أدب الرعب والعام

6 ريختر – الجزء الأول

بقلم : عمر عويس – مصر

6 ريختر - الجزء الأول
كل هذا جعل مظهري كالزومبي بسبب الأرق مع العمل ..

ألقاه في اليم مكتوفاً و قال له .. إياك إياك أن تبتل بالماء

الحلاج ..

                               ….. 6 ريختر …..

– اطلع على ماسبيرو يا عم شفيق .
– برنامج يا نجم و لا ايه ؟
– آه .
– غريبة.. من زمان واحنا بنروح الانتاج الاعلامي ، مش عوايدك يعني يا فنان موضوع ماسبيرو ده ، أكيد حاجة كبيرة .
– هههههههههه.
– لااا .. ده يبئا حاجه كبيرة بجد .
– يا راجل يا طيب ولا كبيرة ولا حاجه ، كل الحكاية إن البرنامج ده مينفعش اعتذر ولا اخلع ، المخرج عِشرة قديمة وميصحش أول طلب يطلبه مني أقوله لأ .
– طول عمرك صاحب صاحبك يا أستاذ سامح ، بالتوفيق يارب يا فنان .

هل شاهدت أحدث افلامي ؟ متى كانت آخر مرة تقرأ فيها عن مغامراتي النسائية ؟ هل لديك بوستر لي معلق على حائط غرفتك ؟ الشعر الأسود المصفف للخلف بعناية ، و العيون العسلي المليئة بالنشاط دائماً ، و الأنف المدبب كملوك الرومان ، لن يختلف البوستر عن الواقع كثيراً ..

أنا سامح داوود ، نجم مصر و الوطن العربي لأفلام الأكشن ، بالتأكيد أنت تعرفني سواء كنت مهتماً بالسينما أو لا .. صحيح أن سني الآن تخطى الخمسون عاماً بقليل لكن انظر حولك .. ستجد أن السينما – حتى العالمية منها – لا تعترف بتلك الأمور الثانوية ، طالما لديك موهبة و مازلت قادراً على الحركة ، فالسينما تستطيع أن تجعلك نجم أفلام حركة ، و لك أن تسأل ( سلفستر ستالوني ) و ( أرنولد ) عن موضوع السن هذا و سيجيبونك بجملة واحدة .. إيرادات الشباك هي التي تقرر يا عزيزي .

كما ترى .. لازلت أحافظ على قوامي رشيقاً قوياً – إلى حد ما بالنسبة لسني – بسبب الجيم و النظام الغذائي القاسي الذي أسير عليه ، إلا أن ذلك لا يمنع من وجود بعض الإخفاقات لجسدي من آن لآخر – مثل ما حدث لي هذا الصباح – تضطرني أن ألغي التصوير ، لكن التصوير اليوم ليس فيلماً في مدينة الإنتاج الإعلامي أو حتى مشهد خارجي ، اليوم أنا ضيف في برنامج يتحدث عن حياة النجوم في مجالات شتي و القائمين عليه – و بخاصة المخرج – أصدقاء قدامى و لي معهم العديد من الذكريات و قت عملي كمذيع بماسبيرو في بداية حياتي العملية .

” على مهلك يا عم شفيق أنا مش مستعجل .. لسه بدري “

عم شفيق هو السائق الخاص بي ، معي منذ أول عهدي بالسينما ، و هو أقرب العاملين عندي لقلبي ، لا أعرف إن كان هذا بسبب طول فترة عمله معي و التي عاصر فيها الكثير من محطات حياتي الهامة ، أم بسبب سعة صدره و أسلوبه الهادىء الرزين الذي يقابلني به حتى عند ثورتي .. في نفس العمر تقريباً ، لكن صلعته و فوديه الشائبين و وجهه الممتلئ ذو النظرة الصافية يجعله أقرب إلى أب من سائق أو صديق ..

أرتاح في الحديث معه ، بل يصل أحياناً الحديث لمرحلة الفضفضة التي تحتاجها للتخلص من غيرة الشهرة و نفاق الوسط الفني ، باختصار .. عم شفيق هو ثمرة طازجة في وجبة مليئة بمكسبات الطعم و المواد الحافظة تأكلها على مدار اليوم .

أين زوجتي من هذا كله ، و ما هو دورها في حياتي ؟ أرى هذا التساؤل في عينك بعد تلميحي لمغامراتي النسائية و الفضفضة مع عم شفيق .. في الواقع لقد انفصلنا أنا و سمية منذ عشرون عاماً و يزيد ، بسبب عدم الإنجاب .. تركت أنا ماسبيرو وجذبتني السينما إليها جذباً ، أما هي فاستقالت من العمل و اتجهت لزوج و حياة جديدة ..

– تفتكر أنا متجوزتش ليه لحد دلوقتي يا عم شفيق ؟

– عشان سعادتك كنت بتحب المدام من وانتو لسه صغيرين أيام المعهد ولما سيبتو بعض خلاص بئا مفكرتش تعملها تاني ، صح سعادتك ؟

سألته متعجباً :
– و عرفت ازاي بئا يا حاج شفيق مع إن عمري ما اتكلمت معاك في الموضوع ده ؟

– العيال عندي مبيبطلوش يقرأوا عنك وعن أخبارك والجرايد ياما رغت في الموضوع ده ، بس اللي خلاني متأكد من كلام الجرايد ده إن إحنا كل ما نروح ماسبيرو كل فين وفين الاقيك سارح كده ولا مؤاخذه مسهّم .. مش مدام سميه كانت لا مؤاخذة بتشتغل في المونتاج هناك برضو ؟

– امممم اه ، والجرايد بتقول ايه بئا يا استاذ ؟

– العفو يا نجم ، ده انت اللي استاذنا .. الجرايد بتقول إنكم كنتو بتحبو بعض اوي وشيطان دخل بينكم تقريبا وكل واحد راح لحاله ، بس الحقيقة فين الله أعلم ..

– اممممم ، شيطان دخل بينا …ههههههه .. شيطان دخل بينا .. تصدق صح فعلا أصل مستحيل يكون فيه سبب تاني أصلا ، بس انت مؤمن بالكلام ده يا عم شفيق ؟ قصدي يعني جو الشياطين والجن والحسد والكلام ده ؟

– اومال يا استاذ !! الشيطان يفرح كده ويتمزج لما الراجل يطلق الست بتاعته.

– تمام تمام ، احنا اودامنا اد ايه كده يا عم شفيق لحد ما نوصل ؟

– حوالي ساعة .. أقل إن شاء الله .

– طيب ، فرصة احكيلك واسمع رأيك في اللي هحكيهولك ده .

– تقصد موضوعك انت ومدام سمية يا فنان ؟

– لأ .. عن الشيطان اللي دخل بيننا .

1992..

كنت في ذلك الوقت شاباً – أكثر من الآن – في أول العقد الرابع من العمر ، لم تعرف الشهرة طريقها إليه بعد ، إلى أن أتى اليوم الذي تغيرت فيه العديد من الأمور .. جاءتني فكرة برنامج عن المواهب التي لم تأخذ حقها في الشهرة ، ليس هذا هو الهام في الموضوع ، لقد اقترحت على رؤسائي أن يتم عرض البرنامج بطريقة البث المباشر التي كان مقتصر تطبيقها في ذلك الوقت على الغرب فقط .. الفكرة بسيطة لكنها تحتاج إلى إعداد قوي و أجهزة فنية ذات كفاءة مواكبة للتكنولوجيا الموجودة وقتها .. و قد كان ..

نَقل رئيس القناة الثانية فكرتي تلك إلى رئيس الجهاز و منه إلى وزير الإعلام مباشرةً ، و في شهور بسيطة أصبحت مسؤولاً بشكل مباشر عن تحويل الفكرة إلى واقع .. دعم غير مشروط من قيادات المبنى جعل الحلم حقيقة ، و بالطبع لم يكن ذلك حباً في ( سواد عيوني ) ، إنما كان لتحقيق المرجو من هذا الكيان الضخم .. ما تراه الآن من تراجع لدور ماسبيرو – في الألفية الجديدة – لم يكن مقبولاً في التسعينيات بأي حال من الأحوال ، لقد كان مبني الإذاعة والتليفزيون هو ما يحرك المواطن و يتحكم في المزاج العام للدولة دون مبالغة .

كان اسم البرنامج ( نجوم في الظل ) .. الاسم لن يروق لك الآن لكنه كان رناناً وقتها ، كنت تسير في شوارع القاهرة تجد إعلانات البرنامج في كل مكان ، على الأسوار و البيوت ، حتى عواميد الإنارة ، سعادتي كانت لا توصف ، أنت على وشك الوصول إلى القمة و أنت مازلت شاباً .. المذيع الشاب سامح داوود .. برنامج جديد كلياً يقدمه المذيع المتميز سامح داوود ، قل رأيك بصراحة في مواهب ( نجوم في الظل ) مع سامح داوود ..

ارتبط اسمي بالبرنامج و انتشرا سوياً يجوبان أنحاء المحروسة ، ضاربين موعداً مع الجمهور لأولى حلقات البرنامج في تمام الثامنة مساء يوم الأحد ، الحادي عشر من اكتوبر و لمدة ساعتين على وعدٍ بلقاء في نفس التوقيت من كل أسبوع .. أن يتم تخصيص ساعتين لك أسبوعياً في التليفزيون القومي – رغم سنك الصغير – هو إنجاز ، كان نجاحا يفوق الوصف فعلاً .

فكرة البرنامج باختصار هي مقابلة مواهب عربية لم تسمع عنها من قبل سواء كانت موهبة متعارف عليها كالغناء ، العزف ، كتابة الشعر أو موهبة غريبة مثل القدرات الخارقة والأمور النادرة ( جذب سيارة بأسنانك ، بلع الزجاج ، تجربة غامضة ….. الخ ) .

سيعرض الشخص موهبته و يتحدث عنها بشكل موجز ثم تخصص فقرة في الحلقة التالية لإعلان الفائز منهم بعد تقييم المشاهدين لكافة المواهب بلإضافة إلى وضع رقم هاتف الكنترول أسفل الشاشة لاستقبال اتصالات – محدودة نوعاً ما – لإضافة المزيد من الإثارة أثناء الحلقة .. لقد سبقت جميع برامج ( التوك شو ) و برامج مسابقات الغناء التي تشاهدها الآن يا عم شفيق بسنوات طويلة لكن هذا هو حال الدنيا ، الكل يعرف سامح داوود النجم السينمائي الآن ، لكن لا أحد يذكر مجهودي في هذا المجال ..

أكثر ما كان يقلقني في ذاك الوقت هو موضوع البث المباشر ، ما مدى قدرتي على إدارة ما يتم في الاستديو أثناء الحلقة دون توقف أو خطأ من الآخرين ؟ سأكون متواصلاً مع أغلب بيوت الجمهورية في هاتان الساعتان ، و حديث الشارع بعد انتهاء البرنامج ، فلا داعي مطلقاً أن يترك الناس مادة الحلقة و تكون أخطائي مادة للسخرية فيما بينهم .

أنت تعلم يا عم شفيق أن مُعِدّ البرنامج هو من يرتب كل ما سيقوله المذيع أثناء الحلقة، و المخرج ينظم خلية النحل هذه لتخرج للمشاهد صورة جيدة .. لكن الفكرة كانت تخصني ، و رغم أنني كنت أصغر عناصر البرنامج لكن صراحة – دون غرور – كنت أنا من ثابر حتى يتشكل البرنامج من الأساس و يحصل على ذاك الدعم الخارق ، لذا أغلب المسؤولية كانت تقع على عاتقي ، و من هذا المنطلق ساهمت في التصور النهائي لشكل البرنامج بدرجة عالية ..

اطلعت على كافة تفاصيل الإعداد و الإخراج مما منحني بعض الميزات ، مثل التعديل على تتر المقدمة ، رؤية مختلفة للديكور ، مقابلة نجوم الظل الذين هم مادة الحلقة ، و فحص كل موهبة على حده ، تقدم الكثير و الكثير لعرض موهبته و كان علينا تصفيتهم و اختيار من يصلح منهم لشَغل عشر حلقات على الأقل .. كنا في اليوم الأخير للمدة المحددة لاستقبال المواهب ( تم فتح باب التقدم للاختبار أسبوعان على ما أذكر ) .. و في الساعة الأخيرة منه رأيته للمرة الأولى في حياتي .. رأيت عليّ منير مظلوم .

اصطف المتقدمين ذاك اليوم أمامي أنا و المُعِد – في غرفة ملاصقة للاستديو خصصناها لفرز المواهب – و بداخل كل واحد منهم طموح كبير ليكون أحد أبطال حلقات ( نجوم في الظل ) ، كل فرد منهم كان يسلم صورة من بطاقته و يكتب هاتف منزله عند عامل الإعداد خارج الغرفة و من ثم يأتي إلينا ليصطف في الطابور ، تم تقسيمهم لمجموعتان فكان هو ضمن مجموعتي ..

لا أخفي عليك كان هناك شبه استقرار على خمسة و تسعون بالمائة من المواهب التي سيعرضها البرنامج في الحلقات الأولى ، لهذا ظهر علينا الملل من بداية اليوم ، جلست واضعاً ساقاً على ساق ، و استرخيت تماماً بمقعدي ، و بدأت في اختبارهم .. بعض المواهب كانت جيدة بالفعل لكنها لا ترقى للمستوى المطلوب ، هناك من يصفٍّر و يطبّل بأصابعه على فمه ، صوت مقبول لكنه خارج المنافسة الجادة ، شاعر متميز لكننا ضممنا العديد منهم في الأيام السابقة فأبلغه باحتمال اتصالنا به في حالة اعتذار أحدهم … إلخ ، كان عليّ منير مظلوم هو آخر المختبرين من مجموعتي ، ظهر أمامي مرة واحدة كأنه أتي من العدم ..

منذ الوهلة الأولى تشعر أنه مختلف ، هناك بعض البشر نقول أن له ( طلّة ) مميزة ، لكنه لم يكن كذلك يا عم شفيق إن كنت تفكر في هذا ، القصة هنا ليست طلّه أو حضور أبداً .. إنه سلطان كامل على أفعالك ، رجل يستطيع أن يتحكم في اتجاه الحديث بينك و بينه بالشكل الذي يحلو له ، يغوص بعقلك فتظهر شخصيتك ضعيفة أمامه ، لم أقابل أي شخص بهذا السحر قبله و أعتقد أن ذلك لن يحدث مرة ثانية ..

تريدني أن أصفه لك ؟ هو رجل شديد البياض ، شديد سواد الشعر و بؤبؤ العين ، طويل نوعاً ما ، كان يرتدي حلة سوداء معلق فوق الجيب العلوي لها نجمة ذهبية صغيرة ، و كذلك حذاء أسود برقبة ( بووت ) .. أما عيناه فحدث عنهما و لا حرج ، حادتان و في نفس الوقت بهما حزن شديد ، قاسيتان و لكنك لا تنفر منهما بل تتمنى أن تذهب داخلهما بلا عودة ، هذا الرجل يسلب منك قطعة من روحك لكنك – في نفس الوقت – تمنحها له عن طيب خاطر .. ظهر أمامي مرة واحدة – كما قلت لك – بسحره هذا فوجدتني أعدل من وضع ساقي و أجلس بشكل معتدل و دار بيننا هذا الحديث .

– اسمك و سنك و عنوانك ؟

– علي منير مظلوم .. خمس و أربعون عاماً .. أصولي من هذه الأرض لكني أتنقل كثيراً في الخارج .

أصولي ، هذه الأرض ، أتنقل كثيراً ..
هذه المفردات لا تأتي مجتمعة في جملة واحدة على لسان إنسان عادي بسهولة و خاصة حين تقال باللغة العربية الفصحلإ ..

– ما هي موهبتك يا أستاذ علي ؟

– قلت لك أنني أسافر كثيراً ، ألا ترى أن السفر موهبة تستحق أن تظهر للنور ؟

أجبته و قد بدأ كلامه يستفزني :
– في الحقيقة لا .. أعرف الكثير يسافرون بشكل يومي تقريباً .. أنا نفسي عندما أكون في مثل سنك سأكون عبرت محيطات و دول كثيرة و وقتها لن أفتخر بذلك و أسميه موهبة .

نظرت ببطء إلى عينيه لأرى تأثير ردي عليه ، لكن ظهر لي عدم ضيقه و قال في هدوء غريب :

– قصدت من السفر تجاربه و حكاويه .

– حتى و إن كنت تقصد ذلك فهذا لا يعني شيئاً أيضاً ، سأصل و أنا في سنك إلى نفس النتيجة و هذا لا …..

قاطعني قائلاً :
– إذاً لما الانتظار حتى تصبح في مثل سني ، أنا هنا لأعرض عليك ما لن تراه أو تسمعه مهما سافرت و لو عشت إلى يوم يبعثون ، فلماذا تحكم علی ما لم تدركه بعد ؟

صحت في توتر :
– لماذا تتحدث أنت بهذه الطريقة الغريبة و تستخدم كلمات لم يعد أحد يتكلم بها ؟!

رد بنفس الثبات العجيب :
– طريقة حديثي غريبة فما بالك بقصصي ؟ وافق يا سيد سامح و لن تندم بعد أن تسمع .. أعدك بذلك مثلما أعدك و أنت في سني سيكون لك اهتمامات أخرى غير السفر .

استلقيت برأسي للوراء و نظرت لسقف الغرفة لكي ألتقط أنفاسي .. لا أدري لماذا لم أصدّق هذا الرجل منذ بداية اللقاء ، يتحدثون كثيراً عن لغة الجسد و قراءة العيون و كل ذلك الهراء عن علم الفراسة لكن يظل إحساسي الأول هو الأمين الذي أصدقه دوماً .. هذا الرجل يكذب و أراد أن يثير فضولي كي أعرف سبب كذبه و نجح في ذلك ..

هنا نظرت حولي فلم أجد أحداً ، الكل اختفى من الغرفة – باستثنائنا – دون أن أشعر .. للحظة شعرت بالخوف ، هذا الرجل يخيفني و هو يعلم أنه يخيفني ، و لا تسألني كيف عرفت .. قمت من مكاني لأقف عند الباب ، لا أحد بالخارج أيضاً و كذلك الأستديو خاوي إلا من عامل الإعداد .. عدت إليه و أنا أحمد الله على وجود العامل معنا بنفس الدور ، ثم جلست على الكرسي واجماً من الخوف ، و قلت بصوت حاولت أن يكون قوياً لكنه خرج بشكل واهن كالمرضى :

– أستاذ علي ، حضرتك وقت الاختبار خلص وللأسف النهارده كان آخر يوم لفرز المواهب ، أنا آسف جدا لكن حضرتك اللي اتأخرت .

ضحك بشدة حتى ظهرت أسنانه شديدة البياض كوجهه – كان هذا أغرب رد فعل لشخص يُطرد من مكان ( بشياكة ) و قال :
– أنت تريد برنامج متميز يجذب المشاهد من الحلقة الأولى و أنا أعدك بهذا ، أريد أن تصل حكاياتي إلى الناس ، فلماذا تبتعد عني و ترفض حتى سماعي ؟ أنت متوجس مني يا سامح منذ أن رأيتني ، و هذا حقك .. لكننا في نفس الخندق يا بني ، و الكُره لا يعني أبداً أن نفترق .

صدرت مني همهمة ليس لها معنى على الإطلاق ثم صمت .. ظل ينظر إليّ لبضع ثوان ، فأمسكت بعض الأوراق من على الطاولة التي بجواري ، و اصطنعت التركيز بها أطول وقت ممكن .. لم أرد بالطبع و لو ظل واقفاً ليوم الدين ما رديت ، فقط أردت مغادرته بدون النظر في عينيه أو حتى رد السلام إذا ألقاه ..

” لك مني السلام حتى تطلبني بنفسك يوم العرض “

ختم بهذه الجملة الغامضة ، و تحرك ببطء ناحية الباب ، فتابعته حتى انصرف معلناً عودتي مرة أخرى لوعيي ..

تناولت كوباً كبيراً من الماء دفعة واحدة في رعب كأنه كابوس ابتليت به .. لم تمر عشر دقائق منذ بدأنا الحديث و تركني غارقاً في عرقي بهذا الشكل ، فكيف سيكون الحال إذا ما طاوعته و أشركته في فقرة تمتد لنصف الساعة ؟ بالتأكيد ستكون نهايتي العملية و الحياتية كذلك – هكذا همست لنفسي ..

ظللت جالسا دون حراك بضع ثوان حتى استجمعت قوتي و خرجت .. هنا تذكرت شيئاً ، هذا الرجل خاطبني باسمي – لا عليك من إلغائه أي لقب قبل اسمي كأننا أصدقاء طفولة – و هو لا يعرفني أصلاً ، كيف عرف اسمي؟! لا أحد من الذين تقدموا للاختبار يعرف أسماء مُمتحِنيه ، و راعينا ذلك جيداً حفاظاً على مصداقية البرنامج ، فكرت في عامل الإعداد بحكم أنه القائم على جمع كافة بيانات المتقدمين للاختبار و يستطيع الأستاذ علي شراء ذمته بسهولة أثناء وقوفهما سوياً ، لكن سرعان ما تجاوزت تلك الخاطرة لأنها لا تعني شيئاً .. ما الذي استفاده من معرفة اسمي ؟ لم تأتِ توصية مثلاً من أحد زملائي عليه أو شيء من هذا القبيل ثم .. البيانات .. بيانات هذا الرجل عند العامل و منها قد أعرف شيئاً عنه.. بياناته غالباً ستكشف الكثير .

اتجهت إلى الاستديو في الناحية المقابلة ، لأجد العامل جالساً و أمامه منضدة صغيرة عليها هاتف القرص و بعض أوراق المقبولين للظهور بالبرنامج ، من الواضح أنه يبلغهم بمواعيد البروفات في الأيام القادمة .. رآني فوقف سريعاً و سألني في دهشة :

– حضرتك لسه مروّحتش يا أستاذ سامح ؟

أجبت سؤاله بسؤال آخر :
– انت عندك بيانات واحد اسمه عليّ مظلوم ، راجل ابيضاني كده وكل لبسه اسود في اسود .. مسابش أي حاجه عندك ؟

– آه ساب .. ساب جواز سفره وتليفون نكلمه عليه ، بس ده لسه في المجموعة بتاعت النهارده يا أستاذ سامح ، حضرتك هتوافق عليه ؟ دا راجل محترم أوي .

ظهرت على وجهه ابتسامة سمجة تظهر غالباً حينما ( يغمزه ) أحدهم بمبلغ نظير خدمة قام بها .

– طيب اديني الباسبور كده.

– حاضر .

أخرج جواز السفر من درج الطاولة و قدمه لي ، ففتحته بلهفة عجيبة أثارت فضوله ، لا شيء.. لم أجد شيئاً مميزاً أو يدعو للدهشة باستثناء كثرة سفرياته ( الهند ، إيطاليا ، فرنسا ، الولايات المتحدة الأمريكية ، جامايكا .. الخ ) .. لا زوجة ، لا أولاد ، أما العنوان فكان منطقة هنا في القاهرة تتسم بالفقر الشديد علي ما أذكر .. لا أدري لماذا أصبت بالإحباط بعد فحص جواز السفر ؟ غادر هذا الغريب المكان تاركاً خلفه العديد من الأسئلة تدور في بالي ، إنَّ طبيعة البرنامج تعتمد على الغرابة ، لكن ليس إلى هذا الحد .. و ربما يكون أيضاً شخص عادي جداً ، صحيح أنني منبهر بالغموض الذي يغلف حديثه و طريقة ملبسه لكن قد يتضح بعد ذلك أنه شخص تافه ، خاوي ، مجرد هاوٍ للسفر ليس أكثر ، أو حتى ساحر ممن يقدمون عروض الأرنب و القبعة و كل هذه السخافات .. لا أدري

عدت إلى شقتي ذاك اليوم مرهقاً ، و بعد تناول الغذاء مع سمية مباشرة شعرت بصداع.. الكثير من الوجوه و المناقشات جعلتني أصاب بصداع رهيب و مستمر ، هذا الـ ( علي ) أيضاً زاد منه بسبب الحيرة التي سببها لي ، لكن أي ألم كانت هي علاجه دائماً .. سمية .. زوجتي الحنون ذات الروح الحاضرة التي تقبض على طاقتي السلبية و غضبي فأسكن تماماً و أتحول لشخص وديع بين يديها ..

كنا يومياً – طوال خمس سنوات هي مدة زواجنا – نجلس عصراً في الشرفة فتسألني هي عن يومي و تهوِّن عليّ بكلماتها الناعمة مشقة العمل ، و أظل أنا أدللها بحب صافي و ليس من باب الواجب فقط ..

سمية يا عم شفيق كانت تغسل همومي بالمعنى الحرفي للكلمة ، و تراني قائدها رغم أننا في نفس العمر و نعمل بمبنى واحد .. حكيت لها قصة هذا الغريب بالتفصيل و نحن نشرب الشاي ، و نظرات الحماس تملأ عينيها حتى وصلت للذروة عندما ألقى جملته المستفزة و انصرف ..

قالت لي وقد استفزتها الجملة هي أيضاً لكن بشكل عكسي :

– انت اكيد بتهرج يا سامح ، ده واحد ميتسابش ابدا ، انا متأكده إنه هيكون ( البج شو ) بتاع الحلقة .. رأيي إنك لازم تكلمه .

– مش عارف يا سمية ، أصلك مشوفتيهوش .. مخيف .. مخيف بجد .

صاحت كمن وجد ضالته :
– وده المطلوب زي ماهو قالك .. وبعدين يا حبيبي انت هتسمع منه الأول قبل أي حاجه يبئا ليه القلق ؟

– مش موضوع قلق خالص ، الراجل ده تحسيه كده طاقة شر جمبك ، انتي قاعده جمب شيء مرعب وكمان مش مفهوم .

– أنا متفائلة جدا بالفقرة دي وعموما انت حر في الآخر ، انا بس بقولك علي رأيي .

– هفكر ..

كانت تلك من المرات النادرة التي تخالفني سمية الرأي ، لكن حماسها جعلني أعيد النظر في الموقف بشكل عام ، و بدأت طريقة تفكيري تتغير جزئياً على آخر اليوم .. هذا الخوف الطفولي الذي سيطر عليّ لم يكن له داع أصلاً ، لقد بالغت في النفور من الأستاذ عليّ رغم علاقتنا السطحية التي لا تزيد عن دقائق قليلة ، هكذا قلت لنفسي ..

كانت فترة اختبار المواهب قد انتهت كما قلت لك و بدأنا في مرحلة الفرز النهائية ، ثم مرحلة تقسيمهم بترتيب معين و عمل بروفات لهذه الوجوه التي تري الكاميرا للمرة الأولى ..

صار لدينا مادة صالحة لعشر حلقات كاملة ، إلا أننا ركزنا على فقرات الحلقة الأولى ، و اخترنا اليوم السابق لها لعمل البروفة الأخيرة .. أصارحك القول يا عم شفيق ، بعد نقاشي مع سمية كنت أفكر يومياً في الاتصال بالأستاذ علي ، لا يمر صباح إلا و كنت أقسم فيه أنني سأكلمه ، و توقفني كرامتي في اللحظة الأخيرة ..حتى أثناء البروفات كنت أستحضر صورته في ذهني ، و اتخيله معي في الحلقة ، ثم يأتي إليَّ هاجس يثبّطني .. رهانه بأنني سأتصل به خلق بيننا حاجز ينمو كلما اقتلعته ..

أما الليل فحدث و لا حرج ، طاردتني كوابيس بشعة ، تارة أكسر إشارة المرور و شرطي يعدو خلفي ليقتلني ، و تارة أُزَف على عجوز شمطاء دميمة الوجه ، و تارة يدفنوني حياً …. إلخ ، كل هذا جعل مظهري كالزومبي بسبب الأرق مع العمل ، مما جعل المخرج يهدد باستبدالي .. بالنسبة لسمية ظلت ثابتة علي موقفها رغم فقدانها الأمل – تدريجياً – من مشاركته ، و أنا بقيت حائر بين كرامتي و (البج شو ) حتى اتخذت قراري النهائي مع البروفة الأخيرة ..

يتبــــــــــــع …

تاريخ النشر : 2017-01-15
guest
7 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى