أدب الرعب والعام

"جازية" نسيبة الجن

بقلم : ملاك الفيتوري – ليبيا
للتواصل : [email protected]

"جازية" نسيبة الجن
أنجبت جازية فتاةً ببشرة برونزية و شعر بني ، لم تشبه أي مولود في أيامه الأولى

يقال أنه في قديم الزمان كان هنالك امرأةٌ تدعى جازية تعيش مع زوجها في الصحراء ، كانت من قبيلةٍ معروفةٍ بالخصوبة و كثرة الإنجاب .. لكن  جازية كانت عاقراً و قد كان هذا الأمر نادراً بل مستحيل ، فهى الوحيدة من نساء القبيلة التي لم تنجب و قد ناهز عمرها الخمسين

كانت جازية امرأة حكيمة ذات رأي سديد و نظرةٍ بعيدةٍ في جميع أمور الحياة ، حيث كانت النسوة يجتمعن عندها يومياً بعد العصر و يتبادلن الحديث إلى ما قبل الغروب .. كانت تحبذ أن تحضر النسوة أبنائهن دائماً ، تداعب هذا و تقبل ذاك و كانت كثيرة الشرود بهم ..

في أحد الأيام اجتمعت النساء قبل الغروب بقليل في خيمة جازية ، و بينما كن يتبادلن الحديث دخل جروٌ أبيض صغير بفروٍ كثيف و عينين بشريتين كحيلتين الخيمة .. فزعت منه النساء ؛ باستثناء جازية التي لحقت به و قدمت له كسرة خبز .

بقيت النساء إلى ما بعد أذان الغروب بلحظات و بعدها همن بالمغادرة لكنهن فزعن من الجرو الذى بدا و كأنه يترقب جازية !
إحدى النساء : انظرن إنه ذات الجرو !!
جازية : إنه مسكين
إحدى النساء : ليس مسكين إنه شيطان
جازية : استغفر الله و ما أدراكِ أنتِ
إحدى النساء : انظرى إلى عينيه
جازية : و إن يكن .. في النهاية هو من مخلوقات الله
إحدى النساء : ويحك يا جازية ! إنه من الجن ، انظرى إليه
جازية : استغفري الله يا امرأة
إحدى النساء : هيا فلنطرده من هنا
جازية : لن تمسسنه بسوء .
إحدى النساء : فلنذهب من هنا … أسأل الله أن يتلبسك
جازية : لن يتلبسني و لَأُنجِب فتاةً و أزوجه بها

تعالت ضحكات النساء أثناء مغادرتهن بيت جازية ..

خلال أسبوعٍ واحدٍ مما حدث مرضت جازية مرضاً شديداً ، ضعف جسمها و أصابها هزال شديد .. لا تأكل و لا تشرب و لا تتحدث مع أحد .
حزن زوجها من وضعها و أراد أن يصطحبها للحكيم لكنها رفضت رفضاً قاطعاً ، فأتى بالحكيم إلى المنزل لكن جازية رفضت مقابلته و غضبت غضباً شديداً .. لم يسبق لها أن غضبت و رفعت صوتها على أحد ، كانت دائما المرأة الهادئة و الحكيمة التي تلاقي الناس بالحسنى و تبتسم في وجه العدو قبل الصديق .. تلاشت تلك الجازية و بقيت في خيمتها هيكل عظمي طريح الفراش !!

خلال أربعة أشهر برزت بطنها ، فعم الفرح و السرور جميع أفراد القبيلة ، و أقيمت الولائم على شرف الجازية و استمرت الاحتفالات حتى موعد ولادتها ..
أنجبت جازية فتاةً بعيونٍ زرقاء قاتمة و بشرة برونزية و شعر بني ، لم تشبه أي مولود في أيامه الأولى .. فكما نعلم المولود يبقى لأربعين يوماً أو أكثر كي تظهر ملامحه و تتخذ بشرته لونها الطبيعي ، أما ابنة الجازية فقد بدت و كأنها ذات الأربعة شهور بحجمها و شعرها و ملامحها ! و قد أسموها “سمرا”

خشت أم جازية على المولودة من الحسد و العين فقامت بتغطيتها ، و قالت أن الحكيم أمر بهذا لأنها مريضة و قد تموت ، مما أفسد فرحة أفراد القبيلة بجازية التي استعادت نضارتها و صحتها بعد الولادة .

***

مرت السنين و لم تستطع الجدة إخفاء جمال “سمرا”
التي سحرت كل من نظر إليها بعيونها الزرقاء الثاقبة و الواسعة ، و الخدود الموردة ، و الغمازتان على طرفي الشفاه المكتنزة ، و الجسد الممشوق و الشعر الذي يمسح آثار أقدامها على الرمال !! كما أن الحنكة و الجاذبية التي ورثتها عن والدتها قد زادا من جمالها ..

و ما إن بلغت الثامنة عشر حتى بدأ الخطاب بالتوافد على منزل جازية لكنها كانت ترفض كل من يتقدم لابنتها من أبناء شيوخ القبيلة و أبناء شيوخ القبائل المجاورة و أبناء الحكماء و كبار القوم .. كأية أم ؛ كانت جازية تريد تأمين حياة مثالية لابنتها و لكن أمرٌ ما كان يجعل جازية ترفض كل هؤلاء .. هي نفسها لم تعلم السبب !

في إحدى الليالي نامت جازية بجانب ابنتها لكنها استيقظت منتصف الليل من حلم غريب .. فقد رأت في المنام أن الجرو الذي زارها مسبقاً قد كبر و أصبح كلباً بحجم الحصان ، و على صدره وشم قفل و مفتاح ..
قال : أوفي بعهدك يا جازية
فركت عينيها و قالت في نفسها أنه مجرد منام بشع و ما إن أغمضتهما ثانيةً حتى جلست في مكانها من الفزع ..

فقد أطلقت ابنتها صرخات مرعبة و ضغط على رأسها و رددت لن أتزوجك لن أتزوجك ..
أمسكت جازية بيدى ابنتها و وضعت رأسها على صدرها قائلةً : إنه حلم .. اهدئي إنه حلم
سمرا : لم يكن حلماً ..
جازية : ماذا كان ؟
سمرا : كان جروٌ جميل ، له عينان ساحرتان .. لقد أخذني إلى البئر و بعدها تحول إلى كلبٍ بحجم الحصان ، و على صدره وشم قفلٍ و مفتاح ، دفعني إلى البئر قائلاً : قولي للجازية أن تفي بعهدها .
سألته أي عهد ؟ قال إن الجازية كانت عاقر و قد و عدتني أن تنجب فتاةً و تزوجني إياها ..
فصرخت عليه لن أتزوجك فدفعني لأسقط في البئر .

في اليوم التالي و قد نفدت المياه من عند الجازية فذهبت للبئر و هنالك دلت دلوها و لم تستطع إخراجه على غير العادة ، و أثناء محاولاتها باغتها رجلٌ من الخلف و سحب الدلو ليخرجه و يضعه في يد الجازية و يمسك بها على ممسك الدلو بقوة كادت تكسر كف يدها قائلاً : اتذكريني ؟
جازية : لا و الله
الرجل : اسمي آدم و قد أتيت لزيارتك من قبل ! انظري إلى عيني
جازية : إن عينيك كالشمس لا ينظر لهما
آدم : لقد قطعتي عهداً .. 

نظر لها ثم أكمل : إن قدمتِ لي ابنتك كزوجة فسأجعلها تأتي لزيارتك ، كما أنني سأجعلها ترى قومي على هيئة بشر ، و تعيش في قصر كما القصور التي تسمعون عنها في الحكايات ، و سأجعلها أسعد امرأةٍ في الكون .. و إن لم توافقي فسآخذها عنوةً و لن تريها مجدداً ، كما أنني سأجعلها تعيش تحت الأرض و ترى قومي على سجيتهم

جازية : سأقدمها لك بشرط أن تعدني .. إنها لن ترى ما يفزعها و أنك سترعاها
آدم : أعد بهذا
جازية : و تحبها
آدم : عليك الأمان ، فملك الجن لا يسلّم قلبه إلا مرةً واحدة ،
و أنا قلبي لقد سلبته ابنتك منذ أن ولِدت .
جازية : إذاً تعال لزيارة شيخ القبيلة فهو المسؤول عن أمور الزواج

بعد أسبوع جاء قوم ” آدم ” بدونه تبدو عليهم سيم الملوك بخمس مئة ناقة حمراء و مئة ألف من الغنم و صناديق العطور و الأقمشة و الذهب

تقدموا للشيخ بطلبهم الذي بدوره سأل الجازية و زوجها ، وافقت جازية و رفض زوجها بحجة أن أرض القوم بعيدة و أنها ابنتهم الوحيدة التي رزقوا بها بعد أربعين عامٍ من العقم ، لكن جازية اقنعته بأنها مصلحة ابنتهم أهم من أي شيء ، و أنها ستعيش كما الملوك ، و أنها دار لا تعوض و خسارة إن لم يبدل رأيه سريعاً و بعد تفكير اقتنع زوجها و وافق .

أقيم لسمرا موكب لم تشهد البادية له مثيل ، و في مسيرة ثلاثةِ أشهرٍ و عشرين يوم وصلت سمرا إلى مملكة أكاليس أرض خضراء ساحرة أنهار و جبال و أشجار الفاكهة و السكان الباسمين الودودين .. أرض أكاليس التي عاش فيها الجن مع الأنس بسلام على مدار قرونٍ عديدة كانت تتوسطها قلعة عملاقة تلتف حولها الأبراج العالية التي تتدلى منها الإعلام الخضراء ، تتوسطها شجرة سوداء على يمينها قلم و على يسارها سيف مغطى بالدم .

فتحت البوابة الضخمة و انحنى مئات العبيد و الحرس لدخول موكب  عروس الملك .. و صلت العربة إلى مدخل القصر الذي أدهش العروس ارتفاعه ، كما أنها لم ترَ مباني من قبل .. دخلت القصر المطلي بالذهب و الأبواب المرصعة بالأحجار الكريمة و الممتلئ باللوحات الفنية في قاعة الاستقبال .

كان العبيد يدقون الطبول و ينشدون أناشيد الزفاف ، وصلت إلى منتصف القاعة التي كان فيها سلمٌ كبير و مرتفع مغطى بالسجاد الأحمر القاتم ، قطعت ممرات القصر الفاخرة لتصل إلى الطريق الذهبي الذي  يؤدي إلى غرفتها التي بدت و كأنه بحجم القصر نفسه .. تتوسطها نافورة مياهٍ ضخمةٍ ، و على اليسار سرير دائري ضخم مغطى بالمخمل الأحمر ، و تحيط به الستائر الشفافة التي تتدلى من السقف .. و على اليمين حمام بخار مليء بالورود و الزيوت الفاخرة تفوح منه العطور الساحرة ، و شرفة واسعة بابها بحجم حائط الغرفة بها كراسي من المخمل الأحمر و طاولة من الكريستال بجانب الشرفة قفص ذهبي ضخم بداخله طاووس أبيض و آخر أزرق اللون .

جلست سمرا في الحمام و أحطن بها الجواري ، هذه تمدح عيناها و هذه تعطر شعرها ، و هذة تتحدث عن الملك و كم هو قوي و وسيم ، و تلك تدلك جسدها

سألت سمرا : أين هو متى سأراه .. ؟
إحدى الجوارى : من ؟
قالتها وضج الجميع بالضحك

انتهت من حمامها و كانت الجواري قد جهزن لها ثوباً أرسله الملك و أوصى بأن ترتديه ، لكن سمرا أصرت أن ترتدي الثوب الذي أوصت به والدتها .. كان ثوباً أحمراً عاري الصدر و الظهر و الكتفين بفتحة طويلة من عند الساق ، سرحت شعرها الذي كان بطولها و تمددت على السرير ، و مع غروب الشمس بدأ الظلام يعم الغرفة التي كانت بعكس القصر المليء بالمواقد و الشموع 

غفت قليلاً لكنها استيقظت على ضحكات الجواري فزعةً من الظلام .. سألت إحدى الجوارى عن الملك فتجاهلتها و قدمت له كوباً و طلبت منها أن تحتسيه كله
سمرا : و ما هذا ؟
إحدى الجوارى : نسميه نبيذ و نشربه في المناسبات
من عاداتنا أن تحتسي العروس كأساً قبل قدوم العريس بقليل
سمرا : هل سيأتي بعد قليل ؟؟
عج المكان بالضحك مرةً أخرى ..

كانت بالكاد ترى الجوارى أثناء مغادرتهن بسبب الظلام .. احتست الكأس و سقطت على ظهرها محاولةً أن تفتح عينيها لترى العريس الذي كان يقترب منها ، طويل القامة عريض الكتفين ، لم تتمكن من رؤية ملامحه ، آخر ما قد رأته كان ينزع قميصه و هو يقترب منها .. 

استيقظت فى اليوم التالي لتجد نفسها عاجزةً تماماً عن الحركة تغطيعا قطعة حرير بيضاء ملطخة بالدم ..

نامت مرةً أخرى لتستيقظ و الشمس قد توسطت كبد السماء و شارفت على الغروب ..

دخلت الجوارى غرفتها لترتيب و تجهيز الحمام و تقديم الفطور ، فسألت عن الملك و أخبرنها أنه غادر مبكراً بسبب خجله من والدته ..

طلبت مقابله والدته و ذهبت إليها في جناحها الذي لا يقل رفاهية عن جناح الملك .. تبادلن الحديث ، من ثم عادت إلى غرفته عند الغروب .. طلبت من الخدم إشعال الشموع لكنهن لم يجبن طلبها مما أثار غضبها و جعلها تلجأ لأم الملك حتى ينفذن أوامرها .. و فعلن ما ترغب به ، و بعد الغروب قدمن لها نفس الكأس لتحتسيه و تفقد الوعي و ترى ظلال عريسها و هو يقترب منها أثناء خلعه لثيابه و لتستيقظ و لا تجده بجانبها ..

استمر الوضع لمدة أسبوعين حتى لاحظت سمرا أن السر في ذلك الكأس فقررت ألا تحتسيه ..

في اليوم التالي قدمت لها الجارية الكأس فتظاهرت بأحتسائه لكنها لم تفعل ، ثم تظاهرت بالنوم حتى اقترب آدم منها و أصبح أمامها مباشرةً عاري الصدر .. فتحت عينيها و جلست ..

كان طويل القامة عريض الكتفين بجسد ممشوق و عيون سوداء و وجه مضلع و لحية خفيفة و شعر أسود كثيف و ناعم يصل إلى كتفيه .. لكن ما لفت انتباهها هو وشم القفل و المفتاح على صدره

قال غاضباً : لقد فعلتيها
سمرا : هل هذا أنت ؟؟
آدم : لمَ فعلتيها ؟
سمرا : من أنت ؟
اقترب آدم منها ليضع يده على ذقنها قائلاً : أنا الملك آدم ..
قالها مشدداً على حرف الميم ، و قبَّل جبينها لتفقد الوعي و تستيقظ في و سط صحراءٍ قاحلة ..

كانت كلما تحاول الخروج تعود لنفس البقعة لتفقد الوعي و تستيقظ ببطن منتفخة..  بمرور أيامٍ قليلةٍ تنتفخ بطنها أكثر ، و تشعر بحركةٍ قويةٍ داخلها فتحاول الخروج من تلك الدائرة المغلقة لتصل إلى نخلة بجانب بئر فتأكل و تشرب ليمر أسبوع و يأتيها الطلق ، فتضع مولوداً ذكراً بحجم ولدٍ في عامه الأول يحمل عينا آدم و شعره و الوشم الذي في صدره

عندما صرخ الطفل صرخته الأولى سمعها آدم في أقاصي الأرض ، فقام من مقعده و قال : هذا اليوم أعلن أني أحببت من أكره ، و سامحت من أخطأ في حقي ، و رفعت الضرائب ، و أخرجت الأسرى من أسرهم ، و حررت العبيد من عبوديتهم .

و امتطى حصانه و وصل إلى مولوده خلال طرفة عين .. و قد عفى عن سمرا و عاش الجميع في سلام و وئام .
 

تاريخ النشر : 2017-04-09
guest
24 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى