أدب الرعب والعام

العائـد 2

بقلم : وائلوف محمد – السودان
للتواصل : [email protected]

العائـد 2
قلت لها .. حاتم قد عاد
– أنت تمزح .. أليس كذلك ؟ قل أنك تمزح ..
جاءني صوت “لمياء” عبر الهاتف غاضباً .. لابد أن اتصالي قد أيقظها من النوم
– أتمنى لو أنني كنت أمزح ، لكن للإسف لا أملك أي استعداد نفسي للمزاح .
قالت في برود :
– إذا لم تكن تمزح فمعنى هذا أنك جننت يا عزيزي ..
و أضافت :
– ماذا تعني بأن “حاتم” قد عاد ؟ هذا جنون
سيطرت على أعصابي حتى لا أشتمها هي و أهلها و “حاتم” .. و قلت :
– أعني أن حاتم قد عاد .
ضحكت ضحكتها التي لا معنى لها وقالت:
-ومنذ متى يعود الموتى للحياة؟
-منذ صباح اليوم
قالت من بين أسنانها :
– و ما المطلوب مني ؟ أن أتحدث مع “حاتم” و أطلب منه أن يكون مهذباً و يعود لقبره ؟

أخرجتني سخريتها و برودها عن طوري فصرخت في ثورة :
– أنت السبب في كل ما حدث أيتها اللعينة ، و لم أتصل بك لأطلب منك شيئاً ، أنا سأفعل كل شيء
و أضفت ببطء و كأني أؤكد كلامي :
– سأذهب للشرطة و أعترف بكل شيء
لم ترد .. ظلت صامتة لمدة فصرخت فيها :
– حسناً.. سأقفل الخط الآن ، لقد أخبرتك بما سأفعل ، سلام .. نلتقي في قسم الشرطة .
-انتظر.. هتفت، وأضافت:
– لابد أن نتقابل و تحكي لي كل شيء ، و نتفق على ما يجب أن نفعله ، لا داعي للتهور الآن
لم أرد … فاستطردت :
– أسمع.. سأذهب لبيتك الآن ، و أنت اترك كل ما في يدك من عمل وعد فوراً إلى البيت .. اتفقنا ؟

زفرت في ضيق ، و أغلقت الهاتف دون أن أرد عليها .

* * *

بعد يومين من مقابلتي لـ “حاتم” و زوجته في المطعم رن هاتفي في المساء ، الرقم المتصل ليس مسجلاً ضمن قائمة الأسماء في هاتفي ، قررت ألا أرد ، لكن إلحاح الهاتف الذي رن أكثر من مرة جعلني أفتح الخط ..

– أرجو ألا أكون قد أيقظتك من النوم .
كان صوت امرأة
– لا.. من يتحدث ؟
– أنا “لمياء”..
عصرت ذاكرتي بحثاً عن “لمياء” أعرفها ، و ترى أن من حقها أن تتصل بي
– “لمياء” من ؟
ضحكت في دلال :
– يبدو أنك تعاني من ضعف الذاكرة
– هممم
– أنا “لمياء” زوجة “حاتم”

رغبة تمشي علي قدمين ، شهوة تصرخ في كل تفصيلة من تفاصيلها .. جسدها ، عيناها ، صوتها
– مرحباً .. كيف حالك ؟
أخذت تثرثر طويلاً عن الطقس ، و عن المأمورية التي ذهب لها زوجها ، و عن قطتها و عن .. و عن .. ، و أنا لا أملك سعة صدر تجعلني أستمع لثرثرة امرأة أعرف جيداً لم تلف و تدور ، و ماذا تقصد وسط كل هذه الثرثرة التي لا معنى لها … لذا قاطعتها بصوت هادئ :
– اسمعي .. ما رأيك أن تأتي إلى البيت الآن لنتحدث عن الطقس ؟
ضحكت ضحكة مائعة – كل العاهرات في الأفلام العربية يضحكن هذه الضحكة – و قالت بصوت هامس :
– هذا أفضل بالتأكيد .. ما هو عنوان بيتك ؟
أخبرتها بالعنوان ، ثم أغلقت الهاتف.. و جلست أنتظرها .

* * *

بعد تلك الليلة تكررت لقاءاتنا أنا و “لمياء” ، أصبح لا يمر أسبوع إلا و تأتي إلى بيتي ، كانت تستغل أية فرصة يغيب فيها “حاتم” لتأتي … أحيانا تتصل بي لتخبرني أنها قادمة ، و أحيانا تقتحم البيت حتى إذا لم أكن موجود فيه ، و أحياناً أستيقظ من النوم لأجدها نائمة بجواري أو في أرجاء البيت ..
“لمياء” قالت لي أنها تكره “حاتم”
“لمياء” قالت لي أنها لا تحبني
“لمياء” قالت لي أنها تعرف رجالاً غيري
و في كل مرة أرد عليها :
– حسناً … لا بأس
فتصرخ في وجهي :
– و أنت أيضاً لا تحبني أيها الحقير
– أنا لا أظن أن هنالك من يحبك أصلاً
فتشتمني و تخرج من البيت غاضبة مع قَسَم غليظ بأنها لن تعود مرةً أخرى ، و لن أرى وجهها للأبد .. لكن ما إن ينقضي يومان حتى تعود مرة أخرى و كأن شيئاً لم يكن .

أحيانا كانت تسألني و هي مستلقية عارية بجانبي :
– و لماذا لا تحبني ؟
حينها كنت أحدق في وجهها … حسناً ، أية نظرة ينظرها رجل لامرأة يكون خلفها عاطفة ما .. حب ، كراهية ، رغبة .. لكن حين تنظر لوجه امرأة بحيادية فبإمكانك أن ترى أموراً ما كنت ستراها في ظروف أخرى ، و هذا ما يحدث حين أحدق في وجه “لمياء” بعد أن تكون رغبتي فيها قد انطفأت ، فألمح خلف الجمال الأسطوري قسوة و شراسة ، هذه امرأة لا يعرف قلبها الرحمة .. و في ذهني دوماً تقفز صورة أفعى جميلة ناعمة تستعد للإنقضاض على فريستها .

* * *

و لم يخب ظني في “لمياء” … فذات يوم جاءت للبيت ، و على غير عادتها لم تقم بتقبيلي كما تفعل عادةً ما إن تدخل ، بل طوحت بحقيبتها على الأرض ، و جلست في مقعد ما و قالت مباشرة دون مقدمات :
– أنا أفكر في التخلص من “حاتم”
– هل ستطلبين الطلاق ؟
– لا … أقصد القتل
نظرت نحوها مشدوهاً :
– ماذا ؟ دعابة ظريفة ، انتظري قليلاً لأضحك .
عقدت حاجبيها الجميلين .. – فكرت في أغنية فيروز ” إن كنت تقصد قتلي.. قتلتني مرتين” لكن ماذا إن كنت تقصد قتل شخص آخر يا عاقد الحاجبين ؟ – و قالت بنبرة قاسية غاضبة :

– هذه ليست دعابة
قلت هازئاً :
– أتمنى لك التوفيق من كل قلبي ، ما دام توفيقك سيجعل الحمقى في العالم ينقصون واحداً ..
نهضت غاضبة ، و حملت حقيبتها التي كانت قد رمتها على الأرض و قالت :
– عندما تكف عن المزاح اتصل بي .
أمسكت يدها :
– عليك أن تكفي أنت أولا عن المزاح
– أنا لا أمزح
– أنت تتحدثين عن القتل لو لم تخني أذناي
– بالتأكيد
– الطلاق طريقة أفضل للخلاص من زوج مزعج
– طبعاً .. لكنه طريقة فاشلة للتخلص من زوج ثري

كنا نتحدث بأسلوب عصبي – كريشيندو كما يسميه السينمائيون – حيث يبدأ الحوار بطيئاً و هادئاً ثم تزداد حدته و سرعته
– الطلاق سيمكنك من أن تحصلي على نصيب من ثروته
– لكن الميراث سيمكنني من أن أحصل على نصيب أكبر
– القاتل لا يرث قتيله ، لأنه يكون حينها معلقاً على حبل المشنقة
– هذا إذا كان أحمقاً
– كل القتلة ظنواً أنهم أذكياء .. لكنهم لو رؤوا ألسنتهم متدلية من أفواههم بعد شنقهم لأدركوا كم هم حمقى
– أنا لن أقتله بيدي !
– و من سيفعل ؟
– كنت أظنك عبقرياً يا عزيزي .. أنت من سيقتله بالتأكيد
ثم طبعت قبلة على خدي .

* * *
قالت لي “لمياء” :
– عليك أن تسمعني
قلت :
– لا
***
قالت لي “لمياء” :
– فكر في الملايين التي سأرثها ، و حينها يمكن أن نتزوج ، أو نتقاسمها دون زواج
قلت :
– لا
***
قالت لي “لمياء” :
– لا تكن أحمقاً .. أنا خططت جيداً للأمر ، و لو كان هنالك احتمال و لو ضئيل بوجود خطر عليك – و بالتالي علي – ما كنت سأفكر في الأمر أصلاً
قلت :
– لا
***
قالت لي “لمياء” :
– فكر في كل البلاد التي يمكن أن نسافر إليها ، فكر في السيارة التي تحلم بإقتنائها ، فكر في بيت جميل بدلاً عن شقتك البائسة هذه ، كل هذه الأشياء الرائعة ما يمنعك من تحقيقها هو وجود هذا البغل على قيد الحياة
قلت :
– لا

* * *

لم تكف “لمياء” عن ملاحقتي و الحديث عن ضرورة قتل “حاتم” ، و الأشياء الرائعة التي ستحدث بعد قتله ، كانت في كل مكان ، في الهاتف ، في غرفة نومي ، في أحلامي ، في أفكاري ، حتى شعرت أنني سأفقد عقلي في أية لحظة …

و في الصباح كنت ألتقي بـ “حاتم” في مكان عملنا .. بدانته ، سماجته ، ثقل ظله ، وشايته ، كنت أتخيل نفسي جاثم على صدره و يداي تخنقانه بقوة و “لمياء” تصرخ :
– أقتله.. تخلص من هذا البغل

و أحياناً أتخيل نفسي أطلق النار على رأسه لتنفجر جمجمته و تغرق دمائه وجهي ، كانت الساعات التي أقضيها معه في العمل أشبه بساعات في الجحيم ، كلما نظرت نحوه تخيلت نفسي وأنا أقوم بقتله ، يا إلهي .. أشعر أنني أسير نحو الجنون بسرعة الصاروخ ، “لمياء” في البيت و في الهاتف و في كل مكان تطالبني بقتله ، و في العالم “حاتم” الذي أصبحت لا أستطيع التواجد معه في مكان واحد بسبب ما أتخيله .. و حين فاق الأمر قدرتي على الاحتمال ، اتصلت بـ “لمياء” و قلت بصوت مبحوح :
– “حاتم” يجب أن يموت !

يتبــــــع …
               ………

تاريخ النشر : 2016-12-17

وائلوف محمد

السودان
guest
10 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى