأة طافت بذهني فكرة في غاية الغرابة و تساءلت في سري قائلاً :

إذا أنا شخصياً أصبحت شيطاناً رجيماً و كان هناك بشر يسكن في هذا البيت و أردت أنا كشيطان أن أرعب ذلك البشر و أجعل شعر رأسه يقف من شدة الرعب ، فماذا على أن أفعل كشيطان رجيم ؟! أجبت نفسي قائلاً : إذا أصبحت شيطاناً رجيماً فسأقوم بخبط علب اللبن القابعة في ركن الصالة ببعضها البعض بقوة و سرعة حتى أجعل ذلك البشر يطير في الهواء من شدة المفاجأة و شدة الرعب ، في تلك اللحظة بالذات تم خبط علب اللبن ببعضها البعض بقوة و سرعة و لعدة دقائق و أتاني صوت القرقعة المفزعة منبعثاً بقوة من داخل الصالة المغلقة !!

عندها وقف شعر رأسي من شدة الرعب و المفاجأة ، ثم توقفت القرقعة المريبة و عندها تمالكت نفسي بسرعة و فتحت باب الصالة و اندفعت إلى حيث يقبع الجوال في الظلام ثم أخرجه و وضعته إلى جوار سريري و رحت أحدق في علب اللبن الفارغة و الحبال القابعة داخل الجوال منتظراً أن تحدث القرقعة مرة أخرى لكن الجوال نام بهدوء إلى جوار سريري حتى صباح اليوم التالي دون أن تصدر منه خبطة واحدة ..

و ما زلت أتساءل بدهشة حتى تاريخ اليوم : هل كان الشيطان الرجيم قابعاً داخل رأسي خالفاً ساقيه في تلك اللحظة التي خطرت لي فيها فكرة خبط علب اللبن ببعضها البعض أم ماذا ؟!

فيما بعد اكتشفت أن كل سكان المنطقة كانوا يعرفون حكاية البيت المسكون ، ذات يوم كنت مدعواً مع أحد رجال الشرطة لتناول الغداء مع شخص ما يسكن في منطقة أخرى ، فطلبت من رجل الشرطة أن يأتي إلى بيتي عند الساعة الواحدة ظهراً لنذهب سوياً من هناك إلى منزل مضيفنا ، رفض رجل الشرطة ذلك الطلب رفضاً باتاً و قال لي بالحرف الواحد : و الله لو أعطتني الحكومة مليون دولار و طلبت مني الدخول إلى بيتك المسكون في منتصف النهار و أنا مسلح بكلاشنكوف فلن أدخل فيه أبداً !!

ذات يوم دخل إلى مكتبي إمام أحد المساجد و قال لي بالحرف الواحد : يا محامي .. لو كنت مكانك لنمت في هذا المكتب و رفضت النوم و لو لساعة واحدة في ذلك المنزل المسكون الذي تسكن فيه ، يا زول ما الذي يجبرك على السكن مع الشياطين في البيت المسكون ؟ يا أخي أنا أريد أن أعطيك نصيحة لوجه الله تعالى ، لماذا لا ترحل من ذلك البيت المسكون ؟! هناك بيوت خالية كثيرة في هذه المنطقة و بإمكانك أن تسكن مجاناً في أي واحد منها ؟!

في تلك اللحظة بالذات اكتشفت أنني وقعت في حب البيت المسكون و أن فكرة الرحيل منه غير مقبولة بتاتاً فقلت للشيخ بسخرية : شوف يا شيخ ، إذا كان هناك أحد ملزم بالرحيل من ذلك المنزل المسكون فهو الشيطان الرجيم و ليس أنا ، لأنني أدفع الإيجار أما الشيطان الرجيم فيسكن فيه مجاناً ، انفجر الشيخ ضاحكاً و اختلطت ضحكاته بضحكاتي و ربما اختلطت ضحكاتنا دون أن ندري بضحكة شيطانية خبيثة صادرة من شيطان خفي لا يرى بالعين المجردة و لكنه يستطيع إخافة جميع البشر أصحاب القلوب الضعيفة بالريموت كنترول !

فيصل الدابي/المحامي

تاريخ النشر : 2016-11-23
guest
48 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى