منوعات

الكتاب الملعون ( الحلقة 9 ) الجيوش الرهيبة

بقلم : بائع النرجس – جمهورية مصر العربية

الكتاب الملعون ( الحلقة 9 ) الجيوش الرهيبة
حروب ومعارك لا تنتهي ..

أخذ (جعفر) ينهب الأرض بجواده نهباً ، ووصل إلى أرض واسعة تحيط بها التلال من كل جانب ، وما أن وصل إليها .. حتى أوقف جواده وترجل من عليه ، وأخذ ينظر إلى هذا الوادي الحبيس بين التلال وفي عينيه يطل الشر الأسود ، ثم قال لنفسه بخبث الشياطين :
ـ ياله من وادي مناسب لمفاجأتي القادمة ..
ثم أضاف وهو ينظر حوله وقد ارتسمت على فمه بسمة ملأها قبح العالم كله :
ـ ستكون أعظم مفاجأة لمن يأتي بعدي ، ستحمل توقيع واحد .. توقيع يعرفه الجميع ويهابه لأقصى درجة .

ترك حصانه وأسقط وشاحه من على كتفيه ونظر إلى السماء الصافية ، وبعدها رفع ذراعيه إليها ، وهنا تحولت عيناه إلى شكل غريب ، فقد اختفت البقعة السوداء وأصبحت عيناه بيضاء تماماً ، وأخذ يتمتم بكلمات غريبة غير مفهومة ، وأخذ يزيد من حدة صوته ، وصهل الجواد وأخذ يقفز في مكانه ، وأخذت النسمات تهب بخفة ، وزاد صراخه ، وعلا صوته ، وأسرع في نبرته ، ومعها هب الهواء شديداً ورعدت السماء ، واختفت الشمس بسرعة وحلت محلها غيوم سوداء كئيبة ، وأخذ البرق يظهر هنا وهناك ، وأصبحت الرياح شديدة  لدرجة أنها أخذت تسفح بالرمال وتحملها بعيداً ، وكذلك الحال مع الأعشاب الجافة التى أخذت تطير هنا وهناك بدون توقف ، في حين وقف هو في ثبات لا يهتز .. رغم تطاير ملابسه وتخبط الرمال بوجهه ، وكأن هناك شىء ما يجعله ثابتاً بالأرض ، وأخذت الأرض تهتز وهو يزيد أكثر من كلماته ، وفجأة هدأ كل شىء وسقط هو على وجهه ..

مرت الثواني ببطء شديد ، ثم أخذ الماء يخرج من الأرض بهدوء ، وهنا وقف هو ينظر إليها في صمت ويبتسم بخبث ورضا ، وأخذ تدفق الماء يزيد وكأنها عين وفتحت بدون توقف ، وأخذ الوادي يمتلئ بسرعة ، وصعد هو إلى أحد التلال وأخذ يتابع المشهد ، وقد انتفخت أوداجه وكانت السعادة تملأه في جذل ، وهنا أخرج من حقيبته اخطبوطاً صغيراً كان في داخل قنينة زجاجية ، ثم أخرجه منها وأخذ يتأمله وهو يتحرك بأذرعه الثمانية في كفه ، ولا يعلم أحد ما كان يدور في رأسه حينها ، وبهدوء انحنى على حافة الماء وتركه ليغوص فيها ، ثم أخذ يضحك وهو يمتطي جوداه ليختفي بعيداً ، وما أن اختفى .. حتى اهتزت صفحة الماء ، ثم ظهرت مجموعة من الفقاقيع على السطح ، ثم أخذت تزداد وتزداد وكأن المياه تفور ، وفجأة هدأ كل شيء وعادت صفحة الماء إلى السكون ، وولت الغيوم وظهرت الشمس من جديد  لتلقي بأشعتها الذهبية على هذه البحيرة الساكنة ، التي كانت منذ قليل وادي جاف مليء بالصخور والرمال .

الكتاب الملعون ( الحلقة 9 ) الجيوش الرهيبة
قام برمي اخطبوط صغير داخل المياه .. كان هذا الفعل لا يبشر بالخير أبدا ..

* * *

قبل أن يدرك الملك ما حدث ؟! .. انطلقت هذه المخلوقات لتتخبط في وجوهم وأجسادهم بقوة وعنف ؛ ولهذا السبب لم يفطن أحدهم إلى ماهية هذه المخلوقات ، ربما تكون سرباً كبيراً من الخفافيش التي تسكن هذه القبة ، وقد انزعجت من دخولهم إليها ، أخذ الجميع يحمون وجوههم بواسطة أيديهم ، ولكن تدافع هذه المخلوقات الكثيف وأصواتها المزعجة  أشبه بالكابوس المرعب ، في حين التصقت هذه المخلوقات بشعر (ليلى) .. والتي أخذت تتخبط وهي تحاول التخلص منهم ، أما (ظفير) فأخذ يسقط ويتخبط ويلوح بذراعيه ويبعدها عن وجهه ، ولكنه تعثر في شيء ما وسقط في حفرة ، وغاب في ثواني عن الأنظار ، وبدون قصد وقعت (ليلى) في نفس المكان ، ولكن الملك أمسك بها فى أخر لحظة ، ولكن هذه المخلوقات الصغيرة استمرت بالهجوم على وجهه ، وفجأة سقطا الاثنان وغاباً في الظلام .. وأخذا يسقطان بلا توقف ، وأخذت (ليلى) تصرخ وتصرخ
وتصرخ ، وقد ظنت أن النهاية قد حانت لحظتها ، ولم تعلم أن المستقبل يحمل لها المزيد .

* * *

فزع الشيخ (عبد الله ) فجأة ، وكأن صاعقة كهربائية أصابته ، فهتف في فزع وهو ممسك بكتف (خمري) وضغط عليه بقبضته :
ـ يبدو أن السماء ملبدة بالغيوم .. وسيكون هناك رعد وبرق وسيول حمراء .

نظر (خمري) من قضبان القفص إلى السماء ، واندهش من حديث عمه وقال :
ـ ولكن الشمس مشرقة يا عماه وليس هناك أي غيوم !!

ـ ليس هذا ما أقصده يا بني ..

ـ أقصد أن ——-

وبعيداً عنهما .. وفي مقدمة الجيش وفوق الثور الحديدي الذي كانت تستقر فوقه الملكة ،  نظرت بسرعة إلى الخلف وقد أوقفت ثورها ، وقد لاحظ (يزبك) و(سيور) ذلك فأوقفا النمران المسيفان أيضاً ، ولا يعرفان لما أوقفت الملكة ثورها ، فسأل (سيور) وقد بلغ الفضول لديه مبلغاً كبيراً يصل إلى حد الجبال :
ـ ماذا هناك يا سيدتي ؟!

لم تجاوب .. بل طال صمتها حتى ظن أنها لن تجاوب عليه أبداً ، فقرر بين نفسه أن يكرر على مسامعها السؤال ، ولكن قبل أن يخرج من فمه كلمة قالت فجأة :
ـ أخبر الجيش أن يستعد فوراً .

لم تتفوه بشيء بعدها .. مما دفع (سيور) ليهتف قائلاً :
ـ هل وصلنا إلى هدفنا يا مولاتي ؟

لم ترد عليه .. بل تركته في حيرة من أمره  وقالت له بحزم :
ـ نفذ الأمر أيها القائد ولا داعي للكلام .

ولم يضيع (يزبك) ثانية واحدة ، بل أصدر الأمر بسرعة وانطلق نفير الاستعداد ، وأخذ يتردد بسرعة فى الأجواء ، وعلى بعد .. ظهرت هذه المدينة الضخمة ذات الأبراج العالية  التي احيطت بجسر ضخم ، و قد ثبت في وسطه باب عملاق من الخشب الغليظ ، يتميز بنقوش رائعة ومنحوتات جميلة ، وقد قبع على الجانبين تمثالين غاية في الضخامة والجمال جالسين على مقعدين ، كانت تحفة تتميز بالإتقان والجمال الشديد ، وعلى مسافة قريبة منها .. أشارت الملكة لجيشها بالوقوف ، وثبت الكل في مكانه ، وخيم الصمت على الجميع .

وفي السماء .. أخذت هذه النسور تزعق بصوتها الحاد وتحلق وتدور فوق الرؤوس وكأنها تنتظر شيء ما ، وأخذت الغربان تحط على الصخور المنتشرة هنا وهناك وهى تصدر نعيقها الكئيب الذي يبعث على النفس الحزن والخوف ، وأخذت بعض النسمات تأتي وتذهب على وجوه الجنود الذين أخذوا ينظرون إلى الأمام في انتظار أوامر ملكتهم المعظمة ، التي أخذت تتابع بعينيها هذا الباب الضخم الذي أخذ يفتح في بطء ، ثم خرج منه أحد الفرسان وهو يحمل راية بيضاء ، واتجه بجواده إلى الثور الحديدي حتى توقف أمامه ، ثم ترجل من عليه وأحنى قامته قليلا ً ، ثم اعتدل ونظر في لفافة جلدية كان يحملها بين طيات ملابسة وقال :

ـ إلى من يقود هذا الجيش .. وإلى من يملك زمام الأمر والنهي هنا ، يطلب منكم ملكنا صاحب هذه المدينة العظيمة  أن تعودوا من حيث أتيتم ، وارجعوا تسلموا .. فنحن لا نريد حرباً من أي نوع ، وإن كنتم تريدون خيراً .. فأهلاً بقائدكم يحل ضيفاً معززاً مكرماً ، وإن كنتم تريدون حرباً .. فاعلموا أن مدينتا ليس بها ما يبيح الحرب من أجله ، ولتعلموا لو كانت الحرب هي مبتغاكم وهي ما تسعون إليها ، فاعلموا أن الرياح ستكون حليفتنا ، وستمطر السماء عليكم حراباً وسهاماً ، وسيكون الموت بانتظاركم في كل حبة رمل تطؤها أقدامكم .

وما أن انتهى الفارس من رسالته ، حتى طواها في قبضته وأخذ ينتظر الرد ، ومرت لحظات صامتة بين الجميع ، وفجأة .. نفث الثور بخاراً من أنفه ثم رفع احدى قوائمة الأمامية بسرعة ، ودهس الفارس الذي لفظ أنفاسه على الفور ، فلم يكن متوقعاً أن يحدث ذلك !! ، وضحكت الملكة بوحشية مخيفة ، وكذلك فعل (يزبك) ، في حين ثبت (سيور) في مكانه وأحس أن قلبه قد اعتصر عصراً من أجل مصير هذا الفارس ، وأخذ شبح الحزن يغزو عقله وأوصاله شيئاً فشيئا ،ً وقال لنفسه وهو يهمس حتى لا تسمعه الملكة ؛ لأنه كان يخشى أفعالها مثله مثل أي شخص أخر :
ـ ما كان يجب أن تفعلي ذلك يا مولاتي .

قطعت ضحكتها الشريرة فجأة ، وهتفت بلهجة حادة مخيفة وكأنها سمعته :
ـ صه أيها الوغد ، لا تنسى أنني مولاتك ، وأنا صاحبة الأمر والنهي هنا ، ولا داعي لأن تنسى حالك ، فهذا ليس لصالحك صدقني .

لم يتحدث (سيور) أو يتكلم ، بل بقي صامتاً على مضض ، في حين أضافت وقد أعطته ظهرها :
ـ لابد أن نمر من خلال هذه المدينة ؛ لأن الطريق طويل للغاية بالنسبة لما نريد الوصول له ، وإذا سلكناه ولم نختصره .. لن نصل إليه في الوقت المحدد ، أما إذا اختصرنا الطريق من خلال هذه المدينة ، بالطبع سنوفر الكثير من الوقت .

 قال (سيور) في تردد واضح في لهجته :
ـ و….. ولك…. ولكن ياااااا سيدتي …. إنني أر…..

قاطعة (يزبك ) بسرعة وهو يبتسم وكأنه يبارك قرار الملكة ، وقال بخبث الثعالب الماكرة :
ـ نعم الرأي يا مولاتي .. فهذا أفضل صنيع .

صمت ثم تابع وهو ينظر إلى صاحبه نظرة ذات معنى خبيث ، فهو يكرهه ويتمنى له الشر دائماً :
ـ هيا بنا يا مولاتي .. لا داعي لنضيع الوقت ، أكملي طريقنا إلى المجد .

وبعدها ضحكت ورفع الثور قائمته ، فظهرت جثة الفارس وبدت العظام محطمة تماماً ، حتى أنها اختلطت باللحم ،  وأخذ الجيش يواصل طريقه صوب هذه المدينة ذات الأبراج العالية بدون توقف ،  ورأى ملك المدينة ما حدث فوقع قلبه بين قدميه ، وسقط فكه إلى الأسفل ، وقد قفز الرعب إلى أعمق عمق بداخله ، فالمستقبل أصبح مخيفاً له ولمدينته .  ***

فجأة سقط (ظفير) في الماء بعنف ، وأخذ يغوص إلى الأسفل ثم صعد إلى السطح ، وأحس أن التيار يأخذه بعيداً ، وكان المكان مظلماً تماماً وكأنه في نهر جوفي ، وسقطت (ليلى) هى الأخرى وصعدت بسرعة ، ولحق بها الملك الذي صعد الأخير بينهم ، ثم أخذ ينادي :
ـ (ليلى) أين أنت ؟

سمع صوتها ينادي عليه ويقول :
ـ أنا هنا ..

وهنا سمع الاثنان صوت صاحبهما (ظفير) يقول :
ـ وأنا هنا أيضاً ..

سمعا صوت الملك يقول :
ـ يبدوا أننا في نهر جوفي ، فالتيار يسحبنا معه .

هتف (ظفير) :
ـ المهم أننا جميعاً بخير .

سمع الملك يضيف :
ـ بخير إلى الآن .

سمعا الاثنان (ليلى) تقول والخوف يظهر على طريقتها فى الكلام:
ـ ولكن يبدوا أن التيار يسرع كلما تقدمنا إلى الأمام .

وما أن أنهت حديثها .. حتى أخذ التيار يسرع أكثر ، وأخذت حركته تزيد  للضعف ، ومن بعيد ظهر ضوء خافت ، وعلى أثره ظهرت ملامح المكان ، وهنا حاول الثلاثة أن يقاوموا اندفاع الماء وأن يتمسكوا بأي شيء ، وبدون مقدمات .. ظهرت مجموعة من الصخور الناتئة في مجرى النهر الجوفي ، وأخذ أصحابنا يصتدمون بها في عنف شديد ، واتسعت دائرة الضوء وبانت السحب والسماء ، وبسرعة هتف الملك بقوة وقد سمع هدير الماء :
ـ يبدوا أنه شلال .. تمسكوا بأي شيء في طريقكم .

وسقط الملك وقد اختفى صوته مع صوت سقوط الماء ، ولحقت به (ليلى) التى لم تستطيع أن تتمسك بأي شيء ، وسقط خلفها (ظفير) ، وفي هذه الحالة .. كان مصيرهم معروف لا جدال فيه ولا خلاف ، إلا لو ظهرت لهم معجزة ..
نعم معجزة .

* * *

رفع الملك منظاره مرة أخري الى عينيه ونظر إلى جيش ملكة الظلام وقال بغضب حاد :
ـ إذن هي الحرب لا محالة .

سأله الوزير بقلق :
ـ ما الذي حدث يا مولاي ؟!

خفض الملك منظاره وقال :
ـ لقد قتلوا الرسول بكل بساطة ..

ثم تابع وهو يلقي بالمنظار بعيداً من يده ليسقط أسفل السور :
ـ جهزوا الجيش .. فقد حان وقت القتال .

رفع الوزير ذراعه وأشار إشارة ما ، وبسرعة صعد الجنود إلى سور المدينة بسهامهم ورماحههم وانتظروا لحظة الهجوم ، اقترب الوزير من الملك وقال وهو ينحني :
ـ كل شىي جاهز يا سيدي .. فالسهام في الأقواس ، والرماح منتصبة منتظرة صدور العدو ، والسيوف تتلهف لدمائهم بشغف .. هل سنضربهم الآن ؟

ـ لا .. انتظر إشارة مني .

وقف الملك بعدها يتابع المشهد وهو يستند على سور المدينة ، وفي نفسه أمنية واحدة ..  وهي …
( أن لا تحدث الحرب أبداً )
وكان تمني بعيداً عن الواقع لأبعد الحدود .

* * *

علا في الهواء النفير .. معلناً بداية المعركة بين جيش الظلام و جيش هذه المدينة ، وما أن اقترب جيش الظلام منها وأصبح في مرمى السهام ، حتى أمر الملك بإطلاق السهام والحراب صوب الملكة وجيشها ، وسرعان ما انطلقت لتحلق في عنان السماء ، وأخذت تهوي صوب هدفها وكأنها جيش من الذباب الأسود ، ورغم أنهم رفعوا دروعهم للوقاية منها ، ولكنها لم تمنع السهام من الوصول إليهم .. فقد أخذ بعضها يضرب بسرعة خاطفة و يستقر في الأعناق والأرجل والعيون والأذرع ، وتساقط البعض منهم قتلى ، وأخذ البعض الأخر يصرخ من شدة الألم وينتفض في الأرض ، و لم يوقفهم هذا ؟! ، بل صرخوا في غضب ثم واصلوا طريقهم ناحية سور المدينة ..

أخذوا يرفعون السلالم الخشبية عليه ويصعدون عليها ، وأخذ جيش المدينة يلقون السهام والرماح ويدفعون بالسلالم بعيداً عن السور، ويلقون بالنار على رؤوس جيش الظلام ، وكان المشهد رهيباً بحق ، ووصل الثور الحديدي إلى الباب الخشبي الضخم وأخذ يدقه بعنف بقرنيه ، وفي دقائق .. أخذ الباب يتصدع وهنا لاحظ الملك أن كفة الصراع ستميل ناحية جيش الظلام لا محالة ، فصرخ في وزيره وهو يقف على أحد الأبراج التي تمكنه من رؤية كل شيء فى الأسفل وهو في شدة الغضب وقد قطب جبينه :
ـ اطلقوا الجيش الخاص .. فهذا وقتهم .. هيا بسرعة .

صاح الوزير في أحدهم :
ـ اطلقوا الجيش الخاص .

وصاح أخر بنفس العبارة ، وأخر وأخر ، وفجأة تم فتح البوابة الخشبية العملاقة للمدينة وظهر ما كان موجود خلفها ، إنه جيش من العمالقة الخضر ذوي البشرة الخضراء !! ، كانوا أشبه بالبشر في التكوين الخارجي ، يحملون سيوف حادة ودروع كبيرة لامعة ، ثم انطلقوا بخطوات ثابتة ليقفوا أمام البوابة ، ومرت لحظات أخذ فيها جنود الظلام ينظرون إلى العمالقة في تردد وخوف ، وفجأة صاح (سوماز) صيحة قوية هزمت تردد الجنود وجعلتهم يهجمون في شراسة وعنف ، ولكن العملاقة كانوا يطيحون بهم في كل مكان وكأنهم مجموعات من الذباب !! ، بضربة واحدة يحلق العديد منهم في السماء ويسقطون بعيداً ، وقد تحطمت رؤوسهم وأضلعهم وأرجلهم وأيديهم وقد اختلطت بالدماء الحارة ، وكانت معركة عنيفة لأقصى حد ممكن أن تتخيله ، ومرت لحظات … حتى ظهرت أكوام من الجثث تحت أقدام العمالقة ، وهنا انطلقا النمران المسيفان في وطيس المعركة ، وأصبح قتالاً رهيباً ومخيفاً لأقصى الحدود .

* * *

سماء الكهف الحجرية بلونها الكئيب ، وتدافع الماء بشكل عنيف ، هذا كان أخر مشهد يراه أبطالنا الثلاثة وهم يسقطون مع مياه الشلال الذي قد وصل ارتفاعه إلى ألاف الأمتار وقد اختلطوا بالماء ، وعندما اعتقدوا أن الموت قادم لا محالة مع نهايته ، حدث أخر شيء ممكن أن يتخيلوه مهما شطح بهم الخيال !! ، فقبل النهاية بعدة أمتار قليلة .. ارتفع الثلاثة في الهواء خارجين من جوف الشلال ، وصوت انهدار الماء يصم الآذان وكأنها خوار آلاف مؤلفة من الثيران الهائجة ، وفجأة شعر كل منهم أن شيء ما قد قبض عليهم بقوة ، ثم أخذهم بعيداً عن هذا الشلال العظيم ..

أخذوا يرتفعون في السماء وقلوبهم تنبض بعنف ، غير مصدقين أنهم  نجوا من الموت المحقق ؟! ، وقد أخذوا ينظرون إلى مشهد الشلال ، وهنا لاحظت (ليلى) مشهد عجيب !! ، هناك الكثير من الطيور العملاقة تدخل إلى الشلال وتخرج وكأنها تصطاد طعامها منه !! ، ثم تحلق مبتعدة لتختفى بعيداً ، وانتفضت رعباً عندما رأت أن الذي يرتفع بها هو طائر من هذه الطيور الغريبة ،  إن هذه الطيور قد انقرضت منذ عصر الديناصورات .. إنها زواحف طائرة ، وبعينيها نظرت حولها فوجدت طائر أخر يحمل الملك و(ظفير) الذي أخذ يسأل نفسه في توجس وهو ينظر إلى الأرض في الأسفل في رعب قد ملأ كل كيانه:
– إلى أين تأخذنا هذه المخلوقات المجنحة ؟ .. خرجنا من الموت .. لنذهب إلى أين ؟

أخذت هذه الزواحف الطائرة تحلق في عنان السماء فوق السحاب حيناً وفوق الجبال حيناً أخر ، وتمر فوق وديان وصحاري وغابات وأنهار ، وهكذا الحال .. حتى مرت فوق مدينه ذات أبراج عالية وتماثيل حجرية ضخمة قد نحتت ببراعة لا مثيل لها ، وفيما يبدوا أن هناك حرب ما تدور في الأسفل ، ولو اقترب الزاحف الذي يحمل (ليلى) قليلاً من ساحة الوغى .. لرأت أخاها وعمها بين قضبان القفص العظمي ، وفي غضون دقائق اختفت المدينة عن الأنظار وظهرت بعدها بحيرة صغيرة في وداي محكوم بين الجبال ، واختفت البحيرة وظهرت بعدها صحراء عظيمة ، وبعد فترة اختفت الصحراء وبدأت تظهر الأشجار الخضراء تدريجياً ، وبعد فترة من التحليق .. ظهرت بحيرة عظيمة وكبيرة جداً ..

لدرجة أن الملك لم يصدق نفسه وهو ينظر إليها !! ؛ فقد كانت هى أعظم بحيرة يراها في حياته ، وقد انتشرت على أرجائها كل صنف ونوع من الحيوانات البرية الجميلة ، من غزلان وجياد ، وكذلك الأشجار والزهور المختلفة الأحجام والألوان ، والطيور ذات الأصوات والألوان الرائعة ، وحلقت الطيور فوق البحيرة ذات المياه الصافية ، لدرجة أنها كشفت عن هذه المعابد الغارقة في الأسفل ، وهذه الأسماك الملونة الضخمة ، وهذه السلحفاة العملاقة التي تسبح فى هدوء ، واقتربت هذه الزواحف من سطح البحيرة لدرجة أن أصحابنا شعروا برذاذ الماء على وجوههم .

ومن بعيد ظهرت مدينة كبيرة في وسطها ، ذات قباب عالية لونها ذهبي ، وقصور عالية وأبراج مختلفة الأشكال هنا وهناك ،  وأخذت الشمس تغيب ببطء ، واكتست صفحة البحيرة بهذا اللون البرتقالي ، والتمعت القباب الذهبية أكثر ، وما أن اقتربت هذه الزواحف من المدينة .. حتى ارتفعت بزاوية حادة فجأة جعلت (ليلى) تشهق أكثر، وطارت حتى وصلت إلى أكبر بناء في المدينة ، ثم هبطتت في الساحة الواسعة .. و ألقت بهم في عنف ، ثم وقفت بجوارهم تصدر صوتاً مزعجاً لأقصى الحدود ، وكأنها تعلن عن وصولها .

حاول الملك أن يقف وينظر حوله .. فوجد أن المكان ساحة لقصركبير ، فقد انتشرت  الأزهار هنا وهناك ، والمجاري المائية والنوافير الرائعة ، والتماثيل الرخامية البيضاء والوردية ، بشكل متناسق رائع .. وقال لأصحابه :
– يبدو أن هذه محطة الوصول يا رفاق ..

هتفت (ليلى) بعدما وقفت هي الأخرى و أخذت تنظر حولها :
– لقد نجونا من الموت المحقق .. والله وحده يعلم مصيرنا في هذا المكان .

فجأة فتح باب ضخم قد حفرت عليه نقوش عجيبة ، وقد رصع بالماس والأحجار الكريمة ، وظهر خلفه رجل أبيض الشارب ، قصير اللحية ، وقد صففت بشكل غريب تدريجي ، وقد حلت بالذهب والجواهر ، واستقر تاج ذهبي فوق رأسه الأشيب ، وقد ارتدى حلة حمراء داكنة زينت بخيوط من ذهب تدل على الثراء ، وخلفه وقف مجموعة من الرجال في زى الفرسان ، وفي هدوء اقترب منهم ووقف أمامهم ، وأخذ ينظرإليهم بتمعن وصمت .

طال صمته بشكل يدعوا للقلق والخوف الرهيب ، وبعد دقائق قليلة أحس فيها اصاحبنا أن دهراً مر عليهم ، تكلم هذا الرجل .. وما قاله كان مفاجأة للجميع !! .

* * *

هجم جيش العمالقة وأخذوا يقتلون بوحشية كل من يقابلهم بلا هواده او رحمة ،  وهم يزمجرون بصوت قوي وصراخ هادر ، وأثناء هذا القتال الرهيب .. سقط أحدهم تحت أقدام الثور الحديدي ، الذي وضع حافره فوق رأس العملاق فتحطمت بشكل مرعب وتناثرت الدماء !! ، ونفث الثور البخار من أنفه وكأنه يتباهى بما فعل ، ثم هجم عليه عملاق أخر وأخر .. وهو يطيح بهم يميناً ويساراً ويدهسهم بأقدامه  ببساطة ، فتتحطم العظام بصوت عالي وتتعالى الصرخات ، وهجم جيش المدينة بالكامل على جيش الظلام ، وانطلقت الرماح والسهام في كل مكان ووصلت إلى عنان السماء ، حتى أنها كادت أن تحجب نور الشمس وكأنها جيوش غفيرة من الذباب الأسود .

كل هذا لم يمنع تقدم الجيش ولو للحظة !! ، وأخذت الجثث تتساقط بغزارة ، والدماء الساخنة في كل مكان ، وأخذت المدينة تتحطم بسرعة مخيفة تحت أقدام الثور الحديدي ، وكذلك التماثيل الضخمة وبعدها الأبراج ، وأخذت النيران تشتعل في كل مكان ، حتى الأطفال والنساء لم يرحمهم الثور أو النمران ، وبقي الحال هكذا قرابة الساعة ، وفى نهايتها سقط أخر برج .. ومعه لم يبقى شيء هناك غير الأطلال ، وفوق هضبة من الحطام .. صعد الثور ، وفوق جثة طفل صغير يمسك بكف أمه التي فارقت الحياة هي الأخرى ، وقف وأخذ يصدر خواره المزعج  وينفث بخاره ، وكأنه يعلن انتصاره هو وملكته ذات القلب الحجري ، وكانت النهاية لمدينة أرادت السلام .. فأصبحت أكوام من الرماد والركام ، وأطلال خربة ، بعدما كانت أبراج عالية وقصور وحدائق عامرة بالرجال والنساء والأطفال يوماً ما ، وأخذ الثور يخور ويطوح رأسه يميناً ويساراً ، وأخذ قرص الشمس يغيب في بطء .. معلناً نهاية مدينة مع نهاية اليوم .

* * *

اتسعت عينا (خمري)  وكادت الدموع تسقط منهما وهو ينظر لكل شيء حوله ، وهتف وقد أخذ الحزن منه مبلغاً وكأنه يعتصر قلبه الصغير بشدة :
– أهذا ما كنت تقصده يا عماه ؟ … أكنت تقصد هذا الخراب ؟

الكتاب الملعون ( الحلقة 9 ) الجيوش الرهيبة
قام جيش الظلام بالقضاء علي المدينة الجميلة وحطمها بالكامل ..

هز الشيخ رأسه وأجاب في حزن وحسرة :
– نعم يا بني .. هذا ما كنت أقصده ، فهذه الملكة ملعونة ويأتي معها الخراب أينما تحل ، والشر يتمسك بتلابيبها ولا ينفك الشيطان عن رأسها ، فقد صار رفيقاً لها .. بل قائد لنزواتها وأفكارها التي أتت من الجحيم .

أمسك (خمري) قضبان القفص بقوة ، وانحدرت دمعه ساخنة منه .. وكأنها حمم خارجة من بركان ثائر ، وهتف وهو ينظر إلى بقايا هذه المدينة :
– لقد أبادوا المدينة عن بكرة أبيها .. ولم تأخذهم شفقة ولا رحمة حتى بالأطفال والشيوخ ، لم يتركوا أحداً ، وحطموا كل حجر فيها .

صمت الشيخ وأخذ صاحبنا يتابع مشهد الأدخنة المتصاعد من هذه الاطلال ، ورائحة الموت تنتشر في كل مكان ، وهنا أخذ الكلب ينبح بصوت مزعج وكأنه يعلن غضبه ، فربت الشيخ على رأسه محاولا ً تهدئته وقال :
– ربما .

علق (خمري) بهذه الكلمة وقد أطلق قبلها تنهيدة حارة ، ثم صمت الجميع … وأخذ جنود الظلام ينتشرون بين أطلال المدينة يحصدون الغنائم .. غير مبالين بالجثث التي سقطتت في كل مكان بشكل مخيف .

* * *

وقف هذا الملك أمام أبطالنا .. وأخذ ينظر إليهم ملياً ، ثم ارتسمت على ثغره شبح ابتسامة صغيرة وقال:
– مرحباً بكم في بلدكم الثانية ..

تنهدت (ليلى) تنهيدة حارة ، وأحست أن جبلاً ثقيلاً قد انزاح من على صدرها ، وهنا بادله (حكيم ) نفس الابتسامه ثم قال وهو يمد ذراعه له ليصافحه :
– لقد ازددنا شرف برؤياك يا سيدي .

– الشرف لي أنا صدقني …  يبدوا من مظهركم أنكم من أعالي القوم .. أليس كذلك ؟؟
أجابه (حكيم) :
– يبدوا أن جلالتك ثاقب النظر .

اتسعت ابتسامة الملك وقال وهو يشير إلى مجلس ارتصت فيه مقاعد غاية في الجمال ، وقد افترش بسجاد يتميز بنقوش رائعة الجمال ، ويتميز بنوافذ زجاجية عالية قد دخل منها شعاع الشمس ، وقد تلون بألوان ورسومات تأخذ العقل :
– إذا هناك قصة خلفكم أود لو أسمعها .. فتعالوا نجلس لنحتسي شراباً ونسمع قصتكم .

وافق الجميع .. واتجهوا جميعاً إلى المجلس وأخذوا أماكنهم ، وبدأ يحكي (حكيم ) القصة على أنه تاجر وقابل (ليلى) ، ثم تكمل هي قصتها والملك يسمعها باهتمام ، والوزير يفتح فمه حينا .. ويرفع حاجبيه حيناً أخر وكأنه غير مصدق ، حتى انتهت من قصتها وصمت الجميع وكأنهم ينتظرون المزيد ، وتعجب الملك وهتفت :
– يالها من قصة عجيبة ؟!

لم يعقب على حديثه أحد ، ولكنه تابع وهو يقف من مجلسه :
– أنتم عندنا ضيوف على الرأس ، واليوم راحة ، وفي الغد سنتحدث في أمر (الكتاب الملعون )

ثم أمر بتجهيز ثلاثة غرف لهم  و ملابس جديدة ، ثم تركهم وانصرف إلى شؤون مملكته .

* * *

جلس (جعفر) حول النار التي أشعلها .. وقد فرد الخريطة وأخذ ينظر إليها في اهتمام   ولهيب النار يتراقص أمامه ، وقد انعكس ضوءها على وجهه وكأنها أشباح تتقافز هنا وهناك .. ثم قال لنفسه :
– يبدو أننا اقتربنا كثيراً من مبتغانا .. وليس أمامنا الكثير حتى نصل للجبل ونتسلقه و…… ..
صمت ثم تابع وقد اتسعت عيناه بشكل كبير :
– ونحصل على الكتاب … وبعدها …..
صمت مرة أخرى ثم هتف بصوت عالي وبلجهة شخص مجنون :
– وبعدها يصبح العالم كله ملكي .

وأخذ صوته يتردد في الفضاء اللانهائي بلا توقف ، حاملاً معه أمال مجنون أخر يريد أن يملك العالم ..
نعم يريد أن يملك من لم يستطيع غيره أن يملكه يوماً ما ، وكل من سبقوه بهذه الفكرة دفعوا ثمن جنونهم غالياً .. نعم غالياً جداً أكثر مما تخيلوا ، فقد كان الثمن دائماً هو حياتهم ، وأصبحوا ذكرى في جبين الزمان
ذكرى .. لا شيء أخر .

* * *

وقفت (ليلى) في هذه الشرفة ذات المنحوتات الرائعة والأفاريز الذهبية الجميلة تنظر إلى هذا الافق الممتد بلا نهاية ، تتابع قرص الشمس وهو يغيب شيئاً فشيئاً ليودع هذا العالم لينير عالم جديد ، وها هي الطيور تحلق عائدة إلى أعشاشها في رحلتها اليومية ، ثم سرحت بعقلها لبعيد … لتتذكر أخاها ، وراحت تفكر في مصيره ، وهنا وضع (حكيم) يده على كتفها فانتفضت فازعة ، ولكنها عندما استدارت تلاشى هذا الفزع وحل مكانه ابتسامه جميلة تذوب لها القلوب ، فقال لها وهو ينظر بعينيها :
– أعتذر لأنني أفزعتك واقتحمت خلوتك .. مع العلم أني طرقت الباب كثيراً ؛ ولكنك فيما يبدوا لست هنا .

– لا عليك لا داعي للإعتذار .

– فيما كنت تفكرين لدرجة أنك لم تحسي بدخولي هنا ؟!

– نعم .. كنت أفكر في أخي ومصيره .

– تمني خيراً له .. وربما يقدر الله أن تجتمعوا مرة ثانية .

تنهدت وهي تستدير بعيداً وقد ترقرقت الدموع بمقلتيها :
– ياليت .

حاول (حكيم) أن يخفف قليلاً عنها ويقول لها شيء ما ؛ ولكن فجأة دخل عليهم (ظفير) وهو يهتف بانفعال وقد تعرق وجهه :
– أنتم هنا ولا تدرون ما يحدث حولكم ؟!

هتف (حكيم) وقد قطب جبينه :
– ما الأمر؟

– هناك استعدادات عظيمة تحدث في الساحة الكبيرة التي أمام القصر ، وهناك حركة غير عادية في كل مكان ، هيا بنا لنشاهد الأمر.

انطلق الثلاثة حتى وصلوا إلى ساحة عظيمة بها منحوتات ضخمة ومبهرة ، والنباتات المزهرة تنتشر هنا وهناك بشكل فني جميل ، وهناك شاهدوا الملك يهتف في رجاله الذين ارتدوا زي حرب شكله عجيب ولونه أزرق ، وخوذات بديعة الصنع ، وقد وقفوا في صفوف منتظمة :
– يا جنودي .. يا من تهتز الأرض تحت أقدامهم .. وترعد السماء لأصواتهم ، لا تستهينوا بعدوكم فيقتلكم بسهولة ، وينتزع أحشائكم ، ويسبي نساءكم ، ويقتل أولادكم ، ويستحل أرضكم وعرضكم ، قاتلوا حتى الموت ، واعلموا أن الحق معكم .. والموت ينتظر عدوكم على أسنة رماحكم  وعلى نصول سيوفكم ، فلا تأخذكم به رحمة أو هواده أو شفقة ، واعلموا أن أولادكم ونساؤكم ينتظرونكم مع النصر وهو يرفرف فوق رؤوسكم ، والمجد يفرش طريقكم بالورود ، والتاريخ ينتظركم بقلمه ليسطرانتصاركم العظيم بحروف من نور على جبينه الخالد ، فلا تخذلوهم وعودوا لهم به ، وانزعوا قلوبكم والقوها فى كل بئر عميق ، فلا ضعف مع المجد … عودوا بالنصر .

وخلفه أخذ جيشه يصيح بصوت هادر وقوي يهز الجبال :
– النصر…. النصر…. النصر

وقف أصدقائنا الثلاثة يتابعون ما يحدث في صمت ، غير مدركين ما يحدث ، وهنا قال  الملك(حكيم) :
– ما الذي يحدث هنا اليوم ؟

أجابه الجندي بسرعة :
– إنها الحرب يا سيدي !!

هتف الأول قائلاً :
– حرب بين من ومن ؟

– حرب بيننا نحن جن الماء وبين جن الأرض .

– و لم هذه الحرب بينكم مع أنكم من جنس واحد ؟

الكتاب الملعون ( الحلقة 9 ) الجيوش الرهيبة
ملابس الجان .. من أفضل وأفخم الملابس الحربية في القصة ..

– يا سيدي الحرب قائمة منذ سنين بعيدة بطول أعمارنا ، حتى أن الجميع على يقين أنها لن تنتهي أبداً لصالح أحد ، والسبب فيها هي هذه الأشجار التي نبتت على شاطئ البحيرة ، وهي نادرة جداً لدرجة أنها غير موجودة إلا هنا تقريباً ، ولا تثمر إلا كل مئة عام ، وهذه الثمار من يأكلها  يشفى من أي داء بإذن الله !! ، وتعود به السنين إلى الخلف ويحظى بوافر الصحة والشباب ، وبما أن هذه الأشجار نبتت على بحيرتنا .. فهى من حقنا نرعاها ونقدسها ، ولكن جن الأرض يرى أنها من حقه ، ولا يصح أن نحظى بثمارها وأنها نبتت على الأرض فهي في حدوده ، وهكذا بقيت الحرب دائرة بين الفريقين بدون تحقيق النصر لأي منهما .

سرح الملك(حكيم) بعقله قليلاً وقال :
– يالها من حرب !!

– أي خدمات أخرى يا سيدي ؟

ابتسم (حكيم) وقال له
– شكراً لك أيها الجندي .

 كاد الجندى أن ينصرف ؛ ولكن صاحبنا نادى عليه مرة ثانية فعاد ليقف أمامه وقال:
– تحت أمرك يا سيدي .

تنحنح ثم قال:
– ممكن أن أطلب منك طلب ؟؟

– نعم يا سيدي .

– إذن هات أذنك حتى لا يسمعنا أحدهم .

اقترب الجندي منه وهمس له الملك … وهز الجندى رأسه بالموافقة ، وانطلق مبتعداً ليختفى في بضع دقائق ليعود بعدها وهو يحمل بين ذراعيه ملابس تشبه زي الجنود ، ووضعها بين ذراعي الملك الذي انطلق إلى (ليلى) و(ظفير) وقال لهما :
– ارتديا هذا الزي .

هتفت الأولى بسرعة :
– أتريدنا أن نقاتل معهم ؟!
أجابها صاحبنا :
– ولم لا ؟
صرخت في وجهه :
– هل جننت ؟! .. أتريد أن ننجوا من الموت لنموت على أسنة الرماح داخل وطيس هذه الحرب ؟!

– كيف تقولين ذلك ؟ .. كل ما أردته هو أن أرد الجميل لمن ساعدنا ودفع عنا الموت .

تركته (ليلى) لتبتعد عنه وهي تقول :
– ولكن ليس بهذه الطريقة نرد الجميل ، هناك الكثير من الطرق غيرها لنرد بها .

قاطعها (حكيم) وهو يقترب منها ويقول بصوت عذب يسري في القلوب :
– أوافقك الرأي .. ولكن إذا رددناه بهذه الطريقة يكون أعظم وأجمل ويليق بنا .

هنا صمت الملك وساد الصمت .. وأخذت صاحبتنا تفكر ثم استدارت لتنظر إليه وأطالت النظر ، وفجأة قطع (ظفير) حبل الصمت قائلاً :
– ها .. سنرتدي هذا الزي أم لا ؟

نظر الملك (حكيم) إلى (ليلى) وكأنه ينتظر الرد منها ، ومرت ثواني ظن فيها أن الرفض سيكون جوابها ، وهنا قرر أن يقول شيء ما ولكنها قالت وهي تدير ظهرها له وتنظر إلى جيش الجن :
– أنا أكره الحروب عموماً ولا أريد أن أشارك بها ، ولم أتخيل نفسي يوماً أني سأكون هناك في وطيسها أقاتل لأنجوا بحياتي وأعيش لأرى الشمس غداً

صمتت قليلا ثم تابعت :
– أنا …..
صمتت مرة ثانية ثم استدارت وقد رسمت على وجهها ابتسامة جميلة وهي تقول بسرعة:
– وأنا سأكون معكم .

ابتسم الملك (حكيم) وقال وقلبه يدق بسعادة :
– كدت أفقد الأمل فيك .

نظر إليهما (ظفير) وهو يحس بأن هناك شيء خفي يجمع بينهما .. شيء له معنى جميل واحساس رائع لا يرى بالعين ، ولكنه يدرك بالحس فابتسم وقال :
– دعونا لا نضيع الوقت إذا ، وهيا نرتدي الزي لنلحق بالجيش .

انطلق الثلاثة في أروقة القصر  حتى أختفوا عن العيون ، وتعالت في الجو صيحات الجنود الهادرة
– النصر ..
وأخذ الصوت يتردد بلا توقف .

* * *

لم تشرق الشمس بعد وقد انتشر الضباب في الأجواء ، وسكنت صفحة البحيرة تماماً وصمت كل شيء ، وقد تسرب هذا الضباب بين الأشجار الضخمة فبدت وكأنها أشباح عملاقة تقف صامتة ترقب المكان ، ومن قلب الصمت .. يظهر جيش جن الماء وكأنه يخرج من العدم وهم يمسكون بالرماح والسيوف والنبال ، ووقف ملكهم أمام إحدى الكتائب ، وبين الجنود اندس أبطالنا ، تسرب ضوء الشمس على حياء .. فالتمع سيف ملك جن الماء وقد عكس ضوء الشمس ، وفي هدوء رفع رأسه إلى السماء ليرى هذه الطيور العملاقة ترافق جيشه ، وفوقها قبع أحد جنوده يمسك بلجامها منتظر أمره ، ترجل بجواده بضع خطوات ليصبح في مقدمة جيشه ، ثم صاح فيهم بصوت قوي هادر وهو يلوح بسيفه لهم:
– قاتلوا كالرجال ولا تتراجعوا .. ودافعوا عن شرفكم مهما كان الثمن ، واعلموا أن النصر ينتظركم بعد هزيمة عدوكم ، و أن الخزي والعار ينتظركم لو هزمتم ، فلا تدعوه يأخذ فرصته .

وعند ذلك يصيح كل الجنود بحماس وهم يرفعون أسلحتهم إلى أعلى ويهزوها بقوة :
– النصر .. النصر .. النصر

ثم صمت كل شيء وانقشع الضباب شيئاً فشيئاً ، وأخذت الصورة تنكشف ببطء ، وظهر جيش جن الأرض يقف بعيداً ينظر إليهم ، وقد وقف أمامهم ملكهم يمتطي جواده ، وقد ارتدى مثل جيشه درع وخوذه ذات نقوش جميلة اتشحت باللون الأخضر البراق ، وخلف الجيش وقفت مخلوقات عملاقة تشبه الديناصورات ذات رقبة طويلة وأجساد ضخمة ، وفوق رأسها الصغير قبع أحد الجنود ليتحكم بها ، وبين الحين والأخر أخذت هذه المخلوقات تزمجر بصوت رهيب ، و ما إن رأت (ليلى) هذا المشهد الأسطوري .. حتى هتفت وقد سرت الدهشة في جسدها وعقلها :
– ربااااااه .. من أين أتت هذه المخلوقات العظيمة ؟

قطع ملك جن الماء صمته وهتف بقوة في جنوده :
– لا تدعوا مشهدهم يخيفكم ولا يهز قلوبكم ، فقلوبكم قلوب فرسان شجعان لا يكترثون للموت ولا يلقون له بالاً ، واعلموا أنكم الأقوى هنا .

صمت ليتابع تأثير ذلك على حماس جنوده ثم أضاف بقوة أكثر:
– وصاحب الحق دائماً أقوى ، لا يهزه حجم عدوه … اقرعوا الطبول بقوة حتى تزلزلوا قلوبهم وتدعوا الخوف ينهش أجسادهم ويضعف عقولهم .

تردد صوت الطبول يتردد في الهواء بقوة ، وهنا هتف الملك مرة ثانية وهو ما زال يلوح بسيفه في الهواء:
– لا تقدموا على أي خطوة .. ولكن استعدوا وشدوا السهام داخل الأقواس وجهزوا الرماح واستلوا السيوف ، وانتظروا إشارة الهجوم .

أخذ صوت قرع الطبول يتردد في الأجواء والكل منتظر في مكانه إشارة ملكهم ، ومرت دقائق فاتت وكأنها سنين ، وبدون مقدمات .. مر سهم في نهايته ريشة خضراء ليستقر في قلب أحد الجنود ، ليسقط صريعاً في الحال ، واتسعت عينا الملك ولم تمر ثواني حتى غابت السماء فوق وقد امتلأت بسهام جن الأرض ، وهنا رفع جن الماء الدروع فوق رؤوسهم لتحميهم ، وبعد أن هدأت موجة السهام تلك ، أمر الملك بعدها بالرد .. وانطلقت سهام جن الماء وكأنها ذباب ليحجب ضوء الشمس عن العدو ، وبعد أن حطت عليه صاح  الملك بعدها :
– هيا يا رجال انطلقوا

انطلق الجنود مطلقين صيحات قوية تهز القلوب ، وبعد أن استقرت السهام وظهرت السماء .. حتى انطلق جيش جن الأرض ليقاتل هو الأخر مطلقين صرخات قتالية والتحم الجيشان ، وأخذت الدماء تظهر في كل مكان ، وعلا صليل السيوف ، وفي الهواء أخذت الطيور العملاقة تحلق وتلقي بالصخور على الأعداء ، في حين أخذت هذه الحيوانات الضخمة تدهس كل ما هو في طريقها ، وأخذت الأجساد تتهاوى وتتساقط بلا توقف ، بل أخذت تزيد
وتزيد
بلا توقف
وكان الموت أبسط شيء عندهم ، وبدا أن المعركة لن تنتهى أبداً .

* * *

انتصفت الشمس في كبد السماء ، واشتد الجو حرارة ، والتهبت حبات الرمال تحت أقدام جيش الظلام وهو يشق طريقه في هذه الصحراء الممتدة بلا نهاية بصعوبة ، وقد شق العطش شفاههم ، وأخذوا يتساقطون واحد تلو الأخر من فرط الإنهاك والعطش ، فقد شحت المياه منهم ، ومن يسقط يتركوه للطيور الجارحة ،  وأخذوا يواصلون سيرهم وهم يترنحون ، وفجأة صرخ أحدهم وهو يشير إلى هذه الطيور التي تحلق على وادي بين مجموعة من الجبال الصغيرة :
– ماااااااء

انتبه الجميع ودب فيهم النشاط عند رؤيتهم للطيور التى تحلق هناك ، فهم يعلمون أن هذه الطيور لابد أنها تحلق فوق واحة ما تستقر هناك ، الكل أخذ يسير بهمة ونشاط وقد لاحت على وجوههم شبه ابتسامة ، ولامس قلوبهم شىء من الراحة ؛ لأنهم ظنوا أنهم سيموتون عطشاً بين طيات الصحراء ، إلا الملكة التي لم تتكلم بكلمة واحدة ، بل بقيت صامتة تنظر بعينيها الحادتين إلى هذه الجبال ، وكأن هناك شيء ما في نفسها لا يعلمه أحد غيرها ،  
 ترى .. ما هذا الشيء الذى تحدث به نفسها ؟!

* * *

فى وطيس الحرب بين الجن .. أخذ الملك (حكيم) يقاتل بخفة وقوة عجيبة في ساحة القتال ،  وقد أخذ يطيح بسيفه الرقاب والأذرع ، وها هو سيفه يخترق الأجساد بلا توقف أو رحمة ، وأخذت الدماء الحارة تظهر هنا وهناك وفي كل مكان من حوله ، وعلى وجهه ، ولم يتوقف هو ثانية واحدة ليلتقط أنفاسه ، وكأنه أصبح ماكينة تستخدم للقتل بلا هوادة ، وأثناء قتاله المستميت .. تعثر أحد جنود جن الأرض ووقع أمامه ، ورفع الجني وجهه المصبوغ بالألوان الزاهية ، ورأى صاحبنا وهو يرفع سيفه بسرعة ليقتله ودق قلبه بعنف واتسعت عيناه ، وقبل أن يهوى الملك بسيفه توقف فجأة .. وكأنه رأى عفريت و تسمر مكانه و أحنى سيفه والدماء تتقاطر من على نصله ، والكل من حوله مشغول بالدفاع عن نفسه ، ومرت ثواني قليلة .. وقد أخذ الاثنان يبحلقان ببعضها في صمت و نسيا أنهما في ساحة حرب .

هتف الملك(حكيم) في دهشة و هو ينحني لينظر إلى صاحب الوجه المصبوغ :

– أهذا انت ؟!

يتبع …

تاريخ النشر : 2016-12-26

guest
16 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى