أدب الرعب والعام

رهبة

بقلم : البراء – مصر
للتواصل : [email protected]

رهبة
الكرسي وضع في هذا المكان للمشاهدة و عليه أربطة

 كما أعتقد لا جدال في أن هناك عشرات الصحفيين يموتون سنوياً و هم يؤدون واجبهم ، مهنتهم خطيرة و الموت من ضمن قائمة المخاطر و على رأسها ، و كنت دوماً أقول لنفسي أنني لست مختلفاً عنهم ، إذا كانوا مستعدين للأمر فأنا أيضاً مستعد ، لا لشيء سوى أنني شخص أحب التفاني في عملي الذي لطالما حلمت به .

لم يكن ليختلف الأمر إذا كنت أحلم بالعمل كسائق سيارة أجرة ، لكن الأمر هو أنني لم تواتيني الفرصة قط ، كنت على استعداد و لكن الفرصة لم تكن مستعدة، و ظللت على هذه الحال لفترة طويلة ، لو كانت ذاكرتي قوية كما أظن فأنا سأثق في أنهم كانوا سبع سنوات ، اكتسبت فيهم الخبرة اللازمة ، يحق لي أن أقول أنني رأيت الكثير و تعلمت الكثير، خصوصاً أنني كنت واحد من ثلاثة محررين و صحفيين فقط في قسم الجرائم بالجريدة التي كنت أعمل بها .

حينما عملت لأول مرة كان القسم شبه ميت ، بل الجريدة كلها كانت شبه ميتة ، المثير أنني مع رفيقاي تمكنت من النهوض بالقسم بشكل مثير للدهشة و بمرور أول أربع سنوات كان الجميع يعرف أن جريدة النور تمتلك ثلاثة من أفضل محرري قسم الحوادث من وسط كل الجرائد الأخرى ، كانوا يعرفون أسماءنا و يحفظونها لأنه لا يوجد في القسم كله غيرنا نحن الثلاثة ، و الحقيقة التي لا يمكن لأحد إنكارها هو أن الشخص الذي كان يشتري جريدة النور كان يشتريها فقط من أجل قسم الحوادث ، لأنه فقط يريد أن يقرأ عن الحوادث المثيرة للجدل التي يكتب عنها العباقرة هناك .

صحيح أن أسم القسم هو الحوادث و هذا يعني أنه يشمل جميع الحوادث ، إلا أننا و نظراً لكثرة الحوادث و قلة المحررين لم نكن نكتب إلا عن الحوادث التي نرى أنها غريبة و مثيرة للاهتمام فقط ، و لو كان الأمر بيدنا وقتها لغيرنا أسم القسم بالكامل لأسميناه قسم الخوارق  أو قسم والماورائيات.

بعد مرور الأربع سنوات تغير الحال تماماً ، فقد أشترى الجريدة رجل لم نعرف عن شيئاً سوى أنه ملياردير و من أكبر محبي الخوارق والماورائيات ، تماماً مثل التي كنا نكتب عنها ، و بمعرفتنا لهذا لم يكن لدينا أدنى شك في أن الرجل أشترى الجريدة من أجل قسمنا نحن فقط ، و ما أكد لنا هذا هو أن الرجل قد أزال جميع أقسام الجريدة عدا قسمنا ، و لم تعد هناك جريدة أسمها جريدة النور، صارت مجلة النور.

 صرنا فقط لا نقدم و ننشر سوى الحوادث الماورائية ، و بمرور الأيام تغيرت الأوضاع ، وجدنا أنفسنا فجأة نترأس مجموعة من نخبة المحررين ، من أفضلهم على الإطلاق و اشتهرنا كثيراً بما نقدمه من أشياء غامضة و مثيرة للجدل ، الملياردير صاحب المجلة أراد هذا

الطبيعي هو أنه حينما يعمل لديك مجموعة من أشهر الأسماء في المجال فأنت ستدفع الكثير من الأموال لهم ، لكن الرجل بدا و كأنه لا تهمه الأموال بقدر ما تقدمه المجلة ، و مرة أخرى شهدنا قفزة غير طبيعية و أصبحنا من ضمن المجلات الأكثر مبيعاً في العالم ، تعاون مجموعة من العقول الراقية مثلنا معاً لهو شيء مرعب حقاً ، النتاج من هذا التعاون هو شيء لا يتخيله عقل ، شيء جعلنا من أكثر المجلات مبيعاً كما قلت ، و فجأة لم نعد نسمع أو نرى أولئك الأشخاص الذي يتهامسون ضاحكين عن حماقة الملياردير الذي أشترى جريدة النور بسبب المبالغ الطائلة التي يدفعها على مرتبات من يعملون بها ، كانت المجلة تبيع بشكل خيالي و ينتظرها الجميع ، و الأرباح كانت مجنونة و تكفي لدفع أضعاف المرتبات التي كنا نأخذها ، و ظللت أنا و صديقاي هكذا لثلاث سنوات أخرى.

كانت الأمور بالنسبة لي أكثر من رائعة ، فأنا أترأس أشخاص أقل ما يقال عنهم أنهم عباقرة و مرتبي مكون من عدة أصفار تسيل لعاب أي شخص يحترم نفسه ، كل هذا و أنا مازلت لم أتخطى حاجز الثلاثين بعد ، لم أكن لأطلب أفضل من هذا، لكن بالطبع دوام الحال من المحال ، حقيقة أنني كان يعمل تحت إمرتي العديد ممن هم في نفس مرتبتي و خبرتي جعلت مقالاتي عادية أو فوق العادية في أفضل الأحوال ، بمعنى آخر إبداعاتهم كانت تغطي على إبداعاتي ، و ما ساعد على هذا هو أن رفيقا دربي قد تركا المهنة بشكل نهائي ، كان لديهم من المال ما يكفيهم لأن يعيشوا لمائة سنة أخرى كالملوك

أنا أيضاً كان لدي ما يكفي من المال ، إلا أنني أحببت المهنة حقاً ، كانت حلمي بدون مبالغة ، و بعد أن كان أسمي لا يخلو من كل إصدار في المجلة صار أسمي لا يظهر إلا نادراً ، كنت رئيس التحرير و عادة رئيس التحرير هو من لديه القرار بالأشياء التي ستنشر في المجلة ، لكنني لم أكن أنشر لنفسي ، كنت أرى أن هناك من يطرح المواضيع أفضل مني و لم أرد أن أكون ظالماً ، إذا كانوا ما يكتبونه أفضل مما أكتبه فهم يستحقون النشر أكثر مني.

حتى الملياردير صاحب المجلة رأى هذا بنفسه ، فقد لاحظ أنني لا أستطيع أن أتقدم عليهم رغم أنني كنت جيداً بل ممتازاً ، لكنهم كانوا أكثر امتيازاً مني ، كان الرجل حيادياً هو الآخر و رأى أنني أتواجد في مكان لا يحق لي التواجد به ، إذا كنت ستكون رئيساً فيجب عليك أن تكون الأفضل ، و قد كان محقا بالفعل.

النتيجة هو أنه أمهلني شهر كي أكتب مقالاً يذهل الجميع ، قال أنني أقدم شخص في المجلة و أنني مازلت في ريعان شبابي ، قال أنني إذا ما قدمت تلك المقالة و استعدت مكانتي فإنه سينتظر مني مقالة قوية شهرياً على الأقل ، و إذا حصل العكس و لم أقدم ما يرضيه فإنه سوف يجري تصويتا بين القراء نفسهم و هم من سيحددون من هو المحرر صاحب أفضل المقالات ، و بدلاً من أن أكون رئيس التحرير فسوف أصبح محرر عادي ، و كأنني مازلت مبتدئاً ، و بالطبع وافقت على الأمر،  كان علي أن أثبت جدارتي و في جميع الأحوال سيستريح ضميري إذا فشلت.

ثم من تلك النقطة انطلقت في رحلتي للبحث عن حدث ما ورائي مثير، كانت توجد الكثير من الأمور المثيرة للاهتمام و كان يمكنني بالمعنى الحرفي للكلمة أن أختلق مجرد قصة زائفة و أضيف عليها بعض من لمسات الواقع ، فهذا هو عملنا ، لكنني لم أفعل ، و سبب ذلك أنني عرفت أنني أحتاج لشيء أكبر من هذا كي أحقق الغرض المطلوب، إذا كنت سأثير إعجاب الجميع فلابد لي من شيء كبير، كبير لدرجة أن يترك بصمة في المجال ، لكن بالطبع الأمر ليس بهذه السهولة ، يمكنني بسعادة أن أقول ما أريده و أكتب ما أريده لكم و ما سيحدث في النهاية هو الواقع ، بحثت كثيراً عن الشيء الذي سأكتب عنه لكنني كنت كالتائه الذي لا يجد ضالته أبداً

و مر الوقت بسرعة حتى وجدت أنه يتبقى فقط أسبوع على تسليم مقالتي ، تلك العانس الجميلة التي تظل ترفض العرسان بانتظار فارس الأحلام حتى لا يتبقى لديها سوى القبول بشخص أحمق فقط لأنه هو فرصتها الأخيرة للخروج من فقاعة العنوسة ، كان هذا أنا مع القضايا الضائعة ، ظللت أرفضهم جميعاً حتى ضاق بي الوقت و لم أجد بد سوى النظر في حدث ممل ، هكذا ظننته حينها بكل حال ..

كانت الحادثة في سجن لن أذكر أسمه فقط لأنني لا أريد ، فمعلوماتي عن ذلك السجن كانت محدودة وقتها ، لم أكن أعرف إلا القليل جداً عنه و وجدت أن أمامي أسبوع فقط كي أعرف عنه ما يلزمني و كي أزوره و كي أكتب مقالي ، وقتها تملكني اليأس و بدا لي الأمر مثيراً للسخرية ، حتى أنني فكرت في وقت من الأوقات أن أنسحب و أرضى بوظيفة المحرر المبتدأ ، لكن دوماً كانت توقفني جملة أنا لن أخسر شيئاً

 الحادثة كانت أن هناك سجينين انتحرا في أسبوع واحد ، لا أحد يعرف لماذا ؟ كل ما يعرفونه هو أنهم قد قاسوا ما هو أسوأ من الموت فقط كي يموتوا، حينما تحاول أن تخنق نفسك بيديك لكنك تفشل و ينتهي بك الأمر لأن تقتل نفسك عن طريق خنق نفسك بملاءة سريرك فلابد من أنك قد قاسيت ما هو أسوأ من الموت كي ترغب في أن تموت بهكذا طريقة ، بالطبع هناك شيء ما ، هذه ليست حادثة انتحار عادية يرتكبها شخص عادي في سجن عادي ، هذه حادثة غير عادية أرتكبها شخص غير عادي في سجن غير عادي ، يكفي أن هذا الرجل دخل السجن بسبب قتله لخمسة أشخاص ، لا يمكن لشخص متحجر القلب مثل هذا أن ينتحر، لكن بالطبع تبقى احتمالية أن يكون الرجل قد ندم فجأة على أفعاله و قرر الانتحار و ستكون بنسبة واحد بالمائة، هي احتمالية و طالما هي احتمالية إذن هي ممكنة الحدوث و لو أنني أشك..

و للسجن قصة عجيبة ، كانوا يقولون أن من بنى هذا السجن منذ عدة عقود هو السير مارك  الثري ذو الأصول الأيرلندية، بحثوا في أوراقه بعد موته و وجدوا أن أمواله معظمها غير شرعية ، و بالمنطق هذا السجن مخالف للقانون ، وقتها ظهرت بعض الآراء التي تطالب بهدمه و ظهرت أراء أخرى ترى أن هدمه سيكون مضيعة للنقود ، المحافظ أحتار لكنه قرر في النهاية أن يترك السجن مكانه ، و لكنه رأى أنه إذا تُرك هذا السجن فيجب أن يترك بصمة ، هكذا تحركت الأوامر للجميع ، لا يدخل هذا السجن غير القتلة ، و بات السجن هو أكثر سجن يشددون حراسته بين السجون كلها ، السجن الأكثر رعباً على الإطلاق كما يقولون ، جميع من فيه محكوم عليهم بقضايا أقلها هي القتل ، و أقلهم لديه ثلاثين عاماً يعيشها بين الأسوار.

سافرت فترة لا بأس بها قبل أن ألتقي بالرجل المهم – مدير السجن ، فجأة وجدت نفسي أجلس مع مدير السجن في مكتبه نشرب القهوة و نتحدث بسطحية عن الحياة و البشر، أعتقد كنوع من الاستقبال لي ، و بعدها وجدت نفسي أتنزه في ساحة السجن مع السجناء و يرافقني أثنين أشداء من الحراس، بدا لي أن السجناء لا يفعلون شيئاً من الجدير أن يفعله أشخاص مثلهم ، أشخاص أقل ما فعلوه هو القتل ، أعتقد أنني توقعت أن أرى بعضاً من الشغب ، بعضاً من النظرات المخيفة و العبارات البذيئة ربما ، لكن لا شيء ، فنظراتهم خاوية من الحياة و تخلو من أي شغف يمكن أن تحمله عينين بشريتين على قيد الحياة

 ظننت في لحظة ما أنهم هكذا بسبب يأسهم من الخروج من هذا المكان وهذا الظن نبع من شدة دهشتي ، لم أكن أتخيل كم هذا الهدوء هنا ، ليس مع القتلة و المجرمون من أمثالهم ، جو السلبية هذا لا يتلاءم معهم على الإطلاق ، و هذه كانت الملاحظة الثانية التي جعلتني أتأكد أن ما يحدث هنا لهو شيء غير طبيعي ، الانتحار أولاً ثم هذا ، و كأن هناك شيء يتكلم بوضوح و يخبرني بأن هذا السجن ليس طبيعياً ، و ليس طبيعياً تعني ليس طبيعياً في الأحداث الطبيعية و ليس في طبيعة السجن نفسه و ما يحتويه من سجناء ، غير طبيعي كنوع من والماورائيات ، و قد كان هذا هو ما أبحث عنه تماماً

 أمضيت اليوم كله أرى العلامات تتناثر أمامي ، صرت متأكداً من وجود شيء ما لكني لا أعرف هذا الشيء ، أحداث عشوائية مجردة لا يربطها خيط ببعض ، و انتهى بي الأمر طائفاً تائهاً لا أعرف إلى أين أذهب ، حتى اقتربت الشمس من الغروب و إذا بي أجد نفسي أجلس في مكتب المدير مجدداً ، كانت نهاية الزيارة و لكن الرجل أصر على أن أحضر معه جلسة التأديب ، في حالتي العادية كنت لأرفض الأمر نهائيا ، و لكن في حالتي اليائسة فالرفض لم يكن خياراً أتمسك به بقوة ، لكن ما هي جلسات التأديب هذه ؟

الكثير من الحراس ، كلهم تقريباً ، السجناء كلهم ، قاعة كبيرة تشبه قاعة المحكمة ، و كرسي في المنتصف ، هذه هي جلسات التأديب ، يقف السجناء وراء القضبان في مكانهم المخصص  تماماً كما في المحكمة ، يجلس المدير و كبار الحرس مكان المشاهدين في المحكمة ، و يوجد كرسي وحيد مكان القاضي و هو  مزود بعدة أربطة لتثبيت من يجلس عليه ، تحسبه كرسياً عادياً في البداية ، لكن مع التدقيق ستلاحظ بعض التفاصيل الصغيرة هنا و هناك، ذكرني بكراسي الإعدام بالغاز ، أو بالكهرباء ، الأمر سيان ، نفس الرهبة يحملها هذا الكرسي ، و حينما نظرت للسجناء و شعرت بأنهم ينظرون للكرسي بخوف تأكدت من أن هذه الرهبة لم تسيطر علي أنا فقط ، كان من الواضح أنها تسيطر على الجميع هنا

 أنا لست متمرساً في الطب النفسي أو ما شابه ، و لكن حينما يمكنك أن تجعل قتلة يشعرون بهذا الخوف من كرسي عادي لهو شيء محير حقاً ، حينما يمكنك أن تخرج تلك النظرة من أعينهم فهذا شيء غير طبيعي ، لأنه و بالتفكير المنطقي لا شيء يخيف هؤلاء سوى الموت فقط ، و بدا لي حينها أنهم ينظرون إلى كرسي إعدام بالفعل ، لا لمجرد كرسي غريب المنظر فقط لا غير ، هذا و إن عنى شيئاً فإنه لا يعني سوى أن هناك ما يعادل الموت في هذا الكرسي ، شيء يعادل رتبة الموت!

في تلك اللحظة بالطبع عرفت لماذا انتحر من انتحر هنا ، عرفت ذلك الشيء التائه عني ، ذلك الذي كنت أبحث عنه طوال اليوم ، و تأكدت أن لذلك الكرسي سر لا أعرفه و على الأغلب كلهم يعرفونه ، و ما علي سوى أن أنتظر لأرى ، اتخذت مقعدي بجانب المدير ، فهو من سيعطيني التفاصيل، سألته عن الاسم الغريب جلسات التأديب فأشار لي بيده أن أصمت، و إذا كنت قد قرأته جيداً فإنه أيضاً أشار أن أتابع كي أعرف

 كان من الجلي أن الكرسي وضع في هذا المكان للمشاهدة و تلك الأربطة عليه لا تدل إلا على أن هناك من سيجلس عليه و سيحاول أن يهرب منه ، أما هذا و إما أنها زينة على الكرسي ، و في عقلي تخيلت السيناريو ، سيجلبون سجيناً ما قد أساء التصرف و يجعلونه يجلس عنوة على الكرسي ثم يربطونه به ، سيحدث شيء ما لن يعجب السجين و سيحاول الهرب ، لكن الأربطة ستمنعه من ذلك ، و هكذا يكون قد تم تأديبه بينما يستمر ذلك الشيء الذي لا يعجبه في الحدوث

حاولت أن أتخيل ما الذي لن يعجب هؤلاء القتلة و سيجعلهم يحاولون الفرار ، انتهى بي الأمر بتخيل بعض الفراشات الرقيقة الملونة و قوس قزح ، كانوا أشداء لا يهابون شيئاً  فما الذي سيجعلهم يحاولون الهرب سوى الموت ، هل سيعذبونهم على الكرسي مثلاً ؟ هل سيقتلون أفراد عائلاتهم ؟ و في الوقت الذي كدت أن أستسلم فيه وجدتهم يجرون رجل لا يكف عن النحيب نحو الكرسي، كان واضحاً من لكنته أنه إيطالي فقد كان يقول الكثير من “ماما ميا” و “سنيور”، و كان من الواضح أيضاً أنه يتوسل لهم ، و للدقة كان يقول : أنه لم يفعل شيئاً حتى يستحق التواجد هنا ، الإيطاليين يسهل فهمهم عادة ، و لكن حتى لو كان الرجل روسياً سوف يتمكن أي أحد من فهم ما يقوله ، لأنني لم أفهم ما يريد الرجل الإيطالي قوله من لكنته ، بل من الموقف ذاته و من حركات يده و من نظراته ، لغة أخرى هي هذه الأشياء ، و من ثم أجلسوه على الكرسي و قد بدا أنه أستسلم لمصيره أخيراً .

بعد أن قيدوه ابتعدوا عنه في هدوء ، فنظرت للسجناء كي أشاهد رد فعلهم فيما يحدث ، لكن أغلبيتهم العظمي كانوا لا يتابعون المشهد من الأساس ، و لثانية أكاد أجزم أنني رأيت نظرة الهرب من الحقيقة في أعينهم، و كأنهم يرفضون الاعتراف بأن هناك كرسي هم يخافون منه ، قد أبدو واهماً و لكن هذا هو ما حدث و هذا هو ما رأيته ، بعدها وقفت مشدوهاً للحظات منتظراً لذلك الحدث ، الشيء الذي لن يعجب هذا المجرم ، لكن لم يحدث شيء إلا إذا كنت سأصنف توسع حدقتي الرجل من ضمن الأشياء الحادثة

لقد ظل الرجل على حاله محدقا في الفراغ ، لم أسمع صراخاً أو أنيناً كما كنت سأظن أنني سوف أسمع ، فقط تحديق لا مبرر له ، و ظل هكذا لدقيقة تقريباً ، كنت حينها أحدق في عينيه حينما لاحظت ذلك الشيء  في عينيه ، إنها دموع ، إن الرجل يبكي ! ، بالطبع لم أحاول حينها أن أفسر لماذا كان الرجل يبكي ؟ فقط كنت مندهشاً للغاية و أنا أفكر في ما يحمله هذا الكرسي من أشياء غامضة ليجعل هذا القاتل يبكي ، تركوا الرجل لخمس دقائق أخرى ظل فيها كما هو بلا حراك أو صراخ ، فقط عينان ترمشان و تدمعان ، و بعد هذا حرروه و جروه جراً كي يضعوه مع باقي السجناء

 كانت الفرصة المثالية كي أسأل المدير بعد أن انتزعت نفسي من دهشتي ، حينما سألته نظر لي ثم قال في غموض أنها أشياء مظلمة لا دخل لنا بها نحن البشر العاديين ، حاولت أن أستخرج منه بعض التفاصيل لكنه أصر على أن يكون غامضاً ، تكرر الأمر ذاته مع عدة سجناء ، يضعونهم على الكرسي فيحدقون في الفراغ كغيرهم ، حينما تمكن من الأمر طلبت من الرئيس أن يضعوني على الكرسي كي أعرف ما مر به السجناء بما أنه لا يرد إخباري ، ضحك قليلاً هو و من معه ثم قال لي : أنه هو نفسه لا يعرف شيئاً عن الكرسي ، جل ما يعرفه هو أن ما يحدث للمرء على هذا الكرسي لهو كفيل بأن يجعل قتلة محبين للدماء يرغبون في الانتحار و بالتالي سيكون تأثيره غير معلوم على البشر العاديين ، قال أيضا : أنه لم يجرؤ أحد على الجلوس على هذا الكرسي حتى الحراس رفضوا ، و هو بالطبع لم يكن ليرغمهم على أن يجربوه ، وأنا بالطبع لي الشرف بتجربته على مسؤوليتي الخاصة

 كان يمكنني أن اسأل السجناء و لكن يمكنهم أيضا أن يكذبوا علي ببساطة، و هنا قررت الأمر ، لم أتردد كثيراً بشأن هذا ، أحياناً يكون الفضول أقوى من أخذ الحذر و الحيطة ، و في طريقي للكرسي أنتبه لي السجناء و عرفوا نيتي ، و كانت الأصوات تصدر من هناك ، همسات فيما بينهم ، و أحاديث من نوع “ما الذي سيفعله”.. و لن أنكر أنني سمعت صوتين أو ثلاثة يحذرونني من وسط هذه الأصوات الكثيرة ، أرجع يا غبي ، الأحمق يريد تدمير نفسه ، أما الرجل الذي كان يقتادني للكرسي بدا أنه مؤمن قليلاً فوجدته يحذرني و يقول : أن الكرسي مظلم و يحتوي على قوى شريرة و ما شابه.. ، لكنني لم أعره اهتماماً ، فقط طلبت منه ألا يقيدني حتى إذا أردت الهروب ، لم يعترض و قال : أنه سيقف بجانبي حتى إذا احتجت المساعدة.

ثم جلست….

لثوان لم يحدث شيء ، ثم بعد ذلك بدأ الأمر..

– “توقف يا أبي.. توقف”

رأيت أبي السكير و هو يضرب أمي الملقية على الأرض بقدمه ، كنت أنا الصغير أحتضن ساقه كي أوقفه عن ما يفعله.

قتلها أبي و ذهب للسجن بعد ذلك ،الذكريات التي كنت قد نسيتها عادت تظهر و بوضوح .

حينما وقفت تحت الشمس الحارقة ممسكا بيد خالي و هم يدفنون أمي أمامي ، رأيت هذا مجدداً ، طفل في السابعة يبكي بحرقة ، كان هذا أنا ، و كانت هذه ذكرى أخرى منسية غير مرغوب فيها.

– “نحن خلقنا لبعضنا البعض.. أتذكرين؟!”

كان هذا أنا مجدداً و أنا أتوسل للفتاة التي خطفت قلبي حينما كنت لازلت مراهقاً ، رفضت لأنها وجدت بديل يؤمن لها حياة أفضل ، لم تصبر..

لا أعرف كيف أشرح الأمر، أقرب وصف لما حدث هو أنني تذكرت أسوأ لحظات حياتي بأكملها ، تذكرتها بوضوح و كأنني أعيشها مجدداً ، ذكريات و مواقف سيئة ، سيئة للغاية ، و العجيب أنها لم تتوقف قط ، كانت تستمر في الظهور واحدة تلو الأخرى و كان هذا أكثر من أن يتحمله عقلي ، حتى وجدت نفسي على الأرض أسعل بشدة و بجانبي الحارس جاثياً على ركبتيه يسألني عن ما إذا كنت بخير أم لا، نظرت له فرأيتهما تخبرانني.. لقد حذرتك!

ما رآه هؤلاء المساجين هو أسوأ لحظات حياتهم ، و بعضهم رآها أكثر من خمس مرات حسب ما عرفته من المدير، أخبرني المدير أن يعقدون هذه الجلسات ثلاث مرات أسبوعياً و يختارون حفنة لا بأس بها من المساجين في كل جلسة  و لذا من الطبيعي أن تجد بعضهم قد جلس على هذا الكرسي لخمس مرات على الأقل ، فيما بعد عرفت أن الحارس هو من انتزعني من مكاني حينما أطلت التحديق في مكاني ، سحبني فوقعت أرضاً ، فطنت وقتها إلى أن القيود لم تكن من أجل الهروب أثناء عملية التأديب أو التذكر أيا كان أسمها ، بل هي من أجل منعهم من التملص و الهروب قبل أن يبدءون في التذكر من الأساس ، لأنه حينما تدخل الدوامة فأنت لا تخرج منها إلا حينما تفقد وعيك أو يوقظك أحدهم أو يسحبك من على الكرسي نفسه

 حيرني الأمر كثيراً و أردت أن أعرف أكثر فسألت المدير، أخبرني عن الأساس الذي عليه يختارون السجين ، هم يختارون من يُقال أنه أساء التصرف أو من أفتعل مشكلة أو أثار مشاكل ، كانت طريقة عظيمة بحق لتجنب المشاكل و خصوصاً مع مثل هؤلاء ، الخوف من الذكريات، ليست المشكلة في أنهم يرونها فهم قد عاشوها مرة من قبل ، بل المشكلة في أنه حينما تكثر زيارات السجين للكرسي فإنه تعاد عليه الذكريات مراراً و تكراراً ، و حينما فكرت في الأمر وجدت أن هذا هو أسوأ ما يمكن أن يحدث ، ففي كل زيارة يُعاد الأمر مجدداً و تعود نفس الذكريات الأليمة ، هذا خصوصاً و أنهم قد عاشوا في بيئة سيئة هي من جعلتهم قتلة بهذا الشكل، لسوف يفقدون عقولهم ببطء ، و كان هذا يلخص ببساطة لماذا انتحر من انتحر، أثرت فيهم ذكرياتهم السيئة أكثر من اللازم

و الحقيقة أنني وجدته عقاباً شاعرياً أكثر من اللازم ، فأنت تُعاقب بما كنت سبباً في خلقه لدى الآخرين يوماً ، الذكريات السيئة ، فأكيد أن من قتلته من قبل لديه من يحبونه و أنت جعلتهم يتألمون و خلقت لديهم بعض الذكريات السيئة عن الأمر ، ستدفع الثمن و لكن على حساب ذكرياتك أنت، هذا الأمر و إن رأيته قاسياً بعض الشيء إلا أنه كان ضرورياً للحفاظ على الاستقرار داخل السجن ،  فمع مجموعة مثل هذه يبدو العيش في سلام و بدون مشاكل كحلم جميل

 بحثت كثيراً كي أعرف ما كنه هذا الكرسي و من أين أتى ؟ إلا أن المدير رفض تماماً إخباري بقصته ، قال : إن هذا من الأشياء التي من المقدر لها أن تبقى سراً ، ثم بعدها أخبرني الحارس الذي أنقذني أن المدير يُهول الأمر و أنه وجد الكرسي في سوق الخردة فأعجبه ثم اشتراه، و قال أن أول من جربه هو المدير نفسه و لكنه لا يريد أن يخبر أحدا حتى لا تقل هيبته أمامهم، قال لي أن المدير ظل ساعة كاملة في غرفته يتذكر على الكرسي حتى فقد وعيه ، و بعد هذا ظل في بيته لأسبوع كامل من هول الصدمة

 في هذا الأسبوع فقد الحراس السيطرة على السجن تقريباً و كثرت الشجارات بين السجناء، و حينما رجع المدير و رأى الأمر قرر بدأ هذه الجلسات و سماها جلسات التأديب لمن يسيء التصرف ، كانت فكرة غريبة في البداية و لكن سرعان ما قل العنف كثيراً داخل السجن و أصبح السجناء يخافون الكرسي فعلياً ، قال لي : أن الحراس كلهم حتى الآن لم يعرفوا ما يفعله هذا الكرسي ، لأن السجناء تكتموا على الأمر فيما بينهم و الحراس لم يريدوا أن يجربوا الكرسي خوفاً من الأمر

سألته عن كيفية معرفته هذه المعلومات عن المدير ؟ فلم يرد، لكنه و في النهاية وجدته يتمتم بكلام عن حماقة المدير في تركه لمذكراته على مكتبه بدون رقيب ، كان الأمر غريباً لدرجة أنني شككت في أنني أتخيل أو أتوهم ، كان هذا هو التفسير الوحيد ، بعد ذلك فطنت إلى أنني قد رأيت من الغرائب ما يشفع لما رأيته في السجن ، ففي النهاية هذه هي وظيفتي.

الطريف في الأمر هو أنه حينما كتبتُ المقال الذي رأيته ممتازاً ، لم يثر إعجاب القراء و رأوا إما أنني أكذب أو أبالغ ، حينها هبطت إلى مرتبة المحرر المبتدئ كما وعد صاحب المجلة ، لكنني و بالرغم من ذلك لم أهتم كثيراً لهذا الأمر، اكتشفت في غمرة تفكيري بقضية الكرسي أن الأمر ليس منوطاً بكوني أحافظ على مكانتي في المجلة بل هو بكل تأكيد منوط بحبي و شغفي لهذا العمل ، أدركت أنني حتى و إن كنت لا أتقاضى أجراً فإنني سأكون سعيداً طالما أنا أعمل في هذا المجال ، لأن السعادة الحقيقية هي حب العمل و ليس الحرص التام على التمسك بقمة السلم ، و لكن هذا بالطبع لا يعني أنني رميت رغبتي بأن أكون على القمة ، هي موجودة لنقل فقط أنني وقتها عرفت ما هو المهم و ما هو الأهم.

تاريخ النشر : 2017-09-13

البراء

مصر - للتواصل: [email protected] \\ مدونة الكاتب https://baraashafee.blogspot.com/
guest
35 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى