قتلة و مجرمون

لغز سفاح بوسطن

بقلم : صبا – مصر
لغز سفاح بوسطن
جرائم بشعة وغامضة لازال الجدل يدور حول هوية مقترفها

من منا لم يسمع يوما المقولة الشهيرة “لا توجد جريمة كاملة”، قد يفلح المجرم في الإختفاء لفترة قد تمتد لعقود كاملة، و لكنه في النهاية يقع في يد العدالة. و بالرغم من هذه القاعدة الصحيحة (و الحمد لله) إلا أن التاريخ وثق لنا جرائم يندى لها جبين البشرية لفظاعتها و وحشيتها ضلت لغزا مستعصيا لم يفلح أحد في فكه، و أفلت مرتكبوها من العقاب أو كادوا، قضايا أسالت حبرا كثيرا و منها قضية الحالية و التي عرفت بجرائم سفاح بوسطن.

فقد عاشت مدينة بوسطن الأمريكية بين سنتي 1962 و 1964 كابوسا مرعبا أود بحياة 13 إمرأة تراوحت أعمارهن بين التاسعة عشر و الخامسة و الثمانين سنة. و شكلت هذه الجرائم صدمة كبيرة لدى السكان في مدينة تعد من أكثر المدن تمسكا بالعقيدة الكاثولكية و إتباعا لتعاليم الكنيسة.

جرائم السفاح

لغز سفاح بوسطن
الضحية الاولى انا سليسرز

إرتكب المجرم الذي سيعرف فيما بعد بـ “سفاح بوسطن” أولى جرائمه في 14 يونيو 1962 و التي ذهبت ضحيتها إمرأة في منتصف عقدها الخامس، مطلقة و تعيش وحيدة في شقة صغيرة تدعى “آنا سليسرز”. وجدت جثة الضحية ملقاة على ظهرها على أرضية المطبخ و قد مزق “روب الحمام” الذي كانت ترتديه، و تمّ الإعتداء عليها جنسيا بوحشية بإستعمال أداة، و قد عمد القاتل إلى خنقها فيما بعد بواسطة حزام “ثوبها” إلى أن لفظت أنفاسها الأخيرة.

كشفت تحريات الشرطة، بأن الضحية تعرضت للضرب على الرأس مما تسبب لها بجرح عميق و لكن السبب الرئيسي للوفاة كان الخنق، حيث حمل عنقها آثار خدوش بسبب حزام بنطال، و آثار رضوض بسبب حزام “ثوب الحمام “الذي عقده المجرم حول عنقها مشكلا عقدة فريدة. و أمام قلة الأدلة و غياب الشهود على الواقعة، و بدائية وسائل التحليل الجنائي آنذاك رجح التحقيق كفة القتل بدافع السرقة.

بعد 14 يوما فقط عن الجريمة الأولى، و بالتحديد في 28 من يونيو سنة 1962، إكتشفت جثة ثانية لسيدة تجاوزت الخامسة و الثمانين من العمر، تدعى “ماري مولن” و هذه المرة، لم يمهل القدر المجرم الوقت لإغتصاب ضحيته التي توفيت جراء أزمة قلبية بسبب الخوف الشديد.

و لم يمنع موت الضحية المفاجئ القاتل من أن يترك توقيعه، فعمد إلى جوارب الضحية و عقدها حول عنقها بنفس الأسلوب الذي إستخدمه من قبل مع ضحيته الأولى، فكانت رسالة واضحة لرجال الشرطة بأنهم بصدد قاتل متسلسل.

و جاءت الجريمة الثالثة بعد يومين فقط لتؤكد شكوك المحققين، ففي 30 من نفس الشهر، عثر على “نينا نيكولس” ذات الثمانية و الستين عاما، ممددة على أرضية غرفة نومها جثة هامدة، بعد بلاغ قدمه صهرها “شيستر ستيدمان” للسلطات. و كسابقتها، تعرضت “نينا” لإغتصاب سادي ولكن هذه المرة بواسطة قنينة نبيذ، و من ثمة خنقت بواسطة جوارب “نيلون” و قام القاتل بربط عقدته المميزة و رحل.

و في نفس اليوم و بنفس الأسلوب، أزهق “سفاح بوسطن” روح ضحيته الرابعة “هيلين بلايك” البالغة من العمر خمسة و ستين عاما، و لكنه وضعها في فراشها و وجهها إلى أسفل بعد أن خنقها بإستعمال الجوارب، ثم إستعمل صدريتها لربط العقدة.

لغز سفاح بوسطن
صورة لمسرح إحدى جرائم السفاح .. يهاجم ضحاياه في منازلهن

في 19 من أغسطس سنة 1962، تملك الهلع أسرة “إيدا ارجا” ذات الخمسة و السبعين عاما، لعدم إجابتها على مكالماتهم المتكررة. و أمام إختفاءها المفاجئ و المريب، قرر أحد أفراد العائلة تسلق المبنى ليصل إلى شقتها في الطابق الخامس حيث صدم بأن قريبته الطاعنة بالسن قد خنقت بواسطة غلاف وسادتها، وقد قام القاتل هذه المرة برفع ثوبها كاشفا عن عورتها و باعد بين ساقيها مستعملا كرسيين وجدهما في المكان. كان المشهد فظيعا و غير مسبوق حتى بالنسبة لبعض أفراد الشرطة الذين صدموا بما رأوه في مسرح الجريمة.

أثبت الطب الشرعي بأن “إيدا” قد تعرضت للإغتصاب، و الخنق و قد وجدت رضوض رجحت بأن القاتل قد إستخدم يديه في قتلها و في المقابل فإن إستخدامه لغطاء الوسادة كان محاولة منه للتمسك بنمطه الإجرامي و كعلامة مميزة له لا غير.

في الوقت الذي كانت فيه الصحف تتناول تفاصيل جرائم بوسطن و سفاحها الطليق، و تنتقد أداء الشرطة الهزيل، تم العثور على “جاين سوليفان” (67 عاما) مقتولة بنفس الطريقة، في الـ 30 من أغسطس، بعد أسبوع من إختفائها.

لتتوقف جرائم القتل فجأة، لمدة ثلاثة أشهر تقريبا، إلى حين إكتشاف إحدى الفتيات لجثة شريكتها في السكن “صوفي كلارك” (20 عاما ) و قد خنقت بتنورتها الداخلية بعد أن إغتصبت و قام القاتل في هذه الجريمة أيضا بفتح ساقيها و كشف عورتها في محاكاة لما وقع في جريمة قتل “إيدا”.

لغز سفاح بوسطن
صور الضحايا اللواتي تم التعرف عليهن .. من مختلف الاعمار

أصيبت الشرطة بالحيرة نظرا لإختلاف الضحية الأخيرة عن بقية الضحايا الأخريات، إذ كان سفاح بوسطن يستهدف النساء المسنات الوحيدات، و لكنهم عثروا على السجاد بالقرب من الجثة على بقايا تم التعرف عليها كـ “سائل منوي مجهول المصدر”، قد لا يكون مهما جدا في ذلك الوقت نظرا لعدم توفر طرق تحليل ” DNA” و لكنه بالتأكيد يشكل دليلا دامغا اليوم.

في جريمته التالية، إستهدف القاتل المجهول، “باتريسيا بيسات” ذات الثلاثة و العشرين ربيعا، و قام بإغتصابها و خنقها بإستعمال جواربها و سترتها، و قد كانت الضحية حاملا في شهرها الأول عندما فارقت الحياة ليلة رأس السنة الميلادية.

إختفى “سفاح بوسطن” مجددا لثلاثة أشهر، ليعود و يستهل نشاطه الإجرامي في السادس من أذار 1963، بجريمته الأكثر وحشية و دموية بحق “ماري براون” (69 عاما) حيث تعرضت كغيرها من ضحاياه إلى الإعتداء الجنسي، ثم طعنت مرارا بشوكة تركت مغروسة في صدرها، و ضربت بوحشية بواسطة إسطوانة حديدية حتى فارقت الحياة. و في سابقة قام المجرم بتغطية رأس القتيلة بقطعة قماش.

و كان لهذه الجريمة و وحشيتها تأثير كبير على سكان المدينة الذين بدأ صبرهم ينفذ و بدأوا بالضغط على إدارة الشرطة للإيقاع بـ “سفاح بوسطن”، فجندت هذه الأخيرة ألفي رجلا من عناصرها للتحقيق في القضية حتى أنهم أفردوا لها مصلحة خاصة سميت “بمكتب التحقيق في جرائم السفاح”!. كما ساد الخوف مدينة “بوسطن” و أعاق سير الحياة فيها، فقد سارع السكان إلى تحصين أبواب و نوافذ منازلهم بالأقفال و أقبلت النساء على اقتناء السكاكين و الأسلحة النارية لحماية أنفسهن في حال هجوم السفاح عليهن.

لغز سفاح بوسطن
انتشر الخوف في المدينة خصوصا بين النساء .. صور من جرائد ذلك الزمان تصور سيدة تحصن الفناء الخلفي لمنزلها واخرى تضع قناني زجاجية خلف الباب لكي تشعر اذا ما تم فتح الباب خلسة

“بيفرلي سامنز” (23 عاما) كانت الضحية العاشرة و قد تعرضت هي الأخرى للطعن 16 مرة بواسطة سكين ( أربع منها في العنق و الباقي في الصدر و الجذع) و كالعادة فقد قام السفاح بربط جوارب “نيلون” و وشاح حول عنقها.

لم يكن حظ “أفلين كوربين” (58 سنة) و “جوان غراف” (23 سنة) بأفضل من سابقاتهن فقد تعرضتا للإعتداء الوحشي و الضرب ثم الخنق بواسطة الجوارب النسائية التي عقدت حول عنقهما بعد وفاتهن.

آخر ضحايا “سفاح بوسطن” و الأصغر بينهن كانت الشابة “ماري سوليفان” التي لم تتعدى يوم وفاتها التاسعة عشر ربيعا، حيث إكتشفت جثتها بعد وقت طويل من قبل شريكتيها في السكن اللتين ظنتا بأن “ماري” نائمة، بينما كانت المسكينة قد فارقت الحياة بعد أن تعرضت لإعتداء وحشي إستعمل فيه قاتلها عصا المكنسة، و بعد ذلك أقدم على خنقها بإستعمال جواربها ثم مدد جثتها على سريرها و قام بتغطيتها، مما أوحى لصديقتيها بأنها نائمة فلم تريدا إزعاجها.

أدلة بالجملة و التحقيقات تصل إلى طريق مسدود!

بلغ عدد ضحايا “سفاح بوسطن” 13 إمرأة، بينما يعتقد البعض بأن هذا الرقم تقريبي لا يمثل سوى الجرائم التي تم إكتشافها في ذروة نشاط “السفاح”، و بأن العدد الحقيقي للضحايا يتعدى بكثير الثلاثة عشر، و ربما بلغ الثلاثين إمرأة أو أكثر.

و رغم أن كل مسرح جريمة من جرائم “سفاح بوسطن” كان يعج بالأدلة الجنائية، كالبصمات التي تركها القاتل خلفه على مختلف الأدوات التي إستعملها في إغتصاب و طعن و ضرب ضحاياه، أو آثار من لعابه أو سائله المنوي أو حتى قطرات من دمائه بسبب المقاومة المستميتة من بعض القتيلات، إلا أنها لم تكن ذات فائدة تذكر بسبب قصور طرق التحاليل البيولوجية آنذاك و بدائيتها، إضافة إلى فوضوية التحقيقات و تسرع المحققين في بناء إستنتاجاتهم بسبب الضغط الشعبي و تسييس القضية آنذاك.

كما أن معامل التحليل الجنائي الفدرالية التي أوكل إليها أمر الأدلة قامت بحجب تقاريرها النهائية متحججة بعدم دقة النتائج. فتم إطلاق سراح جميع المشتبه بهم في القضايا الثلاثة عشر، في إنتظار ظهور قرائن و براهين جديدة تساعد المحققين على كشف النقاب عن لغز جرائم “سفاح بوسطن”.

سفاح بوسطن يسلم نفسه !

لغز سفاح بوسطن
البرت دي سالفو .. قال بأنه هو السفاح

في شهر مارس من سنة 1965، تقدم محام شاب يدعى “ف.لي بايلي” بعرض إلى إدارة شرطة مدينة بوسطن، نيابة عن موكله “ألبرت هنري دي سالفو” الذي كان محتجزا في مصحة نفسية بإنتظار إستئناف حكم بالسجن مدى الحياة بسبب إرتكابه لعدد كبير من جرائم الإغتصاب و التحرش الجنسي فيما عرف بجرائم “رجل القياسات” و “الرجل الأخضر”، وبموجب هذا العرض يعترف موكله بأنه “سفاح بوسطن” و يوقع إعترافا خطيا يروي فيه تفاصيل 11 جريمة من ضمن الجرائم الثلاثة عشرة المنسوبة إليه في مقابل عدم إستخدامها كدليل ضده. وفي سابقة من نوعها في تاريخ المباحث الأمريكية . إذ لم يسبق أن سلم قاتل متسلسل نفسه للعدالة و اعترف بجرائمه خاصة إن لم يكن مشتبها فيه من الأصل. فإسم “دي سالفو” لم يرد يوما في تقارير التحقيقات في قضايا “سفاح بوسطن” و لم يكن ليذكر إن لم يقدم “ألبرت”، الذي كان نزيل مصحة نفسية بأمر قضائي بسبب جرائمه الجنسية، على إعترافه المثير للجدل.

و لكن المحامي “بايلي” بنفسه أثبت بأن موكله قد روى له تفاصيل و معلومات متعلقة بجرائم “بوسطن” لا يمكن لغير القاتل معرفتها، و لتحري صدق “دي سالفو” فقد قدم المحققون لـ “بايلي” قائمة بخمس أسئلة عرفت “بالخمسة الكبار” ليطرحها على موكله، و كلها تتعلق بتفاصيل دقيقة من مسارح الجريمة، أجاب عليها “ألبرت” بدون تردد مؤكدا أنه “سفاح بوسطن” المرعب.

رحلة إدانة “دي سالفو”

لغز سفاح بوسطن
اعترف بكل شيء من دون مقاومة او مراوغة

كان “دي سالفو” بمثابة القشة الأخيرة التي تعلق بها عناصر فريق الشرطة المجند لحل لغز “سفاح بوسطن”، و أملهم الأخير في إنقاذ سمعتهم التي أصبحت محل تساؤل و تشكيك. و قد كلف المدعي العام أنذاك “إدورد بروك” صديقه و رئيس مكتب “التحقيق في جرائم السفاح” “جون بوتملي” بإستجواب “دي سالفو” بعد أن تم إستبعاد بقية المحققين عن القضية. هذا التكليف قد أسال حبرا كثيرا نظرا لأن البعض قد إتهم “بروك” بمحاباة صديقه المبتدئ “بوتملي” لينال المكتب الذي أسسه المدعي العام و يتكون من جملة من حلفائه و أنصاره المقربين فضل حل لغز أعتى قاتل متسلسل بعد “جاك السفاح“، متجاهلا جهود كل المحققين الذين عملوا على القضية منذ بدايتها و الذين يتمتعون بخبرة تخولهم للتعامل مع قاتل متسلسل كـ”سفاح بوسطن”.

و لكن يبدو بأن “سفاح بوسطن” الذي أرق المدينة بأكملها لسنتين كاملتين قد قرر أن يكشف أوراقه كاملة بسهولة أمام المحقق “بوتملي”، فإعترف بتفاصيل جرائمه البشعة كلها و دون مقاومة أو حتى مراوغة. قضى “السفاح” ساعات طويلة في سرد وقائع كل جريمة على حدة و مجيبا عن مختلف الأسئلة التي طرحها عليه المحقق.

كان “دي سالفو”، كما وصفه بعض الحاضرين، هادئا و لطيفا في رده على الأسئلة بطريقة أثارت دهشتهم، إذ بدا و كأنه يتحدث عن شخص آخر غيره، و لم يبدي أي تفاعل جسدي، على مستوى ملامح وجهه أو نبرة صوته تتوافق مع ما يسرده من أحداث و هو أمر أثار حيرة بعض المحققين الذين لم يقنعهم إعتراف “ألبرت” منذ البداية.

إستمر إستجواب “سفاح بوسطن” بضعة أسابيع أسفرت عن تقرير من 2000 صفحة و خمسين ساعة من الأشرطة المسجلة تحمل إعترافات دقيقة و مفصلة عن جرائم الخنق إضافة إلى إعتراف “دي سالفو” بمحاولة قتل فتاة، و لكنه عدل في اللحظة الأخيرة عندما رأى نفسه في مرآة مقابلة، و علل ذلك بأنه تذكر والده فأخذ بالبكاء و إعتذر للفتاة و طلب منها عدم إبلاغ الشرطة.. و فعلا لم تبلغ الضحية عن الحادث حتى تم استدعاؤها للشهادة في قضية “سفاح بوسطن”.!!

من هو “سفاح بوسطن”؟

لغز سفاح بوسطن
صورة له مع خطيبته عندما كان جنديا

ولد “ألبرت هنري ديسالفو” في الثالث من سبتمبر سنة 1931 في تشيلسي في ماسيتشوتس في الولايات المتحدة الأمريكية لأب سكير و سادي يعمل صياد سمك، وأمّ معنفة لا حول لها و لا قوّة.

و قد وجد الفتى و إخوته الخمسة الآخرين أنفسهم يشهدون كل يوم شجارات لا تقلّ حدّتها على معارك الشوارع و الحانات، حيث ينهال الأب “فرانك ديسالفو” الثمل على الدوام على زوجته “شارلوت” ضربا مبرحا، و لم يكن يكتفي ما لم يحطم بعضا من أسنانها أو يكسر أصابعها واحدا تلو الآخر على مرأى و مسمع من أبنائه المرتاعين فرقا من وحشيته و المتكومين في ركن من الغرفة خوفا من أن يكونوا ضحيته التالية. بل إن القسوة قد بلغت به أن باع جميع أطفاله للعمل في الحقول كالعبيد مقابل مبلغ لا يتعدى التسعة دولارات أنفقها كالعادة على ملذاته المحرمة، و لكن الأطفال تمكنوا من الفرار من الشاري و العودة إلى المنزل. فوجد الأب بأنّ إبنه “ألبيرت” ذي الخمسة أعوام و الوجه البرئ سيعود عليه بربح وفير، فعلّمه السرقة في سنّ مبكر و قد قبض على الفتى مرارا بتهمة النشل.

و لم يشذ سفاحنا عن القاعدة، فقد بدأت مشاكله الجنسية مبكرا، كما يرجح المختصون النفسيون الذّين درسوا حالته كـ”سفاح بوسطن” ، عندما وجد نفسه مجبرا على مشاهدة والده “فرانك” يمارس الجنس مع عاهرات كان يحضرهن دوريّا إلى منزل الأسرة .. فكانت أولى علاقاته الجنسيّة في سنّ الثامنة مع سيّدة تفوقه بعقود !

كما إعترف بأنّه قد مارس الجنس مقابل المال في طفولته المبكرة، مع فتيات و نساء و حتى رجال .. و هكذا بدأت رحلة إدمانه للجنس و الذّي سيكون سببا هامّا في تحويله إلى وحش بوسطن المرعب.

من الطبيعيّ و المحتوم لمن كانت طفولته بهذا الإنحراف أن يكبر ليصبح مراهقا مختلاّ، و خطرا بعد أن يطوّر أساليب جرائمه و تجاوزاته، فبدأ بتعذيب الحيوانات و واصل السرقة و السطو و بات أيضا يقتحم منازل النساء الوحيدات خاصة بهدف التحرش بهن و الإعتداء عليهم، و لكنّه أفلت من العقوبة نظرا لتكتّم الضحايا عمّا وقع معهن، لا تنسوا أعزائي القرّاء بأننا في أربعينات القرن الماضي و لم تكن النساء في تلك الفترة يجرؤن على التحدث عن مثل هذه التعديّات خوفا على سمعتهن! (ما أشبه اليوم بالأمس.. ترى كم من سفاح بوسطن يتجول بيننا اليوم لذات السبب؟)..

و بالرغم من جرائمه الجنسية إلاّ أنّه لم يحاكم سوى على جرائم السرقة و السطو و تمّ إرساله مرتين إلى إصلاحية الأحداث التي غادرها في المرّة الأخيرة في 17 من عمره سنة 1948، و قام بعدها و في خطوة غير متوقعة بالتطوع في الجيش الأمريكي و قضى فترة خدمته الأولى في أوروبا حيث تعرف على زوجته الألمانية، و تمّ تسريحه من الجيش قبل أن يتّم فترة الخدمة الثانية بسبب تحرشه جنسيّا بفتاة لم تتعدى الـ 9 من عمرها!

و هنا بدأت مرحلة جديدة من حياة “ألبرت دي سالفو” الإجراميّة فقام بأوّل سلسلة جرائم جنسيّة عرفت بـ”جرائم رجل القياسات” حيث إنتحل “دي سالفو” شخصيّة مندوب شركة لتوظيف عارضات الأزياء و كان يزور بيوت النساء و خاصة الوحيدات منهن و يغرقهن بالكلام المعسول و الوعود الخيالية حتى يتجردن من ملابسهن و يسهل عليه الإعتداء عليهن.. و يبدو بأنّ الحظّ كان حليف “ديسالفو” كالعادة، فقد إمتنعت كلّ ضحاياه عن تقديم شكوى ضدّه لنفس السبب أعلاه، أو ربّما هو بارع في إنتقائهن.. من يعلم؟

و إنتهت جرائم “رجل القياسات” بزج المجرم في السجن بتهم السرقة و السطو كالعادة، و قضى 11 شهرا ثمّ أطلق سراحه ليبدأ مباشرة سلسلة ثانية من الجرائم الجنسية عرفت بـ “إعتداءات الرجل الأخضر” نسبة إلى بذلته الخضراء التّي إستعملها للإيقاع بضحاياه، حيث يدّعي بأنه عامل صيانة إحدى شركات الخدمات المعروفة.. يبدو بأنّ “دي سالفو” مجرم نشيط لا يضيع وقته، و لكن كما يقال “ما في كلّ مرة تسلم الجرّة”!

لغز سفاح بوسطن
صورة له مع عائلته .. زوجته وطفلته

فإحدى الضحايا قدمت أوصاف “الرجل الأخضر” للشرطة التي قبضت على “ديسالفو” و نشرت صورته في الجرائد مرفقة بجريمته النكراء، ففوجئت الشرطة بسيل من البلاغات تقدمت به النساء واحدة تلو الأخرى فإرتفعت عقوبة “ديسالفو” ليواجه حكما قد يصل للسجن مدى الحياة نظرا لسوابقه المتعددة و أودع مصحا عقليّا لعلاجه من مشاكل إدمان الجنس و هناك فجّر “الرجل الأخضر” مفاجأة غير مسبوقة بإعترافه لمحاميه أنذاك “ف لي بايلي” بأنّه “سفاح بوسطن” الغامض الذّي أقض مضجع المدينة لسنتين كاملتين! في سابقة هي الأولى في التاريخ الجنائي الأمريكي، فلم يسبق أن إعترف سفاح متسلسل على نفسه قبل الإشتباه به و “دي سالفو” كان بعيدا جدّا عن شبهة الضلوع في جرائم “بوسطن” المرعبة.

حاول محامي “سفاح بوسطن” أن يحصل لموكله على صفقة جيّدة كما أقرّت الشرطة فيما بعد، مقايضا إعترافه بجرائم القتل و الإغتصاب بتخفيف الحكم من الإعدام إلى السجن مدى الحياة.. و هو أمر وافقت عليه الجهات الرسميّة دون تردد رغبة منها في إغلاق ملف القضايا الذي ظلّ مفتوحا دون حلّ لمدّة تجاوزت الثلاث سنوات و للتخلصّ خاصّة من ضغط الرأي العامّ الذي بدأ يشكك في نجاعة مؤسسة شرطة “بوسطن” و الشرطة الفيديرالية (FBI).. و نظرا كذلك لصحيفة “ديسالفو” العدلية الزاخرة بجرائم ذات طابع جنسيّ و مشاكله مع إدمان الجنس و التحرش بالنساء و الإعتداء عليهن، فقد صرح أحد أفراد شرطة بوسطن بـ “أنّه – أي ديسالفو – النموذج التقليدي لسفاحي النساء على مرّ العصور..”

وفي 18 من يناير سنة 1967، تمّت إدانة “ألبيرت هنري دي سالفو” بجرائم إغتصاب و قتل 11 إمرأة فيما عرف بـ “جرائم سفاح بوسطن” بناءا على إعترافاته التّي قدّم فيها تفاصيلا لم تذكر علنيّا من قبل، و حكم عليه بالسجن مدى الحياة في سجن “والبول” المشدد الحراسة لم يقضي منها سوى 6 سنوات، إذ مات بعد أن تعرض للطعن حتى الموت في زنزانته في 25 من نوفمبر سنة 1973، و سجلت الواقعة ضدّ مجهول!

“ألبرت دي سالفو” سفاح أم ضحيّة؟

يبدو بأنّ قضيّة سفاح بوسطن تأبى أن تكون قضيّة تقليدية، إذ على عكس قضايا القتل المتسلسل الأخرى، لم يكن القبض على السفاح نهاية اللغز بل بداية جديدة للغز آخر لم يحلّ إلى اليوم..

فما إن بدأت التحقيقات الأولية مع “دي سالفو” حتّى ظهر عدد من المشككين في هوية سفاح بوسطن!

و أهمهم محقق مكتب “الاف بي اي ” ريسلير” الذّي لاحظ تضارب أقوال “ألبيرت دي سالفو” في تفاصيل بعض جرائم السفاح التّي يعترف بأنّه مرتكبها و منها : وقت وفاة بعض الضحايا، عدم تذكره لأدوات الجريمة في بعض الأحيان، عدم تميزه بين من قتلهن خنقا بيديه و من خنقهن بإستعمال رباط أو حزام.. إضافة إلى أن المحقق الذي حضر بعض جلسات التحقيق، لاحظ بأنّ “دي سالفو” كان يجيب على إستجواب المحققين و كأنّه “يؤدي فرضا منزليّا لمادّة دراسية!.. بدا و كأنّ قد تمّ تلقينه ليستعرض هذه المعلومات والتفاصيل.. ” هكذا علق “دسلر”.كما أنّ شبهة التلاعب بالتحقيق و فساده قد لاحقت و تلاحق القضية منذ 50 سنة، فمعظم أسئلة الإستجوابات التّي قادها “بوتملي” كانت أسئلة تستوجب الإجابة بنعم أم لا! مقدمة لـ”دي سالفو” تفاصيل الجرائم أحيانا!

أحد حجج المشككين في رواية “دي سالفو” هي غياب نمط معين للقتل و غياب نمط يجمع الضحايا؛ و هما أهم ما يميّز جرائم القتل المتسلسل حيث يقوم القاتل بإستنساخ جرائمه و مسارحها بحقّ ضحايا متشابهون إلى درجة التطابق أحيانا، فجاك السفاح مثلا إستهدف المومسات، باندي كان يختار الجميلات ذوات الشعر الطويل، فيما مثلا إستهدف جيف دامر الفتيان ذوي البشرة الداكنة.. و لكن جرائم سفاح بوسطن فيها إختلافات عديدة، كعمر الضحايا، طريقة القتل، أدوات الجريمة…مما جعل البعض يرجح بأنّها قد تكون من إقتراف مجرمين مختلفين.

حتى التحليل النفسي و السلوكي أثبت عدم قدرة “ألبرت دي سالفو” على إقتراف هذه الجرائم و إن إدمانه للجنس لا يتعدى التحرش و الإغتصاب في أسوء الحالات و بأنه عاجز عن القتل بذلك البرود و بتلك المهارة التي يدعيها، بل إنه جسديا عاجز على التحكم بضحاياه و خاصة الشابات منهن .. لكنّه في المقابل مستميت لإثبات أنه “سفاح بوسطن” ربما بدافع الشهرة أو لأنّه أراد أن يوفر لعائلته بعض المردود الماليّ ما دام سيقضي حياته وراء القضبان بسبب قضية “الرجل الأخضر” فلا ضير من أن يعترف بأنّه وحش بوسطن ما لم يواجه حكم الإعدام.

سبب آخر جعل الشكوك تحوم حول حقيقة كون “ديسالفو” هو سفاح بوسطن، فالشاهدة الوحيدة الناجية من هجومه ( و التي تم حجب إسمها لحمايتها) لم تتعرف عليه بالرغم من وقوفه في طابور العرض أمامها!

كما أكدّ معظم الشهود الذّين يقطنون قرب عدد من ضحايا السفاح أنّ الرجل الذي رأوه في مسارح الجرائم لا يشبه “ألبرت دي سالفو” و معظمهم قدّم مواصفات جسدية مختلفة عنه، كلون الشعر العسلي الفاتح، العينين الواسعتين اللوزيتين، الأنف الدقيق الطويل و الطول و حتى العمر، فمن رأوه لا يتجاوز 25 سنة! و هي أوصاف لا تختلف فقط عن مواصفات “دي سالفو” بل هي مناقضة له تماما!

لغز سفاح بوسطن
جورج نصار .. هل كان هو السفاح الحقيقي ؟

و لكنّها تتطابق مع رفيقه في المصحّ “جورج نصار” الذّي يقضي عقوبة السجن مدى الحياة لقتله إمرأتين و يتلقى علاجا نفسيا بعد تشخيص إصابته بإنفصام الشخصية و الذّي إدعى بأنّ “دي سالفو” قد إعترف له بأنّه “سفاح بوسطن” ممّا دفعه لطلب نصح محاميه “بايلي” الذّي بات فيما بعد محامي “دي سالفو” كذلك… عدد لا بأس به من المحققين و الأطباء النفسيين المتابعين لقضية “سفاح بوسطن” و حتى بعض الكتاب و المهووسين بالقضايا الغامضة يؤيدون رواية مفادها أنّ “نصار” هو السفاح الحقيقي و بأنّه قد أقنع “ديسالفو” بالإعتراف مقابل المال و الشهرة نظرا لما عرف عنه من عنف و تلاعب و ذكاء حاد، بعكس هدوء و غباء “ألبرت” و الذّي بعيدا عن مشاكله الجنسية و السرقة لم يكن عنيفا ..و يبدو بأنّ تلك الشكوك حول “جورج نصار” كانت سببا في رفض طلباته لنيل السراح المشروط اللذان قدمهما على التوالي في سنتين 2006 و 2008.

و بالرغم من تقدّم العلم و وسائل البحث الجنائي فإنّ تحاليل DNA التي أجريت على رفاة الضحية “سوليفان” و بقايا “دي سالفو” جاءت نتائجها متضاربة ففي أوّل تحليل سنة 2001 وجد أن الـ DNA لا يعود لـ “أبرت دي سالفو” بل لشخصين مختلفين، و في إعادة للتحليل سنة 2013 جاءت النتيجة مختلفة إذ أثبت المختبر بأن الدليل الجنائي يعود بنسبة 99.9% لـ “ديسالفو” و بأنّه قاتل “سوليفان”.. فيما ترفض عائلات الضحايا و منها عائلة “سوليفان” نتيجة التحاليل و تؤكد بأن “سفاح بوسطن” ليس “ألبرت ديسالفو” كما تقول السجلات الرسمية.

فظاعة جرائم “سفاح بوسطن” و الغموض الذّي لفّ مرتكبها أو ربّما مرتكبيها كما يقول البعض، جعل منها ثاني أكبر و أشهر الجرائم في التاريخ بعد جرائم “جاك” السفاح، و حثّت العديدين من المهتميّن بالألغاز الجنائية و تحقيقاتها المعقدة ممن لم ترضيهم نتائج البحث الجنائي للشرطة إلى بدأ تحقيقاتهم و أبحاثهم الخاصة علّ أحدهم يخرج علينا يوما بـ “سفاح بوسطن الحقيقي” كما يدعون…من يدري !

و في النهاية، أستغل الفرصة لأطرح سؤالين رافقاني طوال عملي على هذا المقال :

الأوّل حول سبب إستهداف النساء دون غيرهن بموجات و جنون القتل المتسلسل.. كم من سفاح إستهدف الذكور في مقابل أعداد مهولة من سفاحي النساء؟!

و الثّاني هل يمكن أن يكون سبب رفض إعتراف البعض بأنّ “ديسالفو” هو “سفاح بوسطن ” رغم إعترافه بذلك، أنّه لم يرضي توقعات الناس و لم يتناسب مع النموذج التقليدي للسفاحين ذوي الذكاء العالي و الملامح الدقيقة الماكرة، و العقول المتلاعبة و الشخصيات السيكوباتية؟!

مصادر :

Albert DeSalvo – Wikipedia

Boston Strangler Case Solved 50 Years Later

A half-century later, questions cloud Boston Strangler case

BOSTON STRANGLER INTERVIEW – ORIGINAL VERSION

George Nassar – Wikipedia

Albert DeSalvo or George Nassar: Who Was “The Boston Strangler”?

تاريخ النشر : 2017-06-18

صبا

مصر
guest
44 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى