أدب الرعب والعام

الشـجرة ( ج1 )

بقلم : البراء – مصر
للتواصل : [email protected]

الشـجرة ( ج1 )
شجرة مانجو في الهيئة.. شجرة الحياة في المضمون

“لسوف تندهش.. أنا أضمن لك هذا يا دكتور”
عدل الأخير من وضعية نظارته و هو يقول :
“لا داعي للألقاب.. أنا لست دكتوراً بالمعنى الحرفي بالكلمة.. يمكنك أن تناديني بعمر فقط”
” يالك من شخص متواضع يا دكتور.. لقد أحببتك منذ النظرة الأولى.. أنا أستطيع أن أعرف الشخص الجيد من الشخص السيئ بنظرة واحدة.. و حينما رأيتك عرفت أنك من الـ….”

كان عمر على وشك الدخول في نوبة صداع من كثرة كلام عبد العال ، فكر في أن 80 بالمائة من كلام الريفيين الحماسي هذا هو مجرد كذب وقتي مفتعل ، إلا إنهم برغم هذا يملكون ذلك الشيء الذي مهما حاول أن يملكه فلن يستطيع.. البساطة ، أهل الريف بسطاء في كل شيء ، حتى أفكارهم عن الحياة بسيطة و ساذجة ، أكبر حلم لديهم هو العيش بسلام وسط عائلاتهم.. أن تكون حياً في هذا الكون وسط آلاف المجرات الأخرى و لا تتمنى غير أن تستمر في العيش لَهذا شيء رائع .

“و أقسم لك يا دكتور أنا لم أرَ هذه الأعراض في أي مكان آخر.. و..”
قالها فنظر له عمر نظرة جانبية ، عبدالعال الفلاح البسيط ليس طبيباً كي يتعرف على أعراض أي مرض.. كما أنه لم يذهب إلى أي مكان آخر من الأساس ، في هذه اللحظة مرا بجانب بيت العمدة.. كان الصوت الصادر من هناك غير قابل لأن يتم التغاضي عنه ، فتسائل عمر فجأة :
“ما الذي يحدث ؟”
“نفس العراك بين العمدة و السكان.. أو الخفر و السكان”
“على ماذا يتعاركون ؟”
“لا أعرف يتناقشون حول مستقبل القرية و أشياء أخرى.. هذا لا يهمني في شيء طالما أنا أعيش و طالما أنا بخير إذاً لا يهم”

و هنا رجع لذهن عمر ما كان يفكر به منذ قليل.. لقد كانت قولة الرجل بليغة فاصلة.. طالما أنا أعيش طالما أنا بخير فليحترق العالم .

“هل رأيت في حياتك يا دكتور مرض يجعل المصاب غير قابل للأذية ؟ “
“هذا ليس مرضاً يا عبد العال.. إنها قدرة رائعة أتمنى أن تكون لدي مثلها”
“بالطبع لا.. إنه مرض خطير يا دكتور”
“أي مرض يجب أن يكون لديه سلبيات ، هل هناك سلبيات لهذا المرض ؟ هل يعوي أخاك كالذئاب بالليل مثلا ؟!”
“لا.. لكن الأمر خطير.. أقسم لك بهذا يا دكتور”
“الأمر بالطبع مثير للريبة ولا يعد شيئاً طبيعياً لكن هذا لا يعني بالضرورة من أن هذا شيء سيئ .. يبدو لي أمر رائع”
“لك حرية رأيك يا دكتور”

ضحك عمر ضحكة قصيرة و هو يقول :
“أنت تعرف أنني لا أصدقك بجميع الأحوال أليس كذلك.. أنا كنت أرد إفتراضاً ، لا يوجد شخص لا يمكن أذيته حقيقةً “
“سوف ترى بنفسك.. سوف ترى”
“أنا لست هنا كي أرى يا عبد العال.. لولا إصرار أمي ما كنت قد رأيتني معك”
“أنت تبر بها كثيراً يا دكتور.. أتعلم ؟! أنها تدعو لك دائماً “
“……”

***

و في منزل عبد العال جلس عمر.. جلس و هو يراقب المكان بهدوء منتظراً أخا عبد العال الزاعم أنه لا يوجد شيء يستطيع أذيته جسدياً ، إن الأمر فيزيائياً و منطقياً و نظرياً مستحيل ، لكن عمر كان قد جهز بعض السناريوهات الرائعة إذا ما كان الأمر حقيقة ، لسوف يعذبه حقاً إذا استدعى الأمر ، و في هذه اللحظة دخل عبد العال و أخوه ، قدم عبد العال أخوه المدعو عبد القوي لعمر بضيق ، كان خائفاً علي أخيه بعقلية الريفيين خاصته .

“هلّا بدأنا يا عبدالقوي ؟”
“افعل بي ما تشاء أنا جاهز”
نظر عمر لعبدالعال و هو يقول :
“إنه واثق.. أنا أعشق الواثقين”

في البداية أخرج عمر ولاعة غاز صغيرة ثم أشعلها و بدأ يوجه النيران نحو يد عبد القوي ، عبد القوي لم يتحرك إلا ليضرب تلك الذبابة التي تحوم حوله و تضايقه على ما يبدو.. و كان هذا وسط ذهول عمر ، الإنسان الطبيعي يمكنه أن يصمد لخمس ثواني قبل أن تبدأ يده بالاحتراق ، أما عبد القوي فعلى مدار دقيقة كاملة كانت يده سليمة فوق النار ، لم تتلون بالأسود حتى.. كما كان يجب لأي جسد بشري طبيعي أن يتلون !

في هذه اللحظة تهاوت ثقة عمر و حل محلها فضول كبير ، لأنه أدرك أن الأمر ليس طبيعياً ، حتى إذا تمكن عبد القوي بطريقة ما من التحمل لمدة دقيقة كاملة فمن الطبيعي أن تحترق يده ، هل يوجد عازل ما على يده؟.. لكن يده سليمة و طبيعية ، هل الجلد مزيف؟.. بالطبع لا تساؤل غبي ، هل يوجد أثر للحرارة على يده؟.. هل يده ساخنة بأي حال؟.. نعم ساخنة للغاية لكن الرجل يجلس كالخرتيت غير مبالٍ بأي شيء ، و لأول مرة في حياة عمر يحدث شيء مغاير لما ظنه أو اعتقده ، اعتقادات عمر كانت كالمقدسات بالنسبة له.. أشياء غير قابلة للمساس.. مثلت رؤيته لعبد القوي ضربة قوية له.. جعلته يفكر في اعتقاداته الخاطئة المحتملة الأخرى ، دارت هذه الأشياء في عقل عمر إلى أن تكلم عبد العال :

“هل صدقت؟”
“هل تمزح؟!.. مازلنا في البداية يارجل.. لنحظى ببعض المرح هنا”

التجارب التالية باءت كلها بالفشل ، الرجل لا يتأثر لا بالنيران و لا بالكهرباء.. السكاكين الحادة لا تؤذيه و العتل الحديدية الثقيلة تدغدغه حينما تهوي بقوة على رأسه ، إنه سوبر مان الأرياف !

“هل صدقت الآن؟”
“نعم”
“إذاً؟”
“نظر عمر لعبد القوي ثم قال :
“إذاً لا شيء .. أنت وغد محظوظ لن يموت حتى إذا لنفجر تحته لغم “
قال عبد القوي بلطف :
“شكراً لك !”
فصاح عبد العال :
“ما هو تفسيرك إذاً يا دكتور ؟”
“مبدأياً أنا لست طبيباً ، هناك فرق بين الطبيب الحقيقي الذي تخرج من كلية طب.. و بين الشخص العادي الحاصل على دكتوراة في علم التشريح”
“لكنك تعرف.. أليس كذلك.. أعني علم التشريح… لابد من أنه جسد عبد القوي هو من يجعله كذلك”
“نعم لكني لا يمكنني أن أشرح جسده بينما هو حي.. كما أن مشرط التشريح لن يخترق جسده من الأساس”
“و ما الحل؟”
“لا توجد مشكلة كي نبحث عن الحل يا عبد العال.. إذا كنا نحن البشر لا نستطيع إيذاءه فما الذي يمكن أن يؤذيه أو يصيبه ؟! أنا أشك في أن هذا الوحش يمكنه أن يصاب بأذى من أي شيء “

ثم صمت قليلاً قبل أن يردف:
“أضف إلى هذا أن الأمر رائع بالفعل.. أتمنى حقاً لو أكون مكانه”
صاح عبد القوي فجأة :
“أنا أعرف يا دكتور.. أعرف كيف”
تمتم عبد العال بصوت خفيض لم يسمعه كلاهما :
“ها نحن ذا مجدداً”
سأل عمر :
“و ما هي تلك الطريقة ، أبيع روحي للشيطان أو شيء من هذا القبيل ؟ “
“لا لا.. بالطبع لا ، أنا أتحدث عن شجرة “
“شجرة ؟!”
“نعم “
“ماذا هل تطرح فاكهة تجعلك قوياً ؟”

و بينما كان عمر على وشك الضحك من فرط خفة ظله أتاه رد عبد القوي مفاجئاً “
“نعم!”
أتاه الرد صادماً لا يحمل في طياته أي نوع من أنواع المزاح .

***

“إذن دعني أعيد عليك ما قلته لي منذ قليل”
قالها عمر ثم تناول كوب الشاي الموضوع أمامه و رشف منه رشفة سريعة قبل أن يردف :
“أنت تقول أن هناك شجرة”
“نعم”
“و هناك منزل قديم”
“نعم”
“و مقابر قديمة”
“صحيح”
“تبدو لي أقرب لقصة رعب كلاسيكية.. شيء من هذا القبيل”
“لكنها ليست مرعبة”
“إنها تتضمن المقابر و طالما يوجد هناك قرى بها مقابر و منازل قديمة إذن فالأمر مرعب.. لابد من أن تكون هكذا و إلا لكان الأمر سخيفاً و غير منطقياً “
“لن يأخذ الأمر مننا سوى ثلاث دقائق مشياً على الأقدام”
“أه أنت تعني الذهاب إلى هناك و التأكد ، أنا لا مانع لدى.. لكن”
قالها عمر ثم و بكل قوته ألقى سلسلة مفاتيحه في وجه عبد القوى الذي تلقفها في وجهه بدون أن يتحرك من مكانه.. قال عبد القوي :
“ما الذي تفعله أنت ؟! “
“كان يجب علي أن أتأكد.. لن أغيب عن عملي غداً من أجل خدعة غبية.. لكن حقاً أنت لم تشعر بالألم ؟!.. و لو بالقليل”
“لا أعرف كيف أصف الشعور حقاً .. لكنني شعرت بها بدون ألم”
رد عمر متحمساً :
“إن الأمر يزداد روعة ياعبد القوي.. أنت معجزة حقيقية تقف أمامي”
لم يدرِ عبد القوي كيف يرد فأومأ إيجاباً برأسه دون أن يتكلم .

***

“من هو المجنون الذي يبني منزل وسط المقابر ؟”
“إن البيت قديم للغاية يا دكتور.. أعتقد أن جدي وُلد و وجده هناك”
“أه أتعني أن المنزل وُجد قبل المقابر نفسها”
“نعم أعتقد”
“إذن من هم المجانين الذين يجعلون المقابر حول منزل ؟!”
“إن الأمر معقد بعض الشيء .. البيت هنا منذ قرون.. لم نكن لنزيله بهذه البساطة.. إنه أثر تاريخي مهم للقرية”
كان المنزل في هذه اللحظة بدأ يتراءى أمام ثلاثتهم ، عمر و عبد القوي و عبد العال ، قال عمر حينما رآه :
“قد تكون محقاً في هذه النقطة.. المنزل يبدو قديماً بالفعل من هذه المسافة.. فما بالك حينما نقترب أكثر”
رد عبد القوي في ثقة:
“أخبرتك”
“لكني حتى اللحظة لا أعرف سبب إصراركما على القدوم اليوم.. كان يمكننا القدوم البارحة.. لقد كدت أن أموت من فرط حماستي لرؤية الشجرة.. أحب هذه الأشياء حقاً “
“قد كانت هناك جنازة البارحة”
“هذا ليس مبرراً قوياً .. ليس كافياً بالنسبة لي”
“يا دكتور عمر أنت ولدت في هذه القرية و يجب أن تعلم عن عاداتها و تقاليدها أكثر من هذا”
“هاه ؟!”
“للميت احترامه هنا.. لا يمكننا الذهاب إلى القبور نشاهد الشجرة بينما هم يدفنون ميت بجانبنا”

و هنا صمت عمر رغم عدم اقتناعه بالفكرة كاملة .

***

المنزل كان كبيراً للغاية بأن يتم وصفه بمنزل أو بيت طبيعي ، و صغيراً للغاية لكي يتم وصفه بقصر أو قلعة ، منزل له سور خارجي خرساني قصير و عتيق.. ذلك السور به بعض الأجزاء المكسورة بفعل العوامل الخارجية.. و بفعل الزمن بالطبع ، في منتصف السور توجد بوابة قصيرة متهالكة لا غرض فعلي منها إلا لإعطاء السور نفسه فائدة حقيقية.. لأن أي شخص يمكنه بكل سهولة أن يقفز من فوق السور ، بعد السور توجد مساحة ترابية فارغة يليها المنزل .

أي شخص فطن سوف يعرف أن هذه المساحة الترابية كانت في يوم من الأيام حديقة مميزة لمنزل مميز لكنها لم تعد كذلك بسبب عدم وجود من يعني بها ، المنزل نفسه مميز بكل يا يميز منزل قديم لم تعد تطأه الأقدام منذ فترة كبيرة للغاية.. حينما رآه عمر لأول مرة عن كثب تساءل في نفسه عن كيفية تماسك المنزل حتى الآن .. إذا كانت المنازل تثمل فهذا المنزل يبدو و أنه ثمل للغاية و يحاول أن يتماسك كي لا يختل توازنه و يسقط ، كئيباً مظلماً كعادة المنازل من نفس عمره ، باختصار كان منزلاً قديماً يبدو كالمنازل القديمة !

***

كانت الشمس في منتصف السماء حين دخلوا المنزل ، وقف عبد العال على البوابة الخارجية و أخرج من جلبابه علبة سجائر عتيقة ثم أخرج واحدة منها و هم بإشعالها و هو يقول :
“سأدخن سيجاراً هنا “
توقف عمر و نظر نحوه فسارع عبد العال قائلاً :
“سألحق بكما ما أن أنهيها”
لم يردا و أكملا طريقهما إلى المنزل ، وصلا إلى باب المنزل فقال عمر :
“أين الشجرة ؟”
قالها و أشار بيده للخلف مردفاً :
“المقابر و هي بالفعل حول المنزل.. أين الشجرة من كل هذا”
تحرك عبد القوي و هو يقول :
“الشجرة خلف المنزل.. تعال ورائي”

مشى عمر وراءه حتى مرا بجانب المنزل و وصلا للخلف ، و هنا ظهرت الشجرة لعمر ، مميزة ربما ؟.. غريبة الشكل و الهيئة؟.. كبيرة؟.. غير طبيعية؟.. لا ! لقد كانت الشجرة قمة في الطباعة ، تبدو كأي شجرة يمكن أن تصادفها في أي حديقة.. أو حتى في الشارع ، لم يشعر عمر بحماسة الأمر فقال بخيبة أمل :
“جلبتني هنا كي تريني شجرة مانجو ؟”
رد عبد القوي و هو يعبث بشاربه :
“شجرة مانجو في الهيئة.. شجرة الحياة في المضمون”

لاحظ عمر أنَّ عبد القوي قد صار عميقاً أكثر من اللازم بعد هذه الجملة فسأله :
“أنا أخاف من الأشخاص مثلك.. فجأة يقولون أشياء تجعلك تشك في الصورة التي كونتها عنهم قبلاً “
رد عبد القوي ضاحكاً :
“إذن أنت تقول لي بلطف لم أتوقع أنك بهذا الذكاء.. حسبتك غبياً “

تركه عمر ثم تقدم نحو الشجرة ثم بدأ يمارس عمله ، صحيح أنه لديه دكتوراة في علم التشريح.. لكن وظيفته الحقيقية هي النباتات ، إن الرجل هو أخصائي علم نباتات من الدرجة الأولى.. أصدقائه يصفونه بالعبقري ، وظيفته هي دراسة النباتات و معرفة خصائصها ، و وظيفته هناك هو أخذ عينات من مختلف أجزاء الشجرة ثم دراستها.. و هذا بالطبع إذا ما تأكد من أن الثمار تفعل ما يقولونه بالفعل ، تركه عبد القوي و ذهب ليري عبد العال الذي تأخر أكثر من اللازم .

***

“فلتعطني يوم واحداً فقط و لسوف أعود لك بالنتائج”
“ألا يمكنك فقط أن تقوم بأبحاثك هنا”
“لا بالطبع.. هناك آلات لا أستطيع جلبها إلى هنا.. كما أنني أحتاج لمن يساعدني كي أقوم بالأمر أسرع”
“حسناً يادكتور.. لكن يوم واحد فقط.. أهذا وعد؟”
“بل هي كلمة رجل”
“حسنا إذاً “

و بعد يوم كانت هناك سيارة تشق الطريق الترابي للقرية بسرعة غير عادية ، كان هذا عمر الذي يكاد يقتل نفسه من أجل أن يصل بسرعة لعبد العال و عبد القوي ، لقد اكتشف شيئاً مجنوناً عن الشجرة و يجب أن يخبرهم به .

***

“لا أفهم ما تعنيه يادكتور تكلم بلغتنا أرجوك”
“حسناً هذا هو المختصر المفيد.. يجب أن تقطعوا هذه الشجرة حالاً “
رد عبد القوي متعجباً:
“لماذا ؟!”
“لأنها خطيرة للغاية.. أنتم محظوظون أنها لم تصبكم بالأذى”
“أنا لا أفهم”
“إن الأمر معقد للغاية يا عبد القوي”
“أنت لا تأت لنا و تخبرنا بأن نقطع الشجرة فوراً لأنها خطيرة متوقعا منا أن نصدقك و نقطعها بدون نقاش.. أعطنا سبباً منطقياً “

تنهد عمر ثم أزاح نظارته من على أنفه و بدأ بالكلام :
“سأحدثك عن ثلاثة أنواع من النباتات.. النوع الأول هو الفطر الغروي.. slime mold… هذا الفطر يجمع بين خصائص الحيوان و النبات معاً ، إنه يتحرك من مكانه و يمتص الطعام الصلب كالحيونات.. و يتكاثر كالنباتات ، و هذا هو أول نوع ، النوع الثاني هي النباتات اللاحمة.. أو النباتات آكلة اللحوم.. هذه من اسمها ستعرفها ، النوع الثالث هو نخلة تسمى النخلة الماشية.. أو Socratea exorrhiza.. تمتلك هذه النخلة جذور طويلة جداً .. و هذه الجذور تساعد النخلة على أن تمشي ، الآن يمكنك أن تتخيل معي.. جميع هذه الخصائص اجتمعت بشكل ما في شجرة جوافة !”

“لم أفهم بالضبط ماذا تعني”

“أعني أنني قد وجدت جميع الخصائص في الشجرة بعد تحليلها.. الشجرة تملك جذوراً طويلة للغاية.. كما أنها تمتص الطعام الصلب.. و تأكل لحم البشر ، هذا معناه أن هذه الشجرة مصدر غذائها الوحيد هو اللحم.. و اللحم تحصل عليه من المقابر حولها بسهولة لأن جذورها طويلة كما قلت لك ، مما يعني أن هذه الشجرة يمكنها أن تقتلك إذا ما امتلكت الوقت و الظروف المناسبة.. هل فهمت ؟”

“لا لم أفهم.. مادخل هذا بالثمار”

قال عمر و قد بدأ ينفد صبره :
“إن جينات هذه النباتات التي وصفتها لك منذ قليل اجتمعت كلها في شجرة جوافة.. و الناتج هو شجرة تتغذى على لحم البشر و تنتج ثمار تجعل البشر خارقين.. دعك من أنها تتحرك من مكانها حرفياً “
“أتعني تتحرك و تذهب أينما تريد؟.. أتعني أن لها عقلاً ؟”
“لا بالطبع لا.. لكن لا أعرف كيف تتحرك.. الفطر الغروي و النخلة الماشية كلاهما تملكان القدرة على المشي.. يمشون سنتيمترات قليلة في الواقع.. قد يبدو الأمر غير ملحوظ لكنه يحدث.. لكن مع الشجرة من يعرف”

“شكراً لك يا دكتور.. الآن يمكنك الرحيل”
“ماذا؟!”
“يمكنك أن تذهب لعملك الآن.. نحن سوف نتكفل بالأمر من هنا.. شكراً على وقتك”
“هل ستزيلونها؟”
“نعم لا تقلق”
“حسناً .. لقد أكملت واجبي و بلغتك بالأمر”

قالها عمر ثم خرج من المنزل مسرعاً ، لم يبتلع الأمر كاملاً ، قال له نحن سنتكفل بهذا الأمر.. من نحن؟.. هل يعني القرية…أم يعني هو و أخوه عبد العال ، بدا له أن عبد القوي لم يكن يريد شيئاً إلا معرفة نوع الشجرة و مخاطرها ، قطع حبل أفكاره صوت عبد العال الذي قابله في الطريق ، سأله عبد العال عن ما توصل إليه فأخبره عمر بكل شيء .

“أتعني أنه لولا الجثث في المقابر لما تمكنت هذه الشجرة من النمو و من طرح ثمارها”
“الشجرة لم تطرح الكثير من الثمار و هذا يعني انها لم تحصل على الغذاء الكافي.. لكن هذا مؤكد.. جذور الشجرة قامت حرفيا بامتصاص جثث موتاكم في المقابر ، لكن لا يزال الأمر مبكراً .. لم يزد الأمر عن ثلاث جثث”
“هذا غير ممكن”
“هذا ليس وقت الدراسة كي نعرف ما إذا كان الأمر ممكناً أم لا.. الآن يجب عليكم أن تقطعوها أولاً قبل أن تتطور و تنمو أكثر”
“لا أعرف سنفكر بالأمر”
قال عمر بتلقائية و هو يحرك يديه في الهواء :
“لا لا أنت لاتفهم.. الشجرة تزداد قوة مع الوقت”
رد عبدالعال بنبرة مترددة :
“قد نستفيد منها”
ثم صمت لحظة و بدا أنه قد تذكر شيئاً ما فسارع بالقول مرتبكاً :
“لكن على كل حال شكراً لك يا دكتور.. لقد ساعدتنا كثيراً.. الآن يمكنك الرحيل.. سنقوم نحن باللازم”
“أنت أيضاً !!”
“هممم؟!..أنا أيضاً ماذا؟!”

لكن عمر لم يسمع عبد العال لأنه كان قد ابتعد بالفعل عنه ، كان يشعر بأن هناك خطأ ما ، هناك شيء هو لا يعرفه ، بطريقة ما أثَّر هذا على عمر.. أن تكون قد أنهكت نفسك من العمل كي تتوصل لمعلومة خطيرة و مخيفة.. و حينما تخبرهم عن ما توصلت إليه لا يهتمون ولا يخبرونك بالحقيقة كاملة ، لهذا شيء مستفز لأقصى الحدود ، و المستفز أكثر هو أنك ستضطر لأن تسافر بسبب طبيعة عملك و لن تعرف تطورات الموضوع إلا بعد يومين .

***

و بعد يومين عاد عمر و مر في طريقه على الشجرة بدون أن يخبر أحداً ، و وجدها هناك و قد ازدادت أوراقها ، و هذا بدوره يعني شيئاً واحداً.. و أنها قد تغذت أكثر ، قد كانت هذه هي العلامة لعمر.. التأكيد لفكرة أنك سوف تعمل لوحدك من الأن فصاعداً و لن تعتمد على أي شخص ، و الليل هو أفضل وقت كي تعمل فيه وحدك ..

و هكذا قرر عمر ، الخطة كانت ببساطة.. اقطع الشجرة ! لكنه و في لحظة تأني و تفكير عميق وجد أنه لا سبب لما سيفعله ، فلتفعل الشجرة ما تفعله بالجثث.. هو لن يخسر شيئاً ، كما أن لن يتعب نفسه من أجل أن يخبرهم بأن الشجرة تنتهك حرمة الموتى عندهم.. إذا أرادوا أن يتركوها فليتركوها هم المتضررين و ليس هو ، و في لحظة تفكير أخرى ظن أن هذه ستكون نذالة منه ، هم على الأغلب لا يصدقونه.. ليس ذنبهم أنهم حمقى.. ليس ذنبهم أن عقولهم لم تستوعب كلامه ، عمر و مع الوزن بين آراءه توصل لحل آخر.. حل وجده ممتازاً ، هو لن يذهب و يقطع الشجرة من ورائهم.. و لن يتركهم و يمشي، سيخبر العمدة شخصياً بهذا الكلام و ليقرر العمدة نفسه ما العمل ، لكنه فيما بعد و حين تناثر رذاذ لعابهم عليه من كثرة القهقهة أدرك كم كان أحمقاً ، لم يتوقع أن الأمر سيضحكهم هكذا -العمدة و الخفر -.. في لحظة ما ظن أنه قد ألقى عليهم نكتة طريفة للغاية .

عمر تعلم شيئاً مهما من هذا الموقف ، إن هؤلاء قوم يعيشون للبساطة و لا شيء غيرها.. إذا أخبرتهم اليوم أن العالم سينتهي غداً سيسارعون إلى أسرتهم لكي يحصلوا على قسط من الراحة ، عليهم أن يكونوا في قمة تيقظهم و استعدادهم للنهاية ، و عليه فإن سعادتهم تتلخص في ثلاث كلمات.. زوجة.. أبناء.. مال ، مشاكلهم كلها تتلخص في أن خروف معروف يأكل من أرض سيد الزراعية ، فتحية لم تبع محصول الطماطم كله عليها اللعنة ، أشياء تافهة ليس لها معنى ، أشياء جعلت عمر مندهشاً للغاية.. يكاد يصرخ من فرط الغباء.. كيف لرجل علمي مرموق مثله أن يضحك عليه حفنة من الأغبياء المتخلفين عقلياً و علمياً ، كيف لهم أن يجعلوه يشعر بهذا الإحراج !!

و من جديد لمعت الفكرة في ذهنه.. فليتركهم-الحمقى- و يذهب هو.. هو لن يخسر شيئاً ، صحيح أن هذه هي قريته التي عاش فيها منذ صغره.. و صحيح أن أمه تعيش هنا مع أخوتها لكنه قد حذرهم و فعل ما عليه.. و يمكن لضميره أن يرتاح الآن، سوف يعود لحياته العادية المملة الرتيبة مجدداً ،
لكنه و كعادته قبل أن يسافر للمدينة مر على على والدته و خاض معها نقاشهما المعتاد ، الحياة في المدينة ، هو نقاشٌ غلبته أمه فيه مراراً و تكراراً ..

عمر بحكم عمله كان يريدها أن تنتقل للعيش معه في المدينة.. لكن أمه رفضت ذلك رفضا كلياً و قطعياً .. و تقول دوما جملتها الشهيرة.. ولدت هنا و سأموت هنا ، كان الأمر أقرب إلى عناد طفولي.. فهي تعرف أن حياة المدينة سوف تكون أفضل بلا شك.. على الأقل من أجل صحتها، لكنها كانت قد تعودت على حياة الأرياف لذا لم تفكر كثيراً بهذا الشأن.. فقط قررت أنها سوف تعيش في القرية كما اعتادت ، كما أن زوجها و أبا عمر قد مات منذ مدة لا بأس بها و لا شيء يمنعها عن قرارها هذا ، و هكذا صارت تعيش في بيتها وحيدة تخدمها فاطمة جارتها.. و بالطبع بمقابل مادي من عمر ، قررت أن تعيش هناك في القرية.. تعيش بالقرب من إخوتها تزوهم و يزورونها.. واجدة أنها تحب هذه الحياة أكثر رغم مشقاتها الكثيرة .

***

مرت فترة طويلة لا بأس بها أبداً .. و كان عمر قد نسي موضوع الشجرة تقريباً ، كان يكتفي بالمرور على القرية نهاية كل أسبوع كي يقضي الأجازة مع أمه ثم يسافر مجدداً للمدينة ، ثم كانت هناك تلك المكالمة التي وصلته في منتصف الليل ، كانت خالته.. و كانت تبكي.. تبكي كثيراً ، عمر لم يحتج للكثير من الذكاء كي يفهم.. كلمتين قالتهما فرد هو بكلمة و أغلق السماعة .

إكتشف عمر حينها أنه بارد.. بارد جداً ، في ذلك الوقت وضع نفسه في تصنيف الأشخاص الباردون في المواقف الصعبة.. و هم أشخاص قليلون نادرون للغاية.. و ربما يستحقون الدراسة أكثر من غيرهم.. إذا أنهم وفي مثل هذه المواقف لا تهتز لهم شعرة.

كان يقف محدقاً في الفراغ يشعر بالحزن داخلياً بينما يمرون عليه واحداً تلو الآخر يرمون كلماتهم المعهودة تلك ثم يخرجون ، لا تبدو عليه أي علامة من علامات التأثر.. حتى أن بعضهم ظن أنها لم تمت حقاً ، و كان عمر يرى هذا في نظراتهم و لا يهتم ، إن ما في داخله لهو أكبر من أن يهتم ، شعوره كان غريباً .. ذلك الشيء الذي يخبرك بأنك هناك شيء ما ينقصك.. الشعور الذي يداهمك حينما تخرج و تنسى محفظتك.. أو مفاتيحك.. شعور يصعب وصفه هو.. لكنه موجود و هذا مؤكد ، فكر عمر كثيراً في ذاك الشيء الذي ينقصه.. بالطبع لم يجده.. لم يكن الأمر بهذه السهولة ، عمر تمنى لو كان الأمر فعلاً بهذه السهولة ، و في تلك اللحظة شعر بشيء ساخن يمر نزولا على خده ، على الأقل سيرتاح المشككون الآن ..

***

قائداً سيارته.. شارد الذهن كان عمر ، يفكر في ما وصلت إليه الأمور.. لقد رفض بشدة فكرة أن يبيت في القرية ، هو لا يريد أي من تلك الذكريات ، بل إنه كان يفكر بجدية ألا يزور القرية مجدداً أبداً .. لأنه لا يريد أن يتذكر.. فقط لا يريد ، لقد دفن أمه معهم في مقابر القرية قبل الغروب مباشرة و من ثم تركهم و ذهب بدون أن يلقي عليهم السلام حتى.. كلمة هروب مناسبة تماماً لما فعله ، و في غمرة تفكيره تذكر الأمر ، الشجرة و ما تفعله في المدفونين في المقابر ، اتسعت عيناه للحظة عرف فيها أنها هي الشيء الذي كان يحاول أن يتذكره.. هذا هو الشئ المفقود ، و في اللحظة التالية كانت السيارة تسير في الاتجاه المعاكس بسرعة .

حينما وصل كان الليل قد خيم تماماً .. لم يهمه الأمر و أكمل طريقه وسط المقابر ممسكاً بقارورة البنزين الصغيرة التي كان يحملها في حقيبة سيارته تحسباً للظروف ، إن الأمر واضح.. هو لن يترك الشجرة تمتص أمه ، سوف يحرقها عن بكرة أبيها قبل أن تفعل.. و ليذهب -أهل القرية- جميعاً للجحيم .

لكنه توقف فجأة في المنتصف.. لأنه و بينما كان يشق طريقه بصعوبة بالغة بين شواهد القبور رأى ضوءاً .. صحيح أن المكان كله كان مظلماً ، إلا أنه تمكن من معرفة مكان الضوء ، إن الضوء ينبثق من ناحية قبر أمه.. التي دفنها بيده للتو ! 

يتبـــــــع 
              ــــــــــــ

 

تاريخ النشر : 2017-05-04

البراء

مصر - للتواصل: [email protected]
guest
16 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى