أدب الرعب والعام

غرفة رقم (7)

بقلم : دعاء – السودان

غرفة رقم (7)
ليست هي المرة الأولى التي أحجز فيها غرفة لنفسي داخل مشفى كمريضة فقط وكعرابة موت أيضاً..

الساعة الآن تمام الثالثة والنصف صباحاً ، أنا اﻵن في إحدى مشافي الخرطوم ، أنظر عبر نافذة الغرفة رقم (7) ، إلى اتساع الظلام بين أزقة الحي الهاجعة حول المستشفى . 
الآن هذه غرفتي وحدي ، إلى حدٍ ما تشبه غرفتي تلك في المشفى الأردني قبل عام من الآن ، ولسخرية القدر كانت تحمل الرقم (77) … هل علي أن أتشاءم من الرقم (7) إذاً؟! ليست هي المرة الأولى التي أحجز فيها غرفة لنفسي داخل مشفى كمريضة فقط وكعرابة موت أيضاً..

منذ نصف ساعة علقت الممرضة محلولاً وريدياً غرست داخله حقنة مملوءة بسائل أصفر .. ضبطت إيقاع القطرات إلى إيقاع نبضات ساعة معصمها ، وقبل أن تخرج قربت إلي سلة المهملات ذات الكيس الأزرق السميك وقالت : 
– هذا إن شعرت بالغثيان . 
ثم أغلقت بابي الألمونيوم ومضت .. كنت لا أزال أتتبع خيال المارة خلف زجاج الباب الضبابي وهم يزرعون خطواتهم في الممر المضاء بأضواء ساطعة تنفذ خلال زجاج نافذتي المظلمة بخفة ، لتمنحها إضاءة خافتة تكفي لتحريك الوهم برأسي .

مع كل قطرة لزجة تمر عبر أنبوب المحلول الوريدي إلى ذراعي الأيمن ، يزداد الطنين برأسي .. أزيز دائم طوال الوقت يعلو يعلو داخلي حتى ما عدت أسمع صوت نفسي وهي تهدهدني طوال الليل : 
– اصبري…اصبري…اصبري .

من وقت لآخر ، أصاب بتنمل في ساقي حتى لا أدري حقاً هل أمتلك ساقين أم لا ، وقبل أسبوعين عندما خضعت لجلسة علاج سابقة تورمت إحدى ساقاي فجأة ، وأصبحت من الألم أتمنى بترها ولكنهم بعد الفحص طمأنوني أن لا شيء يدعو إلى القلق ، وحتى الآن هذه مضاعفات طفيفة للدواء القاتل ، (يمكنك تحملها !!)

يمكنني تمييز الذين يمرون أمام باب الغرفة ، ويكتفون بالإنصات إلى الأنين الصادر من تحت أسناني المطبقة ، دون قصد مني لأني لم أقوَ على الاحتمال .. ثم لا يدخلون ، حتى لا أرى دموعهم … 

أعرف تلك المرأة الباهتة ذات العينين السائحتين خلف زجاج الباب ، كانت تصر على أن تسقيني منقوعاً لحبة البركة ممزوجاً بالعسل كل صباح .. أعرف أنها دخلت إلي بعد أن فركت عينيها بطرف ثوبها لتلقي عي نظرة قلقة وتجلس بجانبي يفترسها الصمت … ترفع قدمي فوق فخذيها وتمسحهما بمنديل مبلل … تعرف كم يؤلمانني وكأن مسامير تتنافس لتنهشهما ، لا تتوقف عن تلاوة الآيات لتمنح القدر رشوة تبقيني بها لعامٍ آخر … لشهرٍ آخر … ليومٍ آخر حية … فقط لأنها أمي .

طنين … طنين … يعقبه طنين آخر كأزيز محرك طائرة تتأهب للإقلاع ، لم أعد أسمع شيئاً غيره..صوت ألم يكاد يقتلع عظامي من أماكنها ، وكثيراً ما ظننت أني إذا قمت من السرير الأبيض هذا فسوف أخلف عظامي فوقه لأني ما عدت أقوى على حملها .
لا يزال علي أن أبقى متيبسة فوق هذا السرير لساعة أخرى حتى ينتهي هذا الدواء اللزج الذي تنفذ رائحته الكريهة في أنفاسي وعرقي وفي كل شيء حتى دموعي ، هو لا يشفيني بقدر ما يمتزج بي ليحولني إلى كائن لزج يتعلق بالموت أكثر من تعلقه بالحياة .

لست أدري كم مضى من الوقت … أنظر إلى الساعة الآن هي تجاوزت الرابعة صباحاً بأربعين دقيقة .
لست أدري لمَ يتلكأ الوقت ؟ لمَ يصبح الآن هلامياً كلوحة ساعة سلفادور دالي؟ لمَ يتماطل في المضي قدماً ؟ لمَ لا يتركني الوقت وشأني ويمضي بدوني ؟! لمَ لا يتركني منسيةً وحسب ؟!

قبل عام من الآن كنت أكثر شجاعة ، عندما ذهبت لأجري فحصاً إشعاعياً ليظهر ماهية وحجم ذلك التلبك في صدري ، وكنت أكثر شجاعة لأجري ذلك الفحص المخبري المؤلم ، عن طريق غرس إبرة غليظة إلى عمق التلبك في صدري ليحصلوا على قدر من الخلايا لفحصها .
كنت أكثر شجاعة و أنا أذهب لاستلام النتائج المخبرية بنفسي … لم يكن برفقتي سوى صديقتي .. كنت أعرف النتيجة مسبقاً ، و أمضيت أياماً عدة وأنا أدرب نفسي على تقبل الأمر ، وادعاء أن الله يحبني … وبرغم ذلك ذلك أصابني دوار .. دوار هائل جعلني أهوي على الأرض و أنا أقرأ تقرير الطبيب بأني في المرحلة الثانية من المرض سيئ السمعة … لمَ لم أتمالك نفسي وأنا كنت أتدرب على هذا الموقف بالذات ؟! لم أكن متفاجئة أو خائفة حتى ، كنت فقط أتساقط بلا توقف إلى أعماق مجهول لا قرار له..

أسوأ ما كان في الأمر ، أنه كان علي مواجهة أهلي ومصارحتهم بالحقيقة .. وكان هذا يتطلب من الشجاعة قدراً لم أعد أمتلكه .
جلسنا معاً بعد الغداء وقد تصادف أنهم جميعاً كانوا موجودين يتسامرون ويحتسون الشاي .
بدأت بجدية أخبرهم عن الأمر تدريجياً حتى ألقيت الجملة أخيراً ، قلت النتائج إيجابية ، وأنا مصابة بلا أدنى احتمال للشك .. أو أمل في النجاة .

كانوا ينظرون إلي في ذهول وصمت مربك .. وبأفواه ودَّعت آخر ابتسامة مهملة من سمرهم الوديع ، كانوا ينظرون إلي بأعين زجاجية لا تطرف .. في انتظار أن أتراجع ، أن أضحك وأقول كانت تلك مزحة .

اقترب أخي مني ، هز كتفي قال :
– قولي أنك تمازحيننا … قولي أنها دعابة ثقيلة … 
لم أنبس بكلمة ، لكن لم أستطع منع نفسي من النشيج .. بدأ أبي يبكي خائراً على مقعده ، كنت قد أخبرته في الصباح وكان مذهولاً طوال اليوم .. قام أبي من مقعده ، أخذ الفحوصات من بين يدي ، أعاد قراءتها غمغم :
– سنعيد الفحوصات في أحسن مشفى ونقابل أحسن طبيب لعل هناك خطأ ما ، لا بد من وجود خطأ 

لم أستطع الكلام … وددت أن أخبرهم أنه قد فات الأوان كثيراً ، وبدلاً من ذلك طلبت منهم ألا يصدروا جلبة فقط .

أعدنا الفحص وقابلنا الأطباء ، ، للمفاجأة قالوا جميعاً نفس الشيء .. ورم من الدرجة الثانية !
سافرنا إلى الأردن لإجراء عملية استئصال ، طلبت منهم استئصال الجزء شق الآخر المعافى من صدري أيضاً لأصبح فتاةً لا تعير اهتماماً لرمز أنوثتها.. ماذا سأفعل بالآخر ؟ قلت للطبيب الأردني وأنا أوقع على أقرار عملية الاستئصال .

قطرات المحلول الوريدي تهوي ببطء ، أمعن النظر فيها وأفكر كيف تفتك بجسدي كل يوم دون رحمة.. تنتزع الحياة من كل الخلايا دون تميز بين خلية صديقة وأخرى خبيثة .. إنها معركة مع الموت ، وعلي أن أقاوم الدواء قبل أن أقوام المرض ، ولأني طبيبة كنت أعرف كيف أن الدواء هو من يقتل المرضى وليس المرض … كان تحدياً كبيرا أن أجتاز اختبار الموت هذا وأعبر إلى الحياة ولا يحدث هذا كثيراً هنا ، لا أثر لأي معجزة…

عندما بدأت جلسات العلاج هذه منذ شهر قمت بأخذ صورة لنفسي قبل أن أقوم بحلق شعري والاستعاضة عنه بشعر مستعار بنفس لونه وطوله كي لا أشعر بالإكتئاب .
والآن اعتدت على شكلي هكذا صلعاء بوجه أمرد تساقطت عنه الحواجب والرموش ، وكلما نظرت إلى المرآة ، عرفت أن هذه ما هي إلا أنا .

تمرنّا على الموت ، لم يكن هذا سوى وجه إنسان ميت منذ أعوام … غدا سينقل إلي دم لأن الدواء حطم جميع خلايا الدم وأتلف النخاع أيضاً … أتسائل وانا أنظر إلى سقف الغرفة المنمق ..من سينجو من هذا ؟ من يستطيع أن يكسب معركة الموت هذه ؟؟
منذ أيام والموت ضيف على حواسي جميعها ، وأعرف أن الأمر بيننا ما هو إلا مسألة وقت وحسب .. إحدى بنات أخي أوصتني أن أجلب لها حلوى عندما أعود .. ستعرف يوماً ما أن عودتي تلك سخاء كبير من جبروت هذا الموت الذي أتذوق طعمه الآن ، مراً وجافاً في حلقي .. مراً وجافاً ، هذا هو طعم الموت لمن لم بذقه بعد..
 

تاريخ النشر : 2017-07-28

دعاء

السودان
guest
23 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى