تجارب ومواقف غريبة

جن الصحراء المشاغب

بقلم : د. محمد زهير – مصر

جن الصحراء المشاغب
ثياب مهلهلة ومقطعة ويداه مسترسلتنا إلى أسفل ..

في بعض بقاع صحراء مصر القاحلة دائما ما كنا نجلس ليلاً بعد يوم عمل مرهق في حفر التربة واستخراج بعض العينات منها يبدأ المتخصصين منا في فحص تلك العينات أثناء الليل والبعض الآخر يذهب ليغط في النوم بعد الإعياء الذي حل به من عناء العمل أما الآخرين والذين ما زال فيهم رمق العيش بأجساد بطولية تتحمل السهر يجتمعون سويا بجوار مخيمات المبيت مع خفر الحراسة الذين يوقدون لنا النار للتدفئة والتي تساعد أيضا على الإنارة للسمر حولها ثم يحضر البعض الآخر منهم العشاء في أواني ضخمة تستوعب ما يملأ بطون هذا العدد المتجمع.

أمر قائد الحراسة لدينا بعض جنوده القائمين على إعداد الطعام بأن يحضروا العشاء كي ننعم به في هذا الجو السامر، فانصاعوا له وبعد أقل من دقيقتين قدم إلينا أحدهم يهرول وعيناه تملئهما الرعب وهو يلهث ويتحدث بكلمات سريعة توهمك وهو يصدرها مختلطة مع أنفاسه الهائجة كأنه يتحدث بلغة النوبة أو بأحد اللغات القديمة فأقدمنا عليه وحاول كل منا تهدئته حتى استجمع شتات نفسه وقال لنا إن "حلة الطعام" – يعني القدر – قد اختفت، عندها أخذ بعضنا يضحك يظنه يتصنع الأمر فأخذ يقسم بالأيمان المغلظة بأن الحلة قد اختفت فعلا، سأله قائد الحراسة وهو ينهره: "كيف تختفي حلة الطعام، من المؤكد أن أحدا من الموجودين قد أخفاها كي يمزح معك ومعنا".

هنا بدأ الحارس في الارتجاف وهو ينظر حوله وقال له: "لا يا سيدي إنهم العفاريت"، فار الدم في عروق قائده وقال له: "أيها الأبله أي عفاريت هل تصدق بتلك التخاريف، اذهب حالا إلى صومعة الطعام وابحث عنها وإن لم تأتني بها ولو فارغة فسأرفع تقريرا ضدك وتحبس حبسا انفراديا"، أقبل زملائه يسترجون قائدهم بألا يفعل لأنهم يعتقدون بأن زميلهم على حق وأنهم حُذِروا في بداية أعمالنا من قِبَل البدو هناك بأن تلك المنطقة هي واد للجن تسكنه منذ آلاف السنين وحذروهم من العمل في تلك المنطقة ولكنهم قد خشيوا من إخباره بهذا قبل ذلك، رد قائدهم: "وهل يعقل أن الجن يسرقون حلة الطعام" رد أحد زملائي وقد كان كثير الاطلاع عن هذه الأمور: "نعم أيها الضابط فلقد قرأت قبل ذلك أنهم يستطيعون نقل الأشياء المادية"، نظر إليه الضابط وهو مغتاظ بضع لحظات ثم وجه الأمر إلى الحرس بأن يذهبوا كل إلى موقعه المنوط به العمل فيه وبألا يفاتحه أحد ثانيتا بشأن هذا الأمر.

توجه الجنود إلى حيث أمرهم ومن ثم بدأنا نحن فريق العمل بالانسحاب أيضا واحدا تلو الآخر إلى حيث أماكن مبيتنا ونحن يغمرنا صمت حزين لأجل الأمسية والعشاء المرح اللذان ذهبا مع الريح.

أنا بعد وصولي لمحل المبيت الخاص بي بدأت أتجهز للنوم مع تشغيل المذياع على إذاعة القرآن الكريم والتي كنت أسمع معها تشويشا قد يصل إلى حد الإزعاج وقد أوعزت ذلك حينها إلى ضعف الإرسال نظرا لأننا بعيدين عن العمران، ثم حدث أنه كلما تسلل النوم إلى أجفاني سمعت طرقا على الجدران وعلى الباب يوقظني ثانيتا، حتى إذا مللت واشطت غضبا مما يحدث توجهت إلى باب الغرفة وفتحتها وكانت غرفة قائد الحراسة تقابل غرفتي تقريبا حيث وجدته قد فتح باب غرفته في نفس الوقت، حينها رأيته يسب الحراس وينادي عليهم فتجمعوا عليه وسألوه عن ما يزعجه، أجاب بصوت عال: "من منكم الذي يمزح معي وطرق على الباب وينادي باسمي بصوت يقلد فيه الإناث"، نظر الجنود إلى بعضهم البعض في هلع فتقدم أحدهم منه وجثى على ركبتيه قائلا: "والله يا سيدي نحن ننعى من هذا الأمر منذ عدة أيام وكل منا يسمع من يناديه باسمه بصوت كأنه صوت أنثى أو صوت وحش أو بصوت بحيح وإذا أراد أحدنا تشغيل المذياع على إذاعة القرآن الكريم وجد من ذلك أشد رهقا أما إذا غيّر الإذاعة إلى أغاني وموسيقى هدأ جميع ذلك، وقد خشينا إخبارك حتى لا تتهم مخبرك بالجنون أو ينال من عقابك، أما الآن فأرجو أن تكون قد صدَّقت بجميع حديثنا بشأن ذلك الأمر.

ظل قائد الحرس شارداً لبضع دقائق من دون أن يتفوه ببنت شفه ناظراً إلى بعيد في وسط الصحراء أمامه وكأنه ينتظر في ترقب أحد قادم عليه ثم بدأت ملامحه تنبئ أنه قد عزم قراره على شئ، عندها قال للجميع حسنا فليذهب جميعكم إلى مبيته ولا يحاول الخروج منه مهما كان الأمر حتى الصباح ثم توجه إلينا نحن فريق البحث وطلب منا الإسراع في إنهاء مهمتنا في أقرب وقت ممكن، فأجبنا له بموافقته على ذلك وأوضحنا بأننا سننتهي فعلا في قريب الأيام من الآن.

في الصباح بدأنا نشاطنا بشكل أعجل عن ذي قبل وكنت قد طلبت من سائق لدينا أن يصحبني أنا وأحد الزملاء الجيولوجيين إلى منطقة تبعد عن موقعنا ثلاثة كيلومترات حتى نحضر منها بعض العينات السطحية وبعدما أتممنا مهمتنا في جمع تلك العينات عزمنا على الرحيل وطلبنا من السائق أن يعود بنا إلى الموقع بدأت السيارة في الحركة وبعدما سارت كيلو متر واحد تقريبا بدأ محركها في الزمجرة معلنا عدم طاعته للسائق وبعد محاولات عديدة منه من أجل مصالحة ذلك المحرك العنيد يأس سائقنا الهمام فأخبرنا بالخبر المؤسف وهو أن علينا أن نترجل من السيارة في اتجاه الموقع، أطعنا كلامه وبدأ ثلاثتنا في الحديث عن بعض الأمور أثناء السير وبعد دقائق من المحادثة والتي بدأت تأخذ منعطف مرح بيني وبين السائق الذي كان حينها يسير عن يميني وأنا في الوسط وزميلنا الجيولوجي على اليسار والذي تنبهنا بأنه أصبح غير منساق معنا في هذا الحوار المرح بيني وبين السائق، فبدأت بتنبيهه وقلت له: "ألا تشاركنا"، عندها فوجئت بأنه لا يرد علي ويتحرك ببطء وليس ذلك فحسب بل كانت عيناه جاحظتان وهو ينظر عن يميننا يظهر عليها كل رعب الدنيا وكأنه يرى أمامه أشد الوحوش الأسطورية ضراوة وهيبة، ففزعت من هيئته وبدأت أنا والسائق نوجه أبصارنا نحو جهة ما ينظر إليه فوجدنا رجلا يسير بمحاذاتنا على بعد عدة أمتار بخطى ضيقة وسريعة في نفس الوقت له ثياب مهلهلة ومقطعة ويداه مسترسلتان إلى أسفل في ثبات مع طولهما والذي يصل بهما إلى أعلى من ركبتيه قليلا وكان يدلي لسانه وهو فاغر فمه ولسانه مع تدليه يصل إلى أسفل ذقنه ويظهر نابان طويلان إلى حد ما فوق المستوى الطبيعي بمرة ونصف (حسب تقديري) مع قصر شعر الرأس حتى وكأنه لا يكاد ينبت، تملكنا جميعا الذهول وأسرعنا الخطى نحو موقعنا وأسرع أيضا ذلك الكائن العجيب في الإسراع بنفس تلك الخطى الضيقة وكأن ساقاه مربوطتان بحبل يصنع فارق قليل بينهما وهو يحافظ أيضا على مستوى محاذاتنا في السير أما أنا فقد بدأت بقراءة آيات من الذكر الحكيم، وعند لحظة وجدنا زميلانا الجيولوجي تسمر في مكانه وهو يأبى الحركة غير عابئ بتوسلاتنا له حيث نحثه على الإسراع معنا وبأننا قد قاربنا على الوصول بمسافة لا تزيد عن 500 متر وبعد دقائق من محاولاتنا معه كي يتحرك أغمي عليه فجأة فاحترنا في أمرنا ونظر السائق جهة ذلك الكائن فوجده غير موجود فتلفت حواليه في كل جهة فلم يجده فأخبرني بذلك فحمدت الله تعالى وقلت له أن يساعدني في حمل زميلنا (والذي وجدناه ثقيلا للغاية قد يصل مع سمنه إلى 140 كيلو من الجرامات) فحملناه سويا – بصعوبة طبعاً – حتى وصلنا إلى موقعنا ونحن في أشد الإعياء من هذا الحمل وأسرع السائق بإخبار أحد الحراس كي يذهب إلى طبيب الموقع لإحضاره وإلى آخرين كي يساعدونا في حمله، ذهبنا به إلى عيادة الطبيب وبعد أربع ساعات استفاق زميلنا بعد أن حصل على مهدئ أثناء غيبوبته وقد بشرنا الطبيب بأن حالته مستقره ولكن عليه أن يمكث في عيادته بعض الوقت.

على أثر ذلك الحادث الأخير وبعده بيومين حصلنا على تصريح من جهة عملنا بمغادرة الموقع كي نبدأ العمل في موقع آخر يبعد عنه كثيرا وذلك بعدما حادثنا أحد شيوخ قبائل البدو والذي جاء لزيارة زميلنا في مرضه بعيادة الطبيب بأن الجن يفعلون هذا فقط لأجل أن نرحل عن واديهم ومملكتهم فهم لا يريدون أذيتنا ولكن إبعادنا فقط كي ينعموا هم بسلام العيش.

دمتم في رعاية الله وأمنه

تاريخ النشر 10 / 04 /2014

guest
21 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى