أدب الرعب والعام

(أمل) بلا أمل

بقلم : هايدي – اليمن السعيد

(أمل) بلا أمل
سوف أتحرر منكِ ولو كان الثمن بقتلك

في تلك الزاوية على قارعة الطريق تلفتت (أمل) يُمنة ويُسرة لتتأكد من خلو المكان , دخلت إلى ذلك الزقاق المظلم على أمل أن تجد ضالتها ,استمرت بالسير بخطى سريعة وهي تنظر إلى كل الأبواب التي تتخطاها علها تجدها, فالوقت الآن منتصف الظهيرة .

كان الشارع خالي إلا من بعض العابرين , وصلت إلى مفترق طرق, سلكت الطريق الوعر ورأت المكان المنشود, ذاك الباب الأرجواني الصغير, دقت عليه ترجو أن تفي (خوشيار) بوعدها وتكون في انتظارها, فُتح الباب سمعت صوتاً : تفضلي يا ابنتي .

همت بالدخول وتلك المرأة المتشحة بالسواد تتقدمها لدخول المنزل القديم ذو الطلاء المتشقق المظلم, وأجلستها على ذلك الكرسي الخشبي أمامها, بينهما إناء من فخار به الكثير من الجمر, وعلى أحد زوايا الغرفة قطة سوداء مذبوحة معلقة من قدميها لتتساقط قطرات دمها في وعاء على الأرض.
مفزوعة من هول المنظر حملقت (أمل ) بالمرأة التي مُلِئ وجهها بالتجاعيد , وتوسط ذقنها وشم غجري لها عينين ضيقتان ونظرة مخيفة وثغر قد جار عليه الزمن .
– خوشيار: أعرف يا ابنتي سبب مجيئك ولكن أريد سماع شكواكِ .
– أمل : وكيف عرفتِ بمشكلتي يا سيدتي؟
– لدي مصادري يا عزيزتي , أرى الخفايا من الأمور أسردي لي ولا تجزعي.
– حسناً يا سيدتي, أنا فتاة جامعية, أتعرض للتنمر كل يوم في الكلية, لدرجة أني حاولت أن انتحر مراراً, فكرت في الانتساب ولم أستطع, فدراستي هي الشيء الوحيد الذي يؤنس وحدتي, فقد ابتعد عني الأصدقاء والزملاء في الكلية, خوفاً من أن يصبحوا هدفاً للمتنمرين بمرافقتي, وأزداد بطش أولئك المتنمرين حتى أصبحتُ زائرة دائمة في العيادة النفسية, شُخصت حالتي النفسية بالاكتئاب الحاد, بل ازدادوا شراً, أنهم يتربصون بي دائماً ليلقوا علي دعاباتهم السِمجة , وتطاولوا علي بالأذية والتجريح حتى أصبحت اخرج من القاعة جرياً , أنهم يضطهدوني نفسياً وعقلياً وعندما فكرت بأن أوجههم نكلوا بي تنكيلاً يا سيدتي وصرت أمشي مطأطئة الرأس ليس لدي القدرة على مواجهة أحد .

– فهمت… وأنتِ تريدين التخلص من هذا العبء والمضي في حياتك, كنظيراتك .

– نعم يا سيدتي وأرجو أن يكون لديك الحل.

أحضرت (خوشيار) ذلك الوعاء وقد مُلئ بدم تلك القطة المعلقة, وأخذت ورقة بيضاء وبدأت برسم الخانات بريشة مضرجة بالدماء, و تكتب حروفاً مقلوبة في تلك الخانات الضيقة, كان شكله غريباً, ولا يستطيع أحد قرأته, لم تشكل أي من الحروف جملة مفيدة, ثم أخذت حفنة من البخور, ذوو رائحة مزعجة, من وعاءٍ أخر ورمتها على تلك الجمرات, فارتفعت النار عالياً, لدرجة أخافت (أمل ) فأطلقت صرخة مدوية وهمت بالوقوف, تمتمت (خوشيار) بضع كلمات ونفخت في تلك الورقة .

التفتت (خوشيار) إلى (أمل) قائلة : 
ـ خذي هذه الورقة و احفظيها في أي شيء ملازم لكِ أثناء خروجك, كمحفظة نقودك أو غلاف هاتفك النقال, كتبتُ لكِ فيها تعاويذ ستلجم لسان كل من تستهويه نفسه التنمر عليكِ, ستحميك من أي أحد تسول له نفسه أذيتك بقول أو فعل أو حتى بالنظر, وستجلب لكِ القبول والمحبة لدى الناس.

تناولت (أمل) الورقة بيد مرتجفة, بأمل أن مشاكلها ستنتهي نهائياً, وستعيش حياة عادية لأنها لم تطمح لأكثر من حياة هادئة تخلو من الأذية .

– شكراً لكِ يا سيدتي, والتقطت حقيبتها الجلدية وأخرجت مبلغاً ضخماً من النقود التي اتفقتا عليها مسبقاً, وسلمتها المعلوم عائدة إلى المنزل لبداية جديدة.

***

مرت الأشهر سريعاً والأسابيع و الأيام أسرع , كانت أمل تعيش كل يوم بيومه في الكلية كانت تلك الفتاة المشرقة التي تشع طاقة ايجابية, ذات الشعبية, صديقة الكل المتفوقة دراسياً, كان الجميع بدون استثناء يحبونها ويحترمونها, لم تسمع بعد الآن إلا المجاملات والفضائل, توقفت زيارتها الدورية للعيادة النفسية, اختيرت كطالب العام المثالي, طلاب يتخاصمون لأن تكون في مشروعهم لا بل تكون قائد فريقهم .

وحين عودتها للمنزل تكون متعبة من الأبحاث والمشاريع الدراسية لترمي نفسها على فراشها الوثير وتغفو لتنام بعمق.. ليعود ذلك الكابوس مجدداً, الذي يتكرر باستمرار منذ تلك الليلة التي غيرت حاضرها تماماً, عينين حمراوين دمويتين, مخيفتين كعيني القطط تتبعانها وهي تهرب منها, و تحاول الخروج من ظلام حالك, وصوت امرأة تقول : 
سوف أتحرر منكِ ولو كان الثمن بقتلك .
تسألها أمل بهلع : من أنتِ ؟ وماذا تريدين مني ؟
ثم يدين قذرتين ذات أظافر حادة كالمخالب, تظهران من العدم , وتمسك برقبتها وتضغط بقوة .
تصرخ (أمل) : لا اتركيني ………….اتر…..كيني.
وتصحو فزعة من ذلك الكابوس وهي تلهث ..

وفي صباح اليوم التالي, استيقظت بنشاطها المعتاد للاستعداد للذهاب إلى الكلية, دخلت إلى المرحاض, نظرت في المرآة : لم تصدق ما تراه!!! حملقت مجدداً, لقد كانت هي بتلك العينان تحدق بنفسها بهما.
صرخت : يا إلهي !!
وضعت يديها على عينياها تفركهما, وهي تتراجع للخلف صارخة
أمل : عيناي ..أمي ساعديني …….عين ااااااي

دخلت والدتها بهلع إلى المرحاض
والدتها : أمل ماذا بكِ ؟
أمل : عيناي يا أمي ساعديني .
أمسكت الأم يدي ابنتها و سحبتهما بعيداً عن عينيها
والدتها : اهدئي و أريني ؟
نظرت إلى عينيها, ووجهتها إلى المرآة وقالت : أنظري .

عادت (أمل) بنظرها إلى المرآة خائفة ومرتعدة, الغريب أنها لم تكن سوى عينيها, بلعت ريقها وقالت بارتباك :
– لقد كانا هناك …… رأيتهما أنظر بهما إلى نفسي …..أقسم يا أمي عيناي كانتا حمراوان كالدم .
نظرت الأم إلى ابنتها بتشكك : يا عزيزتي لابد أنكِ متوترة من اقترب الامتحانات والسهر لا أكثر, عليكِ بالراحة لبعض الوقت
أمل : لا لا لا أرجوكِ صدقيني أنا أرى تلك العينين في أحلامي يا أمي .
الأم :حسناً البعض يتخيل الأشياء أو تأتيه الكوابيس من قلة النوم يا عزيزتي, فلتجهزي لقد تأخرت بالفعل عن محاضرتك.

وبالفعل ذهبت إلى الجامعة مثقلة بالتفكير, انتهت محاضرتها مبكراً, فعزمت الذهاب إلى (خوشيار) لتعرف المزيد حول تلك المرأة من الكابوس, كان منتصف النهار عندما دخلت إلى ذلك الزقاق, وهي تمشي بخطوات سريعة, وصلت إلى مفترق الطرق, لترى سيارتي الإسعاف والشرطة, و تجمهر للجموع أمام الباب الأرجواني, وإذا بها ترى حمالة عليها جثة مغطاة بشرشف أبيض, سمعت دقات قلبها كطنين في أذنيها.
سألت أحد المتجمهرين : 
– لما المسعفين هنا ؟ ولمن هذه الجثة يا سيدي ؟
رد الرجل: 
– هي لصاحبة هذا البيت تدعى (خوشيار), سمعنا صباح هذا اليوم صوتها وهي تصرخ كثيرا بفزع, بدا الأمر كأن أحدهم يهاجمها, حاولنا الدخول لمساعدتها بكسر الباب لكن لم يجدي ذلك نفعاً, فاتصلنا بالشرطة, وفجأة توقفت الصرخات و عم الهدوء, وفُتح الباب على مصراعيه, فدخلنا ووجدناها هناك جثة هامدة,غارقة بدمها, وعلى رقبتها خدوش, بحثنا في البيت وخارجه ولم نجد أثراً لأحد, وللآن لم يُعرف القاتل, والأغرب لم يُرَ أحد يدخل بيتها هذا الصباح !

فزعت (أمل), و تسألت هل يمكن أن تكون قاتلة (خوشيار) تلك المرأة من الحلم .

***

في اليوم التالي عادت (أمل) من الكلية مكتئبة حزينة, فقد كان يومها كالأيام الخوالي, التي كانت تتعرض فيها لفنون التنمر لا بل ازداد سوءاً , أولا بتلك الأحلام التي تفزعها, ثم موت خوشيار خنقاً بطريقة تحاكي كوابيسها, والآن التنمر من جديد, أخرجت الورقة التي بها الطلاسم, فتفاجئت بأنها بيضاء تماماً, كأنها لم تُستخدم قط, تأكدت أمل من أن السحر انتهى بموت (خوشيار) ..

لكن الغريب أن الأحلام المفزعة لم تتوقف, كانت مستمرة, دخلت إلى المرحاض, مرت بخطوات سريعة, فقد كانت تتجنب المرآة من بعد ذلك الصباح المشؤوم, لكن قادها فضولها إلى النظر خِلسة لتلك المرآة, وتسمرت في مكانها, يأبى صوتها الخروج, مرتجفة حتى الموت من هول ما تراه, كانت هناك !! خلفها تماماً.. الجنية من الحلم, مخيفة بوجه شيطاني شاحب, وقرنين في جبهتها أحدهما مكسور, و شعر أشعث كثيف, تنظر إليها بتلك العينيين الدمويتين , بابتسامة تنم عن لؤم وتُظهر أسنان حادة .

غطت كتفي أمل بيديها ذات المخالب, ألتفتت أمل للخلف ببطءٍ شديد, لتجد تلك الجنية من أحلامها, لتقابلها وجهاً لوجه.
قالت الجنية: أخيراً التقينا يا معذبتي .
تلعثمت (أمل) : كييييف أكــــ ووون معذبتكِ وأنا لم أركِ قبل الآن؟
قهقهت تلك الجنية بضحكة عالية مخيفة مبرزة نابيها الطويلين : لقد رأيتني كثيراً في أحلامك منذ تلك الليلة التي أتيتي بها إلى تلك العجوز ؟
أمل بصوت مهتز : نعم ..لكن لماذا أكون معذبتك بينما أنا لا أعرفك ولم التقي بكِ قط؟
الجنية بنبرة غاضبة : ألم تأتي إلى تلك العجوز تلك الليلة حتى تساعدكِ , ألم تكتب لكِ تلك الطلاسم المشؤومة؟
أمل: نعم لكن ما علاقتكِ بالأمر ؟
الجنية :كيف برأيك كُتبت تلك الطلاسم أيتها الحمقاء ؟
لقد كنتُ ملكة قومي, حتى صبت تلك العجوز سحرها علي وخطفني مردتها, وحبستني في ذلك الطلسم اللعين, لأُسجن في جسمك الهزيل, كخادمة لسحرك, وقد قلت لكِ في أحلامكِ, أني سوف أتحرر, وقد تحررتُ بالفعل عندما وضعت العجوز الشمطاء قلادتها السحرية التي تحميها من خدام السحر جانباً, فانتهزتُ الفرصة وانتقمتُ منها بقتلها وها أنا ذا أمامكِ حرة .

أمل متعلثمة بخوف :أأأأأنتِ قتلتي خوشششيار ؟
الجنية :نعم و أحزري ماذا؟ لقد أتيت للانتقام منكِ بقتلك ؟
أمل : لا أرجوكِ..لا..لا.. لم أكن اعلم أن أحداً سوف يتأذى أو يُحبس أرجوكِ لا تقتليني .

تعالت الضحكات الشيطانية في المكان مجدداً, بينما تقترب بخطواتها البطيئة لتلك المسافة الصغيرة التي تفصلهما, فتراجعت (أمل) إلى الخلف, حتى التصقت بالجدار, مدت الجنية يديها الكبيرتان تمسك عنقها, بينما تحاول( أمل) التملص منها, ولكنها كانت قوية جداً يديها كالكماشة, بينما مخالب تحفر العروق الطرية لعنقها وانقطعت أنفاسها وهي ترى شريط حياتها يمر سريعاً أمامها ..قبل أن ينقطع تماماً وتخرج من دوامة الظلام على صوت يناديها :

– أمل …أمل

ويقترب الصوت أكثر , ويد الجنية تشتد على عنقها ليزداد الصوت وضوحاً…

– يا آنسة أمل!!!

لتصحو أمل من غفوتها جزعه تصرخ : لا لا أرجوكِ لا تقتليني, في قاعة الجامعة وصوت المحاضر يقول :
– هل رأيتِ كابوساً في حلمك يا عزيزتي ؟ أرجو أن لا أكون أيقظتُ معالي حضرتكم من النوم؟

ارتفعت الأصوات في القاعة مابين قهقهةٍ وضحك, و الملاحظات ذاتها تصل إلى مسامعها, وهي تلتفت لترى الوجوه الضاحكة الساخرة, وللمرة الأولى منذ زمن بعيد, لا تزعجها تلك النظرات, الضحكات و الملاحظات ، وضحكت معهم بسعادة لنجاتها… 

حينها أحست بتربيتةٍ خفيفةٍ على كتفها .
يا الهي …………لا …………لا .
أنها هنا تربت على كتفها وتنظر إليها بسخرية ولمحة من الذكريات تعود إلى عقلها ……إلى تلك اللحظة في الحمام عندما كادت الجنية تقتلها, تركتها فجأة لتلتقط أنفاسها, وتلك الشيطانة تقهق ضاحكة قائلة لها :
هل اعتقدتِ إني سوف أقتلك بعد أن سلمتني زمام حياتكِ ؟! سأكون متنمرة على حياتك البائسة, وستكونين خادمتي, ولن تتحرري مني أبداً…
 

تاريخ النشر : 2017-04-30

هايدي

اليمن
guest
40 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى