أدب الرعب والعام

عندما يزورك الموت و أنت على قيد الحياة

بقلم : بدر – الجزائر

عندما يزورك الموت و أنت على قيد الحياة
بقي له ستة أيام ليصل إلى محطته التالية

– أنا آسف .. إنها الحقيقة التي توصلنا لها ، لا أمل في شفائك ، لم يبقَ لك الكثير في هذه الحياة ، فمرحلة مرضك تخطت كل الحدود وكل الحالات المشابهة لحالتك التي رأيتها من قبل انتهت بوفاة صاحبها في غضون أسبوع ، أنا آسف سيدي لكنها الحقيقة التي جمعتها من عشرين سنة خبرة في هذا المجال ، أرجو أن تتفهمني سيد رشدي ، علي الذهاب الآن لإكمال مهامي المعتادة …

خرج الدكتور جواد من الغرفة وترك رشدي تائهاً ، تركه عاجزاً ، حتى أنه لم يتلفت أو يتكلم أو حتى يهمس ، تسمر في مكانه كانه آلة خالية من المشاعر أو كتلة متحجرة لم تبدي أية ردة فعل ملموسة ظاهرة للعلن تعطيك نظرة أو فكرة عما كان يشعر به الآن … لكن لنضبط عقارب الساعة إلى الوراء قليلاً ، لنلقي نظرة خاطفة ونتعرف على السيد رشدي ..

رشدي شاب في السابعة والعشرين من العمر ، يعمل مهندساً في إحدى الشركات الخاصة وهو على وشك الزواج ….أو آسف التعبير الأدق كان على وشك الزواج لأن خطيبته تركته بمجرد سماعها خبر أسبوعه الأخير ، لم تدعمه حتى أنها تركته بقسوة ليواجه الموت وحيداً ، ولأكون جازماً فهذا كان أشد وقعا عليه من الموت نفسه ، فلقد ولد عاصفة شعواء بداخله وامتلكه الغضب لكنه في الوقت نفسه تسللت بعض المشاعر الإيجابية له لأنه يريدها أن تكون سعيدة حتى لو مع غيره …

وبالعودة للحديث عن الأمر .. رشدي وحيد الآن ، وبحسب الأطباء بقي له ستة أيام ليصل لمحطته التالية ، ستة أيام بقيت ويوم مضى .. أمضى يومه كله في التفكير ، تفكير تفكير ، تارة يستعيد شريط حياته يستعيده وكأنه فيلم يستعد لدخول صالات العرض ، وكان يأمل لو أنه مخرج وحياته مجرد فيلم حتى يستطيع تغيير الأحداث متى شاء ذلك ، لكن لا .. فالحياة أعظم من أن تكون فيلم وأقدس من أن تعبث بها أيادي مخرج هاوٍ …

لكنه لا يأبى إلا أن يعود لجادة الصواب ليدع القليل من جنود المنطق يتسللون لقلاع ذهنه حتى يخبروه بتقارير الواقع الذي يعيشه أو مابقي له منه ….

اليوم الثاني …. تدخل الممرضة لحجرة السيد رشدي لتجده على غير العادة جالساً يحدق لكتلة من الأوراق يبدو وكأنه يكتب ، تسللت الممرضة الشابة خلفه بخفة متناهية لتكون واقفة خلفه ، لم يمانع رشدي وأكمل ما كان يفعله ، لكن ما وجدته الممرضة شكل لها صدمة فورية ورغبة في اكتشاف ماهية ما يحدث ، فلقد وجدت أن الرواية التي ظنت أن رشدي يكتبها ما هي إلا اسمه ! نعم اسمه ، فهو يكتب رشدي ثم يشطبه ، رشدي و يشطبه ، رشدي ويشطبه مراراً وتكراراً دونما توقف ، هنا قاطعته الممرضة قائلة :

– سيد رشدي .. إنه موعدنا المعتاد ، عليك بأخذ أدويتك .

يطلق رشدي ضحكات أنا متأكد من أن نصف المستشفى قد سمعها ، أطلق ضحكات صاخبة وأتبعها بقول :

– أدوية !! هل ستمنع الموت عني ؟ هل ستقيني منه ؟! أتعرفين ما يمنعني من الانتحار ؟ شيء واحد .. مجرد شيء ، وهو أني أريد أن أفعل شيء صائب واحد في حياتي أو ما بقي لي منها ، فان كان هذا ما كُتب لي فلن أتوانى في الرضا عنه ، لكن أنا متأكد من أن روحي لن تجد السلام الداخلي حتى هناك بعد هذه الحياة ..

هنا لاحظ السيد رشدي الممرضة وهي تمسح دموعها المنهمرة من مقلتيها كجدول صغير ، خرجت من دون أن تقول شيء خرجت فقط ..

اليوم الرابع… آه صحيح يبدو أنكم تتساءلون ما سبب عدم ذكرنا لأحداث اليوم الثالث .. الأمر ليس كما تظنون هو أقل تعقيداً مما ذكرته عقولكم التهكمية الانتهازية ، لا .. الأمر بسيط جداً وهو أن رشدي قد أمضى يومه الثالث نائماً ، كانه في سبات شتوي عميق …حسناً حتى لا نُضيع الوقت أحداث اليوم الرابع ….أو قبل أن نحكيها أنتم تتساءلون أسبوع أخير لهذا الشاب الذي على وشك أن يودعنا ما سبب عزوف عائلته عن القدوم لمناصرته في هذه الأيام العصيبة ؟! الجواب سهل ، رشدي كان مجهول النسب ..

كبر في ميتم محلي لكنه كان نابغة جيله هذا ما سهل له أن يرسم لنفسه خارطة طريق مكنته من أن يكون عضواً فاعلاً في المجتمع على الأقل لمدة قصيرة … والآن اصفعوا عقولكم البغيضة التي تعمل على تضليلكم عن رؤية الحقيقة ودعونا نكمل …

في اليوم الرابع كان من المقرر أن يُجري رشدي مقابلة مع الأخصائي النفسي ، وقد جرى كما المقرر وأجرى رشدي تلك المقابلة التي كان من المعتاد أن تكون طويلة لكن هذه المرة كانت قصيرة جداً في نظر بطلنا رشدي ، كانت قصيرة حتى تراءت له أنها انتهت حتى قبل أن تبدأ ، والغريب في الأمر كانت أجوبة رشدي على أسئلة الدكتور ، كلها واحدة ، الحياة الحياة الحياة .. ساعي بريد يجول ويجول من بيت لبيت ، فمنهم من يأخذ منه طرد ، و منهم من يأخذ هدية ، و منهم من يأخذ شيكات نقود بطاقات ائتمان وثائق …. ورشدي أرثي حالي رشدي رشدي ماذا أخذ رشدي أخذ استدعاء يتضمن حضور ضروري .. 

كان هذا الكلام يُشكل وقع الصاعقة على الدكتور الذي تناسى ما تعلمه وأبدى تعاطفه مع حالة رشدي و ذرف دموعاً صامتة …انتهى اليوم الرابع واليوم الخامس الذي كان عبارة عن نوم مجدداً ، النوم الذي أصبح بطلنا يفضله ، يفضل أن يبقى في عالم الأحلام على أن يعيش واقعه المزري مع اقتراب الموعد ونفاد الثواني والدقائق منه …

اليوم السادس .. استيقظ رشدي باكراً هذه المرة… أوه تباً تباً أنتم غير محظوظين تماماً ، فالحبر قد نفد مني لإكمال هذه الواقعة ، لكن إن كان حبر الكتابة قد نفد استخدموا حبر عقولكم ، وليضع كل واحد منكم سيناريو لما سيحدث .. لكن لا تنسوا أن الحياة أثمن شيء ، وما أصعب أن يموت الإنسان وهو على قيد الحياة .. إن كانت المشاكل تنهار عليكم كالمطر لا تنسوا أن المطر يجعل الأشياء تنموا … هيا لا تضيعوا الوقت ابدؤوا الكتابة

تاريخ النشر : 2017-05-12

بدر

الجزائر
guest
25 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى