أدب الرعب والعام

جمال الوجه لا يطمس قبح الروح

بقلم : علي النفيسة – السعودية
للتواصل : [email protected]

جمال الوجه لا يطمس قبح الروح
سألته لتغير الموضوع : هل أنت متزوج ؟

الساعة الواحدة بعد منتصف الليل ..

(سلمى) : انظري ليلى إلى ذلك السمين هناك يرقص كالمخبول…
(ليلى) وهي مقهقهة بصوتٍ عالٍ واضعةً يدها على فمها لكتم ضحكتها :
“يبدو أنه شرب حتى الثّمالة”
(سلمى) وهي تشاركها نفس الحالة :
“صحيح كم شكله مضحك”

(ليلى) و(سلمى) أختان شقيقتان مع مجموعة من المسافرين في حفلة ليليّة على متن سفينة تعبر البحر…
أشرفت الرحلة على نهايتها بعد مضي أيام على وجهتهم حيث سيصلان في مساء يوم الغد إلى ميناء الدولة الذي يقطن فيه والدهما بعد انفصاله عن أمهما منذ سنوات..

أرادت الأختان قضاء الليل بالسهر والشرب تعبيراً عن فرحتهما على قرب الوصول..

(ليلى) : “ألم تتصلي على أبي لتذكريه بموعد وصولنا ؟”
(سلمى) : “بلى، كما أني اتصلت بأمي وأخبرتها بذلك أيضاً لتطمئن”
ثم همست (ليلى) لأختها: ” انظري إلى ذلك الشاب إنه يحدّق إليك”
(سلمى) : “أين؟”
(ليلى) : “في الطاولة المجاورة”
(سلمى) : “لا عليكِ إنه على هذا الحال منذ أكثر من ساعة”
(ليلى) و هي ضاحكة : “لمَ لم تخبريني ؟ “
وضحكت كلتا الأختان من نظرات ذلك الشاب..

كان سلوك الفتاتين وقضائهما للسهرة متمثلاً بالاستمتاع بالشرب والتعليق على المتواجدين في السهرة.. كتعليقهم على الشاب السمين الذي يرقص كالأهبل ، وآخر يحدق بـ (سلمى) ، وعجوز مسن يعاكس فتاة و فتاة أخرى ترقص مع عشيقها إلخ…
إلى أن مر بجوارهما شاب في نهاية الثلاثينات.. فاره الطول ، تظهر عليه مظاهر الثراء ، ثم وقف و أسند ظهره على الجدار على بعد مسافة بسيطة منهما..

أخرج الرجل من جيبه سيجار من النوع الفاخر وأشعله بقداحته وأصبح ينفث الدخان وهو يشاهد استمتاع الحضور بالرقص..
لفت الرجل انتباه الأختان وخصوصاً (ليلى) التي حدّقت إليه، فوجدته شاباً رائع التفاصيل ، مرتب اللباس ، ذو ذقن وشارب منمقين.. همست لأختها وهما تحدقان إليه : “يبدو ثرياً”
(سلمى) : “يبدو ذلك”
بعد دقائق وفور أن رمق الرجل (ليلى) بنظرة خاطفة ابتسمت له ، لكن (سلمى) قطَّبت حاجبيها مستنكرةً سلوك أختها المفاجئ ..

ذهب الرجل بعد ذلك إلى طرف السفينة بعيداً عن الصخب والموسيقى..

(ليلى) : “سأذهب إليه”
(سلمى) : أجننتِ.. إنه يبدو أكبر منكِ “
(ليلى) : “لكن يبدو عليه الثراء”
(سلمى) : ” ليلى هل أفرطتِ بالشرب؟”
(ليلى) : “لا ، لا أبداً” .
ألحت (سلمى) على أختها عدة مرات بأن تقلع عن فكرة الذهاب إلى ذلك الرجل لكن دون جدوى..
(سلمى) : “عموماً، إذا كنتِ مصرة سأذهب إلى غرفتنا لأني شعرت بالنعاس ، لكن تذكري لستُ مسؤولةً إذا حصل لك أمرٌ ما”
(ليلى) : “اطمأني ، لا عليكِ”

لحقت (ليلى) بالرجل بعد أن ذهبت أختها إلى غرفتها..
وقف الرجل على طرف السفينة ينفث الدخان بسيجاره محدقاً في الأفق ، اقتربت منه (ليلى) ، فسألته:
“هل أنت مسافر لوحدك ؟”
(الرجل) وهو مازال على حاله : “نعم ، وأنتِ؟”
(ليلى) مبتسمة : “أنا مسافرة برفقة أختي، وهي الآن ذاهبة لغرفتها لتنام”

لم يعلق الرجل على ردها وساد الصمت بينهما لدقائق، و (ليلى) تحدق فيه وهو مازال على حاله محدقاً في البحر.. أرادت أن تكسر حاجز الصمت بينهما، وأخرجت من جيبها علبة المكياج المحتوية على مرآة صغيرة ، وأصبحت تستخدم أحمر الشفاه لتطلي شفتيها مستمتعةً بمشاهدة وجهها في المرآة ، ثم قالت :
“كم أنا جميلة”
التفت الرجل إليها ثم أعاد نظره نحو الأفق قائلاً :

“جمال الوجهِ لا يَطمُس قبحَ الروح”

تقلصت عضلات جبهة (ليلى) من شدة استغرابها من رده..
ثم ساد الصمت بينهما مرة أخرى مدة دقائق إلى أن قال (الرجل) :
“ما أجمل صوت أمواج البحر المتلاطمة في هذا الوقت، أليس كذلك؟”

(ليلى) وهي تحدق نحو البحر بعد أن وضعت علبة المكياج في جيبها :
“بلى معك حق”

(الرجل) وهو يحدق في القمر : “”والذي يزيده جمالاً سماعه والقمر مكتمل “

(ليلى) وهي تنظر للقمر ، وقالت مجاملةً: “صدقت”

(الرجل) وهو يعيد نظره للبحر : ” ألم تسألي نفسك لماذا البحر مالحاً”

(ليلى) : “أذكر أني قرأت عن هذه المعلومة، أعتقد بسبب خصوبة التربة في قاع البحر”.

(الرجل) وهو يعيد نظره إلى (ليلى) : بل بسبب همومنا وأحزاننا”

شعرت (ليلى) بالضيق من هذا الرجل فقد لاحظت أنه غريب الأطوار ، سألته لتغير الموضوع :
“هل أنت متزوج ؟”
(الرجل) : “لا”
(ليلى) : “غريب”
(الرجل) : “ما الغريب في الأمر ؟ “
(ليلى) : “شاب في سنك لم يتزوج !”
(الرجل) : “هل أنا مسيّر أم مخيّر؟”
(ليلى) : “مسيّر طبعاً فالزواج قسمة ونصيب”

صمت (الرجل) وهو ينفث الدخان، وأعاد نظره للبحر، ثم قالت (ليلى) :
“يبدو عليك الثراء.. لابد أن هناك أمور تستمتع بها في حياتك وتلهيك عن فكرة الارتباط بامرأة”.

رد (الرجل) برد أكثر غرابة : ” نحن البشر طبيعتنا ساخطون للنعم لا ندرك قيمتها إلّا بعد زوالها”

حاولت (ليلى) مجاراته في الحديث وقالت مستهزئة : “أنتم الأثرياء تتحدثون وكأنكم تُعساء في حياتكم”

(الرجل) وهو ينظر إليها مبتسماً : “لماذا؟” 

(ليلى) : دوماً تتحدثون عن التعاسة وأنتم لديكم السعادة”.

(الرجل) وهو يدير ظهره للبحر محدقاً للحفلة الصاخبة من بعيد :
“وما هي السعادة بنظرك ؟”
(ليلى)” وهي تشاركه نفس الحالة : “و هل هناك غير المال ما يجلب السعادة”

أخذ الرجل ينفث الدخان صامتاً مرة أخرى بضع ثوانٍ.. ثم خلع من يده اليسرى ساعة فخمة ، وأصبح يحدق بها قائلاً :” ألا تودين أن تكوني ثرية ؟ أقصد أن تكسبي أموال طائلة؟”
(ليلى) باندهاش: “كيف .. هل لك أن توضح أكثر؟!”
(الرجل) وهو ينظر إلى (ليلى) بنظرات أكثر جدية مقدماً لها الساعة:
” هذه الساعة مرصّعة بالألماس ، تعادل قيمتها تقريباً نصف قيمة السفينة التي أنتِ على متنها.. خذيها”
(ليلى) ممسكة بالساعة محدقة بها بانبهار: “لي أنا؟!”
(الرجل): “نعم لكِ”
(ليلى) وهي مازالت محدّقة بفخامة الساعة بإعجاب : “هكذا دون مقابل ؟!”
(الرجل): “لكل شيء مقابل في الحياة “

اقتربت (ليلى) إلى الرجل مبتسمةً ظناً منها أنها فهمت قصده، حتى التصق جسدها به ، وهمست في إذنه:
“وما هو المقابل؟”
(الرجل) : “هل تستطيعين السباحة؟”
(ليلى) باستغراب: “نعم”
(الرجل) : “إذاً اقفزي في ماء البحر”
قطبت ليلى حاجبيها من شدة استغرابها من طلبه الغريب، وقالت :
“ما هذا الطلب الغريب ، لماذا تريد مني ذلك ؟!”
(الرجل) : “فقط أحب مشاهدتك وأنتِ تسبحين بلباسك”
(ليلى) وهي تشير إلى ملابسها : “بهذا اللباس؟”.
(الرجل) : “نعم”

ضحكت (ليلى) بصوتٍ عالٍ، ثم قالت :
“يبدو أنك بحاجة ماسة للزواج”
(الرجل) بوجه أكثر جدية وصرامة :
“ماذا قلتِ، هل ستقفزين أم لا ؟ إذا كنتِ لا ترغبين سلميني الساعة”
(ليلى) وهي تشاهد البحر بوجه مرتبك وشعور متردد لبضع ثوانٍ، ثم قالت :
“يلزم إيقاف السفينة”
أشار (الرجل) منادياً لأحد الملاحين العاملين في السفينة، وحضر قائلاً :
“نعم سيدي”
(الرجل) : “قل لهم بأن يوقفوا السفينة”
(العامل) : “أمرك سيدي”
ذهب (العامل ) لتنفيذ الأمر، وأصبحت السفينة تخفف من سرعتها حتى توقفت في مكانها…
(ليلى) مندهشة : “كيف أقنعتهم بأن يوقفوا السفينة؟!”.
(الرجل) وهو يشفْ سيجاره وينفُثْ الدخان بشدة :
“بكل بساطة لأني مالكها “

سال لعاب (ليلى) من شدة ثراء هذا الرجل، فلم تتوقع أن الرجل الذي أعجبها هو مالك السفينة..
(الرجل) : “ألن تقفزي؟”
(ليلى) بحماس بعد أن وضعت الساعة في جيبها :
“سأقفز”

قفزت (ليلى) في البحر بإسلوب احترافي ، وأصبحت تسبح بحماس ومهارة عالية حيث إن البحر لم يكن هائجاً وقتها..
ثم توقفت عن السباحة وهي تزفر من التعب قائلة : “لقد نفذت ما تطلبه مني”
(الرجل) : ” نعم صحيح”
(ليلى) : “إذاّ أصبحت الساعة ملكي”
(الرجل) باتسامه خبث : “نعم أصبحت لكِ الآن”

ثم أشار الرجل إلى أحد العاملين بتحريك السفينة، ثم رمى سيجاره الفاخر في البحر ، قائلاً : “بعد إذنك سأذهب”
(ليلى) : “أين.. ألم ترمي الحبل لأتسلق ؟!”
(الرجل) : “عذراً لم نتفق على ذلك “
لاحظت (ليلى) أن السفينة بدأت بالحراك ، وقالت مفجوعةً :
“هل جننت ، تتركني وحدي في البحر ؟!”.
(الرجل) : “ألم تقولي بأن المال هو السعادة ..إذاً استخدمي الساعة للحصول عليها”

بدأت (ليلى) بالصياح حيال هذا الرجل لكن بلا فائدة، إلى أن غاب عن عينيها..

استمر صياحها وطلبها للنجدة مذعورةً من موقفها المفاجئ.. إلى أن بدأت السفينة تبتعد تدريجياً حتى غابت عن أنظارها ،
ظلت (ليلى) تسبح لأكثر من ساعة في البحر ، وهي في قمة الهلع من وضعها الحالي محاولةً تماسك نفسها في السباحة بحيث تطفو على سطح البحر..لكنها مع مرور الوقت بدأ يصيبها التعب والإجهاد حيث شعرت بأن قواها بدأت تضْمحِل شيئاً فشيئاً..

***

(بعد عدة أشهر من الحادثة ، وفي الصباح الباكر) :

مجموعة من الغواصين برحلة بحرية استكشافية في قاع البحر ..
كان الغواصون يجوبون قاع البحار مستمتعين برؤية الأسماك الملونة والكائنات الأخرى التي فيه..
لفت أحدهم لمعان شيء يعكس الضوء من أحد الطحالب التي تبتعد عنه مسافة قريبة.. سبح مسرعاً باتجاه الطحلب ظناً منه أنه اكتشف إحدى اللآلئ ، وعندما تفحصه وجد علبة مكياج مفتوحةً بها مرآة عاكسة للضوء .

النهــــاية

ملاحظة من الكاتب : إبراءً للذمة هذه القصة فكرتها مستوحاة من إحدى الروايات لكن بأحداث مختلفة .

 

تاريخ النشر : 2017-08-28

علي النفيسة

السعودية
guest
31 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى