أدب الرعب والعام

رعب العنقاء – الجزء الثاني

بقلم : كووبر حكيم – المغرب
للتواصل : [email protected]

رعب العنقاء - الجزء الثاني
فتح باب الحجيم الذي انتظر قدومي لمدة طويلة على ما أعتقد ..

ليلة طويلة مرت بين صفوف قراصنة ” العنقاء ” لم أتخيل يوماً أن القدر قد يسوء إلى هذه الدرجة , أنني سأجبر على العودة إلى جحيم البرازيل و إلى قبضة الامبراطور البرتغالي وإلي سجن العذاب النفسي ذاك .

لم أستطع النوم تلك الليلة بعد تناولي للعشاء في مقصورة الربان رفقة ” لويس” بحراسة و مراقبة مشددة من خمسة بحارة , طرحوني أرضاً بضرب مبرح في القبو حينما انتهيت من الأكل وبدأت أسب وألعن شيطان البحر الجديد بعد أن رفعت سكيناً لتقطيع اللحم وكنت على وشك طعنه في صدره , إلا أنه أمسك يدي بكل قوة في الوقت المناسب ودفعني ليلتقطني حراسه و يرمومنني في الظلمات السفلية المنسية رفقة كلاب ضارية وخنازير عفنة و بضعة قردة و حيوانات في عدة أقفاص…

حاولت التقرب إلى النوم ومغازلته لكن رائحة المكان كانت تخنق أنفاسي وتبعده عني و ترغمه على عدم الولوج لفؤادي الوحيد وتعيد الذاكرة بي إلى كوابيس غابرة ، فظل ذهني يزفر عرقاً وصعوبة تنفس, ومع كل دمعة جبين تنزل يرجع معها الزمن للوراء….

تذكرت ليلتها تجارب الماضي المرير , حراس سجن كانوا يأتون كل فجر يوم جديد يخبرونني فيه أن موعد إعدامي بعد ساعات ضئيلة , أتذكر جيداً كيف فكنت أبكي عند رؤية الشمس وأتوسل أن يتأخر موعد إشراقها ولو للحظات قليلة لدقائق معدودة أو ثوانٍ محسوبة أتنفس فيها قطرات من الوجود والحياة… ولو أن لدة ومعاني الوجود انقرضت في ذاك السجن ورغبة و إرادة الحياة لم تشأ يوماً الدخول من بوابة زنزانتي , إلا أنها ظلت تسهر معي وتؤنسني لكن من بعيد , تخيط لي ذكريات ملحماتي وعائلتي و تبهجني بأمل في الحياة بعد الموت والخلود الأبدي .

كنت قد وصلت إلى درجة حاولت فيها الانتحار مرات ومرات ، لعنت القدر و القرصنة و سوء الاختيار الذي سلط على حياتي , وحين توقف بي الزمن وانتهت المعاناة وتركت قلبي يغرق في بحر حطامه و حسرته ودموعه الدامية ووداعه الأخير لمحبوته التي لم يرها من شهور ليست بالقليلة ، فظهر من العدم ذلك الحارس الطيب , سنين عمره و شبابه التي كانت تصغرني لم تمنع بطنه من الظهور و الانتفاخ من كثرة الجلوس واحتساء القهوة و السهر ..

كان يراقبني في سجني المنفرد كل مساء يناولني حساءً سيئاً وخبزاً غزته الصلابة واحتلته البرودة و القرف , فكنت أجلس طوال الوقت أتناول العشاء الفاخر بالنسبة لتلك الظروف القاهرة على أرضية زنزانتي ذات النافقدة السقفية المفتوحة تماماً ، ولن أستطيع أن أصف لكم بدقة شدة العناء في ليالي البرد القارس والشتاء الغزيرة المتسربة من السقف المفتوح كلياً مدمرة بذلك حرارة جسدي ومالئة الزنزانة بحوالي أكثر من نصف متر من الماء مطهرة بذلك ثيابي الوسخة , لم أميز و لم أشأ تمييز طبيعة ما حل بي إن كان نعمة أم مصيبة أم انتقام إلهي …فكنت أضحك معظم الوقت إلى درجة الجنون وأصيح لوحدي مناجياً أي كائن في الخارج يسمعني صارخاً بأعلى صوتي :

– “انظروا و انظري أيتها السماء , أيها القمر , ويا أيتها الغيوم السوداء , اشهدي أيتها النجوم فأنا أول من ينام غارقاً في زنزانة مليئة بالمياه العذبة ولا يختنق أو يموت ” .

حاولت الحفاظ على رباطة جأشي ودرة من صبري المبعثر و المنحل , كما عملت لفترات طويلة بما قاله “بونغلوس الشهير ” رؤية الخير في كل ما يحدث , فأيامها كنت أقضي حاجتي وأحشوها في حرفة صغيرة صنعتها بنفسي في جنب الحائط ، وكنت أظن أن في ذلك خير ؛ فبرازي قد يمنع فضول الفئران الاستكشافي من الدخول واقتحام زنزانتي وإصابتي بمرض خطير..

و هكذا كنت أمضي وقتي بين النقش في الحائط الحجري بأظافري و كتابة كلمات و جمل و نصائح نجاة للقرصان الذي يسجن هنا بعدي … حتى في أظلم لحظات حياتي فكرت في غيري وظننت أنني قد أمحو ماض تعيس وحقير بإفادة السجين القادم .

واستناداً إلى ما كنت أدونه بشق الأنفس تخيلت أنه لن يحس بوحدة قاتلة أو يشعر تعب التفكير وضعط الندم ، وسيعرف أن الكثير مر من هذا الطريق وسلك نفس الدرب ووصل بغبائه إلى نفس الزنزانة و انتظر تطبيف نفس حكم الإعدام ، وكما يقال إن عمَّت هانت , ربما ستمنحه تلك النصائح روح صبر وتفهم و سيترك أيضاً ملاحظاته وتعليقاته ويعبر عما يجول بخاطره المنكسر إلى أن تصل دقة الملاحظات درجة التميز والافحام والاقناع التام فتشفي السجين الحزين تماماً بل وتفرحه و تجعل منه يتقبل الموت ويسمو ورائها لتخلصه من شر و قبح و ظلم ما اقترفه في دنياه ، فيبحث عن خلاصه الأخير ولا يقاوم الحكم الصادر عليه ، بل يتمنى أن يطبق بكل عدالة منقطعة الرحمة في حقه .

وتلك درجة ” السوبر سجين ” الذي لا تغضبه قطرات الشتاء المغرقة لزنزانته ولا تزعجه رائحة البراز المحشو في حفرة حائطه ولا يتعبه أكل الرغيف الصلب والمر المقدم له كل مساء ، و لا يحزنه سجنه المنفرد ولا وحدته الموحشة ولا يقهره عذاب انتظار موعد الشنق الأخير بل يرى خيراً في كل شيء …

ذاك ما أردت الوصول إليه ، إنشاء جسر تواصل بين السجناء الأموات و الأحياء كانت هذه طريقة تفكيري لعدة أشهر مقفرة بين أربعة جدران لعينة … لم يخلصني من فلسفاتي الغريبة سوى صديقي صاحب البطن الممتلئة الذي لم أكن أعلم أنه يسمع كلماتي و خطابي مع نفسي من وراء زنزانتي بل وكان مدمناً على الانصات لي وكأنني الراديو السجني الخاص به أؤنسه في وحدته و أقرّب النوم الجافي والمرتحل عنه .

وذات ليلة وبينما أنا متكئ على الحائط الأيسر المشقق الذي كان يشكل لي خير وسادة مفضلة ، فالأيمن كان لزجاً و غامق السواد و غير مستقيم وما تلك سوى تخيلات و هلوسات نظراً لقلة الأكل الغير الصحي بتاتاً و الظروف القاهرة خصوصاً النفسية … و بينما أنا أحلم بلحظات دخولي إلى منزلي معانقتي لأسرتي وعودتي لها من هذا الكابوس البرازيلي المرعب سقطت من العدم أو بالأحرى من السقف المفتوح زجاجة خمر أحمر معتق مغلقة بعناية و بات واضحاً أنها لم تفتح يوماً …

سقطت و ظلت تطفو على المياه التي كانت تملأ الحجرة الصغيرة و صمدت على حالها حتى ألهبت الشمس شعري حرارةً ، فهضت مذعوراً كالأحمق أخبط في المياه وأضرب وكأنني أريد قتل جرذ أو حشرة ما برجلاي ، فقد أحسست لحظة استيقاظي بتغير في كتلة المياه من حولي ، ظننته فأراً أو حيواناً صغيراً سقط من الأعلى ,لكن المفاجأة كانت سارة جداً ..

لمحت حبيبتي الجميلة الحمراء الإيطالية الأصول تسبح في غرام عجيب نحوي وترقص على أنغام السامبا البرازيلية المثيرة مرتدية تنورة خضراء ذات خطوط حمراء كتبت عيلها كلمات بلغة إيطالية قديمة , أدركت حينها أن ” سيردينيا” لم تدعني وشأني يوماً ، وأن منزلي وعائلتي لا يزالون في انتظاري ، وأن الوطن الحبيب يدعوني إلى الرجوع بين أحضانه ، ويستقبلني كطفل مسكين وحزين وحيد شرد بما فيه الكفاية ، تسول و عانى الشدائد والمحن و العناء المعذب والواهن في أوطان الغربة …

عانقت القنينة الخالدة قطراتها و المقدس كحولها وعدت عودة الأبطال إلى أحلام أميراتهن , سافرت ممسكاً بيد محبوبتي الإيطالية في أرجاء الوجود وخباياه , نوم عميق قادني فيه براقي الأيسر المشقق إلى أقصى العوالم و أروع بلدان , واجهت وصادقت أقسى وأعظم القراصنة و حاربت جبروت و همة الملوك والأمراء حتى سقط الليل على قفاه و حل الظلام ، فاختبأت وغادرت غرفتي الكئيبة تلك الشمس الحنونة خائفة و مرتعبة من شرور الغسق …

دق الحارس البدين زنزانتي مراراً وتكراراً كي أفتح النافدة الصغيرة ، فقد حان موعد الأكل الحقير , وكيف يا حارسي أترك هدية السماء قنينتي الطاهر دفئها وغرامها , وأمسك بأكلك البارد وأقضم من عفنه؟
ظل المسكين يطرق و يطرق لا أحد يستجيب وفي قانون السجن البرازلي ثلاثة دقات صاخبة و صرخة عالية تكفي لإيقاظ السجين وإن لم يستجب فلن يأكل وذنبه عليه إن مات جوعاً , أما الحارس الصدوق والعطوف فلم يأبه بالقانون بل تجازوه تماماً وفتح الزنزانة ليجدني ممسكاً بقنينة كحول ومغمي علي من شدة وقسوة الظروف المناخية في تلك الفترة من السنة في ريو …

حملني وأخرجني من الزنزانة خارقاً بذلك كل قوانين السجون وحراستها ، فناولني كوب ماء بعد سكب واحد في وجهي , مد شيئاً من الرغيف وقال :
– ” كل هيا كل وانهض لتعود إلى زنزانتك أيها السجين”

أجبته وأنا ألهث مذعوراً كأنني عدوت لأميال طويلة جداً ، فقد كنت أعلم أن فتح الزنزانة على أحدهم له عواقب وخيمة وخصوصاً إن ظل يرفض الأكل أو يسلك سلوكاً غير مؤدب مع الحراس :
– آه ..أرجوك سيدي دعني ألتقط أنفاسي ، لقد اختنقت في الداخل وفقدت الوعي , لا أعلم ما حدث , آكل كل ما تعطوني إياه ولا أرفض شيئاً ، أرجوك سيدي فأنا لم أشأ أن يغمى علي وألا أفتح نافذتي ، وأعرف أن هذا خطأ وأتحمل عواقبه “…

أجابني الرجل وفي محياه دهشة لطريقة طلبي الاعتذار منه :
– ” لا عليك , ولم تقترف أي خطأ ، إن كنت تشاء أن تلتقط أنفساك و تريح صدرك قليلاً لا عليك خذ وقتك واجلس فوق الكرسي هذا , لقد فحصتك مسبقاً ولا تحمل معك أي سلاح أو تهديد لكن اعلم أنك لو حاولت فعل أي شيء خطر كمحاولة الفرار فلن أتردد في قتلك ، اتفقنا ؟ , ثم أنني وجدت قنينة الخمر هذه في حوزتك فما قصتها يا ترى ؟ هل لديك أصدقاء يسعادونك خارج السجن ؟ “

سحقاً , التوى لساني ولم أعرف كيف سأجيب ، واضح أنه إنسان طيب لكن كيف سأشرح له أنها سقطت من فوق ؟ وأي أحمق قد يصدق قصتي الغير مقبولة ولو أنها صحيحة وحقيقة تماماً ؟ فأجبته سريعاً و بكل صدق :
– ” سيدي أنا غريب عن هذا البلد ومن سيساعدني ؟ وزنزانتي المنفردة وسط السجن مراقبة من كل الجهات ولمن غير الممكن أن يكون لي اتصال مع أحد بالخارج , القصة وما فيها أنني كنت نائماً قبيل ساعات قصيرة , سمعت صوت ارتطام فنهضت فجأة لأجدها تطفو فوق المياه , أقسم لك أنني لا أعلم من سلطها علي ولمَ سقطت من فوق ، لربما حملتها الطيور أو شيء من هذا القبيل , إني لا أكذب يا سيدي “

أجابني وفي محياه جدية وحزم :
– “سأصدقك هذه المرة لكن المرة القادمة إن سقط أي شيء اعلمني من خلال الطرق في بوابة الزنزانة ، وإياك أن تخبئ شيئاً عني إن كنت تريد إمضاء فترة سجنك بسلام “

أجبته موافقاً بابتسامة حسرة و حزن شديد :
– نعم يا سيدي ، ثم أنني سأبقى هنا حتى أعدم شنقاً لذلك لن أشكل مشكلة بالنسبة لك أبداً ، فانا استسلمت للقدر منذ زمن بعيد ولا أرجو سوى خلاصي الأخير “

قال سريعاً وهو في دهشة مستغرب لما أقول :
– آسف لم أعرف أنك ستشنق ولكن هل تعتبر هذا خلاصاً أيها السجين ؟ “

أجبته بسعادة لامتناهية ، فلأول مرة تتاح لي الفرصة أن أشرح فلسفاتي و أطروحاتي الغريبة حول ” السوبر-سجين” إلى شخص حي و موجود بقربي :
–  ” آه نعم الشنق هوخلاص أبدي ورحيم و عقوبة أستحقها جزاءً لماضيَّ الشرير الذي ندمت أشد الندم على ما اقترفته فيه يا سيدي”

فأجابني وكان به لا يهتم :
– ” حسناً , والآن عد إلى زنزانتك وفي المرة القادمة اعلمني إن طرأ شيء ما “

أدخلني الزنزانة و أخد عني محبوبنتي وتركني مرة أخرى لوحدي أعزف ألحان السكون وأشاهد شاشات الجدران الصماء وهي تتقاطر من حولي وتدفنني في بحر أحزان واكتئاب وريبة وشك لا منتهي …

مر حوالي أسبوع على تلك الحادثة وفي إحدى الأمسيات التي لم تشأ الشمس فيها أن تغادر السماء إلا بعد أن أجبرها ملك الليل على الهروب مجدداً من قبضته , فتح الحارس زنزانتي ,أمرني بالخروج والجلوس بجانبه .
نفذت ما أراد فقد ظننت أن موعد إعدامي قد حان فخرجت فرحاً مبتهجاً ، دب نشاط غريب لم أحس بمثله مند زمن بعيد منذ مغامرات غابرة ، منذ ليالي رفقة زوجتي الدافئة, جلست في كرسي بجانبه أنتظر أن يغلق زنزانتي نهائياً لأتحرر منها و من عذابها وأفدي و أضحي بروحي شنقاً وإعداماً أتخلى فيه نهائياً عن معاناتي المريرة تحت غضب عرّى السقف اللئيم …

للأسف أو للبهجة ؟ للسعادة أم الحسرة ؟ لروعة القدر أم تعاسته ؟ لم يحدث شيء مما كنت أبتغي وأتمنى لشهور طويلة ، فقد قعدت بجانبه نتكلم عن الحياة و البلدان وعن أصولي وكيف وصل بي القدر المشؤوم إلى هنا .
كان الحارس يتقن اللغة الفرنسية وبها تواصلنا جيداً لليالٍ طويلة و مؤنسة وجميلة , حكيت له فيها عن جمالية و بساطة الحياة في دياري وعن حنان و طيبوبة وحسن نساء وطني , عن مغامراتي وروعة و ذهول وعجب ما مررت به من اكتشافات و ترحال في أقاصي البحار وجزرها النائية .

أحببت شخصيته العفوية ، فكنت كلما عدت إلى زنزانتي أحس باشتياق لشبابه ومرونة أحلامه ومتمنياته وحبيبته التي كان يسترسل في الكلام عنها ,تشاركنا في ليالينا نقاط عديدة وأفكار صدوقة وحس إنساني نقي ترباً في كل منا , فكنت أمثل بالنسبة له برنامجاً لليليا يدفئ به سهره وسيداً محترماً لا يستحق ما حل به, وكان يمثل لي صديقاً ومهرباً من تلك الزنزانة المريضة والبخيسة , لدرجة أنني قضيت معظم فترات النهار في حبك و نظم قصصي ومزجها بالتشويق والأنفة كي أرويها بكل عزة و شغف وأصالة وافتخار بالمساء …

وذات يوم ولأول مرة تفتح فيها زنزانتي بالصباح , وجدت وجهه أمامي مخاطباً إياي بنبرة مذعورة و مرتعبة ومضحكة في لون أنيق يميل إلى الرجولة والشدة ذكرتني بتضحيته من أجلي باول أيامي الشبابية في المحيط ومجال الاستكشاف والمغامرة حيث قال :
–  اخرج فلا أظن أن غداً يوماً جميلاً لإعدامك أيها القرصان  

كانت أروع جملة وعبارة شجاعة سمعتها يوماً ولحد الآن لا أعلم إن كنت أستحقها و أستحق تضحيته أم لا …
هربنا معاً و كما سبق أن سردت , استطعنا ايجاد حبيبته الأجنبية ” اريل “في مكان عملها في إحدى معامل القطن , ركبنا نحن الثلاتة خلسة سفينة نقل تجارية ذاهبة لأوروبا , وعدنا إلى موطني مغادرين البرازيل و شواطئها نهائياً ..

كل ما رويت واسترسلت في رويه كان قبل عشر سنين من الآن , حيث قابل جورج و حبيبته (زوجته فيما بعد ) عائلتي الصغير وأعجب بها , واستاجر شقة متوسطة بجانب بيتي , فكان يجد متعة في اكتشاق أزقة “سيردينيا ” التاريخية وعملاً بطوليا في ركوب البحر معي وتسلق الأمواج تحت قيادتي , فكنا نصطاد و نتاجر بالقطع الأثرية ونوصل المسافرين و نحمي السفن السياحية , فعلنا كل ما يفعله البحارة إلا القرصنة والسرقة و أخد ما ليس لنا حق فيه .
لم تكن غايتنا يوماً الثراء كما كانت من قبل غايتي الوحيدة أيام شبابي , بل كانت إرادتنا أسمى من ذلك بكثير , فمجرد الشعور بالعودة الآمنة والدافئة لمنازلنا ومداعبة و معانقة زوجاتنا بكل حب و حنان وإخلاص كان أسمى من الذهب و الفضة والمعارك و الكنوز والأمجاد وصانعيها و المنقبين عنها …

يا للماضي الرائع و الخلاب, وأنا أتذكره مرمياً كالحشرة المنسية في ذلك القبو النتن و المضجر بأصوات مختلف الحيوانات ورائحتها الزكية ، نزلت دموع الاشتياق لذلك الصديق الوفي والصدوق , ترحمت عليه ولو أنني لا أعلم إن كان علي الترحم عليه أم على نفسي ، فقد تركني “لويس ” قائد ” العنقاء ” لمدة يومين بدون مأكل أو مشرب أسترجع فيهما مرارة وعذاب تلك الذكريات التي خضتها من جديد رفقة قرائي الكرام .

وفي اليوم الثالت جاء بحار فتح باب الغرفة السفلية أعطاني قليلاً من الطعام انغمست فيه بكل نهم و شهوة حتى أنهيته عن آخره ، ثم رفعني وأخرجني لتلتقطني شمس لامعة شهباء أرجعت لي الحياة ولو بقدر ضئيل و استقبلني بحر أزرق نشيط زرع في نفسيتي المجروحة أملاً في لقاء يوم أفضل مما سبق فوق السفينة الأسطورية…

– “حيوا الربان أيها الرجال ”
صاح رجل في البحارة الذين كانوا في مهام مختلفة , فتركوها مباشرة ورفعوا أياديهم اليسرى في تلك الحركة العجيبة التي وصفتها لكم سابقاً , نزل “لويس ” من مقصورته الثانية فسفينة العنقاء العظيمة تحوي ثلات مقصورات إحداهما في المؤخرة والأخرى في يمين الساري و الثالثة فوقها مباشرةً تخول جيداً للربان رصد البحر ومستجداته من كل الاتجاهات .

إذن نزل الربان وبدأ يعطي للكل أوامره ، فقد تغير مجرى الرياح وبذلك وجب عكس الشراع وتخفيف الحمولة الغير اللازمة لزيادة السرعة , انتشر عماله في مهامهم و تقدم الصديق القديم نحوي وأنا واقف لم أبارح باب القبو أتامل السفينة تحت حراسة مشددة , فصاح في وجه ثلاثة بحارة كانوا بجانبي
– ” أعطوه قماشاً ودلواً وأنزلوه لتنظيف القبو “…
قام الرجال بما أمروا , أما أنا فلم أحرك ساكناً أبداً ، فلن أتقبل أوامر قائد خائن وضعيف مثله ولم أبعد نظري عنه إلا حينما ضربت من طرف أحد الرجال قائلاً لي :
– ” اعمل بما أمرك القائد ولا سترسل إلى قرش البحر ليأكل جثتك البائسة ”

نطرت إليه بخزي لبضع ثوان و بلامبالاة ، أكملت تحديقي بقائدهم “لويس الجبان ” هكذا صحت عالياً وظللت أصيح ” لويس الجبان -لويس الجبان ” حتى دفعني نفس الرجل لأسقط بقوة متدحرجاً إلى القبو اللعين , نهضت بكل قوة ثم عدت خارجاً منه وأنا أصيح ” قائدكم خائن جبان ” مراراً وتكراراً اعدو في السفينة كالأحمق وأصيح بتلك الكلمات , التفت معظم البحارة نحوي وبدؤوا يستهزئون مني و يضحكون على حالي المثير للشفقة , فساعات طويلة بين الحيوانات النتنة و الظلمة الدامسة و العرق البارد والخانق عطلت مجال تفكيري المنطقي وأرجعتني عقوداً طويلة للوراء لأتصرف كالبشر الهمجين الأوائل في صراعهم من أجل البقاء …

أمر “لويس ” بتركي أصيح كالأحمق حتى أتعب وأرجع إلى رشدي ، ودخل إلى مقصورتة من جديد , سألت نفسي ملايين المرات وأنا أصرخ وسط جموع البحارة عن كيف أنجو من قبضة هذا الشرير وكيف أخلص نفسي وأنا المنهك تماماً ، فلا أستطيع حتى السباحة هارباً و يا لمصيبتي .

فجأة توقفت عن أفعالي البهلوانية ، أحسست باشتعال مصباح نوراني فوق رأسي كما يحدث في أفلام الكرتون ، راودتني وأنقذتني فكرة جهمنية سميتها الأمل والخلاص الأخير من ليالي الرعب و صباحات الاشمئزاز …

سأتحدى أقوى وأشرس الرجال بينهم وإن فزت في العراك سأشترط ما أشاء و إن خسرت من حقهم إن يفعلوا بي ما شاؤوا فليس لدي ما أخسر أبداً وما أصعب من قتل ثائراً لم يعد عنده ما يخسره .. كهذا رأيت نفسي وتأملت أن اكسب احترامهم بذلك , ودون تردد طويل وجدتها صفقة رابحة فأعلنتها بأعلى صوت سمعه كل من سكن و جال خلد المحيط ، ولا شك أن فكرة واحدة راودته و خلاصة واحدة استنتجها :

– ” يا لك من غبي يا دان , وأنت كهل عجوز , هرمت وهشت أيامك تتحدى أقوى البحارة شباباً وأشدهم عزماً وخفة و أصلبهم جسداً , إنك ميت لا محالة يا جدي ” .

كان هذا جواب منطقي و منطق الوجود و صراع القوي بالضعيف , تذكرت قول المرحوم جورج لما كان يخسر راتبه بأكامله ويعود مبتسماً إلي قائلاً :
– ” ما فائدة الحياة دون قمار ؟ حق علي القول لأجعلن منه معتقد راسخاً وعبادة مفروضة يتغنى بها الجميع ”

اتبعت منطق صديقي الوفي ولو أن فرصي ضئيلة جداً مقارنة بخصمي لكن من يدري ؟ لربما في كبر السن حكمة ودهاء و مكر لن يكتشفه تهور الشباب إلا بعد فوات الأوان .

سمع ” لويس ” وكل من على السفينة بالتحدي , وحسب أعراف القراصنة وحدهم الجبناء والضعفاء من يرفضون العراك , تقدم كثير من البحارة نحوي طالبين أن يكونوا بذاتهم خصومي ، فهذا راح يشتمني ويستفزني , والآخر يمرر يده حول عنقه في إشارة لجريمة سيرتكبها في حقي , لكنني توقعت و درست تماماً تهور ما أنا بصدد الإقدام عليه ، فوكلت أمر اختيار الخصم لـ “لويس” الذي ضحك بدوره مطولاً قبل أن يختار مساعده الأول “غاتا الوحش ” ليكون من يمتص نهائياً آخر قواي و طاقتي ويضع حداً لقساوة رأسي ويرسلني من جديد لأنظف قبري النتن بجانب حيوانات العنقاء …

دقت ساعة الحقيقة كما يقال و تقدم بطل العنقاء المغوار “غاتا” تعلو محياه ابتسامة عريضة و همجية و شهوانية للدماء ، مرفوقة بصافرات و تصفيقات دعم و نصر من الجمهور البحري الذي شكل نصفه دائرة حولي و صعد النصف الآخر السواري واحتل الدفة و جلس على سطوح المقصورات ، فما نقص المشهد السينمائي سوى الفشار و مشروبات الغار و قواسم الشوكولاتا اللذيدة .

صرخ جيش العنقاء مراهناً على كفة واحدة بكلمتين لا ثالثة لهما ” غاتا اقتله ” , بينما كنت المنافس أي الضحية العجوز الذي لا يحدق سوى في أعين “رئيس العنقاء لويس” وأتأملها مناجياً عطفها في صمت و توسل مبهم .
التفت عنها لأعود بنظري إلى جموع البحارة الهمجية فلمحت في وسط الزحام الدائري وجها اشتقت له أشد الاشتياق ، وجهاً لخص في باطنه النقي لسنوات طويلة أسباب صبري و مثابرتي و اجتياز محني , وجه زوجتي وحبيبتي و ملاكي الحامي جاء ليوعدني ويعلن إخلاصه لي ولو في آخر دقائق عمري ..

ذكرني وجهها الدي كان يتدافع مع البحارة ليشاهد قصة عمري وهي تطوى كطي الصحف , ليشاهد و يشهد للكون و النجوم و الوجود والأزل أنني محارب حاربت طوال حياتي الواهنة ولم أستسلم لقسوة القدر يوماً , من سجون البرازيل إلى اضطرابات و إضرابات باريس ، إلى جزر الوحوش إلى مياه الأشباح الى بحار العفاريت وإلى رعب سفينة العنقاء .. لم أخضع يوماً لبشر مثلي .

كان وجهها يقول لي ويعبر في حنان اختفت معه كل ملامح العناء و العذاب الذي شهدته منذ صعدت مجبراً كومة الخشب هذه :
– ” قم بذلك ” ” دو ات ” بلغة انجليزية واضحة .

آه ماذا سأفعل يا محبوبتي ؟ وأنا في آخر سنين عمري ، واقف أمام وحش بشري من مترين ,آلة تدمير مسودة اللون كأيامي , همجية لا تعرف الرحمة أو الشفقة تقدمت من وراء الجموع إلى أن اصبحت تقربني بإنشات قليلة , التفتت إلى قائدها الشيطان المريد “لويس ” الدي صرخ عالياً كأنه ذئب التقط فريسة عند باب القمر المكتمل :
–  “ابدؤوا القتال ” …

ومع كل حرف من تلك العبارة الرديئة ضحكت في خلدي أشد الضحك على أيامي و شيخوختي وقدري الهارم الذي رماني إلى قبضة العبيد ، بل وعبيد العبيد ..
مرت حياتي لقطات متقطعة ممثلة أمامي ، ومع اكتمال عبارة الموت … فتح باب القتال وإن صح القول فتح باب الحجيم الذي انتظر قدومي لمدة طويلة على ما أعتقد ..

يتبـــع ««

تاريخ النشر : 2017-09-09

guest
12 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى